في مستشفى عمومي شاسع المساحة تدوخ بين أروقته رغم اللافتات التنويرية المزروعة في الممرات، و في غرفة بستة أسرة مفصولة عن بعض بجدار زجاجي يحجب النظر بين النزلاء؛ ترقد رفيقة الطفولة.
فاجأتها صباح يوم دخولها المستشفى بحضور غير متوقع جحضت له عيناها؛ إذ لم يخطر على بالها طي المسافة في ظرف وجيز بين مدينتي و حيث ترقد لزيارتها.
بصوت شاحب نادتني باسمها، اقتربت منها حتى لامس خدي شفتيها، و بنبرة مذبوحة صوبت رصاصة في أعشار قلبي، اهتز لها كياني مزلزلا بهمس متلعثم في شديد اختصار
- أغتال ببطء
- الأعمار بيد الله قلت؛ و أنا أشد بيدي المرتعشة يدها الذابلة كما جسمها.
المرض لا يقتل يا عزيزتي؛ إنه الأجل من يحدد صلاحية تأشيرة البقاء في دار الفناء، و كم من سقيم أطال الله في عمره، وكم من معافى باغته الموت دون استئذان.
رمقتني بنظرة تحمل كل ألوان الأوجاع، فأطرت عمق إحساسي؛ لتنقش على جداره عذاب آلامها؛ مختومة بقذائف سيل عينيها؛ مستفزة صمودي الذي لم يخنِّي في أحلك الظروف التي حاكها القدر على ثوب حياتي. و أنا أعلم صدق قولها الذي بصمت عليه مخالب العدو المستوطن خريطة جسمها، و هي الأدرى أنها تطوي ما تبقى من أيام على سكة حياتها.
و بسكرة المغشي عليه من الآلام؛ المنسوخة طبق الأصل بكتها كل ذرة مني؛ و أنا أنفخ إلى أن انطفأت شمس ذاك اليوم؛ في إيمانها الذي لم يزعزعه قهر المرض .
ودعتها إلى أجل مسمى و أنا أفطم عيني عن ناظريها الغارقة في الحزن حد الثمالة، مستنجدة القادر أن يطيل رفقة عمري التي حملت على مصراعيها ذكريات أكبر من عمرنا و مواقف نبيلة سقت غرس حبنا.