17 / 07 / 2013, 48 : 05 AM
|
رقم المشاركة : [1]
|
ضيف
|
الرحيل قصة قديمة
الرحيل
[frame="13 90"] في 22 نيسان 1948 سقطت حيفا بيد اليهود .. وفي 15 أيار 1948 تهاوت أكثر مدن فلسطين بيدهم ليحتفلوا على أنقاض نكبتنا باستقلالهم المزعوم ربما يسرقون كل شيء .. لكن هل يستطيعون أن يسرقوا ذاكرتنا .. ثأرنا .. لاأعتقد .
بدأ الرحيل يوم كانت جدتي رحمها الله تستحم عند جرن الماء في حمام البيت الكبير في شارع (ستانتون) في حيفا، وهي مطمئنة إلى كلام جدي الذي لا يخطئ بنظرها.
وجدي كان دائما يقول: ((حيفا لن تسقط ولن تتضرر خصوصاً سكان شارع ستانتون))، فهنا منذ أن تأسس هذا الشارع قطنه العديد من العائلات العربية واليهودية والبريطانية والألمانية، كما أن "المستر": (عاموس) يعتبر شيخ أو زعيم اليهود في حيفا، لذلك فإن فضل جدي عليه سيعطيه حماية من أي شيء سيحصل والسيد (عاموس) لن ينسى أبدا كيف أتى إلى حيفا وهو يرتعش في أوائل سنة (1921م) حاملاً معه طفله الذي أصبح الآن رجلاً وزوجته خلفه تجر بناتها الثلاث… وهو يفتخر دائماً بأنه أول عربي استضاف يهودياً وعائلته في "البدرون" الصغير في بناء العائلة.
وقد كان السيد (عاموس) يسهر كل يوم مساءً عند بيت جدي في الطابق الأول، وكان أمام أعيان حيفا يتحدث عن هذه الأرض المقدسة، وكم من مرة قال:
(العرب واليهود في خندق واحد ضد بريطانيا يجب أن نقف صفاً واحداً لإسقاط هرطقات وأكاذيب الإنكليز، فنحن اليهود نريد أرضاً نحيا عليها بحرية، نمارس طقوسنا بحرية، ولا نريد وطنا قومياً. اليهودية دين وليست أمة..).
ولذلك نظراً لتطور الأحداث على مدار السنين كان السيد (عاموس) سنداً لعائلتنا دائما في أشد الأوقات.. حتى عندما قام جدي بإخفاء أحد رجال (عز الدين القسام) وحاول جاهداً أن يخفي هذا الأمر عن السيد (عاموس) كي يحمي هذا المجاهد، فإنه ارتجفَ وخافَ عندما علم أن السيد (عاموس) يعرف بالأمر تماماً، مثل كثير من سكان الشارع، وعندها شعر جدي بالخجل من السيد (عاموس)، نزل صباح يوم من أيام سنة (1936م) ودق باب بيته، ومعه صينية من الكنافة التي صنعتها جدتي، فاستقبله السيد (عاموس) وهو يستغفر الله السيد (أبو حسين باشا) بجلاله وقدره يأتي منزله المتواضع، بالتأكيد هناك أمر ما جعلك تنور دارك، التي أنعمت بها علينا… جدي والعرق ينصب منه، يقول له اسمع ياسيد (عاموس) لو أن ابني كان مطلوباً للإنكليز لما وجدت مكاناً أفضل من بيتك كي أبعده وأخفيه عن أعينهم…
لكن عندما يحتمي رجل في بيتي فإنني مضطر أن أخفي هذا الأمر على كثيرمن الناس، خصوصاً أن هذا الرجل له مشاكل مع مجموعات يهودية، يفكرون ويدمرون، أحلامك وأحلامنا بالعيش بأمان ، ويبدو أنني أخطأت في ذلك لأنك أنت واحد منا… لعنة الله على الشيطان والإنكليز..
