(قراءة في الشعر العربي المعاصر)
عنوان برَّاق لكتاب باهت
[align=justify]
من الظواهر التي باتت مألوفة في عصرنا الراهن الذي تطورت فيه أساليب الطباعة والنشر إلى حد يُعَدُّ خيالياً، قياساً بما كانت عليه هذه الأساليب، في العصور السابقة، ظاهرة التدفق الكمي، شبه اليومي، لكتب جديدة، معظمها غث، وجيِّدها قليل... وقد صاحَبَ هذه الظاهرة أخرى لا تقل عنها شأناً، هي عناية مؤلفي الغث بالبحث عن عناوين براقة، أو ذات دلالات طنانة رنانة، يزيِّنون بها أغلفة كتبهم جذباً للقارئ الذي ما إن يقلب غلاف أحدها، ويقرأ فهرس محتوياته، أو بعضاً من مقدمة مؤلفه، حتى يزول بريق العنوان الذي جذبه، ليجد نفسه أمام كتاب يهزُّ البدن..
أرجو، صادقاً، أن لا أكون مفترياً ولا متجنياً، إذا وصفت كتاب (قراءة في الشعر العربي المعاصر) لمؤلفه (محمد الزينو السلوم)، بأنه نموذج لذلك النمط من الكتب التي تأكل الحسرةُ قلبَك على ثمنها، والوقت الذي أضعته في قراءتها..
فهذا الكتاب الذي يقع في ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، والصادر عام 1999، عن دار الثريا، في حلب، نجح عنوانه، للوهلة الأولى، في إيهامي بأنني سأجد، بين دفتيه، وهو الصادر في أواخر عقد التسعينات، آراء جديدة ومعطيات، وصل إليها المؤلف، وتفيدني قراءتها في معرفة أهم المحاور التي دارت حولها مضامين الشعر العربي المعاصر، والمستوى الذي بلغه في تطوره الفني، خلال القرن العشرين، لدى شعراء سورية وفلسطين، تحديداً، كما ذكر المؤلف في العنوان التوضيحي الذي أدرجه تحت العنوان الرئيس لكتابه.. فهل وجدت فيه هذا كلَّه أو بعضَه؟
في البداية، سارعت إلى فهرسه أستطلعه، كعادتي كلما اقتنيت كتاباً جديداً، لأن الكتاب عندي يُعرف من فهرسه، وليس من عنوانه فقط، فوجدته مقسوماً إلى قسمين، أو بابين ـ كما أسماهما مؤلفه ـ يشتمل أولهما على مادة نظرية، أو تنظيرية، كما توحي عناوين الفصول الثمانية التي يتألف منها هذا الباب، فاستعذت بالله من التنظير النقدي ومنظِّريه الذين لا يأتي أغلبهم إلا بالسمج من الآراء، والمعقد من القواعد، والغريب الغامض من المصطلحات، والجامد من القوالـب التي يطـالبون المبدعين بصبِّ إبداعاتهم فيها لتصبح نصوصاً بلا روح. ولهذا، وجدتني أسارع بالهرب من هذا الباب التنظيري إلى الذي يليه، عساي أجد في محتوياته ما يلائم كلمة (قراءة) التي ابتدأ بها المؤلف عنوان كتابه.
وللوهلة الأولى أيضاً، اعتقدت أنني وجدت ضـالتي في ما حواه الفصلان الأولان من الباب الثاني، لأنهما، كما ينبئ فهرسهما، يتضمنان نقداً تطبيقياً لنتاج الشعراء الذين أُدرجت أسماؤهم تحت عنوان كلٍّ منهما. لكنني ما كدت أجاوز اسم الشاعر الأخير في الفصل الثاني، وتقع عيني على اسم الشاعر الوحيد في الفصل الثالث، حتى وقف ما بقي من شعر رأسي، وهو قليل، ووجدتني أضرب كفاً بكف، وأنا أردد، بين الدهشة والتحسر، المثل الشعبي المعروف: (جاءت الحزينة تفرح، فما لقيت لها مطرح). والسبب في هذه الدهشة المفاجئة التي اعترتني، على حين غرة، إفراد فصل خاص، في كتاب عن الشعر العربي المعاصر، للحديث عن (عنترة العبسي) الذي أعلم علم اليقين بأنه شاعر جاهلي وليس معاصراً!.
