الفصل الأول / قبس من السيرة
[align=justify]
قبل البعثة
ولد محمد عليه السلام عام 570 ميلادية، عام الفيل، بمكة في دار جده عبد المطلب، الذي سماه محمداً. أرضعته حليمة السعدية حتى بلغ الخامسة من عمره. وفي سن السادسة خرجت به أمه آمنة بنت وهب إلى المدينة ليرى فيها أخوال جده من بني النجار، والبيت الذي مات أبوه عبد الله فيه وهو جنين، والمكان الذي دفن فيه، فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع في نفس الصبي.
(ولما تمَّ مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة. فلما كانوا في أثناء الطريق مرضت آمنة بالأبواء وماتت ودفنت فيها. وعادت الجارية أمُّ أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً، يشعر بيتم ضاعفه القدر، فيزداد وحشة وألماً. وها هو قد رأى بعينيه أمه تذهب، كما ذهب أبوه من قبل لتدعه يحمل همَّ اليتم كاملاً.
(ولعل جوى هذه الذكرى كان يخفُّ بعض الشيء لو أن عبد المطلب عمّر أكثر مما عمر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد ما يزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه. كفله عمه أبو طالب فأحاطه بالعناية والحماية التي امتدت إلى ما بعد بعثته ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه. وكان عمه، على فقره، الأنْبل والأكمل في قريش مكانة واحتراماً)( ).
وقد أحب أبو طالب ابن أخيه كحب عبد المطلب له، حتى إنه كان يقدمه على أبنائه. وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبرّ وطيب النفس ما يزيده به تعلقاً. ولقد أراد أن يخرج يوماً في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره، استجابة لرغبة محمد في مصاحبة عمه.
صحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام. وتروي كتب السيرة( ) أنه التقى في هذه الرحلة بالراهب بحيرى، وأن الراهب رأى فيه إمارات النبوة على ما تدله عليه كتب النصرانية. وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح أهله ألا يوغلوا به في بلاد الشام خوفاً عليه من يهود أن يعرفوا هذه الإمارات فينالوه بالأذى.
وأقام محمد مع عمه قانعاً بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنه. فإذا جاءت الأشهر الحرم مكث بمكة مع أهله، أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة لها، بعكاظ ومجنَّة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المعلقات والمذهبات، وتلتهم أذناه بلاغتهم في غزلهم وفخرهم وذكرهم أنسابهم ومغازيهم وكرمهم وفضلهم، ثم يعرض ذلك على بصيرته تلفِظ منه ما لا تسيغ وتعجب بما تراه جديراً بالإعجاب.
ومما زاده انصرافاً إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه، تلك التي أتاحت له فسحة الجو الطلق أثناء النهار، وفي تلألؤ النجوم إذا جنَّ الليل موضعاً لتفكيره وتأمله يسبح معه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما وراءها، ويلتمس في مظاهر الطبيعة تفسيراً لهذا الكون وخلقه.
بلغ عمه يوماً أن خديجة بنت خويلد تجهِّز لخروج تجارتها إلى الشام. وكانت خديجة من بني أسد، قد تزوجت مرتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنىً. وقد ردَّت خِطْبة الذين تقدموا إليها من كبار قريش، لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها.
(نادى أبو طالب ابن أخيه، وكان يومئذٍ في الخامسة والعشرين من عمره. وقال له: يا بن أخي. أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وقد استأجرت فلاناً، فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببتَ. فخرج أبو طالب إليها. ثم عاد إلى ابن أخيه ليخبره بموافقتها، وهو يقول: هذا رزق ساقه الله إليك)( ).
استطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتَّجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحاً مما فعل غيره من قبل، واستطاع أن يكسب محبة ميسرة غلام خديجة، الذي روى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه. أحبت خديجة محمداً وهي في الأربعين من عمرها. وكانت ردَّت من قبل أعظم رجالات قريش شرفاً ونسباً. ودَّت أن تتزوجه. أبلغته ذلك عن طريق صديقتها نفيسة بنت منبه. وتم الزواج. وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد. تبدأ حياة الزوجية والأبوة: الزوجية الموفقة الهنيَّة من جانبه وجانب خديجة معاً.
ما أوردته كتب السيرة بإجماع عن حياة الرسول قبل البعثة تتفق شتى مصادره على أن محمداً بن عبد الله كان مثالياً في سلوكه لدى مجتمعه المكي القرشي، وسائر علاقاته مع أهله وعشيرته، وكل من صادفه أو التقى به. لم ينقل عنه خبر واحد خلاف ذلك. حتى الهفوات الهيِّنة والمآخذ الصغيرة التي قد لا تكون ذات بال، والتي قلما يخلو منها أحد، لم يشر إليها من أعدائه وخصومه الكثر، أو من متبعيه، أو أولئك الذين لا هم بين هؤلاء ولا هؤلاء، حتى يهود تلك الديار، الذين حرصوا على تسقُّط الأخبار، والتربص بعيون مفتوحة، علَّهم يفلحون في الإمساك بمثلبة أو شبهة، لم يستطيعوا أن يظفروا بطائل. وإذا كان اليهود قد عمدوا إلى الإساءة للدعوة بما ملكوا من أسباب وذرائع ـ مناوأة وتكبراً وإصراراً على كفرهم ـ فإنهم لم يستطيعوا الطعن في أخلاقه ومناقبه.
عرفت قريش محمداً بهذه الصفات أربعين سنة، إلى أن جاءها معلناً رسالته السماوية ونبوته، فتبادر إلى الذهن تساؤلات من قبيل:
هل يمكن لإنسان هذه صفاته على مدى عمر طويل عاشه بينهم أن ينقلب على من هم حوله، مرة واحدة، ورأساً على عقب فيتحول الصدق إلى كذب، والأمانة إلى خيانة، وإلى حد ادِّعاء النبوة..؟
ولماذا لا يطعن أحد في مسلكه وصدقه لو كان هناك ما يمكن أن يوفر سبباً للطعن والاتهام؟
صحيح أنهم لم يصّدقوا، ولكنهم لم يطعنوا في شخصه. وعدم تصديقهم كان حرصاً منهم على مصالحهم، ومكابرة وغروراً واستكباراً ليس إلا. ما الذي يدعو محمداً إذن إلى تعريض نفسه، نتيجة لإعلانه دعواه، وتبليغ رسالة ربه لاحتمال ما تعرض له فيما بعد؟
* * *
من الزواج إلى البعث
أقام محمد عليه الصلاة والسلام، وقد أغناه الله بزواج خديجة في ذروة من النسب، وسعة من المال، وأهل مكة جميعاً ينظرون إليه نظرة غبطة وإكبار. زاده ذلك تواضعاً على جمِّ تواضعه. كان حسن الإصغاء إلى محدِّثه لا يلوي عن أحد وجهه، قليل الكلام، كثير الإنصات، ميَّالاً للجد من القول. كان يكتم غيظه ولا يظهر غضبه، لما جبل عليه من سعة الصدر، وصدق الهمة والوفاء للناس. هذه الصفات مجتمعة فيه كانت ذات أثر عميق في كل من اتصل به، فمن رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبّه.
لم ينقطع محمد ــ قبيل البعثة ــ عن مخالطة أهل مكة، والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة، وكانوا يومئذٍ في شغل بما أصاب الكعبة بعد أن طغى عليها سيلٌ عظيمٌ انحدر من الجبل فصّدع جدرانها.
شرعت قريش ـ بعد تردُّدٍ وجدالٍ فيما بين قبائلها ـ في إعادة بناء الكعبة. فلما ارتفع البناء إلى قامة الرجل، وأن يوضع الحجر الأسود المقدَّس في مكانه من الجانب الشرقي. اختلفت قريش أيُّهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان، إلى أن كادت الحرب الأهلية تنشب بسببه، فلما رأى أبو أمية بن المغيرة المخزومي، ما صار إليه أمر القوم، وكان فيهم شريفاً مطاعاً، قال لهم: اجعلوا الحكمَ فيما بينكم أوَّل من يدخل من باب الصفا، فلما رأوا محمداً أول من دخل قالوا: هذا الأمين رضينا بحكمه، وقصّوا عليه قصتهم. رأى العداوة في عيونهم. فكَّر قليلاً ثم قال: هلُمَّ إليَّ بثوبٍ، فأُتيَ به، فنشره وأخذ الحجر فوضعه بيديه فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من الثوب، فحملوه جميعاً، إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء. ثم تناوله محمد ووضعه في موضعه. وبذلك انحسم الخلاف وانفضَّ الشرّ. وأتمَّت قريش بناء الكعبة. قال ابن اسحق:
كان ابن خمس وثلاثين سنة. وإن إسراع قريش ــ وفيها من فيها من كبار القوم ــ إلى الرضا بحكمه وتصرُّفه في مسالة الحجر، ما يدلُّ على ما كان له من مكانة سامية في نفوس أهل مكة، ومن تقدير جمّ، لما عرف عنه من سمو النفس ونزاهة القصد والخلق الرفيع.
عاش محمد حياة طمأنينة ودعة في هذه السنين من عمره. ولولا احتسابه ابنيه القاسم وعبد الله لكانت حياة رضية بمودَّة خديجة ووفائها. من ثم كان طبيعياً أن يترك محمد نفسه لسجيتها في التفكير والتأمل، وأن يكون أشدَّ من كل قومه تدبُّراً وتفكيراً. وهو لا يمكن أن يظل مطمئناً إلى ما غرق الناس فيه إلى الأذقان من ضلال، ولابد أن يلتمس في الكون أسباب الهدى. وهو مع توجُّهه إلى الناحية الروحية وشديد تعلقه بها، لم يكن يريد لنفسه أن يكون من طراز الكهَّان، ولا أراد أن ينصِّب نفسه حكيماً على نحو ما كان ورقة بن نوفل وأمثاله، إنما كان يريد الحق لنفسه، فكان لذلك كثير التفكير، طويل التأمل، قليل الإفضاء إلى غيره بما يجيش في نفسه من آثار تفكيره وتأمله. وكان يمكن أن يظلّ كذلك ما بقي من حياته لولا أن جاءه أمر ربّه.