أما السيد (عاموس) فبطيبته المعهودة أجابه بتلقائية: (الحاج أبو حسين) صحيح أنني غريب عن هذه الديار، وأنك استضفتني عندك، ويشهد الله أنك أكرمتني أكثر مما كنت في بلادي، بولندة، ولكن السنين التي عشتها هنا علمتني كثيراً، وأنا أعلم أنك كبير ليس في هذا البيت، بل في حيفا كلها، والكبير لا يسأل، وأنا أعرف أنك تحمي هذا الرجل، مثلما قمت بحمايتي واستضافتي، فبأي حق أتدخل، هذا أمرك وليس لي، لكن إن سمحت لي فأنا أرغب برؤيته وسأكون شاكراً. أما جدي رحمه الله فقد بقي طوال النهار قلقا يفكر بأفضل طريقة يلهمه الله فيها، وما أن حل المساء حتى جاء السيد (عاموس) ـ كعادته ـ إلى مضافة جدي، فقام جدي واصطحبه مع جارنا (جورج سليم الرومي) وهو أحد أعيان حيفا، ومن سكانها الأصليين، ومعلوم أن جدي توطدت علاقته بـ (جورج سليم) ـ أو كما ينادونه (أبو سليم)ـ منذ أن حاول الإنكليز إشعال فتنةٍ كادت تدمر العلاقات الجيدة بين أهالي حيفا مسلميها ومسيحيها، وتلك الفتنة كانت عندما كان (محمد الرشيدي) و(وليد حداد) يسكران معاً، في (خمارة جرجس) في حي الصليب، وعندما خرجا في منتصف الليل كانا يتناقشان حول فتاة جميلة اسمها (مريم)، وكانت لبنانية مسيحية، تعمل في ملهى ليلي، واشتدت الملاسنة بينهما فقام (محمد) بشتم (وليد)، واشتدت الملاسنة ليسحب (وليد) بعدها سكينة ويقتل (محمد)، وصباح اليوم التالي كان الإنكليز قد أشعلوا النار بالزيت، فقام أهالي حيفا في الحي القديم أو بما يسمى بحيفا البلد، بالخروج في مظاهرة كبيرة وكان الشعار يا (محمد) يا ذبيح رح نحرق دين المسيح… وقتها كادت الأمور تصل لما أراده الإنكليز وهو تفجير وتدمير ذاك التلاحم المسيحي الإسلامي لسكان حيفا، وما أن اقترب وقت صلاة الظهر حتى كان (جورج الرومي) يصلي بجانب جدي رحمه الله ولم يخرج الإثنان من المسجد إلا على أكتاف جماهير حيفا وهي تهتف يا صهيوني إيح إيح… يا إنكليزي إيح إيح… (محمد) أخو المسيح…
المهم خرج خرج جدي مع (أبو سليم الرومي) والسيد (عاموس) إلى الطابق العلوي ـ وقد كان هذا الطابق للحريم ـ هناك فتحت لهم جدتي الباب ، وبعد سموا باسم الله ، دخلوا جميعا الصالون الكبير، ثم انعطفوا يسارا ليجدوا شاباً جريحاً مصاباً في كتفه، ويبدو أنه قد عولج تماماً على يد طبيب من أهالي حيفا، وكان يجلس على سريره وما أن دخلوا حتى حاول الوقوف، فركض السيد (عاموس) مسرعاً يكفيك الشر ويبعد عنك ولاد الحرام، استريح استريح….
جدي عرفه على السيد (عاموس) وكان (أبو محمد) أحد رجال القسام يعرف السيد (أبو سليم)، ولكن السيد (عاموس) لا يعرف ذلك ولا يعرف أيضاً أن جراحه التأمت على يد ابنه الجراح الكبير، الذي درس الطب في بريطانيا، وبدأ حديث مازالت جدتي تذكر منه ما قاله السيد (عاموس) لـ (أبومحمد) : أريد منك خدمة في حال أراد الله أن تجتمع مع شيخ المجاهدين ورافع رأسنا أجمعين يهود ومسلمين ومسيحيين، أرجو منك أن تقول لـ (عز الدين) أن اليهود يرفضون مشروع الإنكليز لعنهم الله، لأنه يتنافى مع عقيدتنا وتوراتنا نحن نؤمن أن مسيحنا سيأتي ويقيم دولة اسرائيل، وليس الإنكليز وأن مثل هذا العمل لو تم سيحاربه ليس العرب مسلميهم ومسيحيهم بل كل يهودي يؤمن بنصوص التوراة….
