رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق
[align=justify]
مدخل
للكائنات كافة غايات تسعى إليها. واعية كانت لغاياتها، بالفطرة أو بالغريزة، أو غير واعية.
الإنسان، دون سائر الكائنات، وحده من يدرك هذه الحقيقة، بما حباه الله من عقل وبصيرة. وما من إنسان، على ظهر البسيطة، منذ بدء الخليقة، إلا وله هدف يسعى إليه، مهتدياً بالعقل والبصيرة، أو منقاداً وراء الغريزة والفطرة. مسلَّمةٌ لا مراء فيها فيما يرى الفلاسفة والعلماء والمفكرون. ولسوف تختلف الأهداف والغايات باختلاف البشر، حسب الطموحات والقدرات والنوازع التي هي من مقومات الكينونة. من الناس من كان هدفه صغيراً ومحدوداً، لا يتجاوز شؤون العيش ومتطلبات البقاء، ومنهم من كان هدفه كبيراً وعظيماً بحجم قيادة أمة. والسعي في الحالة الأخيرة هذه، لابد أن يكون شاقاً مجهداً أكثر من سواه، مقتضياً من التضحيات ما هو بقدر عظمته وحجمه. وكثيراً ما تكون حياة المرء نفسها هي القربان. وليس شرطاً ألا تتحقق لهؤلاء أهدافهم دائماً، أو أن يتحقق بعضها دون بعضها الآخر. فمنهم من يبلغ به السعي ما أراد، ومنهم من يمتنع عليه ذلك. النتائج في سائر الأحوال لا تتوقف، بالضرورة، على جهد صاحب القضية نفسه أو إرادته أو رغبته. ذلك أن هنالك عوامل كثيرة أخرى معقدة، متداخلة ومتشابكة تلعب دورها في المسألة. كالظروف، والمحيط، والمجتمع، والبيئة وغيرها كثير. هذا فضلاً عما يملك الإنسان ذاته من المقومات والمكوِّنات الأساسية في مواصفاته. تلك جميعاً تهيئ أسباب النجاح أو تُعزى إليها أسباب الإخفاق. كما أن الأهداف نفسها تختلف في حدِّ ذاتها اختلافاً بيِّناً، باختلاف الساعين إليها، من جهة، واختلاف ماهيتها، من جهة أخرى. منها ما هو ذاتي شخصي، بمعنى نفعي، ومنها ما يتسم بالغيرية والتسامي فيرقى إلى ذروة من نكران الذات، من أجل مصلحة عليا أو مركز مرموق للأمة التي ينتمي إليها. وربما ـ في حالات خاصة جداً ـ إلى غاية أعلى شأناً، وأكثر شمولاً وعمومية من أجل خير الإنسان المطلق ومصلحة الإنسانية قاطبة. وهذه لعمري أسمى ما يمكن أن يرنو إليه الإنسان في أيِّ زمان وأيِّ مكان. وهذه كانت رسالة محمد عليه السلام.
الذين ينذرون أنفسهم من أجل غايات كهذه، قلة نادرة مصطفاة في سيرورة البشرية. هم مصلحون أو هم أنبياء. والأنبياء هم صفوة الخلق، يصطفيهم الله لكي يحملوا رسالاته إليهم، وإلا فأنَّى للإنسان أن يعرف، هكذا من تلقاء نفسه، أن للكون خالقاً، وأن عليه، من ثم، تبعات نحو ذلك الخالق، ثم حيال بني جنسه من البشر، وإزاء سائر المخلوقات؟ أنَّى له، كذلك معرفة المصير والمآل في نهاية المطاف وبعد انقضاء حياته على الأرض؟
منذ وجد الإنسان على هذه الأرض ما برح يتساءل عن مسألة الخلق هذه. كان يتلمس بفطرته، وفيما يجده في دخيلة نفسه من أشواق روحية، وأسئلة حائرة ما يدفعه إلى التوجه نحو قوة خفية غيبية أقوى منه، يحسُّ بحدسه، أو يدرك بثاقب بصره وبصيرته وفكره أنها موجودة، وأنها هي التي تتحكم في حياته ومصيره، وأنها هي المهيمنة على قوى الطبيعة وظاهراتها، من رياح وبحار وأنواء، من حيوان ونبات، من كواكب ونجوم وشمس وقمر، وسائر المخلوقات القريبة منه، والبعيدة عنه على حدٍّ سواء. ولأنه يرهب هذه القوة فهو يلجأ إليها ـ برغم عجزه عن إدراك كنهها وماهيتها ـ ملتمساً الحماية في كنفها من غوائل الطبيعة المخيفة، وغضبها المفزع. لجأ الإنسان من ثم، إلى عبادة صورٍ من ظواهرها وتجلياتها، في الشجر والحجر والنجوم والشمس والقمر، في مراحل تطوره جميعاً، إلى أن بعث الله الأنبياء والرسل على مراحل زمنية متفاوتة، وبين أقوام في بقاع من الأرض مختلفة، غالباً ما كانت في ربوعنا وديارنا.
