02 / 07 / 2008, 05 : 07 PM
|
رقم المشاركة : [4]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
مقدمة
[align=justify]هل النقد وَقْفٌ على الناقد المحترف فقط؟ وإذا لم يكن كذلك، فهل يحق للقارئ العادي، مثلي مثلاً، أن يشارك الناقدَ التصدي للأعمال الإبداعية، وما الذي يمكن أن يمنحه مثل هذا الحق؟ أَهوَ المال الذي دفعه ثمناً للكتاب الذي اشتراه، مقتطعاً ثمنه من لقمة عياله أحياناً، أو من حرمان ولده الصغير اللعبةَ التي اشتهاها؟ أم أن الذي منحه حق النقد هو الوقت الذي أنفقه في قراءة ما اشتراه من كتب أو مجلات وصحف؟ أم أن هناك مصدراً آخرَ يُضاف إلى ما سبق، وربما يعدُّ الأهم، هو الذي منح القارئ هذا الحق، وإذا كان لمثل هذا المصدر من وجود، فما عساه يكون؟
أظن، بل أراني متأكداً، أن هذا المصدر هو كون القارئ الهدفَ الأهم لأي مبدع، والمحطة التي يتمنى أن يصلَها عملُه..
ألا يحلم كل مبدع بجمهور عريض يستقبل أفرادُه ما أبدع، فيؤثر فيهم، أو يحركهم، أو يمتعهم على الأقل؟ ثم أليس أي مبدع، في أي مكان وزمان، يأمل بينه وبين نفسه، أن يعرف آراءَ القراء في عمله، حتى وإن كانت سلبية، لاقتناعه بأن عدم إبداء أيِّ رأي، من أيٍّ كان، يعني أن مصير إبداعه هو الإهمال الذي يُعدُّ، في نظر أي عاقل، أسوأ من أقسى الآراء سلبيةً، وأشد إيلاماً من أيِّ نقد جارح؟
بلى. ولكن هل يُشتَرَط أن يكون إبداء الرأي في الأعمال الإبداعية وقفاً على النقاد أصحاب الحرفة، أم يجوز للقارئ العادي أيضاً أن يشارك النقاد المتخصصين إبداء الرأي، في ما تَلَّقى من إبداع؟
على افتراض صحة التوهُّم، بأن من حق متلقي العمل الفني عموماً، أن يمارس النقد، بوصفه هدف المبدع وغايته، كما يدعي أي مبدع، فهل على هذا المتلقي ألا يُبديَ رأيه إلا وفق أسسٍ ومناهجَ نقدية معينة ومُعتَرَفٍ بها؟
بتعبير آخر: هل من الضروري أن يكون نقد القارئ مدرسياً مقيداَ بمناهج النقد القديم أو الحديث أو بكليهما، وأن يكون زاخراً بالاقتباسات، مزيناً بالإحالات المرجعية وبفيض من المصطلحات التي تُصدِّع الرأس وتغمُّ القلب، أم يحق له أن يقول رأيه ببساطة، هكذا، وبتلقائية، (يعني على قدِّ ثقافته وفهمه)، وكفاه الله شرَّ مدارس النقد ومصطلحاته؟
لنتوهم، أن لا بأس في أخذ القارئ العادي على (قدِّ ثقافته)، وأن لا ضير في السماح له بإبداء رأيه، في ما يُقدَم إليه من أعمال إبداعية، بحرِّية، دون قيود مدرسية من أي نوع، أي أن يمارس ما يمكن أن يُسمى بالنقد الانطباعي، فهل هذه المنحة تكفي؟
بالتأكيد لا...... و(لا) هذه تعني أن لدينا ـ نحن القراء ـ مزيداً من المطالب. فهل تجاوزنا حدودنا، أم ليس بعد؟
في رأي كثيرين (نعم)، وفي رأي المنصفين: لا، لم نتجاوز..
حجة المنصفين تقول: إن إجماع كل نقاد الدنيا على وصف عمل إبداعي بالجيد، قد لا يُقنِع قارئاً واحداً بجودته والإعجاب به، فيسـقط هذا العمل على الرغم من إجماعهم، والعكس صحيح تماماً. ثم، مادام المبدع يُبدع للمتلقي وكذلك الناقد، كما يزعمان، فلماذا لا نسمع رأي هذا المتلقي نفسه في ما يُبدَعُ له، فربما اكتشفنا منه سببَ عزوف الجمهور عن عمل ما، على الرغم من استيفائه كل الشروط الفنية، في رأي النقاد، وعرفنا سببَ نجاح عمل إبداعي آخر، على الرغم من حكم النقاد عليه بأنه خارج على كل القواعد المدرسية للإبداع.