وقد كان من عادة العرب، إذَّاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمناً في كل عام يقضونه بعيداً عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويلتمسون عندها الخير والحكمة. وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنُّف أو التحنُّث. وكان من هؤلاء شعراء وخطباء كأمية بن أبي الصلت، وعديّ بن زيد، وقسّ بن ساعدة (وكان لهم مسحة خاصة في شعرهم وخطبهم، عليها طابع الدين ومتأثرة بتعاليم النصرانية تزهِّدُ في الدنيا وشؤونها، وتدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه)( ). وقد وجد محمد في مثل هذا الانقطاع خير ما يمكِّنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمُّل. كما وجد فيه طمأنينة، وشوقه إلى نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء ـ قريباً من مكة نحو ثلاثة أميال منها غارٌ اتخذه مكاناً للانقطاع والتحنُّث، فكان يذهب إليه طوال شهر رمضان من كل سنة، يقيم به مكتفياً بالقليل من الزاد يُحمل إليه، ممعناً في التأمل، ملتمساً الحق والحقيقة العليا، حتى إنه كان ينسى نفسه وطعامه وكل ما في الحياة. لأن هذا الذي يرى في حياة الناس ليس حقّاً. فما لهذه الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن أحد غائلة شرٍّ تصيبه. هبل واللات والعزى القائمة في جوف الكعبة لم تخلق يوماً ذبابة، ولا جاءت مكة بخير فكيف يعبدونها؟
وهذه الحياة التي نحيا اليوم فتنقضي غداً ما أصلها وما مصدرها وما هو منتهاها؟ وهذه الأرض أمصادفة وجدت؟ والشمس والقمر والكواكب والنجوم، وما يأتي الناس من خير أو شر، أفيأتونه طواعية واختياراً..؟ في هذا ومثله كان يفكر محمد أثناء تعبده في غار حراء، فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة، ومازالت التساؤلات والتفكير في شؤون هذا الكون قائماً يملأ فكره وقلبه. وبعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه، صار يرى في نومه الرؤيا الصادقة، ويرى معها باطل الحياة، وغرور زخرفها، إذَّاك أيقن أن قومه قد ضلّوا سبيل الهدى، إذ يعبدون الأصنام من دون الله.
وشارف محمد الأربعين، فتوجه إلى غار حراء يتحنَّث وقد امتلأت نفسه إيماناً بما رأى في رؤاه الصادقة. وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد اتجه بقلبه إلى الحقيقة الخالدة، إلى الله بأن يهدي قومه بعد أن ضربوا في بيداء الضلال.
ولكنه لم يدُرْ في خَلَده، على الإطلاق، أن يدعوهم إلى شيء مما آمن به. كان يفكر لنفسه، ويبحث عن الحقيقة لتشوُّقه إليها، إلى أن جاءه الوحي على غير توقع منه، ربما أو انتظار.
ما هي المظاهر الخارجية التي تؤيد كون محمد (صلى الله عليه وسلم) نبيّاً حقّاً؟ وما هي الخصائص والميزات التي اجتمعت فيه ولا نجد لها تفسيراً إلا إذا قلنا إنه كان نبيّاً. وهنا لابد من مقياسين لاختبار الأنبياء:
أولاً: أن يكون رجلاً مثالياً بصورة غير عادية، فإن الذي يُصطفى ليكون (رسول الله)، وليكشف للإنسان كنه الحياة بأسرها. لابد أن يكون أسمى في النوع الإنساني، تتجسد فيه مثل الحياة العليا. فإذا كانت حياته الذاتية متجلية فيها هذه الصفات فذلك أنصع دليل على ما يقول. فهل يستقيم عقلاً صاحب دعوى باطلة مع صاحب سمات كهذه؟
ثانياً: أن يكون كلامه، ورسالته حافلين بمعاني وخصائص يتعذّر توفرها لدى إنسان عادي كسائر الناس. كما أنها لا تؤمل ولا ترتجى إلا ممن ظفر بمعرفة إله الكون، فلا يتسنى ـ والحالة هذه ـ للعامة محاكاة ما جاء به من وحي الله.
(لقد شهد التاريخ والمجتمع الإنساني أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) كان يتمتع بسيرة غير عادية. وإذا كان يمكن للمتعصبين إنكار أية حقيقة فإن الذي لا يشكو من داء التعصب، ويهيئ عقله لمطالعة الحقائق بقلب مفتوح واعٍ، فإنه سوف يسلِّم، بعد دراسته، بأن حياة محمد كانت أرقى وأعظم حياة شهدها البشر)( ).
ويضيف وحيد الدين خان، في مكان آخر:
(إن المثل الأعلى الذي ضربه النبي في حياته من الأخلاق العالية والزهد في الأموال والملذات شيء لا مثيل له في التاريخ. لقد كان تاجراً ناجحاً في مكة. وكانت زوجه السيدة خديجة من أثرى نساء العرب. ولكن ثراء زوجته وتجارته ذهبا في سبيل الدعوة. وهو ما عانى كل ما عانى إلا لأجل دعوته. لقد كان من الممكن أن يعيش حياة أخرى، تختلف كل الاختلاف عن تلك الحياة البائسة التي عاشها في سبيل رسالته. ولقد عرضت عليه حين كان بمكة عروض مغرية تكفل له العيش الرضيّ والمجد السنيّ (المال والجاه والملك) ولكنه أبى)( ).
* * *
بعد البعثة
غادر محمد حياة الدعة والسلام، والعيش الهادئ الهنيء في كنف زوجه الودود، ومع عزلته التأملية، وأفكاره وخيالاته المحلقة في رحاب الكون وخالقه، والحياة وبارئها. فقد حان وقت العمل.
حياة جديدة سوف يقودها ما بقي له من عمر. مكرِّساً نفسه، بكل ما وهبه الله لحمل أشرف رسالة أنزلت للبشر. ولعله هو نفسه لم يكن يخطر له ببالٍ من قبل أنه سوف يكون نبيّاً ورسولاً للعالمين. كان الوحي الذي هبط عليه طارئاً ومفاجئاً. يكفي أنه يرى ملاكاً رأي العين، الأمر المذهل والمخيف لأشجع الرجال وأرجح العقول. ليتصور أحدنا ماذا يمكن أن يحلَّ به من خوف وهلع لو رأى ما رأى محمد عليه السلام، لو ألفى أمامه بغتة، كائناً غريب التكوين، ليس من جنس البشر، ينظر إليه ويُسمعه صوته، مخاطباً إياه بكلام غير مألوف على الإطلاق عنده أو عند قومه، يطلب إليه ما لا يقل غرابة عما يرى. أن يقرأ، وهو يعرف عن نفسه أنه لا يقرأ ولا يكتب. لم تسعفه عند ذلك رباطة جأشه، إذ كان ما يرى وما يسمع فوق طاقة بشر، فالبشر لم يخلقوا مؤهلين (فيزيولوجياً) لمثل ذلك، فارتجف خوفاً وهو يرى إلى ذلك الكائن أمامه في آفاق السماء جميعاً كلما حاول أن يصرف وجهه وبصره عما يرى. هرع إلى خديجة وهو يضطرب خوفاً، ويردد فور دخوله عليها: زملوني زملوني.. فانتقل الروع إليها مما شاهدت من حاله، بيد أنها تماسكت وتمالكت نفسها. وكان من أمرها ما كان، مما تركه رد فعلها من أثر في نفس محمد عليه السلام، ومن عون في قيامه بعبء ما كلفه به ربه. ولكي ندرك أهمية موقف خديجة هذا علينا أن نتذكر أن ما جاءها به زوجها لم يكن أمراً عادياً ومألوفاً، وإنما كان مذْهلاً وخارقاً قد يُعذر المرء في إحجامه عن تصديقه لغرابته. لكنه زوجها محمد الذي عرفته الصادق الأمين الوفي، فكيف لا تصدقه مهما كانت غرابة ما حمل إليها من نبأ؟
صحيح أن محمداً لم يكن بعيداً عن التفكير في أسرار الخلق وروح الكون، لكنه لم يتصور أبداً مثل هذا الاحتمال. هذه، على الأقل، ظواهر الأمور. أما دواخلها وأسرار ما بين محمد وربه فعلم ذلك عند علاَّم الغيوب.
هبَّ محمد عليه الصلاة والسلام يشقُّ الطريق ويواجه الخصوم لنشر دعوته التي حملها. وكان في هذا الصدد فريداً في مضماره بين الرسل، من نجح منهم ومن أخفق في حمل قومه على الهدى وتقبل الرسالة. كانوا يحملونها دعوة تتمثل في الحوار والجدال والنقاش، وتقديم البيِّنات، وربما المعجزات والخوارق، والرد على الجفاة، وتبيين خطل الرأي واعوجاج السلوك، وما إلى ذلك من قضايا مرَّ بها الرسل والأنبياء، في مواجهات أقوامهم، لكنَّ أيّاً منهم لم يخض مع أولئك المناوئين حروباً وصراعات على مستوى الجيوش والسرايا المقاتلة.
محمد عليه السلام كان الوحيد من بين الرسل من حمل، إلى جانب القول والبيان والتنزيل، السلاح أيضاً حماية للدعوة حين جوبهت بالسلاح. فقاتل، وواجه، وخاض المعارك بنفسه مع أتباعه وأصحابه والمؤمنين بدعوته. حارب قريش في جبروتها، وجفاة العرب في الجزيرة، أو لنقل من وقف منهم في وجه الدعوة ليحول بينها وبين عامة الناس. كما خرج عن هذا النطاق ـ على اتساعه ومداه ـ إلى الصدام ثم الحروب الضارية مع أعظم دولتين وأقواهما في ذلك الزمان، إمبراطوريتي الفرس والروم، وما أدراك ما هما في ذلك الزمن. كان الوحيد ــ بين الأنبياء ــ الذي فتح بلاداً، وهدى أقواماً، ووَّطد رسالة، وخلَّف تراثاً حضارياً بقي على الأيام، وكوَّن أمة بعد أن رفع من شأنها وأخرجها من الوثنية إلى الإيمان بالله، قامت على رقعة شاسعة من كوكبنا، وامتدت على الزمن طوال القرون التي انقضت منذ بعثته، وتواصلت حتى يومنا، وستظل حية حاملة رسالة الحق والإيمان ما بقي على الأرض الإنسان.
حدث هذا كله حين جاء العالم بقرآن مجيد كان المحرك والباعث والمحقق لكل ما أنف ذكره من إنجاز.