كان الشرق ــ بلادنا تحديداً ــ مهداً لتلك الرسالات التي عرَّفت الإنسان بأن للكون خالقاً. وأنبأته بما هو كائن وبما سوف يكون. بأصله ومنشئه وخلقه، بالعقيدة والشريعة، بما هو خير وما هو شر، بالمآل والمصير، فكان الدين منقذاً للإنسان من حيرته، وحامياً له من فكرة العدم بعد الموت. وكان هذا باعثاً للأمل عنده في أن رحلته الدنيوية على هذه الأرض ليست عبثاً، وأن الحياة ها هنا ليست نهاية المطاف حين ينهيها الموت، أي أن المآل ليس ظلام القبر السرمدي. بهذا جاءت الرسالات السماوية جميعاً. وكان الإسلام آخرها مؤكداً لهذه الحقائق الأزلية في الكثير الكثير من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه.
ولما كان موضوع كتابنا هو (القرآن ومحمد) عليه السلام، فإننا سوف نعالج مسألتين هما قوام الموضوع كله:
(1) الظاهرة القرآنية الفريدة التي تؤكد في فرادتها، ومفارقتها لسائر كلام البشر، بأن القرآن هو كلام الله،
(2) هل كان محمد باحثاً عن دور قيادي لأمة العرب، فانتحل صفة النبوة سبيلاً إلى تحقيق ذلك، كما زعم المرجفون والمشككون من أعداء الإسلام في مختلف العصور، أم أنه نبي تنزل عليه هذا القرآن؟
غني عن القول بأننا سوف لن نألو جهداً في السعي لأن يكون بحثنا علمياً وموضوعياً، ونكاد نقول حيادياً ـ في حدود الطاقة البشرية ـ كيلا نتهم بالغرضية، أو أننا نصدر فيما نعرض بناء على فكرة مسبقة نتبناها، على الرغم من يقيننا بصعوبة الحياد في هذا الشأن.
وقبل أن نجيب على السؤالين، وتمهيداً للبحث نعرض في الصفحات القليلة التالية، وباقتضاب شديد واقعة واحدة مما جرى بين محمد (عليه السلام) وقومه من قريش في بواكير الدعوة، كواحدة من معاركه الكثيرة، ترينا مقدار إيمانه وأمانته بالرسالة التي جاء يحملها إلى العالمين، وليس إلى قريش وحدها أو العرب دون غيرهم. كما سنرى في ثناياها مدى ترفعه ونزاهته وصموده أمام كل ما عرض عليه من مغريات، وما واجهه من مثبطات لكي يتخلى عما يدعوهم إليه.
(روي أن أشراف قريش اجتمعوا عند الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فأْتهم. فجاءهم رسول الله سريعاً، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد، إنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك، بذلنا لك من أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعْذر فيك)( ).
ماذا كان رد محمد عليه السلام على هذا العرض الذي كان من شأنه أن يبلغه أقصى أمانيه، ويحقق له سائر طموحاته وأحلامه، لو كان مبتغياً شيئاً من ذلك، وهو أقصى ما يسعى إليه عادة أيُّ طموح من أجل تحقيق مغانم دنيوية؟ ألم يكن حريّاً به أن يستجيب، على الفور، ليوفر على نفسه كل ما سيلقى فيما بعد من عنتٍ، وما سيواجه من مخاطر على مدى ما تبقى من سني حياته بعد ذلك، هو ومن معه من جانب، وقريش ومعظم قبائل عرب الجزيرة ويهودها، ثم دولتا الفرس والروم من جانب آخر؟
أجابهم (عليه السلام) بثقة مطلقة وببساطة متناهية ودونما تردد:
»ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم«( ).