أما الذين ضايقهم تَدَخُلَنا، فقد هبُّوا غاضبين يصرخون: إن القارئ غير المختص بالنقد، لا ينبغي أن يُعطَى وجهاً ولا قفا أيضاً، بل الأفضل له وللنقد والإبداع معاً، أن تُرفع (لا) كبيرة، أمام رغبته الوقحة في حشر أنفه الفضولي فيما يُوجَّه إليه من إبداع، وكأن الأمر يعنيه! بل لا بأس أن يُصفَع بعبارة (بلا حكي فاضي، بلا قلة حياء)، إذا لم يرتدع ويذوق على دمه، من تلقاء نفسه...
ولإثبات صحة رأيهم هذا، يؤكد هؤلاء: ما إن يسمح النقاد للقارئ العادي بفتح فمه، حتى يتوَهَّم أنه صار ناقداً، وقبل أن يشمَّ رائحة إبطه النقدية، تراه يبدأ، والعياذ بالله، إطلاقَ الأحكام يميناً وشمالاً، يُصيب بها فلاناً وعلاناً، دون مراعاة لشهرة هذا الشهير، أو حرمة ذلك الكبير الذي جَعَلَتْه أقلامنا، نحن النقاد، أميرَ شعر أو سلطان طرب أو عميد أدب أو ملك قصة، إلى ما هنالك من درجات ومقامات ابتدعناها، ويجهل هذا القارئ قدرَها وقدر أصحابها..
ثم من غير المُستبعَد، بعد هذا كله، أن يسمح هذا القارئ لنفسه بالتمادي أكثر، فإذا به يُطالبنا، نحن النقاد، ويطالب المبدعين أيضاً، من كل فن ولون، أن نستمع لما يقول ويستمعوا، وأن نأخذ برأيه ويأخذوا، قائلاً، وبوقاحة: ما دمتم سمحتم لي بالتعبير عن رأيي في ما يُبدعه أعداؤكم أو أصدقاؤكم وصديقاتكم أو أرباب نعمتكم أو أسيادكم، لا فرق، فقد صار من حقي أيضاً أن أجد أذناً صاغية تسمعُ لرأيي في ما قرأتُ وشاهدت وسمعت، إن لم تكن أذن سيادتكم الصماء، فعلى الأقل أذُن المبدع الذي أنزلتموه لي من السماء، على أنه لا قبله ولا بعده. وحجتي في مشروعية هذا الطلب ومعقوليته، أن سماع رأي المتكلم، في أي مجال، واحترام هذا الرأي، أهم من الإذن له بالكلام والتعبير، لأن (تطنيش) ما يقولُه يُحيل منحَه حريةَ التعبير عن رأيه إلى ما يشبه الضحك على ذقنه، ونحن، معشـرَ القراء، نكره أن يضحك أحد على ذقوننا، حتى وإن كان مبدعاً ـ لا مؤاخذة ـ أو حتى ناقداً، قدَّسَ الغرور سره!
أترونَ إلى هذه الوقاحة؟ فحذارِ حذارِ، أيها النقاد والمبدعون، أن تمنحوا القارئ العادي حقَّ النقد، لأنكم إن فعلتم فسيأخذ راحته، وإذا أخذ راحته، فسيحرمكم، نقاداً ومبدعين، الراحة وربما المنام أيضاً...... فحذارِ أن تسمحوا له بارتكاب مثل هذه (الكبيرة) بحقكم، وإلا ندمتم حين لا ينفع ندم، ولا تفيد حسرة، ولا ألف كلمة آه...
ولكن، أحقاً يمكن أن يُعدَّ إعطاء القارئ حقه في التعبير عن رأيه (كبيرة)، كما ينصُّ شرع نقادنا ومبدعينا؟ إذن، فالويل لي والثبور، لأن كتابي هذا سيُعدُّ، من وجهة نظرهم، أكبر الكبائر التي لا غفران لها ولا توبة تمحوها.. ليس فقط لما حواه من تجرؤ على المقامات العلية لبعض السادة النقاد والمبدعين، بل لأنني، وهو الأهم، لستُ من أهل النقد، ولا حتى من خدمه، بدليل أنني لا أحمل شهادة ناقد من أي جامعة أو مدرسة، ولم يخلع عليَّ ناقد مرموقٌ جبته أو جلبابه ولا حتى قميصه الداخلي، كما لم يُتوِّج رأسي عظيمٌ بتاجِ النقد أو يقلدني صولجانه..