وعليه فإن جدتي كانت مؤمنة إيماناً مطلقاً أن حيفا لن تسقط من يد العرب وأن اليهود ليسوا أعداءنا وأن الشر كله من بريطانيا، وهي مؤمنة رغم تسارع الأحداث بشكل غير مسبوق، حيث أصبح السيد (عاموس)، وعموم اليهود في حيفا أسياداً بعد أن كانوا ضيوفاً مكرّمين، فالميناء أصبح كبيراً ويشرف عليه اليهود، أما العرب فهم عمال فيه، وجدي الذي كان يبيع الحلويات، في سوق الشوام… أصبح محله خاوياً لأن أكثر التجار الشوام، تركوا حيفا ورجعوا إلى الشام… بعد أن تدهورت الأوضاع الأمنية والاقتصادية ولم يعد لهم مبرراً للبقاء اللهم إلا بعض أبنائهم الذين التحقوا بالثوار، ورفضوا الرجوع لبلادهم، وأما السيد (عاموس) فقد أصبح رئيس الجالية اليهودية في حيفا، ويملك جريدة يومية تكتب بللغتين العبرية والإنكليزية، ورغم كل هذا فقد كانت جدتي مطمئنة أن هذا كله سيحمي حيفا، لأن كبير اليهود هو (عاموس) و(عاموس) يرفض دولة لا يقيمها المسيح، ولذلك كانت في تلك الليلة مطمئنة وهي كانت تستحم أمام الجرن هي وبناتها السبع وكناتها التسع وحفيداتها، ورغم القصف المستمر لليلة الثالثة، ورغم كل الأقاويل فقد كانت الزغاريد في الحمام تنبئ بأن لا شيء يحصل خارج هذه الدار الكبيرة.
أما جدي فقد عادَ كغير عادتهِ ووقف أمام المضافة يجادل (عاموس) ويقول له أيها الكلب؟!.. هل نسيت من أنا؟ هل نسيت العيش والملح؟ السيد (عاموس) يقول له اسمع! .. من أجل العيش والملح لم أقبل بأن يأتي أحد من المسلحين إلى دارك، بإمكاني بلحظةِ واحدة أن أخرج الجميع دون أن تجهزوا أنفسكم، اسمع من أجل العيش والملح معك ثلاث ساعات، رتب أمورك وغادر، هيا ارحل، وبعد هذه المدة لن أحميك أبداً، أما أن تبقى فهذا لن يحصل، إنها أرضنا هل فهمت..
جدي كجبل صامت وأنا أقف أمامه أكاد أبكي، عمو (عاموس) ألم تقل: أن الإنكليز هم أعداؤنا، هل نسيت أبو محمد وما قلته له…. ولكن لم أكمل فقد جاءتني صفعة منه كبيرة على وجهي، وهو يقول لي منذ متى عندما يتحدث الكبار، يسمح للصغار مثلك بالكلام ، وهنا قاطعه جدي قائلاً لم يعد في حيفا أطفال صغار أبداً اذهب يا (عدنان) إلى جدتك، وقل لها أن تلغي الحمام وأن تأخذ كل ما نحتاجه لرحلة قد تطول أسبوعاً أو أسبوعين إلى عكا، وهنا قال (عاموس) الكلب… لا..لا أنا أنصحكم بأخذ ما غلا ثمنه وخف حملهُ فأنتم لن تعودوا أبدا أبدا…..[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
التعديل الأخير تم بواسطة محمد الصالح الجزائري ; 20 / 07 / 2013 الساعة 26 : 06 AM.
سبب آخر: إعادة التنسيق إكراما لصاحبها..
|
|
|