هل يصدق في أي منطق أن رجلاً يسعى إلى واحدة من هذه المزايا والمكاسب ـ ناهيك عن السعي إليها جميعاً ـ وقد يمضي جلَّ عمره دون بلوغها، ثم ها هي ذي تأتيه كلها دفعة واحدة، مشفوعة بالرجاء والإعزاز والتكريم، فيرفضها ذلك الرفض القاطع الذي لا يقبل مساومة، ولا يعتريه تردد أو ضعف أو وهن؟
ماذا يريد إذن؟ هل كان ينتظر أن يحقق ـ بطرق أخرى ـ أكثر من هذا المعروض عليه لو كان يملك من أمره شيئاً؟
ترى ماذا كان سيحدث لو أنه قال لهم (نعم..!)؟ كلمة واحدة.. لنتصور أنه قالها.. إذن لتغير مصير البشرية ومجرى التاريخ الإنساني كله.
لقد توقف مصير الدعوة كلها على كلمة واحدة تصدر عنه عليه السلام يومئذٍ. هذا بالمقياس البشري. فلو أنه قال (نعم) لما كان هناك إسلام ومسلمون على وجه الأرض. ولكنها رسالة الله التي أراد لها الظهور والانتشار في سائر الأرجاء، ليكون الإسلام، من بعد، أعظم انقلاب في تاريخ البشرية على كل ما سبقه، لخيرها في دنياها وآخرتها.
وحين توجه القوم إلى عمه أبي طالب يشكون إليه ابن أخيه ورفضه ما عرضوه عليه، ثم يطلبون إليه أن يواصل السعي لديه فلعله يستجيب إلى عمه فيما أخفقوا هم في دفعه إليه، فكان جوابه الذي طفق مدوياً في سمع التاريخ على مرّ الزمان:
»يا عم: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه«( ).
رفْضُ الشمس والقمر، تعبير كنائي بليغ، يقطع الطريق على أي أمل لهم أو محاولة منهم لترهيبه أو ترغيبه. وهو في الوقت عينه إعلان لهم عن استعداده لتقبل النتائج التي ستترتب على موقفه هذا. وهو ما حدث بالفعل فيما بعد. فلماذا إذن يركب محمد هذا المركب الصعب، لو كان هدفه مطلباً يندرج تحت بند الطموح الشخصي..؟
أكثر ما ساء قريشاً هو أن محمداً الذي لم يكن من بين أثريائهم وكبرائهم يدعي بأن الله اختصه بالرسالة. فلقد كان أمثال عمرو بن هشام (أبو جهل)، وأمية بن خلف، والوليد بن عتبة، وأبو سفيان يطمعون في أن تسند إليهم مهمة وجيهة كهذه يرون أنهم أولى بها. أما أن يحمل لواءها محمد الذي لم يسعَ إلى وجاهة أو غنى من قبل، فهذه سبة في حقهم..! من ثم نزلت على محمد عليه السلام آيات في هذه الحالة ترد عليهم:
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف:31-32)
هل كانت المسألة حسداً أم كانت استكباراً؟ أم كانت تشبثاً بما وجد القوم عليه آباءهم من عقيدة وإرث ثقافي أو عرفي؟ أم تراها كانت حرصاً منهم على مكانة حسبوا أنهم خاسروها؟
لعلها كانت ذلك كله؟
يقول وحيد الدين خان:
(إن السجل التاريخي الممتاز لحياة الرسول محمد قبل إعلان النبوة ليس له مثيل في العالم. ولم يسبق أن أحرز مثله أي شاعر أو فيلسوف أو مفكر أو كاتب)( ).
يقول الدكتور بورسورث سميث، رغم أنه من المستشرقين المعادين:
(عندما ألقي نظرة إجمالية أستعرض فيها صفاته وبطولاته، ما كان منها في بدء نبوته، وما حدث منها فيما بعد. وعندما أرى أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة، وكم من البطولات المعجزة أحدثوا.. أجده أقدس الناس، وأعلاهم مرتبة، حتى إن الإنسانية لم تعرف له مثيلاً)( ).
لم يعرف الناس أحداً يبلغ به نكران الذات حدّاً يدفعه ـ مختاراً ـ إلى حرمان أسرته وذويه الأقربين من حقوق مشروعة، متاحة لغيرهم من الناس في كل مجتمع، ولكن محمداً عليه السلام فعل ذلك فأعلن على الملأ حتى بعد أن حقق الفتوحات وأنشأ دولة مترامية الأطراف قولته:
»نحن معشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة«( ).