قد يخطر لبعضهم أن يذكر مواجهة موسى نبي الله لفرعون، ومواجهة عيسى عليه السلام يهود عصره وولاة روما، من قبيل المقارنة. لاريب أننا أبعد ما نكون عن الاستهانة أو التهوين لما قاما به وما لقياه من عنت، وما واجهاه من تعصُّب، في صراعهما مع قوى طاغية باغية. يحمل أحدهما ـ موسى عليه السلام ـ إلى فرعون المتجبر المتألِّه التوراة فيها نور وهداية، ويحمل ثانيهما ـ عيسى عليه السلام ـ إلى بني إسرائيل، أشرس الخلق وأكثرهم ضلالاً في ظل حكمٍ روماني قاسٍ متجبر لا يرحم، الإنجيل كتاب الله ونوراً منه. إلا أنهما ــ مع ذلك ــ لم يتعرّضا لمثل ما تعرَّض له محمد. ولم يواجها مواجهته. وكان ذلك تدبير الله، وتبعاً للظروف والأحوال التي أحاطت في عصريهما المختلفين ثم عصر محمد عليه السلام.
صحيح أن النبي موسى عليه السلام وأخاه هارون ذهبا إلى فرعون الذي طغى، يحاولان هدايته، لكن فرعون أبى واستكبر، وعلا في الأرض. ثم كان ما كان من أمره الذي أفضى في نهاية المطاف إلى خروج موسى من مصر، هرباً بقومه من وجه فرعون وطغيانه. لم تحدث مواجهة ولا وقع قتال. تكفّل الله سبحانه بإهلاك فرعون وجنوده. ونجَّى موسى ومن معه. لكن هؤلاء ــ قوم موسى ــ نقضوا العهد، واتخذوا لهم عجلاً له خوار يعبدونه في غيبة موسى عنهم متوجهاً إلى حيث أمره ودعاه ربه، لتلقي الألواح من أجل هدايتهم. تاهوا في أرض الله أربعين سنة. ثم عادوا إلى ضلالهم، ولبثوا بعد ذلك مصدراً للشرور، وموئلاً للإجرام في حق البشرية جمعاء، منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة من الأعوام، أو نحوها حتى يومنا الراهن.
صحيح كذلك أن المسيح عيسى بن مريم واجه ولاة الرومان. كما واجه فرِّيسي اليهود وكهنتهم وأحبارهم، وكان هؤلاء قساة جبارين، كالرومان أنفسهم، إن لم يكن أشد. دعاهم لمدة أعوام قليلة حاملاً إليهم رسالة المحبة والسلام، داعياً إلى الله ومعه (الإنجيل) كتابه. لم يحمل في وجوههم سلاحاً. لم يدع إلى عصيان أو قتال، بل عالج المريض، وأبرأ الأكمه، وأحيا الميت. لم يعجبهم ذلك، بطبيعة الحال. من ثم تربَّصوا به، وتآمروا عليه لدى الأجنبيِّ عنهم وعنه، إلى أن تمكَّنوا منه، وعملوا على إخراجه من الحياة (صلباً) كما ارتأوا وحسبوا، وشبه لهم، و(رفعاً) إلى السماء كما شاء الله وليُّه ومولاه.
حقٌّ ذلك كله، بيد أن ما عاناه محمد عليه السلام، على مستويات مختلفة من العداء والمواجهة، إلى جانب المدى الزمني الطويل الذي عاشه في خضم حرب ضروس، لم يهدأ لها أوار، منذ بدء التنزيل وحتى ختامه. كان فريداً في بابه بين حملة الرسالات جميعاً.
حسب (محمد)، بعد البعثة، هذا النور الذي أشرق على العباد، وعمّ سائر الأرجاء على يديه. فكان خاتم الرسل والأنبياء. بقيت رسالته وستبقى إلى يوم الدين، كوعد رب العالمين، بأن »يظهره على الدين كله ولو كره الكافرون«. ولكي تبْقى »كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ولو كره المشركون«. هؤلاء وأولئك ــ إسرائيل وأمريكا وآخرين ــ ممن خرجوا حتى على دياناتهم نفسها: التوراة الداعية إلى العدل، والمسيحية السمحة الداعية إلى السلام.
أيُّ نكران للذات؟ لم يجن (محمد) مالاً، ولم يسعَ إلى مكسب مادي دنيوي. وحتى أسرته تركها لم يخلِّف لها إرثاً، حين أوصى بأن (الأنبياء لا يورثون) كما سلفت الإشارة.
حتى ما هو حق طبيعي لسائر الناس لم يمنحهم إياه، إمعاناً في الطهارة والنقاء الأمر الذي لم يعهد مثله في تاريخ البشرية قديماً وحديثاً.
لم يكن له من مطلب شخصي عند إتمام رسالته بشهادة القرآن:
..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً.. (المائدة:3)
أهذا كل ما هنالك بعد سني العناء والشقاء الطويلة القاسية، والحياة الحافلة بالجهاد في سبيل الله لنشر دينه الذي ارتضى لهم؟
ــ بلى..
مطلبه الوحيد كان المودة في القربى.. ولا شيء غير ذلك لقاء ما جاءهم به:
.. قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى .. (الشورى:23)
* * *
أسلوب القرآن في البدايات
أول ما تنزل على الرسول عليه السلام السور القصيرة بآياتها القصيرة أيضاً، فلا تتجاوز السورة السطر أو السطرين، داعية إلى عقيدة التوحيد، إلى معرفة الله أولاً وقبل كل شيء واحداً أحداً. والإقرار بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما، والشمس والقمر والنجوم والكواكب وما في الأرض من بشر وشجر وخلائق. وآيات فيها التحذير والنذير من عذاب النار، والترغيب والتبشير بنعيم الجنة وروحها وريحانها، في كليهما: أهوال تلك ونعيم هذه. وآيات تؤكد صدق الرسول ومصدر القرآن. وآيات تدعو إلى النظر في آيات الله في خلقه، وآلائه ونعمائه عليهم، التي لا تحصى ولا تعد.
كانت الآيات في أسلوبها قصيرة صاعقة، أشبه بالبلاغ الزاجر، من ناحية، والبشير المطامن، من ناحية، مما يلقي في النفس الرهبة والروع ثم الطمأنينة، فقريش، سيدة الفصاحة، لم يسبق لها أن استمعت إلى كلام مثير على هذا القدر من التأثير الذي يتوعدهم بما ترتجف له أوصالهم إذا ما لبثوا على كفرهم، كقوله تعالى:
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلَّا إِنَّهَا لَظَى. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى. تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعَى (المعارج:8-18)
وقوله في سورة الحاقة:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (الحاقة:18-37)
وفي سورة أخرى:
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (عبس:33-42)
وفي سورة أخرى:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر:1-8)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (الحاقة:18-24)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأحقاف:13-14)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الرعد:35)
كلام لم يسمعوا مثله من قبل، مفردات وجملاً، صياغة وجرساً وإيقاعاً، وبلاغة، ناهيك عن محتواه ومضمونه، يأتي به إليهم محمد الأمي بغتة، وبعد أن لبث بين أظهرهم أربعين سنة منذ مولده. من أين انبثق هذا كله فجأة؟ ولماذا لم ينطق بكلمة أو عبارة مماثلة من قبل. وليس في لغته وكلامه الذي ألفوه منه بينهم فيما مضى شيء من هذا؟ كيف تأتَّى له؟.
وهو فوق ذلك يبلغهم بأن هذا ما سيلاقيه واحدهم فور تخطيه عتبة الحياة إلى الدار الآخرة. فإما نعيمٌ مقيم وإما سعيرُ جهنم. وهذا جديد عليهم تماماً لغة ومضموناً مما يثير فيهم الحيرة ويدعوهم إلى التساؤل وإعمال الفكر والتدبر.
(وقد حدا هذا بأشد قريش خصومة أن يسألوا أنفسهم: أحقّاً أنه يدعو إلى الدين القيِّم، وأن ما يعدهم وما ينذرهم هو الصحيح؟ خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق ليلة ليستمعوا إلى محمد وهو في بيته. فأخذ كل منهم مجلساً يستمع فيه وكلٌّ منهم لا يعلم بمكان صاحبه. وكان محمد يقوم الليل إلا قليلاً يرتل القرآن في هدوء وسكينة. ويردد بصوته العذب آياته القدسية على أوتار سمعه وقلبه. فلما كان الفجر تفرق المستمعون عائدين إلى منازلهم، فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمداً عليكم)( ). وتكرر ذلك ثلاث ليال متتالية (ولما أدركوا ما بهم لدعوة محمد من ضعف تعاهدوا ألا يعودوا لمثل فعلتهم، وإن ترك ما سمعوا من محمد في نفوسهم أثراً جعلهم يتساءلون فيما بينهم عن الرأي فيما سمعوا، وكل يخشى أن يضعف وهو سيد قومه فيضعف قومه ويتابعوا محمداً معه)( ).
كان الحسد والتنافس والتنازع على الوجاهة والمكانة والمصلحة موانع أمام كبراء قريش عن متابعة محمد (عليه السلام). كل من زاويته وموضعه. فأمية بن أي الصلت لم يرض أن يتابع من ظن أنه أولى منه بسبب من غلبة الحكمة على شعره. ولكنه أدرك أن شعره لا شيء بالقياس إلى ما يجيء به محمد. أما الآخرون كأبي جهل عمرو بن هشام وكأبي سفيان والوليد بن المغيرة وأبي مسعود بين عمير الثقفي فلأسباب أخرى. فهذا الوليد بن المغيرة يقول: (أينزل على محمد وأترك أنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين) وإلى هذا يشير قوله تعالى:
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. (الزخرف:32)
ألم يكن حرياً بهما بعد أن استمعا إلى هاتين الآيتين في حقهما أن يقرا صاغرين بأنه من عند الله. فمن أدرى محمداً بما حدث وبما تفوها به، وهما اللذان تواصيا مع آخرين أن يتكتموا على أخبارهم. ألم يدركا أن من أنبأ محمداً نبأهما هو الله العزيز العليم؟
أما ما كان من الأخنس ومن أبي جهل فقد ذهب الأول إلى الآخر في بيته يسأله (يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعنا من محمد؟) فكان جواب أبي جهل: (ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرُّكب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه)( ).