ووسط تساؤلات استنكارية كثيرة طفت على سطح دهشتي، وجدتني أحاول البحث عن عذر للمؤلف، يسوغ له هذا الخلط بين شعراء المعاصرة وأحد فحول شعراء الجاهلية، فحدثت نفسي، ناسباً إليها الجهل، ومعللاً: ربما قصد المؤلف شاعراً معاصراً لقَّب نفسه باسم هذا الشاعر الجاهلي المشهور، كما فعل الشاعر الكبير (بشارة الخوري) الذي لقَّب نفسه بـ (الأخطل الصغير)، نسبة إلى الشاعر الأموي (الأخطل التغلبي) الذي كان أحد شعراء النقائض إلى جانب جرير والفرزدق.
وعلى هذا، سارعتُ عائداً، بحسن نية، إلى فتح الكتاب على الفصل الخاص بعنترة، لأجد أن المؤلف قد خصَّص هذا الفصل للحديث عن شاعرنا الجاهلي إياه، عنترة العبسي/صاحب عبلة، وليس عن أحدٍ غيره، من شعراء العصر الحديث، تلقب بلقبه، كما فعل (بشارة الخوري)!!! فرحْتُ أسائل نفسي، مستغرباً: كيف ذلك؟ وعلى أي أساس أقحم المؤلف شاعراً جاهلياً كـ (عنترة) بين أولئك المعاصرين الذين أخبرنا في عنوان كتابه بأنه قصر كتابه الفذ للحديث عنهم؟ أتراها غفلة عارضة، أم أن جرأة شاعرنا الفارس عنترة وصلت إلى حد اقتحام حواجز الزمن، والانتقال من الجاهلية إلى المعاصرة، في بعض كتب النقد العربي الحديث، دون أي عوائق، كما كان يتنقل بين ساحات الوغى في معاركه الشهيرة؟
هذه الأسئلة، ومثيلاتها، ظلت تتدافع في رأسي وتتعارك، باحثة عن إجابة معلِّلَة، حتى وجدتها، في الصفحة التاسعة والثلاثين من الكتاب، ضمن العبارة التي ختم بها مؤلفُه تعدادَه لأسماء الشعراء الذين درسهم، والتي قال فيها، موضحاً: (بالإضافة إلى الشاعر الفارس عنترة العبسي الذي أحببت شعره، برغم أنه ليس من المعاصرين).. عندها، لم أملك نفسي من شدة الفرح، فقفزت من مكاني سروراً، وأنا أصيح حبوراً، صيحة أرخميدس الشهيرة: (وجدتها.. وجدتها)..
وبعد ظَفَرَي بهذا الاكتشاف العظيم، بعد طول بحث وتنقيب، في جنبات الكتاب وأرجائه، تنهدت مرتاحاً، وتنفست الصعداء، ثم استرخيت، وأنا أحمد الله على أن المؤلف لا يجهل أن عنترة شاعرٌ جاهلي وليس معاصراً، وعلى أنه ما حشر الحديث عنه، في كتاب مخصص للحديث عن شعراء معاصرين، إلا جرَّاء حبه العظيم القاهر لهذا الشاعر الكبير. ولأنني ممن يعذرون المحبين، مهما فعلوا وقالوا، في مجال التعبير عن حبهم لمن يحبون، عذرت الأستاذ السلوم، ورحتُ أقول لنفسي، معزياً: حسناً، فلنقرأ ما جاء به هذا المحبُّ المغرَم، من جديد عن شعر محبوبه القديم.. فقرأتُ، وليتني لم أفعل، ذلك أنني لم أجده، في كل ما ذكره عن حياة عنترة وشعره، قد أتى إلا بتكرار مشوَّه لما قاله الأقدمون.. فطويت الكتاب أَسِفاً، ثم رحت أضرب كفاً بكف، وأنا أردد: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، بيأسِ واستسلامِ من عاد من سفره الطويل بخفيِّ حنين..
على إثر صدمة اليأس هذه من الظفر بجديد في جولتي الأولى مع كتاب الأستاذ السلوم، راودتني الرغبة في العزوف عن متابعة قراءته، لكن شغفي اللعين بالكتب، وتشوقي الفضولي إلى معرفة ما في بطونها، جعلاني أتراجع عن قراري، فضغطت على أعصابي، ورحت أحتال على نفسي، ممنياً إياها بالثمرة اليانعة الشهية التي ستجنيها في ختام قراءتها لهذا الكتاب، مخاطباً إياها بلهجة هي بين الإغراء والتشجيع والتقريع: وما يدريك، يا نفس ـ رحمك الله ـ أن تجدي المعرفة، حتى لدى (ناقد) حشر عنترة بين دفتي كتاب خصَّصَه للشعر المعاصر؟ ألا تعلمين أيتها النفس المغرورة، أن المعرفة ليست وقفاً على ناقد بعينه، وأن الله قد يجري الحكمة ويأتي بالفائدة، حتى على لسان ناقد يظن الجهل في قرائه، إلى درجة التَوَهُّم بأنهم لا يميزون الألف من العصا، ولا الخمسة من الطمسة، في عالم النقد والأدب؟
وهكذا، مازلت بنفسي أغريها بمتابعة قراءة ما حواه كتاب الأستاذ السلوم من غريب النقد ومدهشه، حتى استجابت، فأخذتُ بيدها رقيقاً، وسرت بها رفيقاً، نتفيأ معاً بعضاً من طرائف السلوم النقدية غير المسبوقة، ونتنسم فوحَ آرائه واستنتاجاته التي راح يُتحفنا بها ـ رعاه الله ـ بتلك اللهجة الأستاذية المرموقة، فإذا بنا ننتهي من مطالعة الفصول الثمانية، التي حواها الباب الأول، في كتابه، إلى فرائد من الفوائد، وبدائع من الأحكام والقواعد، أتوهم أنها صارت من البدهيات، وربما من المنسيات، حتى بالنسبة لأقل قراء كتابه معرفة، في الأدب والنقد. وهاكم، ياسادتي، بعضا من هذه الدرر التي لم أعثر على مثلها حتى في نقد العرب والعجم والبربر:
على خلفية توهمه أن بين قرائه من لا يزال غير قادر على التمييز بين النقد والإبداع الأدبي، مثلاً، أجهد الأستاذ السلوم نفسه، ليأخذ بيد أولئك القراء الجهلاء، ويساعدهم على التمييز بين الأدب والنقد، بتلك العبارة الجامعة المانعة التي يقول فيها ـ جزاه الله عنا ما يستحق ـ معرفاً وموضحاً، مع أنه لم يستخدم من علامات الترقيم سوى المائلة فقط، للفصل بين أجزاء عبارته الرائعة: (والنقد برأيي يختلف عن الإبداع الأدبي/ كالشعر والقصة والرواية.. إلخ/ ولكنه إبداع من نوع آخر)( )..
ولخشيته علينا ـ نحن قراءه ـ من الانزلاق وراء التوهم بأن نقد الأدب يعتمد على التذوق فقط، سارع ـ أعلى الله مراتبه ـ إلى تبصيرنا قائلاً: (النقد الأدبي يجب أن لا يقتصر على النقد التذوقي)( ).. ومع ذلك نراه يعود، بعد قليل ليصف لنا ما كتبه في الباب الثاني من كتابه بقوله: (هذه الدراسات تحليلية أكثر ما تكون نقدية وهي مجرد قراءات وانطباعات ذوقية باعتباري شاعراً قبل أن أكون دارساً)( )!! أليس هذا هو التناقض بعينه، يرحمك الله؟!!
وخوفاً من أن يشكك أحدنا بوجود علاقة بين المُنْتَج الأدبي والنقد، سارعَ ـ أحسن الله نقدَه ـ إلى إزالة الشك من نفوسنا في هذا المجال، حين أكد لنا أن (للمنتَج الإبداعي وحجمه علاقة بالنقد الأدبي)( )..
أما فتح الفتوح المعرفية في طبقات السلوم الشعرية، وتحفة اكتشافاته النقدية التي تفضَّل وأهداها للجاهلين من قراء العربية، في مقدمته النظرية/ التنظيرية، فقد ضمَّنه في قوله، بتلك اللهجة الأستاذية: (ولابد من التنويه إلى ما هو مهم ومهم جداً وهو تعلق بعض الأدباء بالحداثة المفرغة عن محتواها ومضمونها..)( ). ولا يقل عن هذا الفتح أهمية قوله بعد عدة صفحات، مميزاً بين النقد والبلاغة: (إن النقد فن أما البلاغة فهي علم)( )، ولماذا كان النقد فناً يا أستاذنا؟ يجيبنا الأستاذ سلوم، في الصفحة نفسها، بأسلوب (وفسرَ الماء، بعد الجهد، بالماء) قائلاً: (ودُعي فناً لأنه يعالج معالجة فنية..)( )، الله أكبر، ما هذا؟ ألا إن هذا هو النقد ـ والله ـ وإلا، فلا لا لا!!!
وليعذرني الناقد إذا لم أمضِ في استعراض كل ما حشده من فوائد، في هذا الفصل التنظيري، وما يليه من فصول الباب الأول من كتابه، ذلك أن استعراضها جميعاً، مع ما تحتاج إليه من شروحات وإضاءات، يحتاج إلى كتاب أكبر من الذي أوردها فيه أستاذنا، موجزةً مكثفة..
إلا أني، مع رغبتي في الاختصار، أجدني غير قادر على إغفال تلك الدرة الثمينة التي سلكها الأستاذ السلوم في الصفحة /32/ وما يليها، فجاءت واسطةَ عقد اكتشافاته وفريدَته .. فعلى خلفية افتراضه ـ سامحه الله ـ أن الجهل قد وصل بقراء كتابه، إلى حدٍّ يحتاجون معه إلى من يُعرِّف لهم ما تعنيه كلمة (مثقف)، وليقينه بأنهم لن يستطيعوا استيعاب تعريفه للمثقف، إذا لم يمهد الطريق أمامهم بتعريفهم ما تعنيه كلمة (ثقافة)، فقد خصص لهم ـ أحسن الله إليه ـ فصلاً خاصاً هو الفصل السابع، من الباب الأول، ليُعرِّف لهم هاتين الكلمتين الهامتين اللتين لا غنى لأي دارس أو متذوق للشعر العربي المعاصر، عن معرفتهما.... وحرصاً منه على تثقيفهم بما تعنيه كلمتا (مثقف وثقافة)، ولخشيته عدمَ انتباههم إلى أهمية ما كتبه لهم حول هاتين الكلمتين، في هذا الفصل، عمد إلى صياغة عنوانه على شكل سؤال تنبيهي يقول: (من هو المثقف)؟!!!
وبعد، فليسمح لي الأستاذ السلوم، أن أشكر له جهده المبذول، في تعريفي، كقارئ، بمبادئ النقد والأدب والثقافة، وإن كنت أعترف بعجزي عن فهم بعض ما كتبه من جمل مفككة وعبارات مشتتة، أوردَها في هذا الفصل، لا علاقة بين دلالاتها، أحياناً، لأن بعضها يأتي من الباب والآخر من الشباك، جراء صياغته لتلك الجمل والعبارات بأسلوب (تيار الوعي) الذي أسجل له أسبقية استخدامه في كتابة النقد، رغم أنه أسلوب روائي لا نقدي، في حدود ما أعلم..
كما أرجو من الأستاذ السلوم أن يعذرني، أيضاً، إذا كنتُ أخالفَه بعضَ ما جاء في فصول بابه الأول، من تعريفات للنقد والأدب ودورهما. فأنا، مثلاً، لست معه في تقزيم دور النقد بقصره على (إضاءة النص الإبداعي وتفكيكه وتقريبه من فهم القارئ أو المتلقي)( )، بل أعتقد أن للنقد مهمات أخرى كثيرة لا تقل شأناً عما ذكر، ولكن لا تتسع هذه القراءة لذكرها جميعاً، والحديث عن أهميتها.
هذه إطلالة سريعة على جانب مما جادت به قريحة الأستاذ السلوم، في الباب الأول، من كتابه الذي أرى أن يغير عنوانه من (قراءة في الشعر المعاصر) إلى (غريب النقد العربي المعاصر).. ذلك أن ما حواه هذا الباب من الغرابة، لا يفوقه غرابة وقدرة على إثارة الدهشة والاستياء معاً، إلا ما حواه الباب الذي يليه، من آراء وشروحات وتحليلات لنتاجِ من اختارَ دراستهم، من (شعراء سورية وفلسطين)، في القرن العشرين..