من الحقائق الثابتة أنه ما من شيء يؤرق الإنسان كما يؤرقه مصير أسرته من بعده خشية العوز والفاقة. فما معنى أن يحرم محمد أسرته حقوقاً طبيعية لها، متاح مثلها للكافة، لا ينكرها عليه أحد لو أنه ترك الأمر على سجيته. ناهيك عما جبل عليه الإنسان من حبّ للتملك، الأمر الذي يتنزه عنه رسول الله، طائعاً مختاراً، أو تلبية لتوجيه رباني.
وقد جاءت الوقائع، فيما بعد، مصدقة للحديث الشريف، ولموقفه عليه السلام من المسالة مع أثيرته فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، في خلافها مع الخليفة أبي بكر. تقول الرواية:
(لما قُبِض النبي طلبت فاطمة ابنته إلى أبي بكر أن يردَّ عليها ما ترك من أرض بفدك وخيبر. لكن أبا بكر أجابها بقول أبيها »نحن معشر الأنبياء لا نورث..« ثم قال لها: فأما إن كان أبوك قد وهب لك هذا المال فإني أقبل كلمتك في ذلك وأنفذ ما أمر به. أجابت فاطمة بأن أباها لم يفض إليها بشيء من ذلك، وإنما أخبرتها (أم أيمن) بأن ذلك كان قصده. عند ذلك أصرَّ أبو بكر على استيفاء فدك وخيبر وردهما إلى بيت مال المسلمين).
(أم أيمن) هي التي روت عنها فاطمة ما قال النبي. ويبدو أن أبا بكر لم يشأ أن يأخذ بقول أم أيمن. وما كان في وسعه أن يرفض لو أن فاطمة روت ذلك عن النبي بنفسها.
فلننظر إلى هذه النزاهة التي عزَّ نظيرها. ألم يكن في وسعها، رضي الله عنها أن تحسم الموقف لصالحها بكلمة واحدة تنطق بها؟ كلا.. وحاشاها أن تفعل وهي ابنته صلوات الله عليه، وربيبته في مناقبه السامية العليا وخلقه العظيم.
ظاهرة أخرى جديرة بالالتفات إليها:
من خصائص النفس البشرية ألا يزهد الإنسان في مديح أو إطراء أو ثناء يتلقاه على منجزات تحققت على يديه. بل إن من الناس من يجنح به الغرور إلى التعالي والتفاخر والاستكبار بما أنجز. يحدث هذا حتى في حالات لا ترقى إلى مستوى يؤهل صاحبها لمثل ذلك. بيد أن محمداً خرج على هذه القاعدة. فنحن لا نجد في سيرته شيئاً من هذه السمات، حتى بعد أن حقق ما لم يُسبق إليه على صعيدي الدعوة والدولة. لم يصبه الغرور، ولم تتغير سيرة حياته في مسلكه وتعامله مع الناس والأحداث.
لو لم يكن نبياً لأصابه ما يصيب الناس، عادة في مثل هذه الأحوال، ولأضفى على نفسه ما شاء من أوصاف ومزايا ومناقب، وما كان لأحد أن ينكرها عليه، إذ هي حقائق لا مفتريات. بيد أنه ما كان لينقل للناس إلا ما يتنزل به الوحي قرآناً، وما يُلهم من ربه حديثاً ومسلكاً.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (لنجم:1-4)
القرآن نفسه لم يحدثنا عن سيرة محمد (عليه السلام) في طفولته وصباه ـ سوى ذكر يتمه في سورة الضحى ـ كذكر أبويه، أو تفاصيل عن حياته قبل البعثة. بل إن ذكره بالاسم لم يرد في القرآن سوى خمس مرات في حين ذكر المسيح عيسى بن مريم خمساً وعشرين مرة، وأما موسى عليه السلام فقد جاء ذكره أكثر من ذلك بكثير، ليس من أجل التفضيل ولكن لاقتضاء المناسبة.