فتور الوحي
مواقف عصيبة كثيرة مرت بالرسول عليه السلام إبَّان دعوته الناس إلى الإسلام، تركت في نفسه الكثير من الضيق والألم والحزن. منها موت زوجه خديجة التي صدقته حين كذَّبه الناس، والتي كانت له خير سند وأقوى معين، وظلت كذلك حتى انتقالها إلى الرفيق الأعلى، راضية مرضية. كذلك كان موت عمه أبي طالب الذي كان شديد الحدب عليه، مدافعاً عنه أمام الخصوم، دافعاً عنه أذى قريش حتى وهو لم يسلم. ولكن كانت هنالك، فضلاً عما سلف، مسألتان من أشد ما مرّ به عليه السلام وقعاً على نفسه. إحداهما لها علاقة بالوحي، والثانية مواقف بعض مناوئي الدعوة منه.
بعد أن أبلغ الرسول عليه السلام من جبريل عليه السلام بأمر الرسالة، وبعد أن شرع في إبلاغ قريش بأن الله اختاره نبيّاً ورسولاً. وما كان بعد ذلك من لقائه ورقة بن نوفل، والموقف المعادي للقرشيين لدعوته، انقطع عنه الوحي لأمد، فلم يعد جبريل يتنزل عليه، وهو الذي ينتظر دعوته لكي يهديه في أمر الرسالة التي كلف بحملها. وطال انتظاره حتى أن خديجة نفسها عليها السلام قالت له في معرض الحرص والخشية: ما أرى ربك إلا قد قلاك، وتولاه الوجل والخوف، عاد إلى حراء من جديد، وهو يتساءل: لم قلاه ربه بعد أن اصطفاه. وفيما هو كذلك، وإذ بالوحي يجيء بعد فتوره الطويل، متنزلاً بسورة الضحى مبتدئة بقسم إلهي عظيم من ربه:
وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (الضحى:1-2)
ثم بإعلانه:
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى (الضحى:3-4)
ثم وعد بعطاء غير محدود،
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (الضحى:5)
ثم تذكير له بما مضى من حياته. اليتم، وشظف العيش، ومعاناته طفلاً، وما كان عليه من تيه وبعد عن الهداية إلى الحقيقة قبل أن يبلغ أمر ربه، يبحث هنا وهناك عن الحق والحقيقة.. ما وراء الحياة، ومن هو صانع الكون وخالق كل شيء.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى:6-11)
انجابت مخاوفه، واطمأنت نفسه الحيرى إلى رضى ربه عنه، وغمرته الفرحة الطاغية، على الرغم من معرفته بما سوف يلقى من عنت القوم وصدِّهم.
يخطر هنا السؤال:
لماذا لم يعمد محمد إلى تأليف آيات من عنده يقدمها للناس في هذا الوقت إبان الانقطاع إذا كان هو الذي يؤلف، لاسيما وأن الفترة التي فتر فيها الوحي عنه امتدت إلى ما يزيد عن سنتين، كما تقول كتب السيرة؟ وأين ذهب الملقنون والمعلمون عنه في هذه الأثناء؟ ثم ماذا حدث لكي يعودوا إليه من جديد؟ هل سويت الأمور بينه وبينهم وعلى أي أساس؟ وهل بقي ذلك سراً خفيّاً على الجميع لا يعلم به أحد سواء في حياته أو بعد وفاته؟!!
* * *
موقف ثقيف وإساءات قريش
أما الموقف العصيب الآخر فقد كان يوم دعته مناوأة قريش وإسرافها في أذاه لأن يتوجه إلى الطائف، ملتمساً نصرة ثقيف، راجياً إسلامهم، بيد أنه لم يجد عند هؤلاء إلا ما هو أسوأ مما وجده عند قريش. فهم لم يكتفوا برفض الدعوة بل مضوا إلى أبعد من ذلك، فأغروا به سفهاءهم. مضى عنهم عائداً أدراجه إلى مكة. جلس ـ في طريقه ـ إلى حائط في ظل شجرة عنب. وكان صاحبا الكرم عتبة وشيبة ابنا ربيعة يرقبانه. بلغت به شدة الكرب أن شرع يناجي ربه، رافعاً رأسه إلى السماء ضارعاً يقول:
((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بك)).
أشفق ابنا ربيعة عليه وهما يرقبانه، فبعثا إليه غلامهما النصراني عدّاساً يقطف من عنب كرمهما. وقبل أن يتناول حبة من العنب قال: باسم الله. دهش الغلام وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد. سأله محمد عليه السلام عن دينه وبلده. فأنبأه هذا بأنه نصراني من نينوى. فعرفه النبي بنفسه نبياً، فأكب عداس على محمد عليه السلام يقبل رأسه ويديه. إلى آخر ما ورد من هذه القصة في كتب السيرة بإجماع.
كان يزيد من همومه، في هذه الأثناء، ما يتعرَّض له أنصاره من الفقراء والمستضعفين والعبيد من عذاب وقهر، على أيدي طغاة قريش، أمثال أمية بن خلف والوليد بن المغيرة وعمرو بن هشام (أبو جهل).
كان الرسول يرى بلالاً الحبشي، وياسر وزوجه أم عمار (سمية) وعماراً وغيرهم يسامون سوء العذاب. ولا يستطيع أن يصنع لهم شيئاً. بل إن منهم من قضى نحبه لما تعرَّض له من تعذيب. من هؤلاء سمية وقد طعنها أبو جهل بحربة فكانت أول شهيدة في الإسلام. ثم زوجها من بعدها. أما (بلال) فكانوا يلبسونه الحديد برمضاء مكة لكي يشرك لكنه يأبى ويردد قوله: أحد.. أحد. برغم ما هو فيه إلى أن أعتقه أبو بكر مقابل فدية تقاضاها سيده أمية( ). كان يمر بهم رسول الله فيحترق ألماً وحزناً ولا يملك إلا أن يحثهم على الصبر. من ذلك قوله لآل ياسر: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) ( ).
ألم يكن محمد في غنى عن هذا لو أنه رضي بما عرض القوم عليه من قبل. ما الذي يلجئه إلى هذه المواقف العصيبة؟ ألم يكن أسهل عليه لو أنه أظهر لهم شيئاً من الليونة أو الحيلة متظاهراً بالعودة عما دعاهم إليه؟ وكانوا بالقطع سوف يرضون بأقل من ذلك. لم يفعل وهو نبي الله ورسوله.
وحسبنا أن نأتي بلمحات عن إسلام عدد من كبار رجالات قريش ـ كما ثبت فيما بعد ـ وهم ممن لا يمكن لمدقق منصف أن يتهمهم بالسذاجة، أو سهولة الانقياد لأمر لم تتولد لديهم القناعة اليقينية به.
* * *
إسلام علي بن أبي طالب
كان يقيم مع الرسول عليه السلام والسيدة خديجة وبناتهما، ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي كان صبيّاً لم يبلغ الحلم. ذلك أن محمداً عليه السلام رأى أن يخفف عن عمه أبي طالب بسبب كثرة عياله بالتكفل بعلي، في حين تكفل عمه العباس بأخي علي جعفر بن أبي طالب.
وفيما محمد وخديجة يصليان يوماً دخل عليهما عليٌّ الغلام، فرآهما يركعان ويسجدان ويتلوان مما أوحاه الله من القرآن. وقف الغلام دهشاً حتى فرغا من صلاتهما. ثم سألهما: لمن تسجدان؟ فأجابه عليه السلام: إنما نسجد لله الذي بعثني نبياً وأمرني أن أدعو الناس إليه. ودعا محمد عليّاً ابن عمه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دينه الذي بعث به، وإلى إنكار الأصنام كاللات والعزَّى. وتلا محمد ما تيَّسر من القرآن، مما أسر لب عليّ وقلبه بجماله وإعجازه بما فطر عليه عليّ من موهبة مبكرة في البلاغة والفصاحة، فهو أفصح الناس بعد رسول الله ـ كما يتبين فيما بعد ـ. استمهل عليٌّ ابن عمه حتى يشاور أباه. لكنه قضى ليله مضطرباً مفكراً، حتى إذا أصبح أعلن إليهما أنه ليس في حاجة لرأي أبيه قائلاً: (لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله) فكان عليّاً أول صبي أسلم. ومن بعده أسلم زيد بن حارثة مولى النبي. وبذلك بقي الإسلام محصوراً في بيت محمد: زوجته وابن عمه ومولاه( ).
أليس في هذه القصة ما يؤكد صدق صاحب الدعوة. صحيح أن علياً كان صبياً لما يبلغ الحلم، ولكنه كان منذ صباه ثاقب النظر، ذكي العقل والفؤاد. والأهمية هنا تأتي من كونه كان يعايشهما (محمداً وخديجة) معاً تحت سقف واحد. فهو أعرف الناس بهما وأشدهم تأثراً بما انطويا عليه من صدق ومحبة. من ثم كانت استجابته السريعة تلك. وكان منه ما كان في قادم الأيام من حسن بلاء وصدق ووفاء لابن عمه رسول الله. كان خير عون له في سائر مراحل الدعوة، لاسيما في خوض غمار الحروب والغزوات التي لم يتخلف عن أيٍّ منها، وكان المجلِّي فيها دائماً الذي لم يعرف الهزيمة أبداً، وما من معركة أو مبارزة إلا وكان المبادر المنتصر فيها على الدوام. أما من ناحية العلم والخلق فكان المثال الرائع المحتذى، حتى لقد قال فيه عليه السلام الكثير، ومنه قوله: ((أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها)). رضي الله عنه وأرضاه وآل البيت أجمعين.
لم يعرف عن عليِّ (رضي الله عنه) منذ صباه الباكر، وعلى مدى حياته كلها، الجنوح إلى حياة دعة أو راحة أو هدوء. لقد ضحى عن طواعية ورضى، بكل ما يمكن أن ينال من الحياة، من أجل الدعوة، وهو يقف إلى جانب رسول الله في سائر مراحلها. لم يطمع في مكسب شخصي، أو جاه خاص، أو منصب، مكرِّساً حياته كلها في سبيلها.
