عرض مشاركة واحدة
قديم 02 / 07 / 2008, 59 : 10 PM   رقم المشاركة : [1]
هشام البرجاوي
ضيف
 


شيخ في الثيولوجيا

أعلنت الثورة الفرنسية عام 1789، في بداية مشرقة لمسيرة اصلاح الفكر و الحياة في اوروبا، و استطاع الفلاسفة و المفكرون بلوغ الكنيسة الكاثوليكية و أذاعوا فكرة اصلاحها. غير أن العقلية الكاثوليكية حافظت على تطرفها و رفضها للمنافس العملاق الذي هو المعتقد الاسلامي.حتى بات الواقع يشير الى صراع شبيه بالتهافت الاقتصادي بين الدول الرأسمالية يجمع في الحاضر و الماضي بين الاسلام و المسيحية، فهل يمكن أن نفترض حركة منافسة رأسمالية بين المعتقدين السماويين؟ اذا ما بدت الفرضية سليمة، فما هو الطرف المتزعم لهذه المنافسة؟ قبل الاسترسال في التحليل، فان التاريخ الاوروبي الأكاديمي لم يسجل و لو في مناسبة واحدة استهدافا اسلاميا على رموز المسيحية، بل ان جميع الصراعات المسلحة التي وقعت بين الجانبين كانت حروبا بين حكام أنظمة يحاولون صيانة مصالحهم ، و لن يستطيع أحد أن يصم الحملات الاسلامية على الجغرافيا الغربية بالدينية، و في المقابل، اعترف المؤرخون بالدور البابوي المحوري في اندلاع الحروب الصليبية.
خلال الآونة الأخيرة، نشرت وسائل الاعلام خبرا حساسا منقولا عن بندكيت السادس عشر، بابا الفاتيكان، لقد صرح أمام حشد غفير من الاعلاميين و طلاب الجامعات بكلام انقلابي معهود في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية منذ الاعلان عن تنظيمها و تعديلها ابان عصر الأنوار، قال البابا إن الاسلام دين منبن على العنف و الانتشار باستخدام السيف، في دعم امتدادي للمشروع الأمريكي الراغب في استئصال ما اصطلح عليه "الارهاب"، ثم استشهد الزعيم الديني بمقولة لامبراطور بيزنطي رأى في محمد عليه الصلاة و السلام منبعا للسوء و الموت و قال ان كل ما جاء به هذا الرجل أضر بالانسانية و حجز تقدمها.حدث هام يتطلب منا وقفة مدققة، لتأطير نظرية العداء الروحي بين المسيحية و الاسلام، فالعديد من المهتمين ذهب مع التيار الذي يعتبر أن هذه الكراهية الأحادية انقرضت و زالت، بالرغم من أن تقويضها و محوها لا يحتاج الى تسهيلات و تضحيات متواصلة من جانب المسلمين، و إنما يحتاج الى موقف مسيحي واضح، فكل مسلمي العالم يحترمون علاقاتهم مع المسيحيين و مستعدون لتركيب روابط أخوية متماسكة معهم، بخلاف الشعب المسيحي الذي تضلله الايديولوجيات السياسية و الدينية المتشددة المناهضة للوجود الاسلامي في كل جزئياته.و قد تصاعد التوتر بين معتنقي الديانتين بعد أن أعلن أعلى مرجع ديني مسيحي على الصعيد العالمي عن انتقاده الشديد للرسالة الاسلامية، و شمل، بالنتيجة، تصريح الحبر الاعظم ابتعاد الانتماء الاسلامي عن الاستدلال العقلاني و الإستخدام المستمر للغة السلاح
