شوقي أبي شقرا...
ما.... إلى الهذر المنثور...!!!
[align=justify]بتأثير دعاية الطبل والزمر لما يُسمى (قصيدة النثر = النثعيرة)، قرأتُ، فيما مضى، بعض نصوصها، وفي جملة ما قرأت، بضعة نصوص للنثعور الغامض (شوقي أبي شقرا)، وجدتها منشورة في بعض الصحف والمجلات، فأقنعتني قراءتها، بعدم شراء أي كتاب من تأليفه، إذ ما فائدة اقتناء كتاب لا تفهم منه شيئاً، ولا تسيغ من إبداع مؤلفه صورة، أو تطرب لنغمة، أو تعجب بمعنى أو فكرة...؟ أي أنه كتاب من النوع الذي ينطبق عليه قول مثلنا الشعبي: (لا وجه حلو ولا بشرة ناعمة). وظل هذا رأيي في شوقي أبي شقرا وكتاباته، لم يغيره ما قرأته منها لاحقاً، كما لم يزعزعه مدْح من مدَحَها صادقاً أو متملقاً، ولا قدح من قدح فيها منصفاً أو منصفاً.
وما كنتُ أحسبني مغيِّراً رأيي في تلك الكتابات، أو مقرراً إعادة قراءتها من جديد، لولا أن استضاف تلفزيون المستقبل النثعور شوقي، في سهرة تنفض البدن، ليلة 27/6/2000، ضمن برنامج (خليك بالبيت) لمعده ومقدمه النثعور والمذيع التلفزيوني (زاهي وهبي)، وهبه الله وشركاه من مدَّاحي أبي شقرا، في تلك الليلة، حُسن الختام، وجعلهم من الأعلام في دارَي النثر الحداثوي وما بعد الحداثوي، بجاه المتنبي والبحتري وأبي تمام.
خوف في غير محله
في الواقع، ترددتُ طويلاً، قبل كتابة أي تعليق أو رأي حول ما دار في تلك الحلقة التلفزيونية، على الرغم من شدة ضيقي مما قيل فيها، ومن أساليب الذين شاركوا في حواراتها. ولهذا، ظللت طيلة الفترة التي انصرمت، بين بثها وكتابة هذه المقالة، لا أكاد أخطو خطوة باتجاه الحديث عنها، حتى تراني أعود فأنكص على عقبي متراجعاً، والسبب، كلماتُ بعض الأصدقاء التي ما انفكت تتردد في أذني محذرة ومشفقة:
إياك والاقتراب من موضوع (قصيدة النثر) أو أحد أعلامها بكلمة سوء، فمؤلفي هذا اللون من الأدب، وليس نقادهم فقط، هم من أطول الناس لساناً، وأحدِّهم ناباً، ومن أضيقهم صدراً بالنقد الذي لا يمدح ما يكتبون ولو كان تافهاً، ولا يُطري ما يأتون ولو كان خاطئاً، ولا يثني على (عبقرياتهم الإبداعية) التي يتوهمون أن لا مثيل لها، في قديم الزمان وحاضره ومستقبله. والويل كل الويل لمن تسول له نفسه أن يدوس لأحدهم على طرف، مشهوراً كان هذا الأحد أم مغموراً، أو يقول لآخر منهم ما أحلى الكحل بعينك، لأن من يفعل ذلك يلقَ خصاماً من جميعهم، فتراهم يهبون في وجهه، هبة رجل واحد، يكيلون له التهم، ويرجمونه بشتى الافتراءات من كل شكل ولون... فإذا بهذا المجترئ عليهم، يغدو متخلفاً حتى ولو كان خريج السوربون، ورجعياً معادياً للتجديد والمجددين، حتى ولو تنكر للتاريخ الإنساني القديم برمته. وقد لا يتورعون، والحال هذه، عن اعتباره سببَ تخلف الأمة العربية وسبب انكساراتها الحادة، في الراهن والماضي، وفي المستقبل ربما، وأن اجتراءه على مقامهم السني، إنما حرَّكته رغبة خبيثة في بقاء هذه الأمة، وقد دلف العالم إلى الألفية الثالثة، في ظلمة عصور ما قبل التاريخ، وقد يرمونه بما هو أمرُّ وأدهى. فإياك إياك، والتحرش بهم، لأن من يتحرشهم يكن كمن يهيج عليه عشَّ زنابير في عزِّ الحر، إن لم يقتله لَسْعُهم، آذاه أيما إيذاء.