وهناك سورة لمريم ابنة عمران عليها السلام، وليست هناك سورة لآمنة بنت وهب أم الرسول أو أخرى لابنته الأثيرة فاطمة الزهراء. ولا جَرَم هنا أن نتساءل:
هل عرف الناس أحداً بينهم لا يرى في أمه خير النساء قاطبة. أو أن امرأة ــ كائنة من كانت ــ تَفْضُلَ أمَّه؟ فما بالنا إذا كانت المسألة تتعلق بطامح إلى الشهرة والظهور، ناهيك عن الزعامة والقيادة؟
ألا يدل هذا دلالة قاطعة على حقيقة مصدر النص؟
حتى سورة (محمد) ذاتها لم تتضمن شيئاً من سيرة حياته. وقد ورد اسم السورة فيها ـ بمناسبة التنزيل عليه:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (محمد:2)
كان يمكنه ـ لو كان هو صاحب النص كما يزعمون ـ أن يسهب في الحديث عن نفسه بما يزيد عما ورد عن الأنبياء والرسل الآخرين. وكيف يأتي بسورة عنوانها (محمد) ولا يتحدث فيها عن (محمد) بإسهاب واستفاضة؟ أليس هذا مما يخالف طبيعة الأشياء مما عرف عن نوازع النفس البشرية، على مر العصور، قديماً وحديثاً؟
ولماذا يهوِّن إنسان من شأن نفسه في عيون من يسعى إلى تزعمهم؟ أليس خليقاً به أن يعمل على ما يرفع من شأنه في أنظارهم لكي يتسنى له تحقيق مآربه؟ فها هي ذي آية تقول:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.. (آل عمران:144)
لماذا يعلن هذا على ملأ من قومه وغيرهم، إذا كان هو صاحب القول؟ ما النفع الذي قد يجنيه من وراء ذلك؟
كيف استطاع محمد عليه السلام أن يصنع أمة، وأن ينشئ حضارة تمتد، من بعده، كل هذا الزمن وفي شتى بقاع الأرض، لو كانت دعوة مفتراة، أو كانت نتاج العقل البشري المحدود والذي لا يمكنه ــ بطبيعة التكوين ــ الإحاطة بشتى شؤون الكون والحياة والإنسان. ناهيك عن أن يكون المضمون والمحتوى شرعة ومنهاجاً، بريئاً من الشوائب والأخطاء، سليماً صالحاً لكل زمان ومكان؟
وأين هو أي كتاب ظهر للناس لبث صالحاً لسائر الخلق على مدى خمسة عشر قرناً من الزمان، لم تبطل القرون كلها مضموناً لنصٍّ فيه سورة كانت أو آية؟
أين هو الإنسان القادر على ذلك إن لم يكن نبيّاً حاملاً لرسالة أنزلها عليه بارئ الخلق جميعاً؟
ألم تصبح الأمة التي أنشأها محمد أعظم أمة في التاريخ وأوسعها امتداداً في الزمان والمكان؟
وهل استطاع كل ما شرع في وجهها من خصومات وتحديات، من حروب وعداوات، لم تتوقف ولم تفتر في يوم من الأيام، أن يصل إلى مبتغاه في القضاء عليها أو إلغاء رسالتها.؟
لو أن ما تعرضت له هذه الأمة حلَّ بغيرها لما بقي لها وجود ولكان مآلها إلى الزوال والاندثار.
وإنا لنراها اليوم وفي عصرنا هذا الجبار، بكل ما يحفل به من منجزات العلم، وما يسوده من سيل دافق من النظريات والفلسفات والأيديولوجيات ناهيك عما يواجهها من شراسة الحق وضراوة العدوان، نراها تستأنف مسيرتها لاستعادة مكانها على مسرح التاريخ والأحداث على نحو يثير قلق أعدائها الكثر ممن هم ـــ بما يملكون من قوة مادية ــ أمسوا أرباب السطوة والنفوذ والبأس في عالم اليوم. وحسبنا أن نذكر من نظرياتهم الراهنة التي يستهدفون بها الإسلام تحديداً ما أطلق عليه (صراع الحضارات) و(نهاية التاريخ) لمواجهة ما أسموه (الصحوة الإسلامية) منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران بغية قتل هذه الصحوة في مهدها لو استطاعوا، إذ يبدو أنها أمست تقض مضاجعهم بسبب من جهلهم لمحتواها من جانب، والعداوة التي تأصلت لديهم على مدى القرون من جانب آخر.
لقد كانت رسالة محمد عليه السلام منذ بعثه شغل البشرية الشاغل على مدى الأحقاب، سواء من كان معها، منضوياً تحت لوائها، أو من كان ضدَّها مناوئاً لها. الذين حملوها وعملوا على نشرها، والذين عادوها ووقفوا في وجهها، الأمر الذي لم تعرفه دعوة أو نظرية أو أيديولوجية أخرى على رحابة هذا العالم في المكان وامتداده في الزمان.
* * *
[/align]
|