دَعُونا لا نُعَقِّد الأمور ونُكبِّر الحكايا، (فنجعل من الحبة قبة ومن الزبيبة خمارة)، كما يقول مثلنا الشـعبي، بل لنعترف، وببساطة، أن للقارئ العادي حقاً في إبداء رأيه في ما يقرأ وفي من يقرأ لهم.. ومادام مؤلف هذا الكتاب قارئاً عادياً، فدعونا لا نُحمِّل كتابه أكثر مما يحتمل، ولنكتفِ بالنظر إليه، ولو من عَلٍ، كوننـا نقـاداً ومبدعين، على أنه مجرد استجابة لِوَهْمٍ راود هذا المؤلف المغرور باحتمال وجودِ ما يمكن تسميته (نقد القارئ العادي)، فكتب في كتابه ما كتب، غفر الله له، وأَلْهَمَ النقاد والمبدعين الذين سلقهم بلسانه الذي يستأهل القص، أن يسامحوه.
وللحقيقة، يعترف هذا المؤلف الغرّ، بأنه لم يبادر إلى تأليف هذا الكتاب دون تفكير بالعواقب التي أكد له عقلُه الصغير أنها ستكون وخيمة. لكن توهُّمه إمكانيةَ ممارسة النقد، وهو مجرد قارئ عادي، عاد يُداهِمُ عقله الصغير، المرة تلو المرة، مغرياً إياه بفكرة إبداء رأيٍ فيما يقرأ.... ومرة تلو المرة، ظلَّ عقله، على صغره، يرفض هذه الفكرة مستغرباً ومستنكراً، إلى أن جرَّدَ الوهمُ شيطانَ إقناعه من غمده، وهجم به على ذلك العقل المضطرب، ليصيبَ به سويداء اضطرابه..... وما إن سكنَ اضطرابُه، حتى زالَ عنه خوفه.... عندها راح شيطان الإقناع يحدثه بهدوء قائلاً:
ربما كان هذا اللون النقدي موجوداً، في سالف الزمان، ثم حرمَّه من نصَّبوا أنفسهم آلهة في عالم النقد كي يُجنبوا أنفسهم سماع ما يكرهون، ممن يحبون ولا يحبون، فلماذا يستمر هذا الطقس الحرماني الجائر؟ ثم، حتى وإن لم يكن مثل هذا النقد موجوداً من قبل، أما آن له أن يُوجد، وقد صار وجودُه ضرورةً لإغناء العمل الإبداعي وإثرائه، شكلاً ومضموناً، من خلال حوار حرٍّ مفتوح، بين مبدعه ومتلقيه؟
عندها اقتنعَ ذلك المؤلف، فكتبَ، وشاء الله، فنشرَ معظم ما كتب، في عدد من الصحف والمجلات العربية، فكانت مكافأته فيضاً من الشتائم التي كان من المفترَض أن تُقنع أي (عاقل) غيره بالكفِّ عن المضي في هذه السبيل، لكنه بدلاً من أن يكفَّ، قرر جمع ما نشره متفرقاً، بين دفتي هذا الكتاب، آملاً أن يكون نموذجاً لما اعتقدَ (واهماً) أنه اللون الأهم من النقد، وأقصد (نقد القارئ العادي).
ألهذا الهدف فقط تُراني وضعتُ هذا الكتاب؟ لا..... فثمة أهداف أخرى، قد يرى غيري مبالغةً في تطلعي لتحقيقهـا، وأراني مصرّاً على التوهم بأن تحقيقها احتمالٌ غير مُعجِز، وأهم هذه الأهداف:
أولاً، محاولة إخراج القارئ العادي من دائرة المتلقي السـلبي للكثير مما يُسمى اليوم أعمالاً إبداعية، رغم أن معظمها لا صلة له بالإبداع من قريب أو بعيد.. بتعبير آخر: يهدف تأليف هذا الكتاب، في جملة ما يهدف، إلى محاولة التحرر من الإعجاب أو الرفض بالإكراه، تبعاً لرأي هذا الناقد أو ذاك، من الذين يطلعون علينا، كل يوم، متجلببين بالموضوعية حيناً، وبالأيديولوجية حيناً، أو بكلتيهما معاً، متخذين منهما عكازين لتسويغ مدائحهم التي يُدبِّجونها بهذا العمل، أو شتائمهم التي يكيلونها لذاك، بعيداً عن أي موضوعية أو أيديولوجية..
ثانياً، محاولة اختراق سور القداسة الزائف الذي أحاط به نقاد المديح والشتائم نقدهم الذي، على الرغم من وصفهم له بالموضوعيـة، لم يخرج عن صياغـات مضحكة، الموضوعية منها براء، وذلك من مثل:
(صدرت الرواية الأهم والأروع للروائي الكبير فلان)، مهما كانت هذه الرواية تافهة، شرط أن يكون مؤلِفُهـا صاحباً للناقد أو شخصية مرموقة يخافها الناقد أو يرجو ثوابها...؛
و(امتلأت المكتبات بنسـخ المجموعة القصصية المتهافتـة شـكلاً ومضموناً لمؤلفها فلان)، ثم نُفاجأ بأن هذه التي وُصفتْ بالتافهة والمملة عملٌ ممتع ورائع، لكن وَصْفَها جاء نقيضَ حقيقتها، فقط لأن هذا الفلان الذي ألَّفها لا حول له ولا مال، أو لأنه عدوٌ للناقد..؛
و(ديوان الشعر الذي بزَّ كل ما قيل، قبله وبعده، جودة وإتقاناً وإثارة للخيال والمشاعر والعواطف.. إلخ، للشاعر الفذ بن الفذ فلان)، مهما كانت القصائد التي احتواها هذا الديوان تافهة، ومهما كان بناؤها الفني ركيكاً وسقيماً.
وثمة الكثير من العبارات الأخرى المشابهة لهذه، تحولت جميعها إلى كليشهات مكررة، تُسوَّد بها صفحات صحفنا ومجلاتنا الأدبية والنقدية، لِتُسـوَّد بها أذواقنا وثقافتنا أيضاً. ولا عجب، فهي عبارات جوفاء، فضلاً عن كونها خالية من الصدق والصنعة معاً، وعاجزة عن إضاءة مضمون أو تحليل بناء فني. عبارات دفع استقرارها، في الصحف والمجلات وبعض كتب النقد، إلى عزوف القراء، في النهاية، عن قراءة الكتب، إبداعية كانت أو نقدية، والبحث عن المتعة والفائدة، في مجالات أخرى..
ثالثاً، أردت من كتابي هذا أن يكون مغامرة تُشجع غيري من القراء، وأرجو أن يكونوا أكثر قدرة مني، على رفع أصواتهم مطالبين بحقهم في ممارسة العملية النقدية، مؤكدين للنقاد الذي يتوهمون أنهم وحدهم أصحاب الرأي الجلي والقدر العلي، وجود من يستطيع النقد مثلهم، وأفضل منهم، على الرغم من أنه لم يُكرَّس ناقداً، ولم يَدَّعِ أنه كذلك، بل كان الصدق والحس السليم كلَّ أدواته النقدية..
بتعبير آخر: أردت الشروع في محاولة تحرير مارد النقد العظيم والجبار من قمقم المصلحة الأنانية الضيق الذي حبسه فيه نقاد المصلحة ومؤلفو اللاإبداع، عسى أن يعود هذا المارد إلى ممارسة دوره الصحيح الذي افتقدناه طويلاً. أي عساه يبدأ تحطيمَ أصنام اللانقد واللاإبداع الذين رفعوا أنفسهم مكاناً لا يُطال، ووضعوا أعمالهم فوق أي نوع من أنواع النقد، إلا إذا كان مديحاً ومسحَ جوخ.... ثم وقفوا حاجزاً بين المبدعين الحقيقيين والقراء العاديين، فكانوا بذلك أسوأ من نظرائهم الذين نصَّبوا أنفسهم أصنامَ مال أو جاه أو سلطان.. فهل تُراه يعود مارد النقد الصريح المعافى إلى ساحتنا الإبداعية التي صارت موبوءة بالرياء والكذب، ومتى يعود وكيف؟
لا أدري.. ولكن كان بين أهداف تأليفي لهذا الكتاب تشجيع من لديه الرغبة والقدرة على الصيرورة ناقداً حقيقياً أن يُسارع في ممارسة دوره الذي اشتقنا إليه، فيقول رأيه فيما يُسـمى إبداعاً، لوجه الله والفن والحق، ومن أجل خاطر القراء المساكين من أمثالي الذين أعمى قلوبهم النقد المرائي.. نعم، فلكم نبدو، نحن القراءَ العاديين، متشوقين لناقد حر صريح يقول ما ينبغي أن يُقال، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا تمنعه مهابة قيد أو مال أو جاه.