ولكن إلى متى الصمت على خوف ومضض، وفي القلب ما فيه من هذا اللون الأدبي ومؤلفيه ونقاده جميعا؟ بل لماذا الصمت أصلاً، إذا لم تكن مجاهرة المرء برأيه، وخصوصاً في مجال الأدب، جرماً؟ أليس من أبسط حقوق أي قارئ أن يقول رأيه، بصراحة، في نتاج أي أديب، أَعْجَبَ قولُه هذا الأديبَ ونقاده أم لم يعجبهم، أم أن الإعجاب بأدب هذا الأديب أو ذاك، صار بالإكراه أيضاً، كما هو الحال في كل ميادين حياتنا العربية؟ لكن... ومع قناعتي بحقي، كقارئ عادي، في المجاهرة برأيي، ظللتُ، طويلاً، أنوس بين الإقدام والإحجام، غير قادر على اتخاذ قرار نهائي، حتى انتهيت من نقاش أصدقائي المحذرين المشفقين، إلى النتيجة المريحة التالية:
لا أراني ـ أيها الأصدقاء ـ قادراً على تصديق كل ما تزعمون من انحدار أدبائنا المحدثين ونقادهم إلى ممارسة كمِّ أفواه غير المعجبين بهم وبما يكتبون. وحتى لو انحدر بعضهم إلى هذا الدرك، فما أظن أن يكون بين المنحدرين أيٌّ من النثاعير ونقادهم!! إذ كيف يكون هؤلاء كمَّامي أفواه، وهم ـ كما يصفون أنفسهم ـ دعاة الحرية وثوارها الذين حرروا الشعر العربي من كل قيوده: من عموده القديم وتفعيلاته وإيقاعه الخارجي والداخلي، ومن كل ما يمت إلى الضبط والربط والقواعد والشاعرية بصلة؟ أم تُراهم على مذهب أصحاب الحرية العرجاء الذين يرون حرية التعبير حقاً لهم وحدهم، وحراماً على كل من يعارضهم الرأي أو الهوى، فإن غضب الله على أحد، وقال ما لا يعجبهم، أقاموا الدنيا على رأسه وأقعدوها، ورموا رقبته ورقبة الذين خلفوه؟!!
لا أيها الأصدقاء، ما أظن النثاعير ونقادهم، على هذه الدرجة من الدكتاتورية، ولكي أثبت لكم أن حسن ظني بهم، أصوب من سوء ظنكم، قررت إعلان رأيي، بصراحة ودون أي مواربة، في أحد أهم أعلامهم، وهو النثعور (شوقي أبي شقرا)، ورأيي في كتاباته أيضاً، من خلال ما قرأت له وعنه، ومن خلال مجريات تلك الحلقة التلفزيونية التي استضافه فيها الأستاذ النثعور أيضاً (زاهي وهبي)، وستجدون، بعد نشر هذه المقالة، كم أنَّ مؤلفي النثعيرة ونقادها لطفاء وطيبون، إذ لن يسلخوا جلدي حياً، بعد قراءة هذه المقالة، كما تزعمون، ولن ينشروا عرضي على بيرق، رغم أن لا أحدَ منهم ولا من غيرهم، يعرف بعد، قرعة أبي النقدية من أين!
تصحيح بمديح!!!
في تلك الليلة الليلاء، قيل في شوقي أبي شقرا الكثير الكثير من المديح، فإذا به (شاعر) لا يشق له غبار، وإذا المتنبي دونه، وطاغور، وربما شكسبير أيضاً.. ولكن علامَ كل هذا المديح؟
كان واضحاً أن السبب الرئيس لكل ما مُدح به، كما صرح مادحوه أنفسهم، عرفانهم بجميل قلمه الأحمر الذي لولاه ما كان لتفاهات بعضهم أن تعرف إلى النشر طريقاً!! ذلك أنه بقلمه ذاك، صنع لبعض تلك التفاهات ساقين من قصب، وأعار بعضها الآخر عكاكيز غير مرئية من تدخلاته، غير المحمودة، لتصير، في النهاية، نثعيرات، نُشر بعضها على صفحات (مجلة شعر)، وبعضها الآخر على صفحات (النهار الثقافية).
وعلى هذا يمكن القول: إن ما مُدح به أبي شقرا، تلك الليلة، كان في جملته، نقداً انحطاطياً من ذلك النوع القائم على مبدأ (حُكَّ لي لأحُكَّ لك)!! وما أظن استضافة زاهي له في برنامجه، إلا من هذا القبيل، أي من قبيل العرفان بجميل ذلك القلم الأحمر الذي أجراه الضيف، في وقت مضى، على ما كتبه مضيفه من نثعيرات.
وإن تعجبْ، فعجبٌ رد فعل شوقي على فضح مادحيه لدوره التزويري في كتاباتهم، إذ بدلاً من أن يحاول ستر هذا الدور المنكر، بإنكاره، راح يؤكد ممارسته له، مزدهياً به أمام زاهي وفخوراً! والأدهى من ذلك كله أنه، وبعد اعترافه بالتزوير، عاد ليتحدث، وبدم بارد، عن الموضوعية، فتصوروا!! ألا رحم الله من قال: (إذا لم تستحِ فافعل ما شئت)!!
ثقافة (السآفة) في حوار (المسأَّفين):
ومن أبرز ما يلفت الانتباه، بين سلبيات تلك المقابلة، عامية الضيف ومضيفه، في حوارهما. فإن كان ممكناً أن نغضَّ الطرف عن استخدام العامية في حوار يُجرى مع أي شخص لا يدعي الانتماء إلى الأدب، أَفَتُرَانا قادرين على أن نسيغ استخدامها، في حوار مع من يدعي أنه رأس مدرسة أدبية، بل أديباً من أبرز ميزاته أنه (متضلع) في اللغة، كما وصف شوقي نفسه، وهو يقصد أنه (ضليع)، وكما وصفه مادحوه، في اتصالاتهم مع معدّ البرنامج؟
أم أن السيد شوقي ـ حفظنا الله من تجديده ـ يرى الفصحى من مخلفات الماضي التي يجب القضاء عليها أيضا، شأنها في ذلك، شأن عمود الشعر وتفعيلاته، وأنه لهذا الاعتبار، لا مانع، في رأيه (التجديدي)، أن يصبح القلم (ألماً)، والثقافة (سآفة)، والقصيدة (أصيدة)، والمقالة (مآلة)، والموسيقى (موسيئا)، وفقط (فأط)، وخمسة عشر (خمستاعش)؟!!
ثم هل من التجديد النحوي الذي ضمَّ شوقي ريادته إلى نفسه، مع ريادة التجديد اللغوي، أن ندخل اللام ـ وهي حرف جرـ على حرف جر مثلها هو (إلى) في قوله وقول زاهي مرارا ـ لا فُضَّ فوهاهما ـ (لألو ـ لإلي)، بدلا من له ولي؟ وهل حقا أن سيبويه ـ رحمه الله ـ لن ينتفض بدنه، في قبره، إذا سمع من يصف نفسه برأس مجددي لغة العرب ونحوهم، يدخل الباء ـ وهي حرف جر أيضاً ـ على الفعل المضارع فيقول: (بيتمتعوا، وبيدخل، وبيموت) وما شابه؟..
اعتراف غير مقصود بالحقيقة
منذ بداية المقابلة، وأنا أتمنى متلهفاً أن يُبين الأستاذ شوقي لمشاهديه الفرق بين الشعر والنثر، إذ الفرق بينهما قوامُ المدرسة التي هو رأسها، كما يزعم ومادحوه معه.. لهذا حين سأله محاوره، عَرَضاً، عن الفرق بينهما، وجدتني أقفز من مكاني فرحاً، ثم أهلل وأكبر، قبل أن أجلس، وكلي آذان صاغية، أرقب رده، فإذا به يتلجلج، ثم (يُتأتئ ويُفأفئ) طويلاً، قبل أن يفتح الله عليه بقول ما معناه،: (الشعر هو غير النثر)!!!
لكنه، وقد أدرك أن الفصحى التي لا يحسن الحوار بها، كما يبدو، لم تسعفه في التعبير عن فكرته، بغير تلك العبارة التي هي من قبيل (وفسر الماء بعد الجهد بالماء)، سارع إلى الإعراض عن استخدام الفصحى، رغم أنه مجددها، ومتضلِّعٌ بها، كما زعم مداحوه، هارباً منها إلى العامية يتعلق بتلابيبها مستنجداً، فقال: (الشعر هو الموسيئا والإيقاع الداخلي وكل هالصفات). وما كاد ينهي نطقه بهذه العبارة، حتى أدرك أن حاله صار كحال (الهارب من تحت الدلف إلى تحت المزراب)، لأنه، بتعريفه هذا للشعر، نسف أهم أسس المدرسة التي هو زعيمها، وأقصد مدرسة (قصيدة النثر = النثعيرة)، كما نسف مسوغات كتابة النثعيرة من أساسها، ذلك أن نُثَّارها أو نثاعيرها لا يعترفون بأن للشعر موسيقى أو إيقاعاً، اللهم إلا ما يسمونه الإيقاع الداخلي الذي لا يسمعه أو يحسه غيرهم.
وإزاء هذا العي والتخبط، هبَّ محاوره لنجدته، فطرح عليه سؤالاً ارتجالياً مضحكاً هو: (ما الفرق بين القصيدة والشعر)؟ فإذا بهذا السؤال يزيده عيّاً، بدلاً من أن ينقذه، إذ أجاب: (الأصيدة أنو بتاخد الاسم فأط (فقط) لا غير، بدون ما يكون المضمون. والشعر هو الشعر اللي بنعرفه واللي هوي...).
وما كاد زاهي يشعر أنه، بسؤاله الارتجالي هذا، قد فعل به فعل من جاء ليكحلها فأعماها، حتى قاطعه لينجده ثانية، فسأله: (يعني الأصيدة بتدل عالشكل)؟ فأجابه أبي شقرا، متعلقاً بالقشة التي مدها إليه: (الأصيدة عالشكل.. شكل بس.. شكلية.. الشعر هو حالة، الشعر ما فينا نحدده. يعني الشعر هو الشعر اللي بنعرفه).
الله أكبر! ما هذه الفصاحة يا سيدي، رعاك الله؟ أهكذا أنت غامض في شعرك، غامض في نثرك، وحتى في حوارك، فصيحِه وعامِّيِّه، أيضا؟! ألا سبحان من صاغك من غموض لا وضوح فيه، ومن إبهام لا جلاء له، ومن عسر لا يسر فيه، حتى صرت نسيج وحدك، في قول ما لا يُفهَم وصوغ ما لا يُهضَم، متميزاً في عيِّك كتميزك في نثرك المشعور الذي كانت باكورة إبداعك فيه تلك القصيدة التي اخترت لها (الحمار) عنواناً ـ أجلَّك الله ـ لتتميز بها عن شعراء زمانك، كما أخبرتنا.
ورقة تين الغموض لستر عورة الضعف:
ذكرتُ في دراستي السابقة عن النثعيرة، أن الغموض كان يُعدُّ، فيما مضى، عيباً فنياً، يحاذر الشاعر الوقوع فيه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن وقع، سهواً أو عجزاً، سلقه النقاد بألسنة حِدَاد... أما في عصرنا الميمون هذا الذي انقلبت فيه معايير كل شيء رأساً على عقب، فصرتَ كلما سألتَ من شعرائه، أو من أشباههم، واحداً: لِمَ تتعمد الغموض في ما تكتب، فتجعل الناس ينفرون من كتابتك وينفضُّون عنك؟ بادرَ إلى إجابتك متشدقاً: إن ما تسميه غموضاً هو صنو العمق ووليده!! فإن أنتَ ناقشته القول، احتدَّ قائلاً: الغموض عنوان الحداثة!! فإن تبرأت من الحداثة، مكابراً، تراه يسارع، لكي يفحمك، إلى الاتكاء على حادثة أبي تمام المشؤومة، حين أجاب ـ لا سامحه الله ـ سائلَه المسكين الذي سأله: (لماذا تقول ما لا يُفهم)، بقوله: (ولماذا لا تفهم ما يُقال)؟ ألا ليت الله قطع لسان أبي تمام في تلك اللحظة، فلم يجب بتلك الإجابة التي اتخذها التافهون، من أشباه شعراء اليوم، مسوغاً لتشريع الغموض في ما يكتبون، وورقةَ تين يسترون بها ضحالة مواهبهم، وتفاهة ما تفيض به قرائحهم. ووالله ما أراني كاذباً أو مخطئاً، إن زعمت، أن أبا تمام نفسه لو درى أن عبارته تلك ستستخدم مجناً للدفاع عن ساقط القول وغثه، لما كان تلفظ بها أصلا.
على أي حال، لا أظن أن أبي شقرا ومضيفه ومداحيهما، في تلك الليلة، ينُكرون أنهم من أنصار الغموض، بل ربما سرَّهم أن يُوصفوا بروَّاده وأساتذته. كيف لا، وأحد فطاحل أولئك المداحين، وهو المدعو د. أسعد خير الله الذي لا أعلم، لشهرته، إن كان أديباً أم ناقداً، لم يجد حين أراد المبالغة في مديح أبي شقرا، إلا وصفه بقوله: (فشوئي ـ يقصد شوقي ـ ليس هو السهل الممتنع إنه الصعب الممتنع)!
ليسامحك الله يا سيدي، فلكم أخطأت حين وَهِمْتَ أن وصفَك لشوقي بالصعب الممتنع مبالغة في مدحه، لأن هذا الوصف، في عُرْفِ من له أدنى علم بالنقد، هو هجاء مقذع. أتعلم لماذا؟ لأن السهولة هي ذروة محاولات التخلص من الصعوبة، ولذلك درجت العادة على أن الممتنع لا يوصف به إلا السهل الواضح من القول، أما صعب القول وملغزه، فعيب يوصف به نتاج المبتدئين من الأدباء الذين لم يجيدوا بعد الإفصاح عن أفكارهم وتصوير مشاعرهم وأحاسيسهم، وإيصالها إلى قرائهم، بلغة واضحة يظنها الجاهل ممكنة التقليد من السهولة، فإذا حاول تقليدها، امتنعت عليه سهولتها..
على هذا، أراك أسأت إلى شوقي، من حيث أردت المبالغة في مدحه، بإطلاق تلك الصفة عليه. أما إن كنت تعني بما قلت أن شعره من النوع الذي يمتنع فهمه على أي قارئ، حتى ولو كان مسربلاً بادعاء الحداثوية من رأسه إلى أخمص قدميه، ففي هذه الحالة فقط، أُقرك على وصفك لشوقي ونصوصه بعبارة (الصعب الممتنع).
على أي حال، وأياً كان رأي أسيادنا من دعاة الغموض وصانعيه والمدافعين عنه، فإننا نقول لكم، نحن القراء البسطاء الذين حرقتم قلوبنا بغموضكم، وبالتعريض بجهلنا كلما صارحناكم بعدم فهمنا لما تكتبون: سـنقنع أنفسـنا بحججكم، ونرغمها على القبول بزعمكم أن الغموض وليد العمق، حتى ولو كرهنا، لكننا نرجوكم ـ قدس الله شعركم ونثركم ـ ألا تتكلفوا الغموض تكلفاً، ولا تصطنعونه اصطناعاً، تظاهراً منكم بالعمق وستراً لضعف الموهبة، لأن تكلفكم له واصطناعكم إياه، يجعل القارئ منا غير قادر على تمييز الألف، في ما تكتبون، من العصا. كما أحذركم جميعاً، ودون استثناء، ألا تتكلوا على همتنا في بذل الجهد، لحل ألغازكم وفك طلاسمكم، ليس لأننا كسالى، كما تدعون، ولا لأن معظمنا لا يملك ذلك الباع الطويل في التأويل والتحليل، كما تزعمون، بل لأننا جميعاً ضد أسلوب اللف والدوران، وإنطاق النصوص بما ليس فيها، شأن نقادكم (الكبار) ـ عين الله عليهم ـ ممن أخذوا على عاتقهم خداع القراء، إرضاءً لمن يمدحونه منكم، أو من أجل كسب الشهرة والمال..
ولكي لا أتهم بالافتراء عليكم وعلى السيد أبي شقرا، أرجو منكم أن تأخذونا على قدِّ عقولنا، وتفسروا لنا هذه العبارات التي شنَّف بها أبي شقرا مسامعنا، تلك الليلة، داعياً إياها قصيدة، بعد أن اختار لها عنوانا أتوهم أنه لا يمت إلى مضمونها بصلة وهو: (مغامرات نبع)، وفيما يلي بعضها الذي يدل على مجملها:
(أنا مصطاف/أهوى المغاور والاختصار/أدخل في الحائط وأخرج منه/حفظت الجغرافيا/نلت في الخط والفسيفساء علامات جيدة/نجحت في الغناء/صنعت لي والدتي كعكعة كبيرة فأكلتها وأنا ماش/كتبت فروض العطلة/مزحت مع الماشية/مررت تحت الدير فصقَّع الرهبان/ أتكون من الأوجاع العصبية/يظنني الحطاب هرة سوداء عدوة الجرذان والعصافير/أحب زي الأمير فخر الدين/كان الأمير قصيراً كالموزة/يكره الزحام والصفير/يمشي فيترك بياضاً حواليه).
لن أزعم أنني فهمت شيئاً من هذه العبارات المتداخلة تداخل عباس بدباس، رغم أن الأستاذ زاهي وصفها قبل إلقاء شوقي لها بأنها الأسهل بين كتاباته!! وإنني والله أحسد كل من يستطيع فهم هذا الكلام، أو يقدر على إيجاد رابط من أي نوع بين عباراته غير المتجانسة.. ولأنني خشيت أن أطلق على (قصيدتك الغراء) هذه حكماً قد يصفه البعض باللاموضوعية، أو بالافتراء، رحت أقرأها على كل من هبَّ ودبَّ من عباد الله، مختبرا رأيهم فيها، سائلاً عن مدى تذوقهم لدررها، فإذا كل واحد يدخل في حائط غموضها وتفككها ويخرج منه كما دخل، يداً من قدام ويداً من وراء. وإذا قلتَ لي: إنك لم تقرأها على مختصين، قلت لك: ومنذ متى كانت قراءة الشعر وتذوقه وفهمه اختصاصاً؟!! ومع ذلك فعلت يا سيدي، بل مهدت قبل أن أعرضها عليهم بأنها لون من شعر تيار الوعي، كما ذكر أحد مداحيك، فكان إجماعهم على أنها عبارات كتبت بلا وعي..
وبعد، فما حوته هذه المقالة، لا يعدو كونه مجرد ملاحظات سريعة على سهرة تلفزيونية طويلة حشيت حشواً، بما يحتاج إلى تسويد أضعاف حجمها من الصفحات. ولأنني خشيت إملال القارئ، اكتفيت بما أوردت من ملاحظاتي الآنفة على ما دار فيها.
وختاماً،
أتوجه إلى الأستاذ زاهي، مستعطفاً وراجياً، باسمي واسم جميع المفجوعين بوفاة الشعر العربي المفهوم، بعد أن تكسرت أوزانه وتبعثرت قوافيه وصار هباء منثوراً، على يد فطاحل التجديد الكبار من أمثال شوئي أبي شأرا (شوقي أبي شقرا) الذي استضفته في برنامجك، أتوجه إليك يا سيد زاهي مستحلفاً إياك بحرمة قبر الوضوح والسلاسة والكلمة اللطيفة والصورة الشعرية الحية الموحية، ألا تستضيف، في برنامجك، بعد الآن، شاعراً آخر من طراز أبي شقرا، لا أكثر شهرة منه ولا أدنى، إذ يكفي مشاهديك من النثاعير واحداً، لِيَعُمَّهم الغمُّ ويصيبَهم الغثيان.
[/align]