عرض مشاركة واحدة
قديم 05 / 07 / 2008, 11 : 07 PM   رقم المشاركة : [2]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد

أوباش..!
[align=justify]
إذن،
قبيل رحيل الشمس بقليل..
رأيتهم يعودون.. نساءً، ورجالاً، وأطفالاً.
بدوا كما لو أنهم يعودون من غزوة خائبة. وجوههم مزرّقة، وعيونهم دامعة، محمرة، وخطاهم مندفعة إلى الأمام.
جلت ببصري في الأنحاء المحيطة بي، فرأيت شجيرات قليلة من الحور متلاصقة، كأنها تخشى الظلمة الزاحفة فوق نسيج الضوء الفضي المطفأ. انزوت الشجيرات قرب السور الشمالي من المقبرة، وقد تركت أوراقها تتلامع ببطءٍ شديد.
.. بدا كل شيء صامتاً، جامداً، لا حركة فيه. القبور، ماضية في هدوء لم أعرفه من قبل، يبدده، بين حين وآخر، نباح الكلاب، واصطفاق الأوراق المتطايرة من قبر إلى قبر، وصفير الريح أيضاً.
كان آخر ما سمعته، والناس ينكصون إلى بيوتهم، صوت حفار القبور، هايل، الذي أعرفه جيداً، كان يتمتم:
ــ »الناس، بلا خواص هذه الأيام!
قال (100 ليرة) قال..«!
واسمعه يضيف:
ــ »يا لطيف، حفر يهدّ الحيل، وعرق مثل فرنكات الفضة.. وبعدها (100 ليرة) لا تحلّ ولا تربط«!
كنت أعرف أن هايل يشتم أهلي، لذلك تمنيت لو كان بمقدوري أن أردّ عليه، أن أقول له.. إن ما دفعوه له جيد، وعليه أن يحمد ربّه، لكنه لو سمع كلامي لقال لي قولته المعروفة:
ــ »ابن آدم ما عاد يموت إلا (بطلعان) الروح.. و(100) ليرة! واللقمة باتت ألعن من قلع الضرس«!
أعرف هايل، وفرحه الشديد عندما يموت واحد منا. يهيئ نفسه والأدوات للعمل.. يظلُّ على قلقه حتى يأتي واحد من أهل الميت ويخبره بما حدث، عندئذٍ.. يقصد بيت الميت، (يأخذ بالخاطر)، يتلعثم بكلمتين، ثم يقصد المقبرة، ويشرع بالحفر. ساعة، وينتهي من القبر، ليجلس بعد ذلك منتظراً من سيدفع له، ومن النادر أن يعود إلى زوجته وأولاده راضياً بما أخذ. فالتذمر، والتأفف، وسوء المزاج من طباعه!
في هذه المرة، كان هايل هو آخر الخارجين من المقبرة. تعقبته بنظري حتى غاب، ومن ورائه صرّت بوابة المقبرة صريراً باهتاً معلنة انتهاء كل شيء!
لحظات، واسوّدت الدنيا في عينيَّ. تماهت القبور من حولي. غابت أشجار الحور. تلاشى التماع أوراقها. وظلَّت أصوات الكلاب، والأوراق المتطايرة، والرياح المتدافعة.. تسمع بين حين وآخر. وهمدتُ منتظراً ما سيحدث!
»لقد قال الحاج عبد الله، في أثناء دفني، كلاماً كثيراً، لم أحفظ منه إلا قوله: »سينزل عليك ملكان.. يسألانك« عن أي شيء؟ لست أدري! فقد عجزت عن التقاط كلمات الحاج كلها، لأنني كنت مشغولاً بالنظر إلى وجه أمي، وهيئات أصحابي، وأولاد حارتي.. الذابلة. كانوا جميعاً حزانى، بل إن حال أمي كانت موجعة تماماً، فأنا، رغم ابتعادها عن قبري، أراها، وأسمع صوت نشيجها، إنها تدمدم:
ــ »الله ينوّرها عليك، يا عطية، دنيا وآخرة«.