رابعاً، ومن الأهداف التي شجعتني أيضاً على تأليف مواد هذا الكتاب، رغبتي في المساهمة، ولو بقدر ضئيل جداً، في استيلاد حركة نقدية جديدة، يمكن أن يتمخض نشاطُها عن إعادة الحياة إلى العلاقة بين المبدع العربي والمتلقي العربي، لتبدأ الحياة بالعودة أيضاً إلى سوق الكتاب الإبداعي الذي كَسَدَ، بعدما أفقده البائسون من المبدعين الأقزام والنقاد المشوَّهَين، بهجته وإغراءه، مما زَهَّدَ القراء حتى بالجيد الممتع من الأعمال الإبداعية التي ـ لسوء حظها ـ تزامن صدورها مع صدور ذلك الزَبَدِ من الأعمال الهابطة التي على الرغم من كثرة التطبيل لها والتزمير، في مختلف وسائل الإعلام، نرى المطـاف ينتهي بهـا دائماً، عند بائعي الفلافل لاستخدامها في لفِّ السندويتشات لزبائنهم..
وهذا، كما أتصور، أحد أقسى ألوان العقوبة التي أنزلها القارئُ العادي بأدعياء الإبداع والنقد معاً.. لقد أعرض عما نشروه في الكتب والصحف والمجلات، لأنهم صموا آذانهم عن سماع رأيه، وهم يزعمون أنهم يكتبونه له، ولأن صدورهم ضاقت بملاحظاته، حتى حين تكون صائبة.... لقد أداروا له ظهر اهتمامهم، فأدار ظهره لإنتاجهم كله جملة وتفصيلاً، وقَرَّ في وعيه ووجدانه أنهم مخادعون، لم يكتبوا من أجله، كما يدعون، بل من أجل سماع ثنائه ومديحه فقط، فتركهم وما يكتبون نهباً للإهمال والضيـاع، غير عابئ بغيظهم منه الذي طفح ففـاض اتهاماً له، بالجهل وضحالة الثقافة..
والآن، دعونا نطرح السؤال التالي: أما كان من الأفضل لهم لو توجهوا إليه، حقاً لا ادعاء، وتصرفوا معه، كما يتصرف التاجر الحاذق في مجـال التسـويق. فدرسوا ذوقه، وراعوا رغباته في إنتاجهم، ثم أغروه بالارتفاع إلى مستواهم، بالرفق لا بالشتيمة، وبروح المعلم المحب لا بسوط الجلاد الظالم؟ لو أنهم فعلوا ذلك لكانوا ربحوه قارئاً محباً ومشجعاً، طوعاً لا كرهاً، ولكان رَبِحَهم مبدعين صادقين مؤثرين يقودون خطاه على الطريق الوعرة التي عليه أن يقطعها وإياهم اليوم، بوصفه عربياً في معركة اضطرارية، وصاحب وطن مهدد بالسرقة.
لا يعني هذا، أنني أدعو أهل الإبداع إلى تملق القارئ ومراءاته، أو أنني أطالب، بتحول المبدعين والنقاد إلى تجار يتاجرون بالأدب أو الفن..... معاذ الله، فما ينتجه هؤلاء وأولئك أجلُّ وأسمى من أن يكون سلعة للتجارة، وإن كان لا شيء يمنع من تجميل الإبداع بالفن، كما تُجمَّلُ السلعة بالفن أيضاً، لتسهيل وصوله إلى القراء وانتشاره بينهم وتأثيره فيهم، بالذوق لا بالزور.