لقد تناسى البابا المذابح و المجازر الرهيبة التي يرتكبها النظام الأمريكي في العراق و أفغانستان و غيرهما باسم محاربة الارهاب، و غض البابا النظر عن الجرائم الاسرائيلية المتواصلة في فلسطين، و عوض الرؤية البناءة في لبنان و اظهار تحليل منصف للدمار شبه الشامل الذي تعرض له جراء العدوان الاسرائيلي، حشد البابا الشعب الغربي و جمع عددا من المثقفين و الإعلاميين و طلاب الجامعات ليخوض دون دراية و تعمق في محددات الإسلام بالاستهتار المباشر، ليقتل التاريخ و يصعق معطياته الموثقة ، فهو يعلم في الصميم أن قارته عاشت أزمات التخلف و مشاكل الانحطاط قبل الاحتكاك مع الحضارة الاسلامية، و هو يدرك مدى الفرق الشاسع بين سياسة التوسع الاسلامية و مثيلتها الغربية، فالدول الاسلامية استهدفت نشر دين يقول إنه الأصلح للإنسانية، بينما التوسع الغربي دمج الدين بالبراغماتيا السياسية و الاقتصادية و جمعه بالسلاح لقهر الشعوب و استنزاف مقدراتها الشرعية و احتلال أراضيها. كلنا طالع في الكتب التاريخية نوعية سياسة الكيان السياسي الاسلامي حين دخل مصر و بلدان المغرب العربي، جاء حاملا مفاتيح الحضارة و قيم الاستقرار المجتمعي، و لم يتدخل قائد عسكري مسلم في دولة أو منطقة مأهولة الا بعد تفحص صنف الحكم السائد بها أو بعد استغاثة سكانها من طغيان الحاكم و حاشيته. النماذج عديدة و أشهر من أن يعاد ذكرها، أما التوسع الغربي بالقارة الافريقية و غيرها من بلدان العالم فقد حدث بالسلاح و السلب، و من بين ضحايا الارهاب الغربي الامبريالي والذي دعمته و حرضت عليه البابوية نجد في المقام الاول افريقيا التي لا تزال تعاني من مخلفات الامبريالية الغربية، و هي بأسرها شاهدة حية على بطلان مزاعم و ادعاءات الكنيسة الكاثوليكية عن رغبتها في تأليف بني البشر و العمل على تعاونهم و تعايشهم.
المواقف المتشددة من طرف البابا ليست وليدة الوقت الراهن، فالكنيسة الكاثوليكية هي التي أشعلت فتيل الحروب الصليبية و هي التي حاولت جاهدة صد الحركة الاصلاحية حفاظا على مصالحها الخاصة المتجسدة في ممارسة التجارة بواسطة تحريف الدين. لقد كانت الكنيسة شركة رأسمالية دينية باعت صكوك الغفران في اجراء مدان سيظل واصما للمسيرة التاريخية للبابوية.و هاهو البابا الجديد يعيد التاريخ للوراء فيطلق كلاما متماهيا مع الاهانة التي استهدفت النبي الكريم في الدانمارك، يطلق كلاما سيساهم في تأجيج و ترسيخ الحقد بين الديانتين الشقيقتين الهيا، بعد مساع و جهود حثيثة لايجاد مخارج فكرية منطقية قصد محو أو على الأقل تقليص التباعد الحاصل بين كلا العقيدتين، تباعد أفرزته مخلفات التاريخ و المذاهب السياسية و المراجع الدينية، بينما الشعوب في محاولات التقارب و التعايش بعثت اشارات خالصة داعية الى التكاتف و التعاضد في ظل انسانية متناسقة و متجانسة (الدعوة الى مواطن العالم)، و قد عبر جزء هام من الشارع الغربي عن ميولاته الفكرية المنفصلة عن كلام البابا، فخرج منددا بالعدوان الاسرائيلي على الشعب اللبناني كما رفض تصرفات الإدارة الأمريكية و كلفائها في العراق فضلا عن المظاهرات الجماهيرية التي تندلع في كل ربوع العالم للتعبير الجاد عن رفض الرأسمالية المتوحشة و العولمة على الطريقة الرسمية الأمريكية. غير أن البابا لا يلاحظ أو يتغافل عن ملاحظة كل هذه التحولات الايجابية و الواعدة. و نحن بانتظار الأصوات الفكرية الموضوعية التي ستعارض هذه التصريحات من داخل الغرب، لأن الغربيين هم وحدهم القادرون على دحض تطرف مماثل صادر عن قداسة البابا و مؤيد للحكومات الغربية في تعاملها مع المسلمين.