وهنا، أودُّ، بداية، أن ألفت الانتباه إلى أن الشعراء الذين اختار الأستاذ السلوم وضع نتاجاتهم تحت مجهره النقدي المتميز، لا يتجاوز عددهم الواحد والعشرين شاعراً فقط.. ولكم حاولت الاهتداء إلى العوامل التي جعلته يختار هؤلاء الشعراء فقط دون غيرهم، ليختصهم بنقده، فلم أظفر بطائل، وبالتالي لم أظفر بإجابة مقبولة أو مقنعة عن تلك التساؤلات التي ظلت تلحُّ على تفكيري، حول عدم الشمولية في كتاب السلوم، ومن أبرز هذه التساؤلات:
هل يجوز منهجياً، في كتاب خصصه مؤلفه للحديث عن الشعر العربي المعاصر، في سورية وفلسطين، الاقتصار على تلك القلة من شعراء الصف الثاني والثالث، في هذين القطرين الشقيقين، باستثناء اثنين أو ثلاثة ممن ذكرهم، في كتابه، وفي مقدمتهم شاعرنا الكبير (نزار قباني)؟ فباستثناء نزار، السوري الأصل، هل ترك أيٌّ ممن ذكرهم الأستاذ السلوم، في كتابه، بصمةً مميزة في تطور الشعر العربي المعاصر، في سورية وفلسطين، حتى وقع عليهم اختياره، ليقدمهم إلى قرائه بوصفهم العلامات البارزة في مسيرة هذا الشعر، خلال القرن العشرين؟ وإذا كان يظن أن من اختار دراستهم، في كتابه، هم كذلك فعلاً، فبماذا يصفُ، إذن، بعض من أغفل ذكرهم من عمالقة الشعر، أمثال الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة، والفلسطيني حسن البحيري؟ هل كان هذان أقل فناً وتأثيراً وشهرة ممن ذكرهم؟ وغير هذين، ثمة كثيرون جداً من الشعراء المجيدين الذين لم يجدهم الأستاذ السلوم أهلاً للحظوة بشرف نقده لإبداعاتهم، كما يبدو..... منهم، في سورية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: (محمد عمران وعلي الجندي ومحمد الماغوط ومحي الدين البرادعي وشوقي بغدادي وفايز أبو خضور وسهيل ابراهيم وعبد المعين الملوحي وعبد الكريم عبد الرحيم ومصطفى عكرمة) وغيرهم وغيرهم من الشعراء السوريين.. وبين الشعراء الفلسطينيين الذين عاشوا في سورية، ربما لم يسمع الأستاذ السلوم بشاعر يدعى يوسف الخطيب، مثلا، ولا بآخر يدعى خالد أبو خالد!! ويظل السؤال يدور في الذهن ويدور باحثا عن إجابة: أين ذهب كل هؤلاء وأولئك، ولماذا لم يتعرض الناقد لنتاجاتهم الشعرية، في كتابه، من قريب أو بعيد؟
أترك للأستاذ السلوم مهمة الإجابة عن هذا السؤال وما سبقه، لأنتقل إلى تسجيل احتجاجي، منهجياً، على وضع أربعة من الشعراء الذين اختار دراستهم في فصل مستقل، هو الفصل الأول من الباب الثاني، ليحشر الشعراء السبعة عشرة الباقين، في الفصل الثاني، دون أي مسوغ منهجي أو سبب معقول.. فلو كان الهدف من فصل هؤلاء عن أولئك، تمييز المجيد منهم عن نقيضه، والمشهور عن المغمور، أو السوري عن الفلسطيني، لكان للمؤلف عذره.. لكنه حشر، في الفصل الثاني، القليل من المشهورين الذين درسهم، وفي مقدمتهم نزار قباني، مع تلك الجمهرة من الشعراء الذين لم يسمع بأكثرهم أحد، كما حشر السوري محمود علي السعيد، مع الفلسطيني طلعت سقيرق، وبذلك سقط، منهجياً، مسوغ توزيع شعرائه على فصلين.. وبسقوط هذا المسوغ، يصل الدارس إلى قناعة أكيدة تقول: إن المعيار الوحيد الذي اعتمده الناقد في توزيع شعراء دراسته على فصلين مستقلين، كان معياراً مزاجياً لا أكثر، وإذا لم يكن كذلك، فلا تفسير لهذا التوزيع سوى أنه كان اعتباطياً.