وتضيف بحرقة:
ــ »رحت! من لي سواك«؟!
[ فعلاً، ستبقى المسكينة وحيدة، بعدما رحل والدي منذ سنوات، ولم يعد لديها الآن سوى فاطمة وياسين الصغيرين ].
وتدمع عيناها، وتتمايل النسوة نحوها.. يطيّبن خاطرها! وتدمع عيناي، وأظلُّ وحيداً.
أسمع أصدقائي الملتفين حولي، يقولون في أحاديث متداخلة:
ــ »الله يرحمه، كان زهرتنا«.
كما أسمع كلاماً حلواً من نساء الحارة ورجالها، ومن البقال أبي وحيد، ومن صاحب »المسمكة« عمار أفندي، الذي كنت أعمل عنده. أسمعه يقول لمن حوله:
ــ »كان رجلاً عن عشرة رجال«.
كانت الأحاديث تدور حولي، وأنا أترصد الوجوه المتعبة وأتألم. بدوت حزيناً لأنني لم أتطاول وأقول كلمة طيبة بحقي، وبحقهم! كان المشهد حفنة من الدموع، والأحاديث الحزينة والنواح الطويل، والذكريات البعيدة المزعجة.
الآن، مضوا جميعاً. لفّوا دموعهم وأحاديثهم.. وآبوا. حتى أمي التي كنت أظنها ستبقى قربي قليلاً لتشدّ أزري أمام الملكين (اللذين ذكرهما الحاج عبد الله).. إلا أنها لم تبقَ! بل لم تلتفت نحوي مرة واحدة.. وهي تؤوب! صحيح أنها تعثرت بأذيال ثوبها الطويل مرات، وكادت تسقط.. لكنها لم تلتفت نحوي؛ بل ما أحزنني أن خطواتها كانت سريعة ومندفعة إلى الأمام كي تخرج من المقبرة! مضوا.. وظللتُ وحيداً، وسط هذا الظلام!
بغتةً، غادرت موتي.. عندما بدأ جسدي يتحرك. استنفرت أطرافي.. فتأهبتْ! وتكوّرتُ في مرقدي بعدما عجزت عن رفع التراب الكثير الذي وضعه أهلي فوقي.
[ آه.. يا ليتهم وضعوا طبقاً من القش فوقي ورحلوا.. لكنت، الآن، رفعته.. وخرجت ].
وظللتُ طيَّ حيرتي وقتاً من الزمن. فجأة، سمعت صوتاً خفيضاً يأمرني بالخروج. بدا الصوت حاداً، مرعباً في آنٍ واحد.
قلت:
ــ »التراب«!
قال:
ــ »اخرج«!
فمددت يدي بحياء نحو التراب، فما وجدته! كانت العتمة سقف مرقدي. دعوت الجسد للنهوض، فنهض، ومضيت ركضاً نحو أهلي. لم أعد أدري كم مضى عليَّ من وقت وأنا أركض! بل لم يكن ذلك.. يهمني، وقد خرجتُ! طوّفت بالبيوت جميعاً. دخلت بيتنا أولاً، فوجدت أمي تراقص طفلة جميلة (غير فاطمة).. تغني لها، وتمازح رجلاً غريباً (لا أعرفه) يستند إلى فخذها العاري.. وهي في غاية الانشراح:
[ يا إلهي، كانت، منذ قليل فقط، تقول من لي سواه]!
اقتربت منها. سلمت عليها بدفء.. فما ردّتْ. فاغتممتُ. ناديتها، وصرخت بها أنني عدت، فما استجابت.. لا هي، ولا رجلها، ولا الطفلة الصغيرة.. وانكسرتُ! انكسرت روحي على وجه التحديد.