بتعبير آخر: لا أنا ولا أي قارئ عادي مثلي، يقول لكم، معاشـرَ المبدعين والنقاد ـ دسـتور من خاطركم – تزحزحوا قليلاً عمَّا تصرون عليه من مواقف، كرمى لخاطرنا أو من أجل ذقوننا، فنحن واثقون أنكم مُصرُّون على التمسك بمواقفكم حتى وإن ثبُتَ لكم أنها خاطئة.. بل إن فيكم من يرى أن التنازل عنَّا ـ نحن قراءكم ـ جملة وتفصيلاً، أهون من التنازل عن رأي واحد، ولو كان فاسداً، من الآراء الكثيرة التي تؤمنون بها، رعاها الله لكم وكَثََّرها تكثيراً كثيراً، لتُعَقِّدونا بها أكثر وأكثر..... وبالتالي، فجلّ ما نرجوه منكم، أن تقدموا لنا تلك الآراء تقديماً جيداً وجذاباً من الناحية الفنية، على الأقل، أم أن المتعة صارت حراماً على العربي، حتى ولو كانت فنية؟
أعتقد أن هذا من حقنا كقراء، بل أبسط حقوقنا وأهمها، كي يصبح ما تبدعونه لنا ممتعاً إن لم ينفع، وكفاكم خطابات ومواعظ فجة جامدة كانت سبباً في ذهاب جزء من وطننا وكرامتنا، وقد تذهب بما تبقى منهما ومن أعراضنا وثرواتنا، عما قريب.
وبعد، فإذا كان ما سبق قابلاً للاستجابة من قبلكم، مبدعين ونقاداً، فأرجو أن تتسع صدوركم العامرة بالخير، لما حواه هذا الكتاب من دراسات نُشرت سابقاً في مجلات وصحف ودوريات عربية، من أبرزها (الآداب) و(المحرر) اللبنانيتين، والموقف الأدبي والأسبوع الأدبي السوريتين، وغير هذه من المطبوعات العربية..
وعذراً، ثم عذراً فعذراً...... إذا وجدتم في هذه الدراسات ما لا يرقى إلى مستواكم الإبداعي أو مكانتكم النقدية، فأنا، واسمحوا لي أن أؤكد لكم وأكرر، مرة بعد مرة، أنني لم أكتب سطراً مما ستقرأونه تالياً، كناقد..... فحاشا ثم حاشا أن أجرؤ على رفع شأني إلى مرتبة النقد السامقة التي لا يقدر على ادعاء بلوغها إلا الراسخون في الفن والعلم والنزاهة والموضوعية، من أمثال جلالاتكم الموقرة.... ولكنني كتبتُ ما كتبت، كقارئ عادي، راوده شيطان الحرية السـاحر ـ عليه لعنة المسـتبدين والنقاد وأولي القمع الأدبي إلى يوم الدين ـ على رفع صوتـه قليلاً، فرفعه مبدياً رأياً متواضعاً، في بعض ما قرأَ من كُتب، معلناً سلفاً، أن رأيه هذا قابلٌ للطعن والنقض والردِّ إن كان خاطئاً..
أخيراً، أرجو لَفْتَ انتباه قارئي الطيب إلى أنني، وإن قرأ في معظم الدراسات التي تضمنها هذا الكتاب، كلاماً قاسياً في مؤلِّف أو في مؤلَّف، فهذا لا يعني أنني لا أريد إلا القدحَ والتجريح وبيان السلبيات والمثالب فقط، بدليل أنني كتبتُ مستحسناً، لكن دون مبالغة، ما توهمتُ فيه الجودة من أعمال، وكان محرِّضي ودافعي، في الحالين، الرغبة في قول ما اعتقدتُ أنه الحقيقة.... نعم، فالحقيقة، كما تَوَهَّمتُها، هي التي أَملَتْ عليَّ أسلوب هذا الكتاب، استحساناً واستهجاناً.. وقد أكون مخطئاً فيما رأيت، لكنني لم أتملق أحداً ممن استحسنتُ كتابتهم، ولم أتجَنَ على أحد، ممن جَهِدتُ في بيان عيوبهم، جادّاً وساخراً، لأنني لسـتُ عبداً لأحد غير الله، ولا عدواً لأحد، أو طالب ثأر من أيٍّ ممن ورد ذكرهم في هذا الكتاب، على نحو لا يعجبه... كما أنني لست مفترياً أو قاسياً قسوةً لا مُسوِّغ لها، حتى وإن بدا كلامي، في بعض الدراسات، أشبه بالاستغاثة من (إبداع) عدمُه أفضل منه، أو من نقدٍ، ولا تؤاخذوني، الهراء أعلى منه مقاماً وأعظم…
دمشق في غرَّة رمضان 1425/15 تشرين الأول 2004
محمد توفيق الصواف
[/align]
|
|
|
|