وبالإضافة إلى التوزيع الاعتباطي للشعراء الذين درسهم السلوم، على فصلي الباب الثاني من كتابه، ثمة عيب/منهجي ومعرفي آخر يتمثل في إيجاز الحديث إلى حد الابتسار، لدى تناوله شاعراً كبيراً مثل نزار قباني، والإسهاب والإطناب، إلى حد الإطالة المملة والمخلة، منهجياً، في الحديث عن شاعر ليست له شهرة نزار ولا فنه ولا حضوره، في حركة الشعر العربي المعاصر. وإلا كيف نفسر إيجاز السلوم لحديثه عن نزار، في خمس صفحات فقط، /216 ـ 220/، مقابل أربع وثلاثين صفحة /139 ـ 172/، أفردها للحديث عن الشاعر محمود علي السعيد، رغم احترامي لشخص السعيد الذي لم أسمع به، ولا قرأتُ شعره؟
وإذا كان يمكن للباحث أن يضغط على نفسه وأعصابه، ويتعامى عن مجمل الأخطاء المنهجية، آنفة الذكر وغيرها، مما لا يتسع المجال لذكره، مقابل متعة حصَّلها، أثناء قراءة كتاب السلوم، أو فائدة قنصها، فإن مما يبدو التغاضي عنه صعباً إلى حد الاستحالة، هو ذلك التحليل المتهافت للقصائد التي اختارها السلوم كنماذج من شعر الشعراء الذين اختار دراستهم، في كتابه.. وهنا، أود التوقف قليلاً، لإلقاء بعض الضوء على أسلوب المؤلف في النقد التطبيقي الذي مارسه في كتابه، وما يميز هذا الأسلوب من سمات، لعل أبرزها:
1 ـ ابتعاده عن الموضوعية، واعتماده (موضة) النقد التقريظي التي شاعت، في كتابات الكثير من النقاد العرب المعاصرين، في الآونة الأخيرة، وأقصد بها تلك الكتابات المدحية الثقيلة الظل التي تجلدنا بها الصحف والمجلات الأدبية، كل يوم، والتي يدبجها مؤلفوها، في كتابات لا أدري كيف سوَّلت لهم أنفسهم أن يطلقوا صفة (الإبداعية) عليها..
لقد اختار الأستاذ السلوم أن يكون، في نقده التطبيقي، كمؤلفي ذلك النمط من النقد التقريظي، في حديثهم عن كل ديوانِ (شعر) جديد يصدر، لشاعر قد لا يعرف للشعر وزناً، ولا للصورة الشعرية شكلاً، ولا حتى للكلمة الحلوة الموحية سبيلاً.. ومع ذلك، نراهم، فيما يكتبونه عن مثل هذا الشاعر الضعيف، لا يملكون أنفسهم من شدة الإعجاب بما جاء به، ولا مشاعرهم من شدة التأثر بشعره وصوره التي لم يسبقه إليها شاعر قبله من القدامى والمحدثين، بينما شعره، في الواقع، لا يهزُّ سواه وناقدَه الذي غالباً ما يكون من أصدقائه، وقد كتب ما كتب مجاملاً أو بهدف الإشهار.
نعم، لقد اختار الأستاذ السلوم أسلوب النقد التقريظي للكتابة عن شعر من اختارهم في كتابه، ولهذا لم نجد مسيئاً واحداً بينهم، ولا ضعفاً في أسلوب أيٍّ منهم، فكلهم مجيد، وفنان متفرد في شعره وفريد. كلهم مؤثِّر، صادق الحس، صادق التعبير جزلُه، وصوره معبرة و(تأخذ العقل). وغير ذلك من العبارات المدحية التي راجت في سوق النقد التقريظي المعاصر، والتي باتت لتكرارها في كتابة نقاد التقريظ مملة ومثيرة للغثيان أيضاً..
وقد يسامح المرء ناقداً تقريظياً أخذ راحته في مدح بعض الشعراء من أصدقائه، لكنه لم يتفلسف ويتحدث ناعياً على النقد التقريظي ونقاده، كما فعل الأستاذ السلوم، الذي يقول في الصفحة الحادية عشرة من كتابه: (النقد ليس مجرد إرضاء للخواطر أو تجريحاً وليس مجرد إضاءات أو تطييب أو تربيت على الأكتاف.....)، وفي الصفحة الثالثة عشرة نقرأ: (...النقد كما ذكرت من قبل ليس المدح والقدح فقط...)، وفي الصفحة التاسعة والثلاثين: (وقد حاولت أن أكون موضوعياً في دراساتي ولم أترك لعاطفتي التحكم فيما أقول). لكنه، وبعد هذه العظات جميعاً لم يأتِ إلا بالتقريظ، فمدح هذا وذاك، دون اعتماد أي معايير، موضوعية أو غير موضوعية.. ألا صدق الله العظيم في قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)..
2 ـ وإذا تجاوزنا المدح والتقريظ، بحثاً عن التحليل الذي وَعَدَنا به في الصفحة التاسعة والثلاثين من كتابه، حين وصف قراءاته لأشعار من اختارهم بأنها تحليلية، لما وجدنا للتحليل أثراً، بل كان جلّ ما تضمنته فصول بابه الثاني، شروحاً وتعليقات على بعض القصائد التي اختارها، تشبه، إلى حد كبير، ذلك الذي نقرأه في الواجب المدرسي لطالب في المرحلة الإعدادية أو الثانوية، طلبَ منه أستاذه أن يشرح قصيدةً لشاعر من الشعراء الموجودين في كتابه المدرسي.. وإذا كان السلوم يتفوق على هذا الطالب في شيء، فبالمدائح التي ينظمها نثراً في شعر جميع من كتب عنهم..
وبعد، أخلص من كل ما سبق إلى النتيجة التالية:
أرجو من الأستاذ السلوم ألا ينظر إلى ما كتبته عنه وعن كتابه، على أنه تحامل، فأنا لا أعرفه، كما أرجوه أن لا ينظر إلى رأيي في كتابته إلا على أنه رأي قارئ عادي، وأنا متنازل له سلفاً عن كل الألقاب، فلست أستاذاً في الأدب أو النقد، ولا مختصاً، ولا توجد قبل اسمي (د.) تدل على علوِّ كعبي في أي فن أو مجال، ولست موسوعياً، ولا غير ذلك، بل أنا مجرد قارئ، يا سيدي، وأظن أن لي احترامي، كقارئ فقط، لدى جميع الأدباء والنقاد، إذا كانوا صادقين فعلاً، فيما يدعونه، في مقدمات منشوراتهم، من أنهم من أجلي ـ أنا القارئ ـ يُتعبون أنفسهم، ويجلدون قرائحهم، لكي يقدموا لي ما يثقفني ويفيدني ويطربني، وغير ذلك من الأهداف النبيلة التي أشكرهم عليها من كل قلبي.....
لكن اعترافي بفضل جميع المبدعين والنقاد عليَّ، كقارئ، لا يعني، في رأيي، أن أتحول إلى متلقٍّ سلبي لكتاباتهم، ولا إلى مستقبل لفيض قرائحهم، دون أي تعليق، ولا إلى معجب، بالإكراه، بما يأتون، سواء كان جميلاً أو قبيحاً، ولا إلى مُطبِّل لعبقرياتهم ومُزَمِّر، عن اقتناع وعن غير اقتناع؛ بل لي الحق، كقارئ، أن أحاكم ما يكتبون، وأن أحاول فرز ثمين كتاباتهم من غثها، والتمييز بين جميلها وقبيحها، ثم تقييمها، بقدر المتعة والفائدة اللتين حصلتهما من قراءتي لتلك الكتابات.. وأعتقد أن جميع الأدباء والنقاد، بمن فيهم الأستاذ السلوم، لا يمانعون في أن أمارس دوري النقدي الفطري هذا، أما إذا كانوا يرفضون، فأرجوهم أن يكفوا عن الادعاء بأنهم يكتبون من أجلي، وأن يحتفظوا بما يكتبونه لأنفسهم..
[/align]