ولا ينسى له التاريخ مواقفه العظيمة في نكرانه للذات إبَّان خلافة الراشدين الثلاثة الذين سبقوه إليها. كان معهم بإمكاناته العظيمة كلها. وقدراته الجليلة الخارقة التي ندر مثيلها. لم يبخل ببذل أو عطاء قط. ثم رأينا ما كان منه بعد ذلك في زمن خلافته الراشدة، توطيداً وترسيخاً لبناء الدولة الوليدة التي سوف تمضي من بعد إلى الامتداد والانتشار على سعة العالم المعروف يومئذٍ.
فضلاً عن هذا كله، كانت للإمام علي (رضي الله عنه) إسهاماته الجلَّى في الفقه والتفسير لكتاب الله، والفتوى والاجتهاد، في الفكر والحكمة والقول، مأثوراته ومآثره لا يحيط بها حصر، من أهمها واشهرها ذلك السفر العظيم »نهج البلاغة«. وغيره كثير وغزير تمثلت فيه الفصاحة والبلاغة وروعة البيان، خلَّفها للمسلمين إرثاً وتراثاً لا يبلى، ينير للأجيال الطريق على مرِّ الزمن.
تربَّى عليّ رضوان الله عليه في مدرسة الرسول عليه السلام فكان خير من حمل الراية من بعده مع الرعيل الأول من الصحابة، بناة صرح الأمة الإسلامية العظيم.
قال عليه السلام في علي رضي الله عنه: ((من آذى عليّاً فقد آذاني))، وقال ((من كنت وليُّه فعليٌّ وليُّه)) ( ).
* * *
إسلام أبي بكر
كان أبو بكر بن أبي قحافة التيمي صديقاً لمحمد (عليه السلام)، يعرف فيه الأمانة والنزاهة والصدق. فكان أول من دعاه محمد إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان. أفضى إليه بما رأى وبما أوحي إليه، لم يتردد أبو بكر في إجابة محمد إلى دعوته والإيمان بها.
فضلاً عن تجنيد نفسه؛ منذ الساعة، للذود عنها وعن صاحبها. كرَّس أبو بكر، منذ اللحظة، نفسه وماله لخدمتها والعمل على انتشارها وإعلاء كلمة الله، في صحبة محمد صديق عمره الأثير الأمين.
أذاع أبو بكر إيمانه بالله ورسوله بين أصحابه. وكان أبو بكر محببَّاً إليهم، عليماً بقريش وما كانت عليه من خيرٍ وشرٍّ. وكان أيضاً تاجراً خلوقاً، عارفاً بالرجال والأنساب.
جعل أبو بكر يدعو للإسلام من يثق به من قومه، فتبعه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوَّام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغير هؤلاء من المكيين. وكان أحدهم يذهب إلى النبي يعلن إسلامه ويتلقى عنه تعاليم الإسلام. وكانوا جميعاً يستَخْفون لعلمهم بما تضمر قريش من عداوة لمن يخرج على عبادة أوثانها. فكانوا، من ثم، إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة ليصلوا فيها. لبثوا كذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشاراً بين أهل مكة، وكان الوحي في هذه الأثناء يتنزل على محمد عليه السلام ليزيدهم إيماناً وتثبيتاً. لم يتخلف أبو بكر عن رفقة الرسول والعمل معه لحظة واحدة.
كان لإسلام أبي بكر أثر كبير في حمل الكثير من عامة الناس على الدخول في الدين الجديد. كذلك من بين أشراف مكة، وتجارها ووجهائها، ممن طهُرت نفوسهم وخشعت قلوبهم لذكر الله وآيات الكتاب التي يتلوها عليهم محمد، ومن بعده أبو بكر وسائر الأولين ممن دخلوا في دين الله.
كان أبو بكر حصيفاً، نافذ البصر والبصيرة، عارفاً بأقدار الرجال، دقيق الحكم والميزان. رجل كهذا ليس سهلاً انقياده لما لا يؤمن به، فكان من ثم الأول من الرجال في تلبية دعوة محمد والدخول في الإسلام.
ولا ينسى تاريخ الأمة الإسلامية لأبي بكر (رضي الله عنه) مواقفه العظيمة، طوال حياته كلها، باذلاً من أجلها النفس والمال والجهد الدؤوب، والتعرض لشتى المخاطر والاحتمالات، في مواجهة قريش وغيرها من أعداء الإسلام الألداء. وكان لأبي بكر، بحصافته وما ملك من رجاحة العقل، الفضل في إنقاذ الموقف الخطير يوم وفاة الرسول، حين كذَّب كثيرون الخبر، فلم يصدِّقوا أن الرسول يحق عليه الموت مثلهم. لقد هالهم الخطب فذهب بهم الشطط شتى المذاهب، فما كان من أبي بكر ــ الألصق والأحب لرسول الله من كثير منهم ــ إلا أن وقف بينهم قائلاً: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت). ثم مذكِّراً إياهم بقوله تعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(آل عمران:144).
ثاب القوم إلى رشدهم وأذعنوا لقضاء الله وقدره.
ويجدر بنا أن نقف مليّاً عند هذه الآية ــ النبوءة التي تنبأت بهذا الذي حدث عند موت الرسول إذ أوشك بعضهم أن يرتد على عقبيه. ولم تقف المسألة عند هذا الحد، فالنبوءة صدقت كذلك فيما وقع من المرتدين عن الإسلام إثر وفاة الرسول. أولئك الذين انقلبوا على أعقابهم بالفعل. كما صدقت في أن أولئك ما كان لهم أن يضرُّوا الله شيئاً كما قالت الآية، إذ باءوا بالهزيمة والخذلان المبين. وكان ذلك على يد أبي بكر ومن معه من الصحابة المؤمنين الذين بادروا إلى محاربة هؤلاء لوضع الأمور في نصابها. تذكر كتب السيرة أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نصح لأبي بكر الخليفة بأن يأخذ هؤلاء بشيء من اللين، ولكن أبا بكر ــ المعروف عنه اللين والرفق بالفعل على عكس عمر ــ صاح بعمر قائلاً: أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام يا عمر؟ والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم فيه.
على الرغم مما قد تشي به هذه المواقف من أن الرجل ينطوي على جفاء وقسوة فهو في حقيقة الأمر لم يكن كذلك. كان عطوفاً رحيماً إزاء بني البشر، أيَّاً كانوا. وإنه لحريٌّ بنا أن نذكِّر دعاة حقوق الإنسان المعاصرين المتشدقين بمبادئ وقيم لا يطبقونها بما كان من أبي بكر من مواقف إنسانية حينما كان يرسل جنوده لقتال المرتدين وغيرهم من أعداء الدولة الناشئة. وصيته إلى جنوده يومئذٍ جدير بها أن تكون نبراساً يهتدي به البشر في الشأن الإنساني. لقد نهاهم أبو بكر، بل أصدر إليهم أوامره بألا يقطعوا شجرة ولا يهدموا بيتاً. حتى الأسرى لم يتعرضوا لعذاب أو إهانة، فقد كان الموقف منهم إما (المنُّ) بإطلاق سراحهم دونما مقابل، وإما (الفداء) حسب تعليم كتاب الله.
رجل آخر من نجباء وعظماء مدرسة محمد عليه السلام فيما أتى به من كتاب وما ترك خلفه من سنة.
* * *
إسلام عمر بن الخطاب
كان عمر بن الخطاب يومئذ ما بين الثلاثين إلى الخامسة والثلاثين من العمر. كان رجلاً قوي الشكيمة، حادّ الطبع، سريع الغضب، محباً للهو والخمر. وفيه إلى ذلك برٌّ بأهله ورقة لهم. وكان من أشد قريش أذى للمسلمين. فلما رآهم هاجروا إلى الحبشة، شعر لفراقهم بوحشة، ولفراقهم وطنهم ألم يحزُّ في نفسه.
(كان محمد يوماً مجتمعاً بأصحابه الذين لم يهاجروا، في بيت عند الصفا. ومن بينهم عمه حمزة وابن عمه عليّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وغيرهم من سائر المسلمين الأولين. وعرف عمر اجتماعهم، فقصد إليهم يريد أن يقتل محمداً كي تستريح قريش وتعود إليها وحدتها بعد أن فرَّق محمد أمرها وسفَّه أحلامها وعاب آلهتها. لقيه عمه نُعيْم بن عبد الله في الطريق، وعرف أمره فقال له: والله لقد غشَّتك نفسك من نفسك يا عمر! أتُرى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمداً!؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟ وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما. فلما عرف عمر ذلك كرَّ راجعاً إليهما، ودخل البيت عليهما، فإذا عندهما من يقرأ القرآن. كان ذلك خبَّاب بن الأرث. فلما أحسُّوا دُنُوَّ داخلٍ عليهم اختفى القارئ، وأخفت فاطمة الصحيفة. سأل عمر ما هذه الهينمة التي سمعت. فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمت أنكما تابعتما محمداً على دينه. وبطش بسعيد، فقامت فاطمة تحمي زوجها فضربها فشجها. فهاج إذ ذاك هائج الزوجين وصاحا به: نعم، أسلمنا فاقض ما أنت قاض. واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم. وغلبه برُّه وعطفه، فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرؤون ـ طلبت إليه الاغتسال أولاً فإنه كتاب لا يمسُّه إلا المطهّرون ففعل ـ فلما قرأها تغير وجهه وأحس بالندم على صنيعه. وقد اهتزَّ لما قرأ من آيات وأخذه إعجازها وجلالها، وسموّ الدعوة التي تدعو إليها. فخرج وقد لان قلبه، واطمأنت نفسه، فقصد إلى مجلس محمد وأصحابه عند الصفا. فاستأذن وأعلن إسلامه. وأصبح منذ اللحظة النصير القوي المنافح عن الإسلام. وكان لإسلامه بالذات أثرٌ أيما أثر في قريش أسفر عن دخول الكثيرين في الدعوة الوليدة( ).
جاء في بعض كتب السيرة أن النبي عليه السلام كان يدعو ربه ــ قبل إسلام عمر ــ بالقول: اللهم أعزَّ الإسلام بأحد العمرين عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام. فكانت الهداية من نصيب عمر رضي الله عنه. وكتب التاريخ حافلة بما كان من شأن عمر إبَّان خلافته على المسلمين بعد أبي بكر رضي الله عنه. وقد عرف بقوة الشخصية والإرادة الحازمة والفكر النيِّر إلى جانب الصرامة في الحق حتى لقب بالخليفة العادل الفاروق.
* * *
إسلام حمزة عم الرسول
مرَّ أبو جهل بمحمد يوماً فآذاه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتهوين من أمره، فأعرض محمد عنه وانصرف ولم يكلمه، تمشياً مع قوله تعالى ((وأعرض عن الجاهلين)).
وكان حمزة عمّه لايزال على دين قريش. كان رجلاً قويّاً مهيباً، ذا ولع بالصيد. فإذا رجع من صيده طاف بالكعبة، قبل أن يعود إلى داره. فلما جاء في ذلك اليوم وعلم بما أصاب ابن أخيه من أذى أبي جهل، ملأه الغضب، وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلِّماً على أحد ممن كان عندها كعادته. دخل المسجد فألفى أبا جهل فقصد إليه، حتى إذا بلغه رفع القوس فضربه به فشجّه شجَّة منكرة. وأراد الرجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسماً للشر ومخافة استفحاله، معترفاً أنه سبَّ محمداً، ثم أعلن حمزة إسلامه، وعاهد محمداً على نصرته والتضحية في سبيل الله حتى النهاية( ).
كان من شأن ذلك أن ازدادت قريش ضيقاً بمحمد وأصحابه إذ رأتهم يزدادون قوة، لا يثنيهم الأذى ولا يصرفهم العذاب عن إيمانهم والجهر به. فخيل إليهم أن يتخلصوا من محمد، بما توهموا من إرضاء مطامعه فبعثوا إليه عتبة بن ربيعة وكان من سادات قريش ليعرض عليه ما هو معروف في كتب السيرة جميعاً ــ وما أسلفنا الإشارة إليه ــ الإمارة والمال وكل ما يرغب فيه ويطمح إليه. وكان رد محمد المعروف. وتلا أمامه سورة السجدة، معرضاً عن عرضه، مترفعاً عن كل ما سمع منه. استمع عتبة إلى أحسن القول ورأى أمامه رجلاً لا مطمع له في شيء من عرض الدنيا، فعاد الرجل إلى قريش مأخوذاً بعظمة محمد وسحر بيانه مما لم يرق لقريش، فعادت إلى مناوأة النبي ومن معه.
لم يكن حمزة بالرجل السهل. وهو لم يُسْلم كردِّ فعلٍ فقط بسبب ذلك الحادث الذي دفعه إلى نصرة ابن أخيه، كما قد يبدو للوهلة الأولى. ولكن حمزة بحكم قربه من محمد، ومعرفته الجيدة به، كان على أهبة التسليم بما جاء به، فكان الحادث صاعق التفجير لما كان كامناً في أعماقه وما كان يمور في دخيلة نفسه ووجدانه.
* * *
الخمسة الكبار وأثر إسلامهم
كان لإسلام أولئك الخمسة أثر لا يضاهى في مسيرة الدعوة، ونصرة صاحبها، كل حسب موضعه وموقعه وطبيعة أثره وتأثيره ومقومات شخصيته.
أما السيدة خديجة فقد آوته ونصرته يوم خذله الناس وصدقته يوم كذبه الناس. آمنت به وبما جاء به وكانت أول من دخل الإسلام، شدَّت من أزره ووقفت إلى جانبه، حين كان وحيداً بلا نصير ولا معين ولا مجيب.
ولم تكن أدوار أبي بكر وعمر والفتى علي وعمه حمزة بأقل شأناً. إسلام هذا النفر الذين تفرد كل منهم بخصائص عظيمة، تعاضدت وتآزرت فأنشأت أساساً راسخاً شكل قاعدة ودعامة للدين الجديد، يقوم عليها بنيانه، ليعلو ويكبر ويتعاظم فيما بعد، إلى أن يعم الدنيا بأسرها. أجل كان لهؤلاء الكبار من عظام الرجال ــ وخديجة ــ من الأثر في قريش، وسائر العرب ما مكَّن للإسلام الانتشار في تلك الربوع، ثم انطلاقته كالإعصار إلى سائر أرجاء الأرض. منذ دخل هؤلاء في الإسلام اطمأن محمد إلى حدٍّ كبير إلى أن الله ناصره. فمضى في دعوته غير عابئ بما يضع الخصوم من قريش في طريقه من عقبات، وما يثيرون في مواجهته من متاعب. وحين كان يعجزهم أمر محمد نفسه فلا يتجرؤون عليه ولا يتمكنون من تجاوز حدود معينة في معاداته، كانوا يلجأون إلى التنكيل بالمستضعفين من أصحابه، كبلال الحبشي، وياسر، وسمية وغيرهم، يسومونهم سوء العذاب ــ كما سلفت الإشارة ــ ويوقعون بهم من الأذى ما يفوق طاقة بشر على الاحتمال. بيد أنه كان من شأن ذلك أن يزيدهم إيماناً وإصراراً على ما عاهدوا الله عليه.
كان لكل من الخمسة العظام هؤلاء دوره العظيم الرائع في رسوخ الإسلام في النفوس أولاً، ثم في أماكن انتشاره ثانياً، في سائر الأمصار سواء في زمانهم أو من بعد ذلك. فما بنوه وشيدوه لبث قائماً شامخاً، وسيظل كذلك أبد الدهر، برغم ما جرى وما يجري من تراجع حيناً، ومن إساءة فهم حيناً، ومن هزائم حيناً في هذا البلد أو ذاك من بلاد المسلمين لأسباب وعوامل لم تعد خافية على أحد. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك كانت للإسلام خاصية غريبة وعجيبة، هي أنه كلما ضعف أهله أو حسب الخصوم أنهم أوشكوا على الانتصار عليه باغتهم بالعودة إلى ما كان عليه من قوة ومضاء، فخيَّب آمالهم وأحبط سعيهم.
مادامت غاية هذا المبحث التأكيد على المصدر الإلهي للقرآن، من جهة، وكذلك التأكيد على أمية محمد عليه السلام، من جهة ثانية ـ ذلك أن ثبوت هذه الحقيقة الأخيرة من شأنه تأكيد صدقية الحقيقة الأولى ـ فقد عرضنا لقضية إسلام خمسة من أوائل كبار صحابة الرسول عليه السلام، ممن لعبوا أدواراً أساسية فاعلة وحاسمة في نشر الإسلام، في عديد من الأمصار في زمانهم، ليتبعها انتشار شامل من بعد ذلك. هذا فضلاً عن ترسيخ الإسلام وتوطيده دعائم في النفوس والعقول، وفي الأفراد والمجتمعات، على حدِّ سواء ــ كما ذكرنا في غير مكان من هذا الكتاب، من ثم أمكننا القول بأن هؤلاء كانوا الأقرب إليه عليه السلام، والأكثر التصاقاً به ومعايشة يومية له. ومادام الأمر كذلك فقد أتيح لهم بحكم هذه الصلة مشاهدة الرسول ومعاينته في معظم أوقات نزول القرآن عليه. كان يتلوه عليهم فور نزوله غضَّاً طريّاً ندياً. ما الذي يمكن استخلاصه من ذلك إذن؟
لم يشكَّ أحدٌ منهم فيما يراه رأي العين. بل كانوا يزدادون إيماناً على إيمانهم في كل مرة، وعند كل تنزيل. لم يكن أيٌّ منهم ـ فضلاً عن ذلك ـ ممن يستهان بذكائه وقدرته على الحكم والتمييز. كانوا أولى الناس وأقدرهم على كشف الزيف لو كان ثمة زيف. بل لعل هؤلاء تحديداً كانوا أول من سيحمل لواء المعارضة والتكذيب. عمر وأبو بكر وحمزة منهم، وهم من عرفنا هل كانوا يسكتون على ادعاء بهذا المستوى من الأهمية والخطر؟ ولرب قائل إن الزوجة هي الزوجة وإن علياً ليس إلا غلاماً يافعاً.. ولكن ما بال الآخرين!؟ الزوجة كانت ترى بنفسها ما يعتريه وما يحل به عند نزول كل وحي تشهد. وعليٌّ كان يرى ويسمع ويشهد أيضاً، وقد تخلَّق بأخلاق النبوة لما كان يشهد ويرى ويسمع.
أما الجانب الآخر فهو أميَّة محمد عليه السلام. ألم يكن هؤلاء ـ وهم أقرب المقربين ـ أعرف الناس بالمسألة؟ وهل كان في وسعهم التستر على ادعائه الأمية لو لم يكن محمد أميّاً بالفعل؟ وهل كانوا سيمضون في تصديقه في شأن الدعوة والتنزيل حين يرون أنه يزعم أميته وهم يعرفون أنه ليس بأمي؟ بل هل كان في وسع محمد نفسه ادعاء الأمية أمام زوجه وابن عمه وعمه والصديقان الأثيران؟ وكيف يبرر لهم ذلك؟ ولماذا يفعل؟
لم يكن أيٌّ من هؤلاء إذن ممن تنطلي عليه الحيلة أو يتقبل إهانة الخديعة والاستهانة بذكائه. وهم إذن قد آمنوا عن حق بأن وحياً يتنزل على محمد، وهم كذلك قد عرفوا بأمية محمد، وكان أن آمنوا بما سمعوا من آيات في هذا الشأن. وكانوا يتلونها في صلواتهم وخلوات تعبدهم.
ولا ينبغي لنا أن نغفل هنا أدوار آخرين من خيار صحابة الرسول عليه السلام في بداية الدعوة، في توطيد دعائمها وفي نشرها بين القبائل في الجزيرة العربية، ثم في الطور المدني فيما تمثل في بذلهم وجهادهم في سبيلها، أكان ذلك في حياة الرسول ومعه، أو كان بعد وفاته، يحملون لواءها إلى العالمين، فكانت منعطفاً في حياة البشرية، وصورة العالم اليوم فيها الكثير من آثارها، ليس أقلها هذه الملايين من البشر يدينون بالإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، شمالها وجنوبها، وسائر ربوعها وأقطارها. بما في ذلك (الحضارة الغربية) الراهنة التي يزعمون أنها نتاج الغرب وحده فيما هي قد تأسست على قواعد ودعائم شادت أسسها الحضارة الإسلامية، وأقامت عليها بنيانها الراهن.
من أولئك الرجال صحابُ محمد عليه السلام أمثال: عثمان، وطلحة، والزبير بن العوام، وبلال، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وخالد بن الوليد.. وغيرهم كثير رضوان الله عليهم أجمعين.
تلك هي مدرسة محمد التي أنجبت أفذاذ الرجال وعظماء القادة الذين أسهموا بالرسالة التي حملوها إلى العالم، في تغيير وجه التاريخ، وتغيير مسار البشرية. ومازلنا نعيشها ويعيش العالم آثارها وتطوراتها وتفاعلاتها إلى يوم الناس هذا؛ وأشادوا ببنيان دولة الإسلام التي امتدت في الزمان والمكان إلى ما شاء لها الله..
* * *
أخلاق الرسول
سبب آخر كان يثير حفيظة رهط قريش. ذلك ما كان يتلو محمد عليهم من قرآن يصف شخصه، مغدقاً عليه الثناء، مطنباً في وصف ما انطوى عليه من خلق عظيم، وسجايا حميدة رائعة( ).
ولعل محمداً عليه السلام كان مدركاً لما سيكون عليه رد فعلهم على ذلك حسداً أو استكباراً، ولكنه مع ذلك، ولأنه الأمين على ما يتنزل عليه من وحي ربه، لم يكن يتردد في تلاوته على الملأ، أيّاً كانت العواقب، ودونما اعتبار لردة الفعل عند قريش. ولو كان يأبه لمثل ذلك لامتنع عن تبليغهم آيات تسفِّه أحلامهم، وتندد بعبادتهم لأوثانهم. وهي أمور أشد خطراً، بل هي جوهر المسألة في المعركة المحتدمة بينه وبينهم. وهل هناك ما هو أكثر خطراً من أن يتعرض امرؤ لمعتقدات شعب أو قبيلة؟ لآلهتها ومعبوداتها؟ إنها لمسألة تبذل دونها المهج وتفتدى بها الأرواح.
لم يعرف عنه، عليه السلام أنه أساء إلى أحد بقول أو فعل، أو أنه ضرب أو آذى رجلاً أو امرأة أو خادماً أو أسيراً. كما لم تعهد عليه سرعة الانفعال أو الغضب من أجل نفسه، حتى بعد أن دالت له العرب، وانتشر الإسلام في سائر ربوع الشرق. بل كان ينهى عن ذلك فيصف الرجل من هذا القبيل (بالصرعة) إذ يقول: »ليس المؤمن بالصرعة وإنما المؤمن من يملك نفسه عند الغضب«. لم يزده النصر ودخول الناس في دين الله أفواجاً إلا تواضعاً على جمِّ تواضعه. لم ينزع إلى التكبر والاستعلاء على أحد من الخلق، متمثلاً قوله تعالى في كثير من آيات كتابه نهياً عن التكبر والاستكبار فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (النحل:29).
كان يلقي السمع إلى محدثه، ملتفتاً إليه بكلِّيته، لا يقاطعه ولا يسكته، بل ينصت إليه حتى يتم حديثه، ثم لا يقول إلا حقاً. وإذا غضب لم يظهر عليه إلا نفرة عرق بين حاجبيه، يكظم غيظه ولا يظهره وهو القادر على أن يفعل. لكنه يؤثر سعة الصدر والرفق في التعاطي مع الناس، إذ يرى أن من الحكمة مخاطبة الناس على قدر عقولهم. حتى مظاهر التكريم وطقوس التعظيم لشخصه كان يرفضها. من ذلك أنه كان ينهى الناس عن أن يقوموا له إذا حضر مجالسهم: (لا تقوموا لي كما كان الفرس والروم يقومون لأباطرتهم وأكاسرتهم) ثم يجلس حيث انتهى به المجلس. من أقواله الدالة على عظمة خلقه وجمال نفسه وتواضعه: »ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق«.
ولقد تحلَّى بنكران الذات والصبر على الأذى، والعفو عند المقدرة. كان يغلِّب جانب التسامح، ويرجح مصالح المسلمين قبل أي اعتبار آخر. لا يغضب لشخصه أبداً. من مواقفه الأخلاقية التي لم تعرف لها البشرية مثيلاً ما كان منه نحو هند ابنة عتبة، زوج أبي سفيان. لقد عفا يومئذٍ عن أعدائه وخصومه يوم فتح مكة. والتقى هنداً وقد أصبح في وسعه أن يصنع بها ما يشاء انتقاماً لفعلتها مع عمه حمزة يوم أحد، إذ مثَّلت بجسده الطاهر ولاكت كبده، فتوعدها يومئذٍ وقد بلغ منه الحزن ما بلغ على حمزة، والغضب على ما بدر منها من فظاظة قلَّ نظيرها بين النساء خاصة. فماذا فعل؟ قالت له وقد أعلنت إسلامها بجرأة تبلغ حدَّ الوقاحة (أنبيٌّ وحقود)؟. لكن هنداً فيما أرى لم تقل ذلك إلا اعتقاداً منها بعظمة خلقه، ومن ثم اقتناعها بأنه لن ينالها بسوء. وهو ما قد حدث. عفا الرسول عن هند قائلاً ((الإسلام جبَّ ما قبله)).
من الآيات التي تنزلت في وصفه عليه السلام تنفي عنه تخرصاتهم وافتراءاتهم، مشفوعة بقسم عظيم. والمقسم هو الله بارئ الخلق. أما القسم فكان بالقلم.. تعظيماً وتكريماً لشأنه، باعتباره الأداة والوسيلة لبلوغ العلم وآفاق المعرفة، إذ يقول تعالى:
نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:1-4)
ألا يدعو للتأمل والتفكر أن يكون المخاطَبُ هنا أميّاً لا شأن له بالقلم؟ ثم يكون من شأن هذا الأمي نفسه وما أتى به مصدراً لأقلام لا حصر لها في قادم الأيام، تنشغل به على مدى القرون انشغالاً لم يحدث مثله لبشر على ظهر هذه الأرض. بل كان شغلها الشاغل على مدى الزمان.
أليس غريباً إذن أن يجرؤ إنسان على إعلان خصومه بأن الله ـ خالق كل شيء ـ يضفي عليه أوصافاً كهذه؟ لكن محمداً فعل ذلك دون أن يجد فيه غضاضة أو حرجاً. ولكن الغريب أيضاً أن أحداً في قريش لم يجبهه بالقول: لا.. أنت لست كذلك. بل إن أحداً لم يجادله في الأمر، على الرغم من كل ما بينه وبينهم. وإن قريشاً كانت حين يبلغ منها الغيظ والحقد والمناوأة مبلغها، كان أقصى ما تذهب إليه هو وصفه بالساحر أو المجنون. أما أخلاقه فلم تكن أبداً موضع طعن أو مسبّة. لقد كان لمحمد في هذه المسألة حصانة صنعها تاريخه فيهم على مدى السنين.
ولننظر في قوله تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159)
هذا الخطاب موجه في شطر منه إلى صحابة رسول الله. كما أنه يتلو الآية وفيها الأمر بالشورى. لم يكن من شأنه أن يتفحَّص القول المنزَّل من القرآن ليرى إن كان في صالحه ــ حسب ما قد يتراءى للبعض ــ فيعلنه وإن لم يكن كذلك فيخفيه. هنا يتبدى لنا جانب آخر من شخصية الرسول محمد على حقيقتها المثالية. فها هو يخبر القوم بأن الله يأمره بمشاورتهم ((وشاورهم في الأمر)) ولا يخطر له أبداً أن في هذا ما يضعف موقفه منهم. فهو ليس مستبداً بالرأي، ولا متفرداً فيه. وقد أصبحت الشورى منذ اللحظة مبدأً للمشاركة، يُعتدُّ به في وجه دعاة ((الديمقراطية)) التي يعلنونها تشدقاً، فيما هي أبعد ما تكون تطبيقاً على أرض الواقع. وقد عرفناها ــ الشورى ــ منذ أربعة عشر قرناً في آية كريمة تنزلت على الرسول، ولم تُفرض فرضاً بالإكراه وبقوة السلاح تمويهاً وتضليلاً كما هو حادث في عالم اليوم.
لقد أقرَّ القرآن مبدأ الشورى. وهذه آية ثانية بشأنها تقول:
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الشورى:38)
وهناك مقاربة (روجيه غارودي) بين الشورى والديمقراطية، وإن لم يكن هناك تطابق بينهما لصدور كل منهما عن مصدر مختلف، الأولى تنزيل إلهي والثانية اجتهاد بشري.
كان الرسول يشاور أصحابه في الشأن السياسي، واختيار المواقف والوسائل. وكان في سلوكه متواضعاً ليِّن القلب عفَّ اللسان. وكذلك كان أمر معظم صحابته من بعده. فسادت من ثم، الوحدة المنسجمة بين مواطني الدولة التي أقامها الرسول في المدينة.
وفي تنزيه الرسول عن الهوى والغرور والرغبة في الاستعلاء يقول تعالى:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:79-80)
كما نرى أن الله جل جلاله يشهد لرسوله بذلك إذ يقول في محكم كتاباً مقسماً بالنجم:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى.مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (لنجم:1-3)
حتى خصوم محمد الألداء، منذ بداية الدعوة وحتى نهاية حياته، لم يشهدوا عليه بغير ذلك. لقد كذّبوا القرآن والرسول، وافتروا ما وسعهم الافتراء. بل هم حاربوه على مدى سنين طويلة وسالت بينه وبينهم دماء غزيرة، بيد أنهم، برغم ذلك كله ــ وهم الحريصون على تسقط الهفوات بل المثالب والأخطاء ــ لم يسعهم سوى الإقرار بسمِّو نفسه وعظمة خلقه في سائر المواقف والظروف.
سئل رسول الله: من أحبُّ عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: (أحسنهم خلقاً) »كذا في الترغيب 4/187/«.
أما عن رحمته بالناس ومحبته فقد روت كتب السيرة عنه الكثير. منها أنه عليه السلام قبَّل الحسن وهو في حجره طفلاً. فقال له الأقرع بن حابس: لقد ولد لي عشرة ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي عليه السلام ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) »أخرجه البخاري« (2/887 عن أبي هريرة).
ومن أخلاقه العظيمة أنه لم يعرف عنه الاستهانة أو السخرية من أحد بين الناس، عظُم شأنه أم صغُر. فجاءت الآية الكريمة متوافقة مع ما هو عليه، وهو القائل عن نفسه: (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
حفلت كتب السيرة والصحاح وغيرها بوصف مناقب الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما وضعت مجلدات ومؤلفات، بلا حصر، منذ ذلك الزمن وحتى يومنا الراهن في وصف أخلاقه العظيمة ومواقفه الأخلاقية الإنسانية مما لم يتصف به أحد من بني آدم عليه السلام من قبله ومن بعده، سوى الأنبياء والمرسلين، ثم آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بما علَّمهم إياه وأوصاهم به وورثوه عنه.
كان كذلك مع الأقوياء والضعفاء على السواء، مع الفقراء والأغنياء، مع الأصدقاء والأعداء، في الحرب كما في السلام.
غني عن البيان أننا لا نملك المضي في هذه المسألة حتى حدودها، إذ لا يسعنا المقام لأكثر من هذه الإشارات العابرة، اعتماداً منا على أن من شاء المزيد من المعرفة والتعرف على تلك الصفات والمناقب يمكنه الرجوع إلى كتب السيرة، وإلى ما كتب حولها على مدى القروة الماضية.
* * *
صفات وأخلاق إسلامية
تعليماً للمسلمين في آداب السلوك يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات:11)
وتذهب الآية التي تليها إلى ما هو أبعد من ذلك، فتحذِّر من مجرد الظن، ومن الغيبة، فهل هناك ما هو أسمى وأرقى من مبادئ الأخلاق هذه في تعامل بني البشر فيما بينهم. وهل يعرف أعداء الإسلام اليوم هذه الحقائق عنه، والتي قد لا تجدها، أو ما يماثلها في أرقى مبادئ التربية والتعليم الحديثة أوَ لسنا مقصرين في حق الإسلام بإحجامنا عن تعريف غير المسلمين بحقيقته؟ ويقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (الحجرات:12)
كما يوصي الإسلام بتوخي الحذر في الأحكام قبل التأكد من صحتها خشية الإساءة إلى أبرياء.
ولقد سبق الإسلام كل ما جاء بعده على أيدي وألسنة دعاة ما يسمونه اليوم (حقوق الإنسان) وإدانة العنصرية وما إليها. لقد جاء الإسلام بتعريف غير مسبوق للبشر. إذ يعلن أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى، فهم من ثم أخوة. وأنه جعلهم شعوباً وقبائل من أجل التعارف ليس إلا. لنتصور نحن كيف يكون حال البشر لو لم يكن الأمر كذلك. لو أن الله خلق الناس بمواصفات واحدة، أو عدد محدود من المواصفات، كموديلات السيارات وأجهزة التلفاز والساعات اليدوية..! كيف كانت تتحدد الهويات؟ وكيف تعرف الأنساب وتبنى العلاقات بشتى صورها في حياة البشر إذا ما خلقوا متشابهين؟ أجل لو لم يخلق الله البشر على النحو الذي هم عليه، ولم يكونوا شعوباً وأفراداً مختلفي السمات والصفات ليمكن التعرف على واحدهم تحديداً فيما بينهم كيف يكون عليه الحال عندئذٍ؟ ثم هو بعد ذلك يجعل المفاضلة في نهاية المطاف التقوى وحدها، وليس العنصر أو القوم:
يقول تعالى في هذا الشأن:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
ولكي يكون المسلمون مثالاً حياً للخير يصفهم سبحانه بقوله:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. (آل عمران:110)
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعلن في حجة الوداع:
((أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى))( ).
ومن الصفات التي تحلَّى بها عليه السلام، العفو عند المقدرة، امتثالاً لقوله تعالى في مواضع كثيرة منها:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:109)
وقوله تعالى:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة:13)
من ذلك ما أوردته كتب السيرة عن سلوكه يوم فتح مكة. وقد دخلها منتصراً على أعداء لم يدعوا وسيلة إلا ولجأوا إليها للإساءة إليه وإجهاض دعوته وإحباط رسالته. فضلاً عن حروبهم الدموية التي أضرموها طوال السنين التي سبقت الفتح دونما تراخ أو هوادة. فماذا يمكن أن يتصور المرء ــ حسب مشاهدات عبر التاريخ، وحسب ما هو قائم في عالم اليوم ــ من تصرف المنتصر إزاء المهزوم؟ وهذه الحرب بين قريش ومن معها والنبي ومن معه لم تكن حول مغانم بل كانت حول عقيدة ومبدأ ومثلٍ أعلى من جانبه. ودفاعاً عن معتقدات لهم آمنوا بها وتوارثوها عن الآباء والأجداد من ناحيتهم؟ كان ممكناً لو أن قريشاً نجحت في مساعيها الحثيثة لهزيمة الإسلام والمسلمين يومئذٍ، ألاَّ نكون قد عرفنا الإسلام، وألاَّ تكون قد قامت له قائمة. لكن الله أراد غير ذلك. ماذا نتوقع من محمد إذن، وصحبه الذين قتل لهم إخوة وأبناء على أيدي القرشيين المعادين للدعوة، لا لشيء إلا لأن هؤلاء آمنوا بالله وكتابه وصدقوا رسوله.
الأمر الطبيعي هو أن يعمل فيهم محمد وصحبه السيف تقتيلاً وتنكيلاً، وله الحق كل الحق في ذلك حسب السائد المعروف في كل الحروب. وأن ينتقم منهم أشد الانتقام بعد أن غلبوا واستسلموا. وقريش نفسها كانت تعلم أنها تستحق أن تفعل بها الأفاعيل. لكن محمداً لم يكن ذلك الجبار المنتقم.. بل كان رسول الرحمة والسلام في الأرض. فما الذي حدث يوم الفتح؟ هذا هو مشهد دخوله مكة:
(نزل النبي بأعلى مكة. وهنالك ضربت له قبة على مقربة من قبرَيْ أبي طالب وخديجة. وسئل: هل يريد أن يستريح في بيته؟ فأجاب: كلا! فما تركوا لي بمكة بيتاً. ودخل إلى القبة يستريح وقلبه مفعم بشكر الله أن عاد به عزيزاً منتصراً إلى البلد الذي آذاه وعذَّبه وأخرجه من بين أهله ودياره. أجال بصره في الجبال التي كان يأوي إلى شعابها حين يشتد به أذى قريش وقطيعتها. ومن بينها حراء حيث كان يتحنَّث حتى نزول الوحي عليه. بلغ من خضوعه لله، وهو يرنو إلى مكة يتوسطها البيت الحرام، أن ترقرقت في عينيه دمعة شكر للحق.
(ثم خرج وامتطى ناقته القصواء وسار بها حتى بلغ الكعبة، فطاف بالبيت سبعاً على راحلته. ثم دعا عثمان بن طلحة ففتح الكعبة. فوقف محمد على بابها. وتكاثر الناس في المسجد، فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا:
(خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم).
قال: ((فاذهبوا فأنتم الطلقاء))( ).
بهذه الكلمات صدر العفو العام عن قريش وعن أهل مكة جميعاً. برغم كل ما اقترفوا في حق الدعوة وفي حقه من جرائم وآثام على مدى ينوف على عشرين سنة. قريش هذه التي لو استطاعت قتله وإحباط دعوته ومنع ظهورها إلى الوجود، ها هي الآن بين يديه، إثر هزيمة لها منكرة يسائلهم محمد: ماذا تظنون أني فاعل بكم. يجيبون: أخ كريم وابن أخ كريم. فيعلنها: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«. هل شهد العالم سموّاً في النفس كهذا الذي بدا للملأ من محمد المنتصر. لم تأخذه خيلاء انتصاره على أعدائه وأعداء دينه بل أعداء الحياة. أمكنه الله من عدوِّه فعفا. فضرب للدنيا بأسرها وللأجيال مثلاً في البرِّ والوفاء. أليس في هذا وحده الدليل الدامغ على نبوّة محمد وخلقه العظيم؟
تبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في مسيرته لبناء دولة الإسلام، من المدينة المنورة التي لم يشأ أن يخذل أهلها بالعودة إلى مكة، وفاء لهم واعترافاً بما كان لهم من فضل في نصرته يوم جاءها مهاجراً.
أليس هذا الفتح المبين برهان آخر على صدق الرسالة؟ أوَ ليس هذا أيضاً تحقيقاً لوعد الله رسوله، منذ البدايات، يوم أن كانوا قلة قليلة، بحيث لا يستطيع رجل يملك عقلاً راجحاً أن يتوقع لهم غير الهزيمة المنكرة، والاضمحلال السريع، حين يقارن ضعفهم، وضآلة عددهم، وفقرهم بما ملك الجانب الآخر من وفرة في الغنى، وحشد للقوة، وقريش الأكثر نفراً وعدَّة..؟
تصف الآية الكريمة حالهم هذا بقوله تعالى:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لأنفال:26)
كيف اطمأن محمد إلى نصر الله لو لم يكن نبياً موعوداً، ولو لم تكن دعوته صادقة، وقرآنه من لدن بارئ الخلق؟ ألم تكن مغامرة مجنونة أن يقدم على ما أقدم عليه لو كان باحثاً عن زعامة، ساعياً لقيادة، وعوامل الفشل بادية للعيان مؤكدةً؟ فما بالك إذا كانت الزعامة والقيادة عرضتا عليه من قبل، ودونما حاجة إلى خصومة تنهض وعداء يستفحل؟ كان في وسعه أن يوفر ضروب المعاناة، ونزف الدماء، وبدد السنين التي انقضت منذ بدء الدعوة بكلمة أو كلمتين حاسمتين مستجابتين من الطرف الآخر: (قبلت عرضكم يا قوم..). هذا الذي كان سيحدث لو كان الرجل إنساناً عادياً مدعياً، يحاور ويناور لكي يصل إلى مبتغاه، وليحقق طموحه ويحصل على ما يريد. فما الذي كان يريده إذن؟
لم يكن ذلك سوى ما تحقق بالفعل. نشر دين الله الذي بعث به للعالمين، ليعم نوره من بعد، مشارق الأرض ومغاربها. ولتمتد في الزمان إلى ما شاء الله. وها هي رسالة الإسلام تعمر اليوم قلوب زهاء ربع سكان المعمورة بعد انقضاء أربعة عشر قرناً من الزمان. فهل بعد هذا لجاحدٍ أو منكرٍ أو مكابرٍ أن يزعم أن القرآن لم يكن كلام الله لمحمد.. بل كلام محمد للناس؟
ليقرأ هؤلاء هذه الآيات المحكمة:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود:118-119)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء:166)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (الكهف:1-3)
[/align]