لقد هزأ البابا بمشاعر أولئك المسلمين الذين بكوا وفاة البابا السابق، بكوه بكاء بريئا، لأن المسلم يتأثر دائما برحيل أحد أركان الانسانية المساهمين في زرع مفاضل العدالة و قيم التآهل السلمي.ان المسلمين الذين تأثروا بوفاة البابا يوحنا بولس الثاني قد قدموا مثالا رائعا في الاخاء و التعاطف و تقبل ثقافة الآخر.و أنا على يقين أن جميع الجماهير الاسلامية أصيبت بحزن عميق بعد ذيوع خبر موت البابا السابق تقديرا لمواقفه التاريخية في موضوع التقريب بين الديانتين الربانيتين، و اذا ما نزلنا الى الشارع العربي و المسلم فسنجد أن الناس يحترمون منصب البابوية فهو المنصب المرادف للإرشاد الذي يقوم به الفقهاء و الدينيين الراسخون في الدين الاسلامي.
ان العنف مدان و مرفوض و واجب على الإنسانية أن تتآلف لمنع تفشيه، لكن الانسان الذي يحمل سلاحه لقتال محتل غاصب يبتغي امتصاص كل مكوناته الذاتية حامل لمهمة عادلة و وضعية لا مناص من تحقيقها. و من أجل محاربة العنف و اخضاعه أطلب من قداسة البابا أن يبعث برسالة الى السيد بوش لايقاف مجازره و سيختفي ما يسمى الارهاب الذي هو في الحقيقة مقاومة و جواب طبيعي على سياسات الاستنزاف و سرقة الجغرافيا و استعباد الانسان.
من المحتمل أن البابا مريد لدعم التيار السياسي الاوروبي الداعم للصهيونية و الولايات المتحدة و الذي يمثله السيد طوني بلير في ابريطانيا و السيدة ميركل في ألمانيا فضلا عن وزير الداخلية الفرنسي ساركوزي.
تصريحات البابا تضمنت خللا عميقا في الإستدلال، فقد استحضر رؤية ملك بيزنطي ازاء الاسلام في حالة غير موضوعية، اذ أن الدولة البيزنطية حوصرت من قبل الجيش الإسلامي قبل أن يتمكن العثمانيون من دخول القسطنطينية و الحاقها كعاصمة رسمية بالامبراطورية العثمانية، و من البديهي أن يدون ملك الكيان المنهار حديثا مناهضا للذين أسقطوا امبراطوريته أو طبقا للسياق الكرونولوجي يحاولون اسقاطها. من هذه الزاوية، يتضح أن حجة البابا غير متماسكة و أتت ضمن ظروف سياسية متوترة تتلخص في دخول العثمانيين أو محاولة المسلمين الوصول إلى مدينة مركزية في الدولة البيزنطية السابقة. أسجل أيضا أن الموقع التاريخي لدليل البابا غير سليم لأنه اقتبس كلاما ينتمي الى فترة ما قبل قيام الاصلاح الديني الكاثوليكي، و كما يقول الفرنسي فولتير الذي يعتبر من أبرز فلاسفة الأنوار،"كل المصلحين الدينيين في اوروبا لا يصلحون حذاء لمحمد صاحب الاسلام"، مقولة غير متداولة في الأوساط الفكرية الاوروبية الدالة على حقيقة مكانة النبي محمد و دينه حتى في نظر فولتير المشهور بمعاداته للديانات الفاناتيكية fanatisme و التي صنف النبي محمد ضمن روادها لكنه أقر بأنه أفضل من كل المصلحين المسيحيين الذين ظهروا في فترته. لكل هذه الاعتبارات ،أظن أن المسلمين الذين وصفوا البابا بالجهل في القضايا الإسلامية كانوا صادقين الى حد بعيد و يبدو أن الفرضية التي كنت مؤمنا بها و مفادها أن قداسة البابا عالم ثيولوجي عظيم قد انهارت الى فرصة أخرى هي في الحقيقة مواقف منصفة في أحداث عالمية شهيرة تجبر علمانية اوروبا البابا على التغاضي عنها.

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
  رد مع اقتباس