حاولت كثيراً أن ألفت انتباهها، قبل أن أهزّها، فما انتبهت. وحين هززتُها.. وجدتها قطعة من اللحم اليابس! تماماً كما لو أنها تمثال من الشمع الجميل، وحزنت، وضاقت الدنيا عليَّ، واستشعرت بموجة برد بدأت تدخل إلى أعماقي.. لذلك طويت قامتي قربها، وبكيت أمامها طويلاً، ثم انتحبت.. وأنا ألمس وجهها ويديها.. لكن دون جدوى. حزنت لتيبس أمي، والرجل، والطفلة.. ثم بعد حين من البهوت والأسى.. قمتُ!
.. مررتُ ببيوت أصحابي كلّهم، فوجدت كلاً منهم زهرة، بعد أن كنتُ زهرتهم. حدثتهم.. فما حدثوني. وسألتهم، فما أجابوا! لقد كانوا تماثيل أيضاً. جفّت روحي.. وغصصت. تمتمت لهم، وأنا أغادرهم:
ــ »حتى أنتم..«!
هرولت بجسدي نحو الأشجار، وأجمات الورد، ومشاتل النعناع والحبق، وملاعب طفولتي. تلمستها.. فكانت يباساً. لمستُ خوابي الزيتون والزيت والسمن والمقدوس والقريشة.. كلّها.. كانت خاوية، لا حياة فيها!
حزني تثاقل عليَّ.. فارتميت على الأرض. جاء رأسي تحت جسدي، فتوجعت، وصرخت! لكن ما لبثت أن نهضت. سرتُ عائداً إلى المقبرة فوق خطا لا بريق لها ولا رجاء.
.. وعندما وصلت باب المقبرة، وجدتُ خلقاً كثيرين، يصطفون أمام بابها بنظام صارم، والهدوء يلفّهم، وأمامهم العجوز بدران، حارس المقبرة، وقد شرع يخطب بهم. سمعته يقول لهم:
ــ »يا مجانين، استحوا!
فما بالكم لا تفهمون أن الحياة حياة، والموت موت. تخرجون كل ليلة، وفي خطاكم آمال كثيرة. ثم تعودون بالبكاء والنواح. ادخلوها (وأشار إلى المقبرة) لعنة الله عليكم«.
.. وندخلها واحداً واحداً، وبدران يعدنا، وهو يسألنا سؤاله الاعتيادي المتكرر كلّ ليلة:
ــ »لماذا خرجتم«؟!
ونقول له أجوبة مختلفة. فمنا من هو شهيد، خرج ليسأل عن الذين مشوا في دربه، وهل استيقظت البلاد من نومتها أم لاتزال غافية، وإذا ما استيقظت.. هل غسلت وجهها أم لا؟ ومنهم.. من يسأل عن شؤون الزراعة والصناعة والسياسة، ومنا من يسأل عن أولاده هل تركتهم الأمهات طلباً للمتعة أم أنهن باقيات على العهد. وهكذا.. أسئلة مرة وأجوبة كاوية.. حتى ينتهي بدران منا وننتهي منه.
هذه الليلة، وبسبب حزني كنت الأخير بين جماعتي. أجرُّ خطاي جرّاً إلى مرقدي. وعند باب المقبرة. سألني العجوز:
ــ »بماذا عدت«؟!
فقلت:
ــ »بالحزن يا عم بدران..«!
فتأسّف، وتذمر، وشيّعني بقوله:
ــ »أوباش! لا فائدة..
حزنكم أنبت شوك المقبرة. وشوك المقبرة أكل أقدامكم ولحومكم.. فبتُّم بشراً من عظام.. ولا تتعظون«!
وأسمعه يضيف:
ــ »أقول لكم: انفضوا أيديكم من أحيائكم وناموا بهدوء.. فلا تسمعون! أوباااااش«!
ضجةٌ قليلة نمتْ في المقبرة، وبعدها لا شيء.
وفي داخل مرقدي قلت لنفسي: لا أدري من منا المجنون؟ بدران أم نحن. أهلنا يقولون: بدران، من يومه يومه، مجنون. ونحن، في كلّ مساء وحالما نعود إليه، نقول عنه مجنون، الله يصبره. أما هو فما في فمه سوى قوله: مجانين وأوباش.
و.. رويداً رويداً، سرقني الخدر.. فغفوت!


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس