عرض مشاركة واحدة
قديم 13 / 07 / 2008, 57 : 08 AM   رقم المشاركة : [13]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف

جدلية الرمزي والواقعي في رواية
جسر بنات يعقوب


[align=justify]
هذه الرواية التي كتبها القاص والروائي (حسن حميد)، صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، عام 1996. ولكي لا يبدو الحديث عنها غامضاً، بالنسبة لمن لم تُتَحْ له قراءتها والتَعَرُّف على شخصياتها وأحداثها، فقد يكون من الأفضل تقديمِ ملخصٍ سريع لحكايتها...

موجز لحكاية الرواية
ربما ليس انتقاصاً من قيمة الرواية، فنياً أو مضمونياً، أن نزعم بأن أحداثها الممتدة على مساحة (365) صفحة، يمكن إيجاز حكايتها بعدة أسطر، بل ربما يكون هذا الزعم لصالح مؤلفها الذي استطاع جعل كينونتها الحدثية البسيطة، تمتد على ذلك العدد الكبير من الصفحات، عبر حركية شخصياتها وتفاعلها، مع تلك الكينونة وتفرعاتها..
فالبنية الحكائية للرواية، بعد أن نجردها من كل التفصيلات والأوصاف المسهبة التي تمنحها ما تتمتع به من ألق جمالي يطغى على توتر الحدث، في كثير من الأحيان، هي:
في القسم الأول من الرواية، حكاية ثلاث راهبات انقطعن للعبادة في دير ناء مشاد على قمة أحد الجبال العالية، في قرية الشماصنة، ولكل واحدة منهن ظروفها الخاصة التي أدخلتها إلى ذلك الدير الذي تصور لنا الرواية نمط حياتهن الورع فيه، قبل دخول (حنَّا)، الشاب القوي في خدمتهن، وهو يظنهن رهباناً... ثم تحكي لنا الرواية كيف تعاملن مع تجربة وجوده بينهن، وكيف أيقظ حضوره الدائم مشاعرهن الأنثوية الطبيعية تجاه عالم الرجال الذي انقطعن عنه، والذي يمثله هذا الشـاب، في الرواية؛ رغم اسـتمرار جهله بحقيقة كونهن راهبات. ثم كيف انتصر تعففهن وتقواهن على شهوات نفوسهن التي اشرأبت إلى جسده، لتتحد، في اللقطة الأخيرة من هذا المشهد الإنساني والفني، طهارةُ المكان بطهارة الإنسان، في كينونة واحدة ثابتة وأصيلة، هي التي حاول المهاجر اليهودي يعقوب اختراقها وتدنيسها، كما تُنبئنا بذلك حكاية أحداث الجزء الثاني من هذه الرواية...
إذ أننا في جزئها الثاني الذي يبدو، للوهلة الأولى، منفصلاً أو مستقلاً عن جزئها الأول، نرى المهاجر اليهودي يعقوب يأتي، من مكان مجهول، إلى قرية الشماصنة الهادئة والعذراء، بطبيعتها وأهلها البسطاء، ليجعل منها منجماً لجمع المال، عبر تخريب طبيعتها تارة، وتارة ثانيـة عبر تخريب أخلاق سكانها وإشاعة الدعارة بينهم عن طريق أجساد بناته الفاتنات، وتارة ثـالثة عن طريق إثارة الأحقاد بينهم، وتارة رابعة عن طريق الزعم بأن السلطان أعطاه الحق بضمان الجسر وحراسته وجباية رسم العبور فوقه من سكان الشماصنة والقرى المجاورة لها.... وتارة خامسة بادعائه القدرة على جعل العاقرات من نسـاء تلك القرى يحملن، وهو ما أودى بحياته في النهاية، حين فاجأه أحد رجال القرية وهو يحاول اغتصاب زوجته الحالمة بالذرية، وقد جاءت يعقوبَ مخدوعةً بقدرته على جعلها تحمل، من خلال ما أشاعه عن قدرته الخرافية على جعل العواقر يحملن. إذ لم يتردد الرجل في قتل زوجته ويعقوب معاً. وتحوُّلت بنات يعقوب، بعد مقتله، إلى داعرات، ما لبث المكان الطاهر الذي حاولن إفساده بدعارتهن، أن لفظهن خارجه، أرضاً وسكاناً...
وكما هي الشخصية اليهودية، في كل زمان ومكان، تصنَّع يعقوب الذل والمسكنة، في البداية، فاكتفى بالإقامة مع بناته في كوخ بناه من القصب، عند طرف الجسر القديم في الشماصنة، وما إن استقوى بأموال سكان القرية الطيبين، وتحوَّل كوخه القصبي إلى بيت حجري قوي، بسواعدهم، حتى تحوَّل هو إلى وحش بلا قلب، لا هدف له سوى امتصاص أموال الذين آووه وبنوا له بيته الحجري ذاك...
من هذه الإطلالة السريعة على مضمون الرواية، ومن مقدمتها التي سأشير إليها تالياً، يمكننا أن نستشف وجود ثلاثة منافذ رئيسة يُشَرِّعُهَا حسن حميد أمام قارئه ليعبر، من أيِّها شاء، إلى عالم روايته. ومن الضروري أن نلاحظ أن هذه المنافذ الثلاثة ليست متشابهة، رغم أنها تقود جميعاً إلى نفس العالَم الروائي الذي ترسمه الأحداث والأمكنة والشخصيات. وأول هذه المنافذ تاريخي، وثانيها مكاني، أما الثالث فإنساني... وفيما يلي توصيفٌ سريع لطبيعة كل مدخل وشكله وميزات اختيار العبور منه...


منافذ العبور إلى عالم الرواية
المنفذ التاريخي
مُفَاجِئِةٌ جداً تلك الإشارة التي (لابد منها)، كما وصفها حسن حميد بادئاً بها روايته، ليوهمنا، من خلالها، أن العمل الذي بين أيدينا ليس من تأليفه، بل هو مجرد تحقيق لمخطوط قديم وصله بالتوارث، ويعود تاريخ نسخه إلى ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي، أي إلى أيام المماليك!( ). ثم يمضي حسن في محاولته القبض على انتباه قارئه ووعيه، بقوة، منذ السطور الأولى لعمله، فنراه يؤكد لنا أنه نَقَلَ نص ذلك المخطوط دون أي زيادة أو نقصان، بعدما عجز عن تشذيبه وتهذيبه، دون إلحاق الحيف بمضمونه وجمالية عرضه:
(وإنني إذ أنشر اليوم أخبار يعقوب وبناته كاملة، أودُّ التأكيد على أنني لم أضف حرفاً واحداً إلى القصة، وأنني أخرجها إلى الناس كما وصلت إليّ عن طريق جدي الياس الشمنذوري.)( ).
وهكذا يفتتح حسن روايته بزجِّ قارئها، منذ البداية، في دوامة من التساؤلات التي تفتح أمامه خيار العبور إلى عالمها من منفذ تاريخي، وهو لا يدري إن كانت تاريخيةُ ذلك المنفذ حقيقيةً أم وهمية... وفي مقدمة هذه التساؤلات:
هل يمكن أن يكون هذا العمل مجرد تحقيق لمخطوط، كما حاول حسن أن يوهمنا، أم أن هذا الزعم لا أساس له؟ وإذا كان الزعم غير صحيح، فلماذا طرحه المؤلف إذن؟ هل كان قصده إتاحة أفق أوسع من الحرية لكلمته، يستطيع أن يقول في رحابته ما يشاء، بحجة أنه يروي على لسان من مضى، وبالتالي فلا إثم عليه، إذ أنه مجرد ناقل، وناقل الكفر ليس بكافر؟ أم أن الأمر محاولة فنية صرفاً هدفها الوحيد زيادةُ إقناع قارئ الرواية بواقعية أحداثها من خلال إيهامه بأنها ليست من نسج خيال المؤلف، بل هي أحداث قديمة جرت فعلاً ودُوِّنَت في مخطوط؟
ثم لماذا اختار القرن الثالث عشر الميلادي، بالذات، تاريخاً لنسخ مخطوطه المزعوم، وإلامَ يشير هذا التاريخ، وإلامَ يرمز اختياره؟ هل هو مجرد إشارة إلى قِدَم المحاولات اليهودية لاستيطان المنطقة، أم أنه إشارة إلى بداية ظهور فكرة استيطان اليهود لأرض فلسطين في اجتهادات بعض الحاخامين اليهود الذين اتخذت الصهيونية من اجتهاداتهم، بعد ظهورها كحركة سياسية، مادة الذرائع الدينية التي تزخر بها أيديولوجيتها، والتي جَدَلَت من مجموعها وَهْمَ الرابطة التاريخية، بين أرض فلسطين ويهود العالم، من خلال الزعم بأن هذه الأرض هي (إرثهم من أجدادهم القدامى) بصكوك إرث مزورة صاغتها من بعض نصوص التوارة، بعد أن اجتزأتها من سياقها التوراتي بعناية فائقة، لتبدو متفقة مع أهدافها الاستعمارية، ثم حاولت توظيفها، كمسوغ لاحتلال فلسطين، وإعطاء احتلالها بعداً دينياً ذا طابع تاريخي، يُوهم بـ (شرعية) ذلك الاحتلال؟
ربما، فالإشارة إلى القرن الثالث عشر الميلادي، تعيد، مثلاً، إلى ذاكرة المتتبع لتاريخ الصهيونية، اجتهاداتِ الحاخام (موشيه بن نحمان/ رمبان) الذي عاش بين عامي (1194 ـ 1270 م)، والذي نسب في ثنايا تفسيره الخاص للتوراة مزايا لأرض فلسطين، لم يسبق أن نسبها لها أحدٌ قبله، وذلك من مثل وصفه لها بأنها (المكان الوحيد المناسب لتأدية الوصايا الدينية المنصوص عليها في التوراة)، لأنها المكان الذي (يصل فيه الإنسان، وكذلك الحـيوان، إلى قمة كمالهما)، الأمر الذي يجعل من (الاستيطان في أرض إسرائيل واجباً دينياً)، اعتبره، ولأول مرة، (واحداً من ضمن /613/ فريضة، تُلزم اليهوديةُ أبناءها القيام بها)، ثم اشتطَّ أكثر فقال: (إن استيطان أرض إسرائيل يوازي كل فرائض التوراة)( ).
وأخيراً، هل يمكن اعتبار الإشارة إلى هذا النمط من الاجتهادات، هي الهدف الحقيقي لحسن حميد، من إرجاع تاريخ نسخ مخطوطه إلى القرن الثالث عشر الميلادي تحديداً؟ أم أن لتلك الإشارة هدفاً آخرَ، وإذا كان، فما هو؟
أياً كانت الإجابة عن هذه التساؤلات التي يثيرها في الذهن زعم حسن بأن روايته مجرد تحقيق لمخطوط قديم، فإن مما لا شك فيه أن هذا الأسلوب قد نجح في وظيفته الأهم، حسب رأيي، وهي إثارة انتباه القارئ وتحريض ذهنه على طرح الأسئلة، بحسب درجة ثقافته ومعرفته، ثم إبقاء جميع تلك الأسئلة التي ترد على خاطره مفتوحة على الكثير من الخيارات والاحتمالات التي يصلح أيٌّ منها لأن يكون هو الجواب الصحيح.
ومن الجدير بالإشارة هنا، أن محاولة التحريض المستمر على السؤال، دون تقديم أي إجابة مباشرة، تعتبر من السمات المميزة لأسلوبية الرواية، وهي محاولة ذكية لأنها تحثُّ القارئ على متابعة الرواية حتى آخرها، يحدوه الأمل في العثور على جواب أي جواب؛ ولكن لا أجوبة، بل على العكس، فكلما أوغل القارئ في صفحات الرواية باحثاً عن الأجوبة التي يأمل، أثار المؤلف أمامه طائفة جديدة من الأسئلة، مضطَراً إياه للجري الدائم وراء سراب أجوبة لن يعثر عليها إلا بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة من الرواية، ويبدأ تحليله ومحاكمته لما قرأه فيها... لأنه، عندها فقط، سيكتشف أن المؤلف استطاع أن يجعل منه شريكاً حقيقياً في تأليف الجزء الأصعب من الرواية، وهو محاولة العثور على أجوبة لما كان يثور من أسئلة، في ذهن مؤلفها نفسه وخياله، أثناء كتابتها...

المنفذ المكاني
منذ البداية، يجذبك هذا الاهتمام البالغ بالمسرح المكاني الذي تجري عليه أحداث الرواية، حتى ليكاد يُخيل للقارئ في كثير من المواضع أن المكان هو البطل الرئيس فيها... فمن الوصف المسهب لكل جزئيات المكان، إلى تغيير مواقع النظر للمكان الواحد أحياناً، على نحو ما يفعل المصور السينمائي، حين يريد أن يخلب لب المشاهد باللوحات الأخاذة التي تلتقطها آلته من زوايا مختلفة للمكان الواحد، يحاول حسن بأسلوبيته الوصفية أن يحملك على أجنحة كلماته التي اختارها بعناية فائقة إلى قرية الشماصنة التي لم تسمع بها، ويجعلك تراها بعيون شخصياته أحياناً، أو بعينيه اللتين لا تتركان شبراً فيها دون وصف، في معظم الأحيان... إنك ترى تلك القرية وتحبها، وتتمنى لو أنك زرتها، ليس في زمن وقوع أحداث الرواية فقط، بل حتى بعد قراءتك لها، لتنعم برؤية كل تلك المناظر الآسرة، ولتسمع كل تلك الأصوات العذبة، أصوات الطبيعة البكر، سواء في الجبل حيث يقف شامخاً دير الراهبات المنعزلات، أو عند الجسر حيث أقام يعقوب وبناته...
وما ذلك إلا لأن المؤلف يأسرك بوصفه الحي للجمال المكاني الذي رآه، أو ربما تخيله، في قرية الشماصنة، ونجح في نقله لك عبر كلماته حتى جعلك تشعر وكأنك تلمس كل جزئياته، وتتمتع بتجلياته الرائعة بكل حواسك، بعينيك وأذنيك ويديك وأنفك … فأنت تكاد تلمس هذه الجزئيات وأنت تقرأ وصفه لدير الراهبات، ثم للمكان الذي بنى عنده يعقوب بيته القصبي، ثم بيته الحجري، كما تكاد تلمس هذه الجزئيات أيضاً، وأنت تقرأ وصفه لبيت سليمان عطارة، وبيت العجوز السوداء، وللحمَّام الذي صنعته بنات يعقوب عند نبع الماء الدافئ...
ويأتي الإنسان بعد ذلك ليأخذ من المكان بعضاً من سحره العفوي الآسر، ثم ليردّ إليه جزءاً مما أخذ وقد أضفى عليه من جماله الإنساني ما يجعله أكثر جاذبية وروعة، وبذلك تتحد الطبيعة بكل أجزائها الجامدة والحية، الحيوانية والنباتية والإنسانية، في كلٍّ رائع. يتحد التراب بالتراب في موسيقى متداخلة الألحان تتبدى على صفحة متنوعة الألوان، لا يستطيع أي مُشاهد لها، فَصْلَ أجزائها عن بعضها، فالكل في واحد رغم تميزه عن البقية، والكل يأخذ بعض جماله من المحيط الذي حوله، ويعطي بدوره جزءاً من خصوصيته لمن أخذ منه.. نلاحظ هذا بوضوح في تلك اللوحة الرائعة التي رسمها حسن بكلماته للعلاقة التبادلية للجمال بين سحر طبيعة الشماصنة وبنات يعقوب الفاتنات. حتى لتحار، وأنت تقرأ ما كتبه عن الطرفين، متسائلاً: أكان المكان هو سر تفتح جمالهن، أم كنَّ هنَّ السبب في جعله أجمل مما كان عليه قبل قدومهن؟
لقد كنَّ، في البداية، في حال مزرية، وكان جمالهن منطفئ القدرة على الإغراء والجذب، قبل أن يغتسلن بماء النهر حيث بنى أبوهن كوخه القصبي. فهاهن لحظة دخولهن قرية الشماصنة يمشين خلف أبيهن المتعب (بأطوالهن المتفاوتة، ووجوههن الشاحبة، يمشين على الدرب المترب بأرجلهن الحافية.. يمشين كالأسيرات لا يلتفتن ولا يتكلمن... بشفاه مطبقة، ووجوه مغلقة، وقد أخفى الغبار والتعب لمعان وجوههن، وبياض بشرتهن وحمرتها..)( ).
هكذا كُنَّ حين قَدِمْنَ على قرية الشماصنة، ولكن ما إن اغتسلن بماء نهرها حتى صِرْنَ خلقاً آخر، فقد (بَدَوْنَ بوجوههن اللامعة الصافية المحمرة، وخطاهن القصيرة الرشيقة، وكأن الاغتسال أتى على آخر مظاهر التعب، والرخاوة، واللامبالاة.. بَدَوْنَ له ـ أي لأبيهن ـ وقد رحن يتراكضن، وأنوثتهن طافحة، كأنهن ربات جمال هبطن فجأة من العالم العلوي لمباركة كل شيء يصادفنه أو يلمسنه أو ينظرن إليه..)( ).
نعم، إنها قدرة فنية متميزة تتجلى في نَسْجِ نوع فريد من العلاقات بين بنات يعقوب والمكان الذي جئنه، أي بين الإنسان والمكان، يقوم كل طرف منهما، في إطاره، بإضفاء بعض جماله على الطرف الآخر، ليصبحا معاً، في النهاية، كلاً جمالياً واحداً، أكثر جمالاً وروعة.. فكما جعلهن المكان بمائه العذب ربات جمال، أضفين، بدورهن، على روعته روعةَ الوجود الإنساني الرقيق ممثلاً بالأنثى الباديةِ الجمال..
وبعد، ثمة سؤال لابد أن يخطر على البال في ثنايا الحديث عن المنفذ المكاني إلى عالم الرواية، وهذا السؤال هو: لماذا هذا الإلحاح على التطويل في وصف المكان؟ هل السبب فني محض أم أن له صلة ما بمضمون الرواية، وما عساها تكون هذه الصلة؟
يُخيل لي أن الهدف أبعد من أن يكون فنياً صرفاً، بل ثمة هدف آخر أو ربما عدة أهداف، قد يكون أولها وأهمها:
استحضار المكان الذي تعرَّض يوماً لدنس الاحتلال، وتجسيده بالكلمات في مخيلة القارئ ووجدانه، في صورته النقية الأولى، وذلك بهدف تخليده في ذاكرته، وتخليد معالمه الأصيلة التي عملت يد الاستعمار الصهيوني على تغييرها، عبر السنوات الماضية، بل على طمس هذه المعالم بطمس الهوية العربية للمكان العربي.... لكأن حسن أراد أن يقول لكل قوى العدوان التي اغتصبت المكان العربي فيما بعد، إن ذاكرة الإنسان العربي ستظل محتفظة بالصورة القديمة لبلاده، صورة النقاء المكاني البكر قبل أن تدنسها مطامع الاحتلال، أو بصورته كما يرسمها حسن بكلماته الشاعرية: (دنيا أولى، عفوية، أرضها بساط من العشب الدائم الخضرة، وأطرافها أشجار بالغة الطول، متعددة الأشكال، زاهية الخضرة، وسماء تدلي غيومها بلطف كالستائر الشفيفة)( ).
هذا هدف، وثمة آخر، قد يوحي به التدقيق في أوصاف المكان الواردة في الرواية، وهو إثارة الحب لهذا المكان في نفس القارئ العربي، وجعله يتحرق شوقاً إلى إعادته لما كان عليه من جمال نقي صاف عفوي، قبل تَدَنُّسِه برجس الاحتلال..
وثمة هدف ثالث يتصل بسابقَيْه، هو تكريس الصورة الجذابة للمكان في وجدان القارئ، لدحض الزعم الصهيوني القائل بأن أرضنا العربية، قبل قدوم الهجرات اليهودية إليها في ثمانينات القرن الماضي، كانت أرضاً (خربة خالية)، كانت (مزارع للشوك والحجارة)، كما يزعم الشاعر الصهيوني (ناتان ألترمان)، والروائي الصهيوني (شموئيل يوسف عجنون) اللذان ينسبان كل ما تتمتع به الأراضي العربية المحتلة من جمال إلى جهود المستوطنين اليهود الذين احتلوها، وما هذا بصحيح… كأن حسن أراد أن يرد على أمثال هؤلاء الأدباء، بأن الأرض العربية كانت آية في الجمال منذ أقدم العصور، وبأيدي العرب الذي هم من بنى ليعقوب بيته الحجري، في حين لم يستطع أن يبني هو بجهوده الخاصة سوى بيت تافه من قصب.... ولعل إعادة تاريخ أحداث الرواية إلى القرن الثالث عشر الميلادي، يؤكد هذه الرغبة لدى حسن، إذ يجعل الأرض العربية عروساً بهيجة الخضرة، منذ ذلك القرن، وليس منذ القرن التاسع عشر فقط، مؤكداً أن هذا الجمال الذي كانت تتمتع به تلك الأرض، لم يدنسه ويفسد حلاوته، سوى اليهودي الذي احتلها، ثم لم يتورع عن إفساد جمالها، طمعاً بالمال لا أكثر...

المنفذ الإنساني:
هو المنفذ الثالث، وربما الأهم، الذي يفتحه حسن حميد أمام قراء روايته للدخول إلى عالمها الثر... وهو لا يقل عن سابقَيه قدرة على الإيحاء بالكثير الكثير من الخيالات والأفكار والرموز الدالة..... ومنذ البداية يمكن القول إن حسن قد اعتنى بكل شخصيات روايته، حتى الثانوية منها، فلم يترك أي شخصية دون أن يساعد قارئه في التعرف عليها عن كثب، بل يكاد وصفه لشخصياته يتيح لهذا القارئ، في بعض مقاطع الرواية، تَوَهُّم القدرة على لمس الشخصية ورؤيتها ماثلة أمامه بلحمها ودمها... ومن خلال هذه القدرة على تقديم الشخصيات، ساعد المؤلفُ قارئَه على تكوين مواقفه، من تصرفات كل شخصية ومن طبيعتها، بدقة وواقعية..
ولعل من الجدير بالإشارة هنا، أن حسن، فيما عدا تقديمه لشخصيتي سليمان عطارة ويعقوب، يبتعد ابتعاداً كلياً عن تقديم أي شخصية أخرى كشخصية نمطية (stereotype). فحتى بنات يعقوب، قدمهن للقارئ العربي إناثاً من لحم ودم ومشاعر، إناثاً من الواقع، بل نجح في كثير من بدايات الحديث عنهن في جعل القارئ يعجب بهن، وينجذب إلى جمالهن. وحتى حين سقطن في هاوية الدعارة التي دفعهن إليها جَشَعُ أبيهن، ومن ثمَّ المرأة العجوز، فإن القارئ لا يملك منع نفسه من الإشفاق عليهن كشخصيات إنسانية أخطأت، لتحصد نتاج أخطائها عذاباتٍ طويلة وجدباً اختيارياً من الذرية...
ثمة ملاحظة أخرى تتصل بالشخصيات في الرواية، وهذه الملاحظة تتصل بالأبعاد الرمزية التي توحي بها كل شخصية... فقد استطاع حسن أن يرسم لشخصياته أبعاداً رمزية دون أن يمحو، أو يؤثر، ترميزها على أبعادها الواقعية.. بتعبير آخر قدم لنا حسن شخصيات روايته على مستويين: واقعي ورمزي في وقت واحد، دون أن يطغى أيُّ المستويين على الآخر، في أيٍّ من الشخصيات، اللهم إلا في شخصيتي يعقوب وسليمان اللتين أثقلت أبعادُهما الرمزية على ملامحهما الواقعية، الأمر الذي جعلهما تبدوان أقرب إلى الشخصية النمطية.. أما الشخصيات الأخرى، فقد كانت الإشارة إلى أبعادها الرمزية لطيفة وشبه خفية، في معظم الأحيان، إذ تشير إليها كلمةٌ عابرة هنا، أو حركة عفوية هناك، أو تصرفٌ تقوم به تلك الشخصية فيشفُّ قيامها الطبيعي به عن بعدها الرمزي. ولهذا فمن الضروري دراسة شخصيات الرواية على المستويين معاً، وهذا ما ستحاوله هذه الدراسة في السطور التالية...

إطلالة على الأبعاد الرمزية والواقعية لشخصيات الرواية
راهبات الدير
ثلاث فتيات جميلات اخترن العزلة في دير ناء، متنكرات لأنوثتهن بزي رهبان ثلاثة، لا كرهاً بالأنوثة، ولكن خوفاً من طامع تغريه عزلة الدير وبعده عن الأعين، بالاعتداء عليهن وإفساد ما نذرن أنفسهن له… ولم يكن اختيارهن العزلة نتيجة لكراهية الحياة والأحياء أيضاً، بدليل أنهن لا يفترن عن تقديم يد العون لكل من يحتاجها من سكان الشماصنة والقرى المجاورة لها، بل كان هذا الاختيار الصعب وسيلتهن التي اعتقدنَ فيها القدرة على تطهير أنفسهن من خطايا اقترفنها قبل دخولهن الدير، والمرقاة التي أَمَّلْنَ أن تعرج أرواحهن عليها إلى ملكوت الله ورضوانه. وقد ساعدهن دوام ملازمتهن لبعضهن على تحمُّل مشاق الطاعة، وعلى مقاومة إغراء الشهوات التي زُجت بينهن متمثلة بحنَّا الذي جيء به للقيام على خدمتهن، وهو لا يعلم، وظل جاهلاً، أنه إنما يقوم على خدمة ثلاث راهبات لا ثلاثة رهبان... ولم يحاول حسن، ولو عرضاً، أن يقدمهن لقرائه ملائكة فوق نداء شهوة أجسادهن للجنس الآخر، بل نراهن وهن يعانين الكثير ويكابدن الكثير، في محاولاتهن الحيلولة بين صراخ الشهوة في أجسادهن ونداء العفة في أرواحهن.. بل كان الصراع بين هذين النقيضين وسيلتهن للعروج إلى مراتب أعلى من الطهارة والعفة...
وفي أجواء هذا الصراع بين المادي والروحي، برع حسن في تقديمهن لقارئه وهن يتفتحن أمام عينيه، ببطء مدروس، كما لو كن ثلاث وردات... فهو، وبرشاقة أسلوبية، يأخذ هذا القارئ من يده، ليدخل وإياه إلى العالم الداخلي الخاص لكل منهن، فيراهن، ليس كإناث فقط تحت رداء الذكورة الذي تَخَفَّيْنَ تحته، بل يراهن وهن يُفكرن ويحلمن ويتعذبن كإناث.. يراهن وهن يُخطئن، ثم وهن يَتُبْنَ عن أخطائهن... يختلس معهن النظر إلى جسد حنا الرائع وهو يغتسل بماء النهر، ويشاركهن إحساسهن كإناث نذرن أنفسهن للعفة والفضيلة، رغم أنهن لم يستطعن منع هذه الأنفس عن تمني لمس جسد الرجل والتمتع به، ككل أنثى في هذا الكون... ثم يعجب بهن وهن يلتزمن حدود الفضيلة التي وقفن خلفها مختارات.. وحتى حين تقارب إحداهن الخطيئة، في لحظة ضعف بشري، متهالكة الإرادة أمام إغراء الجسد، لا يملك القارئ سوى أن يعذرها، لأن ما كانت تعانيه يفوق القدرة العادية للأنثى.
وبتناغم بديع بين طهارة الراهبات الثلاث وطهارة المكان الذي أقمن فيه، يوحي لك حسن بأنهن أهله الأصلاء... أصحابه الذين أَلِفُوه وأَلِفَهُم، منذ أقدم العصور... هو مثلهن في روعته وجماله، وفي طهارته أيضاً …. وهو مثلهن في تعففه عن كل ما يدنس جماله الأخاذ... إنه ما يزال مثلهن بكراً لم تمسسه أيدٍ قذرة، ما يزال نقياً، وقادراً بنقائه، على جذبك إليه لتكون الحبيب..
هذا هو المستوى الواقعي لشخصيات الراهبات الثلاث في الرواية، وهو، كما نلاحظ، مستوى قابل للتصديق من قبل القارئ... لكن لهذه الشخصيات الثلاث مستوى آخر غني بالأبعاد الرمزية التي لا تتضح لنا إلا إذا نظرنا إلى الراهبات، في الإطار العام لمضمون الرواية. عندها فقط نكتشف أنهن، مع الدير الذي أقمن فيه، يرسمن الصورة الأصلية للمكان وأهله. هذا المكان الذي أراده حسن أن يكون النقيض لما أراد يعقوب أن يجعل منه بعد قدومه إليه … فمن المفارقات الواضحة بين قسمي الرواية، إقامة الراهبات الثلاث في دير ناء كل ما فيه يوحي بالطهارة، وإقامة يعقوب وبناته في نُزُل سرعان ما تحول إلى ماخور لممارسة الدعارة وغيرها من ألوان المجون المرافقة...
بتعبير آخر: يكشف لنا التناقض الصارخ بين طبائع الراهبات الثلاث وطبائع بنات يعقوب الثلاث، عن صراع غير معلن، بين طهارة الأرض العربية وسكانها، قبل قدوم إسرائيل إليها، وقذارة الأهداف التي سعت الصهيونية إلى تحقيقها على هذه الأرض، من خلال إقامة إسرائيل فوقها..
يضاف إلى ذلك، نوع آخر من الصراع تشف عنه المقارنة بين الراهبات ويعقوب مع بناته، هو الصراع بين العلم والخرافة... فالراهبات كن يمارسن التطبيب بالأعشاب البرية، عن معرفة ودراية بفوائدها، إضافة إلى حب من يطببنه بها، بينما مارس يعقوب الطب طمعاً بالمال فقط، إضافة إلى جهله بكل ما يَمُتُّ إلى الطب من صلة. مارسَه عن طريق الادعاء، والتعويذات والتمتمات المبهمة التي كان يحاول إيهام المخدوعين فيه، من خلالها، بأنه طبيب حكيم ورجل مبروك ذو كرامات... وفي هذا إشارة إلى أصالة الحضارة العربية، بكل مقوماتها العلمية والأدبية والإنسانية، مقابل ادعاءات العبقرية غير المؤكدة التي تزعم العنصرية الصهيونية أنها وَقْفٌ على اليهود وحدهم... كما أن في هذه المقارنات إشارة رمزية أخرى إلى أكذوبة اليهودي حامل الحضارة إلى المنطقة..... تلك الأكذوبة التي زعمتها الصهيونية، في المرحلة الأولى من ظهورها. إذ يبدو الجاهل والمتخلف والمليء بالخرافات، في الرواية، هو اليهودي المهاجر وليس أبناء البلاد التي هاجر إليها... وإذا كان ثمة من صَدَّقَ يعقوبَ من بسطاء القرويين، فهذا لا يُعدُّ دليلاً مُؤَكِّداً لعبقريته، بل دليلاً على ممارسته الخداع واللعب بعقول البسطاء لابتزاز أموالهم والعبث بأعراضهم... لهذا، وإدراكاً من الراهبات لحقيقة يعقوب هذه، نلاحظ أنهن قد حَذَّرْنَ كثيراً من خداعه وسَعَيْنَ إلى كشفه، خصوصا أمام نساء القرية اللواتي كنَّ أكثر قابلية للانخداع بترهاته من رجالها...
(وعندما جاء يعقوب إلى المكان ازداد اهتمام الراهبات بالأطفال كثيراً، وبتعليمهم خصوصاً، ونشطت مرجانة ـ اسم إحدى الراهبات ـ كثيراً في الكشف عن فوائد الأعشاب، ودورها في شفاء الكثير من الأمراض. اجتمعت الراهبات بالنساء اللواتي يذهبن إلى يعقوب من أجل أن يرزقن بالمواليد، وتحدثن إليهن طويلاً، ومرات عديدة، بأن ما يفعله الرجل ضربٌ من الوهم، والسحر، والشعوذة، وفتحنَ أمامهن بعض الأوراق التي كتبها، وقرأن فيها كلاماً يثير السخرية والمرارة، وبيَّنَّ أن كثيراً من الحشائش التي يوصي بالتعامل معها سامة، ومضرة بالجسم، وتؤدي إلى العقم، وقلنَ إن الواجب يقتضي طرد الرجل لأنه خطير وعدو ومسيء)( )
حنَّا....
يكاد يكون دور حنا، على المستويين الروائي والواقعي، هو (دور المحرم المر)، كما وصفه المؤلف( )... وإذا كان ثمة ما يجمعه، على المستوى الواقعي، مع الراهبات اللواتي ظلَّ يجهل حقيقتهن الأنثوية، فهو أنه جاء أيضاً إلى الدير لنسيان مأساته العاطفية التي هدَّت نفسه ووجدانه. بتعبير آخر: هو عاشق من النمط الصوفي، خسرَ إلفَه الإنساني ممثلاً بأنثاه، فقرر الذوبان في عشقٍ أقوى وأعلى منزلة وأكثر قدرة على تخفيف معاناة العشق المادي الفاشل، فاتجه في عواطفه إلى الله، يطلب القرب منه وينشد في حضرته نسيان تجربة العشق الفاشل لواحدة من بني جنسه.. هذا على المستوى الواقعي لهذه الشخصية، ولكن ماذا عن مستواها الرمزي؟
يكاد حنا يكون، مثل الراهبات اللواتي جاء يخدمهن، رمزاً لطهارة المكان وأهله، ورمزاً لضعفهم كبشر في مواجهة شهواتهم أيضاً، ثم رمزاً لقدرتهم على الارتقاء، حين يريدون، فوق تلك الشهوات والبحث عن لذات أرفع وأعلى وأعمق، من خلال تجربة السباحة في ملكوت الرضوان الإلهي عبر التعفف عن الرذائل. بتعبير آخر: هو نموذج للبراءة الأولى التي يمثلها بعض سكان المنطقة العربية.. نموذج يعيد إلى أذهاننا شخصيات الحب العذري التي قضى أصحابها حباً.
يعقوب:
في وصفه له، يقدمه لنا المؤلف نموذجاً لشخصية مشوهة قبيحة ومنفرة، فهو (رجل قصير القامة، رثّ الثياب، أحمر الوجه، بارز الأنف والتجاعيد، وفي خريف عمره، يعرج على إحدى رجليه "من اليمنى تحديدا" خطواته أشبه بخطوات الكنغر، ذلك أنه يبدو في مسيره كأنه يقفز قفزاً، كتفه اليمنى أكثر انخفاضاً من كتفه اليسرى. يَتمطَّق بشفتيه لكأن شعرة أو بقايا طعام لا تزال عالقة في فمه، وهو عبثاً يحاول إخراجها طوال مسيره، يفرك بيديه، ويُرَقِّص حاجبيه بآلية عجيبة، ونظره جائل في كل ما حوله من نباتات يابسة، وطرية، وبيوت، وناس، وحيوانات، ووهاد، وأودية، وصخور)( ).
ممكنٌ القول: إن حسن رسم هذه الصورة المشوهة ليعقوب انطلاقاً من موقفه كعربي يحاول أن يلصق بعدوه كل الصفات السلبية عمداً.. ولكن هذا الحكم، قد يختلف، حين ننظر إلى المعين الذي متح منه، كمؤلف، صفات يعقوب الذي أراده رمزاً لإسرائيل... فكما أتوهم، كان حسن تحت تأثير قراءته لما يحفل به ملف الصهيونية وإسرائيل من جرائم بحق العرب ووطنهم. ورغبة منه في تجسيد تلك المحتويات الشائنة كلها، في شخصية يعقوب الذي أراده رمزاً للعدو الصهيوني، بكل شروره وسلبياته، وقع، دون أن يشعر، في مطب الشخصية النمطية، لدى رسمه لشخصية يعقوب، كما يبدو واضحاً في طغيان بنائها الرمزي على ملامحها الواقعية … وفي اعتقادي أنه كان من الأفضل رسم هذه الشخصية، بكل دلالاتها الرمزية التي أراد المؤلف إيصالها لقرائه، دون الابتعاد بها عن الواقع إلى حد تنميطها...
ولكن، غَلَبَ الموقفُ المسبَق للمؤلف قدرتَه على التحكم في أداته الفنية، فباشرَ تقديم شخصية يعقوب للقارئ تقديماً انفعالياً فجاً عن طريق سردٍ مباشر لملامحها القبيحة التي تَضَمَّنَها التقرير الوصفي الآنف.. وقد كان بإمكان المؤلف، لو ارتفع فوق موقفه المسبَق، أن يتجاوز هذه السلبية الفنية، وأن يصل في التأثير بقارئه، إلى أبعد مما أوصله تقرير وصف الملامح ذاك، لو أنه جعل هذه الملامح تظهر في حركية الرواية، عبر سيرورة فعل صاحبها وعلاقاته بالشخصيات الأخرى.
هذا على صعيد ملامح الصورة الجسدية لشخصية يعقوب، أما على صعيد الأبعاد الرمزية التي أعطاها المؤلف لهذه الشخصية، فإن أول ما يفاجئنا من هذه الأبعاد، غيابُ أصلها وهويتها القومية، إذ لم يقل لنا حسن ما أصل يعقوب، كما لم يخبرنا باسم المكان الذي هاجر منه إلى الشماصنة، بل وضعه أمامنا بهيئته المنفرة تلك، مباشرة، وذلك لحظة وصوله وبناتِه إلى الشماصنة...
صحيح أن الجمال المختلف لبناته عن جمال نساء المنطقة، وانفتاحهن على نحو غير مألوف في عادات الأنثى العربية، وخصوصاً في تلك الحقبة البعيدة من الزمن، قد يوحي بأنهن من مجتمع غربي أوروبي، ولكن هذا ليس مؤكداً. فقد يكون يعقوب وبناته من أي بقعة أخرى في العالم... وهنا قد يكون حسن قصد إلى إشعارنا بأن لا أصل لليهودي المهاجر، ولا وطن، بل وطنه الوحيد هو المكان الذي ينتفع فيه ويحقق مآربه، وبالتالي لا علاقة عميقة تربطه بأي أرض، ولا جذور له في أي مكان، فهو دائم الترحال، أبداً، من مكان إلى آخر.. وهذا وصف قد يتلاءم مع الوصف التوراتي لليهودي، على أنه بدوي، كما يتلاءم أيضاً مع التحليل اللغوي للفظ عبري المشتق من العبور، أي الترحال الدائم بين أقطار المعمورة، دون استقرار في مكان محدد، اللهم إلا إذا وجد في مكان ما مجالاً للنفع المادي...
وثمة إشارة عابرة أوردها حسن للإشارة إلى هذه السمة في الشخصية اليهودية النمطية، وهي الواردة على لسان الراهبات في الصفحة (91) من الرواية، حيث وصفن يعقوب بأنه لن (يزرع شجرة، أو يربي بقرة، أو بغلة لأنه لا يحب الارتباط بالأمكنة مهما طال فيها.. فيعقوب وأمثاله، ومنذ أن يُخلَق الواحد منهم تخلق معه جرثومة حب التنقل من مكان إلى آخر، وحب العزلة والانطواء، لأن الآخرين مثل الضوء يكشفون أعماقه ودواخله وغاياته الرخيصة..).
ونلاحظ أن حسن يحاول الغوص بعيداً في دواخل يعقوب وأعماقه، مسلطاً الضوء على غاياته الرخيصة التي لا يقف شرُّها عند حدود العرب الذين قابل حُسْنَ استقبالهم له ولبناته، بالتخطيط والسعي إلى ابتزاز أموالهم وإفساد أخلاقهم، بل طالت هذه الغايات الرخيصة حتى بناته اللواتي لم يتردد في استثمار جمالهن، من أجل جمع المال وتكديسه والسيطرة على شبان الشماصنة والقرى العربية المجاورة لها …
ولعل من الأبعاد الرمزية البارزة أيضاً، لشخصية يعقوب، ما يمكن توصيفه، تجاوزاً، بالبعد الصهيوني/الأيديولوجي، رغم أن زمن ظهوره روائياً، سابق لظهور الأيديولوجية الصهيونية... ويتجلى هذا البعد في إشارة حسن، أكثر من مرة، إلى المزج بين الديني والخرافي والمصلحي في التركيبة النفسية ليعقوب، وهو مزج مشهور في النسيج الأيديولوجي للصهيونية.... وبتعبير آخر: يتجلى هذا البعد بالإشارة إلى التوظيف البراغماتي للأسطورة الدينية التوراتية في السـعي إلى تحقيق المشروع الاستعماري للصهيونية فوق الأرض العربية. وهو توظيف لا يخفى على أي دارس للبعد الديني في الأيديولوجية الصهيونية التي أصرت على التمسك بالطروحات اللامعقولة لهذا البعد، وأدخلتها في نسيجها، رغم تناقضها مع ادعاء مهندسيها بأنها أيديولوجية علمانية؛ وقد كان مصدر إصرارهم هذا، إدراكُهم لقدرة العزف على وتر الوجدان الديني ليهود العالم، في تشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، أي أن علاقتهم بالدين كانت علاقة براغماتية ذات غايات استعمارية صرف.
ويعقوب القادم من الأسطورة الدينية التي لا يؤمن بها إيماناً صادقاً، بدليل تضحيته بحماره للإله بدلاً من التضحية بكبرى بناته، كما نذرَ، يخرج من هذه الأسطورة، بهيئته الرثة، والمنفرة، رمزاً لخرافة تفوُّقِ اليهود على سائر شعوب العالم، عبر ممارسته لمهنة الطب التي يجهل عنها كلَّ شيء. تلك الخرافة التي اخترعتها العقلية الصهيونية العنصرية، وَسَعَتْ، وما تزال، إلى تسويقها في كل مكان… وقد جعل حسن نهاية يعقوب متزامنة مع لحظة انكشاف سر تفوقه الخرافي بعلم الطب الذي لم يصدقه إلا السذج من سكان المنطقة العربية… وكأن حسن أراد بتلك النهاية أن يقول لنا، إن تفوق إسرائيل وَهْمٌ، وإن نهاية هذا الوهم ستكون هي نفسها نهاية إسرائيل التي ستأتي متزامنة مع لحظة انكشاف خرافة تفوقها، ذات المنشأ العنصري …
ثمة بعد رمزي آخر رسمه حسن لهذه الشخصية، وقدَّمه لقرائه بأسلوب إيحائي، عبر الإشارة اللمَّاحة إلى عجز يعقوب الجنسي الذي منعه من التواصل مع أي امرأة عربية، ممن أتيح له استباحة أجسادهن، رغم تحرقه الشديد إلى التواصل مع جمالهن الذي انكشف لعينيه، بحجة ادعائه القدرة على جعلهن يحملن.
فكما يغلب على وهمي، أراد حسن أن يوحي لقرائه، من خلال العجز الجنسي ليعقوب الذي يرمز، في الرواية، للكيان الصهيوني الدخيل على المنطقة العربية، أرضاً وسكاناً، بعجز هذا الكيان عن الاندماج فـي المحيط العربي، مهما بلغت درجة قوته، ومهما بلغت قدرته على الخداع. وهذا العجز سيبقى قائماً، حتى لو وافقَ بعض العرب، لهذا السبب أو ذاك، على اندماجه في نسيجهم المجتمعي والثقافي. والسبب في ذلك، يعود إلى كون العجز عن الاندماج كامن في التركيبة الانعزالية الخاصة بهذا الكيان العنصري الغريب عن المنطقة وأهلها، وهو ما يجد معادله الموضوعي، في الرواية، بعجز يعقوب الجنسي الذي حال دون رغبته في إنجاب نسل مدجَّن من اليهود المولودين من أمهات عربيات، الأمر الذي يعني، في النهاية، حتمية زوال هذا الكيان، تماماً كما زال يعقوب، لعجزهما معاً، على المستويين الواقعي والرمزي، عن مدِّ جذورٍ قوية لهما في الأرض العربية ومجتمعاتها على حد سواء.
ومن الأبعاد الرمزية والهامة أيضا لشخصية يعقوب، ذلك البعد المستوحى من كتاب السلطان الذي يحمله، والذي، بموجبه، استولى على الجسر، ثم ابتز المارين فوقه.. فبالإضافة إلى العلاقة الواضحة بين ذلك الكتاب ووعد بلفور الذي منحته بريطانيا الاستعمارية للحركة الصهيونية، هناك علاقة واضحة أخرى بين سيطرة يعقوب على الجسر والدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة، ذلك الدور الذي يُعدُّ الهدف الرئيس، إن لم نقل الوحيد، ليعقوب وإسرائيل، والذي يمكن توصيفه، على المستويين الواقعي والروائي معاً، بأنه دور ابتزازي، هدفه الغائي خدمة مصالح القوى الاستعمارية الكبرى في العالم التي رمز لها المؤلف، في الرواية، بشخص المرأة العجوز، كما سيتضح في سياق التحليل التالي لشخصيتها.
العجوز:
هي شخصية غامضة، تتبدى للقارئ، من وراء سطور الرواية، شخصية تنوس بين الخرافة والواقع، بين الوهم والحقيقة… ففي بعض مقاطع الرواية، قد يغلب على الظن أنها شخصية واقعية، من لحم ودم، ولكن هذا الظن سرعان ما يتبخر، حين نراها، في مقطع آخر، خارجة من ظلمات اللامعقول شبحاً ملفوفاً بالسواد والغموض، يقف وراء أطماع يعقوب، بقوى غير عادية من جهة، وتتناقض مع بلوغها أرذل العمر، من جهة أخرى… فما حقيقة هذه الشخصية التي يتداخل، في بنيتها الروائية، الواقعي بالرمزي، إلى حد يصعب معه الفصل بين مستوييهما، سواء في صورتها الظاهرية، أو في تصرفاتها وأهدافها من وراء هذه التصرفات؟
للوهلة الأولى، قد يتوهم القارئ أن هذه الشخصية يمكن أن تكون رمزاً للتوراة، أو للخرافة التوراتية التي تزعم الصهيونيةُ أنها تربط بين اليهودي والأرض العربية، وهذا ما ذهب إليه الشاعر طلعت سقيرق في قراءته للرواية( ). لكن مزيداً من التمعن في ملامح هذه الشخصية وصفاتها، تجعلنا أقرب إلى اعتبارها رمزاً للقوى الاستعمارية الغربية، صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في اختراع المشروع الصهيوني وتجسيده كياناً سياسياً، فوق أرضنا العربية. بل حتى شيبتها وقواها الخارقة التي لا تتناسب مع عمرها، تؤكد مثل هذا التصور لها، مقارنة بقوى الاستعمار الغربي، ولاسيما الاستعمار البريطاني الذي كان في مرحلة الشيخوخة أيضاً، حين بدأ زرعَ الكيان الصهيوني في أرض فلسطين...
وثمة دلائل أخرى، قد تكون أكثر قدرة على تأكيد صحة تصور هذه الشخصية كرمز للقوى الاستعمارية، ومن أهم هذه الدلائل ما يأتي في نهاية الرواية، بعد موت يعقوب الذي يُعدُّ، بالخان الذي أقامه عند حافة الجسر وبتصرفاته، رمزاً لتجسيد المرحلة الأولى من المشروع الصهيوني.
ومن هذه الدلائل، أننا نرى العجوز، بعد موت يعقوب قتلاً على يد أحد سكان القرى، تظل تشجِّع بناته على القيام بدورهن الرامي إلى حلِّ عرى الأخلاق، في النفسية العربية، عن طريق نشر الدعارة وممارستها، لابتزاز أموال سكان القرى العربية المحيطة بالخان، والذين يمكن اعتبارهم رمزاً، أو معادلاً روائياً لأبناء المجتمع العربي. ولعل مما يؤكد صحة هذا الدليل، أن نصفَ عائدات بنات يعقوب من بيع أجسادهن، بعد أن تحولن إلى عاهرات، كان يذهب إلى العجوز لقاء رعايتها لهن...
(في تلك الليالي الطويلة بمتعها، كانت العجوز الطويلة الناحلة تبارك ما تفعله بنات يعقوب، عبر ظهورات مختلفة. وكانت البنات يجعلن من رضاها اندفاعاً جديداً نحو منح المتع والأخذ منها، ونحو جمع الكثير من المال الذي ذهب نصفه إلى العجوز الساهرة على رعايتهن)( )!!!
تُرى ألا تُذكِّر هذه العلاقة المصلحية المتبادلة بين العجوز وبنات يعقوب الثلاث، بعد موته، بالعلاقة بين القوى الاستعمارية الكبرى في العالم وإسرائيل، وخصوصاً بعد تراجع الصهيونية التي خرجت إسرائيل من رحمها؟ بلى... ولعل هذا ما أراد أن يُعبِّر عنه الصحفي والمحلل السياسي الإسرائيلي (يوئيل ماركوس) بقوله: (إن الجيش الإسرائيلي، بقوته المطلقة لا النسبية، هو خط الدفاع الأول عن المصالح الأمريكية، في حوض البحر المتوسط)( ).
بنات يعقوب الثلاث:
رغم الكثير من الصفحات التي وقفها المؤلف على وصف جمالهن، ومغامراتهن الجنسية، أرى أن أختصر الحديث عنهن بالقول: إنهن المعادل النقيض، في الرواية والواقع، لطهارة راهبات الدير الثلاث ودورهن الإنساني. وهذا ما يشجع على اعتبارهن مجرد رمز لواحدة من أهم وسائل الصهيونية وإسرائيل، في سعيهما القديم الدائم، إلى اختراق المجتمع العربي على المستويين الاجتماعي والثقافي، وحتى على المستوى الديني أيضاً.
فتلك الفاتنات الثلاث اللواتي يختلفن في جمالهن عن جمال إناث الشماصنة، وكذلك في أخلاقهن، يمكن الزعم بأنهن يرمزن لفتنة الوسائل التي تبتكرها إسرائيل لغزو المجتمعات العربية، وتفكيك عرى تواصلها وقوتها من الداخل. لكن، على الرغم من كل ما يثيره في النفس هذا الدور الذي يمارسنه من قرف، لا يملك القارئ نفسه من الإشفاق عليهن، حين ينظر إليهن من زواية إنسانية، ليراهُنَّ من خلالها مجرد مخلوقات تمَّ اللعب بمصائرها، من قبل أقرب الناس إليها ـ أبوهن في الرواية ـ لتحقيق أهداف مادية لم تجلب لهن في النهاية سوى البؤس، ثم السقوط، في هاوية العدمية الأخلاقية والإنسانية وحتى المادية، حين صار اللصوص الذين يدفعون لهن، هم أنفسهم الذين يسرقون مدخراتهن، في النهاية، بالإضافة إلى العجوز، فقد كنَّ (عارفات بأن بعضاً من مالهن يُسرق...)( ).
ونحن نلاحظ أن الأنثى اليهودية عموماً تلعب، في الرواية، الدور ذاته الذي لعبته بنات يعقوب الثلاث فيها، مع اختلاف الأمكنة والأزمنة. نلاحظ هذا في شخصية (وردة) بنت سليمان عطارة التي استخدم أبوها جسدَها الجميل فخاً لإيقاع عباس صاحب المعصرة التي بدأ سليمان العمل فيها أجيراً لا يملك شيئاً من مالها، ليصير، بفضل جسد ابنته وردة، صاحبَها، ومالكَ كل أموال عباس الأخرى التي تنازل عنها لسليمان مقابل ذلك الجسد... وفي النهاية، حين هربت وردة لأسباب مجهولة، حزن سليمان عليها، لا كما يحزن أي أب عادي لغياب ابنته، ولكن (لأنها تركته وراحت تبحث عن مشروعها الخاص... لأنها لم تستطع فتح جميع القرى، وأخذ مفاتيحها وتسليمها له، وقد كان ينتظر ذلك منها، بما ملكت من جمال ساحر غير منظور من قبل!!!)( ).
أما (نانا)، بكر يعقوب التي قُتلت قبل مجيئه مع أخواتها الثلاث إلى الشماصنة، فعلى الرغم من كل الملامح الأنثوية الجميلة التي أضفاها حسن على وجهها، وعلى جسدها، فإنها بسلوكها الأخلاقي المنحل، وموتها قتلاً مع عشيقها، بيد زوجها الذي فاجأهما وهما يتعاطيان الجنس، في إسطبل الحيوانات، فوق الروث والشوك، ووسط روائح المياه الآسنه، نانا هذه، بالتناقض البادي بين جمال جسدها وقبح خُلُقها، وبسعيها وأبيها، إلى استثمار جمالها الأنثوي لجلب المال، تكاد تكون رمزاً لتجارة اليهود بنسائهن التي يقال أنهم اشتهروا بتعاطيها، لإفساد شعوب العالم، وحلِّ عرى الأخلاق بين أفراد مجتمعاتها..
سليمان عطارة:
رغم حرص حسن على نقل كل التفاصيل الصغيرة التي تميز هذه الشخصية، من الناحية الجسدية، في محاولة منه لتقديمها لنا شخصية واقعية من لحم ودم، يُخيل للقارئ الذي يعرف، ولو قليلاً، عن خلفيات المشروع الصهيوني وتاريخه، أن هذه الشخصية ترمز بوضوح إلى طلائع الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، في ثمانينات القرن التاسع عشر… تلك الطلائع التي مهد أفرادها لقدوم الهجرات اليهودية التالية لهم، وساعدوا ـ بمالهم ومعرفتهم واستغلالهم لطيبة سكان المنطقة العرب ـ تلك الهجرات اللاحقة على الاستيطان فوق الأرض العربية...
ولطالما تراءت لي الرغبة في المقارنة بين هذه الشخصية وشخصية أدبية معروفة في الأدب الإسرائيلي قبل قيام إسرائيل، هي شخصية الأديب (موشيه سميلانسكي) الذي اشتهر بلقبه العربي، (الخواجا موسى)، رغم عدم التشابه بين الشخصيتين من الناحية الجسدية.. فكما يروي سميلانسكي في سيرته الشخصية، كوَّن هو الآخر، كسليمان عطارة، في الرواية، الكثير من الصداقات مع العرب قبل قيام إسرائيل، وتعرَّف جيداً إلى البيئة العربية، مكاناً وإنساناً، كما تعرَّف على دقائق الحياة الأسرية العربية، حسبما تشـير إلى ذلك قصصه القصيرة.. وقد استفاد المهاجرون اليهود بعده فائدة كبيرة مما كتبه في هذه القصص، وخصوصاً في مجال التعامل مع سكان المنطقة، عبر التعرف على ثغرات شخصيتهم الطيبة التي نفذوا منها، في البداية.
كما يمكن أن يكون سليمان عطارة رمزاً لأصحاب الأموال من اليهود الذين اشتروا الأراضي العربية وهيؤوها لاستيطان موجات الهجرة اليهودية الكبيرة بعد ذلك، مثل المليونيرين اليهوديين مونتفيوري، وروتشيلد.
أما علاقة هذه الشخصية بجوديت/ابنة يعقوب، فتكاد تكون رمزاً لعلاقة يهود (الييشوف)( ) مع يهود (الكيبوتس)( )، في بدايات الاستيطان اليهودي لأرض فلسطين، فقد كان الود مفقوداً، بين الطرفين، بسبب الخلاف الأيديولوجي بينهما، كما يزعم مؤرخو الاستيطان الصهيوني، رغم حاجة كل طرف منهما للآخر...
رحمون
هذا الشاب العربي الذي قد يتوهم القارئ، في البداية، أنه سيكون طليعة المتصدين لمشروع يعقوب، وذلك حين يعترض موكبه مع بناته وحماره المتعب، لدى وصولهم إلى القرية، ثم يتوهمه ثانية مجرد شاب شبه أبله، حين نعرف من وصف حسن له بأن خيطاً رفيعاً فقط (يفصل ما بين العقل والجنون عنده. في أحايين كثيرة يبدو في منتهى العقل، وفي أحايين كثيرة أيضاً يبدو في منتهى الجنون والشطط...)( )، رحمون هذا، قد يخيل للقارئ، بعد أن يتتبع تصرفاته اللاحقة، أنه رمز للقوى المتعاملة مع العدو من أجل المال والشهوة… وقد تعيدنا تصرفاته إلى ذلك النموذج الفلسطيني الذي نجد أمثلة عليه، في الروايات الفلسطينية المبكرة التي تحدث مؤلفوها عن نمط من الشبان العرب الذين أفقدهم جمال الفتيات اليهوديات عقولهم، فأعطوهن، ومن أجل التمتع بأجسادهن، كل شيء؛ وربما لهذا صوره لنا المؤلف جسداً جميلاً بلا عقل، أو أقرب إلى السفه والبلاهة، لا طموحَ له ولا أهداف سوى إرواء نزوات جسده الجائع أبداً إلى المتع الحسية..
وما دمنا بصدد الحديث عن هذا النموذج من العرب الذين تعاطوا مع المشروع الصهيوني، في بداياته، بقدر كبير من اللاوعي، فلعل من الضروري الإشارة إلى أن رواية حسن لم تصور لنا وجود وعي شعبي بمخططات الصهيونية! فنحن لا نجد إشارات إلى مقاومين عرب لمشروع يعقوب الاستيطاني، إلا في نهاية الرواية، حين بدأ بفرض الإتاوة على المارين من العرب فوق الجسر.. وهؤلاء لم يقاوموه بدافع وطني بل انطلاقاً من شعورهم باستغلاله وابتزازه لهم، دون وجه حق، أي لأهداف شخصية مادية، وليس لأهداف وطنية...
وقد يكون هذا من المآخذ الهامة على الرواية، إلا إذا نظرنا إلى أحداثها بوصفها أحداثاً وقعت في القرن الثالث عشر الهجري، أي من منظور تاريخي، أما إذا نظرنا إلى هذه الأحداث بوصفها إشارات رمزية أراد لها المؤلف أن تكون معادلاً موضوعياً لبدايات الصراع العربي/ الصهيوني، فإن الأمر يختلف تماماً، إذ يكون المؤلف قد حذف، دون أي مسوغ، الإشارة إلى بدايات المقاومة العربية للهجمة الاستيطانية الصهيونية، تلك البدايات التي تجلت في الثورات العربية المتوالية ضد الاستيطان الصهيوني في فلسطين!!!

عصمان:
يصفه حسن بقوله: (رجل فراري كان يأوي إلى الجبل، غضوب، ذاق ريق بنات يعقوب، فقَبِلَ أن يعيش عنده حارساً ومأموراً لحركة الجسر)( ). وهو بهذا الوصف يمكن اعتباره، للوهلة الأولى، رمزاً للمرتزقة الذين دخلوا، في بنية العصابات الصهيونية الأولى التي تحولت إلى جيش إسرائيل، بعد قيامها. ولكن مزيداً من التمعن في تصرفاته، قد يُقرِّبه، في نظر القارئ، ليكون رمزاً لآلة إسرائيل العسكرية القوية التي تفوق قوى العرب مجتمعين. ولعل مما يمنح الكثير من المصداقية والواقعية لهذه الرؤية، رسم حسن لها بصورة القوة العمياء التي تطيع صاحبها دون تردد، وبوحشية بالغة نابعة من وحشية صاحبها...
وقد كان حسن واقعيا أيضاً، حين لم يجعل نهاية عصمان على يد أحد من سكان القرية أو القرى المجاورة لها، بل جعل موته نتيجة الإفراط في الشراب والسكر.. ذلك لو أنه جعل نهاية عصمان على يد أحد من العرب، لكان خرج عن الواقعية في تشكيل الدلالة الرمزية لهذه الشخصية، بوصفها رمزا لآلة إسرائيل العسكرية… لأن مثل هذه النهاية تعني وصول طرف عربي ما، على صعيد الواقع الراهن، إلى مرحلة التفوق على إسرائيل في قوتها العسكرية أو امتلاك ما يعادل قوتها تلك على الأقل... ولهذا جعل حسن تحطم هذه القوة نتيجة سُكرها بقوتها، رامزاً لهذه النتيجة بموت عصمان غرقاً بعدما أفرط في تعاطي الشراب، وبهذا يكون قد انتهى بنهاية صاحبه.. وفي هذه النهاية بُعْدٌ رمزي آخر يوحي به حسن لقرائه، وهو أن قوة إسرائيل العسكرية تابعة لوجودها، تحميه ما استمر هذا الوجود قائماً بمقوماته المعروفة، فإن زال وجودها، لأي سبب، فقدَتْ قوتُها العسكرية قيمتَها، نتيجة فقدانها لدورها ولصانع هذا الدور.

قراءة في دلالات البناء الفني للرواية:
بعد هذا الطواف في الجنبات المضمونية لرواية حسن حميد، أود أن أختم دراستي لها، بالتوقف قليلاً عند بنائها الفني، ليس بقصد بيان سمات هذا البناء من الناحية الفنية الصرف، بل بقصد استخدام تلك السمات كزاوية رؤية جديدة أُطل منها على المضمون الذي حواه، وهو ما يجعل من هذه الإطلالة قراءة جديدة لذلك المضمون، ولكن من الزاوية الفنية تحديداً.
في الواقع، نحن أمام محاولة فنية يطمح صاحبها إلى بلوغ حدٍّ أقصى من التطابق بين مضمون روايته وبنائها الفني.. وربما يكون منطلق هذه المحاولة، كما أتوهم، قناعة المؤلف بضرورة ابتكار صياغة فنية مغايرة، تكون متناسبة مع طرحه المغاير، لقضية مشهورة مثل قضية اغتصاب فلسطين التي يتمحور حولها مضمون روايته، بمستوييها الواقعي والرمزي.
ولعل أول سمات هذه المغايرة، يتمثل في اختيار قرية الشماصنة الواقعة إلى الشمال الغربي من طبريا، رمزاً لفلسطين التي تم اغتصابها، ثم رمزاً لفلسطين التي سيتم تحريرها من غاصبيها في النهاية… وقد ساعد هذا الاختيارُ المختلف لمسرح الأحداث مؤلفَ الرواية في التخلص من المباشرة في الحديث عن فلسطين وموضوع اغتصابها.
أما السمة الثانية، فتتمثل في اختيار القرن الثالث عشر الميلادي مسرحاً زمانياً للأحداث، الأمر الذي وفَّر للمؤلف منجاة من أسر الوقائعية الحدثية، إذا جاز التعبير، ومنحه القدرة على التحليق بحرية أكبر في عوالم التخييل التي حملنا إليها، دون أن يفصلنا تحليقه في هذه العوالم عن جذورها الراسخة في أرض الواقع؛ إذ كانت الأبعاد والدلالات الرمزية للأمكنة والشخصيات والأحداث، على السواء، تقوم بالربط المستمر بين مستوييها الواقعي والرمزي، على صفحة وعي القارئ، دون أن تترك لمخيلته أي فرصة للشرود بعيداً عما يعرفه عن قضية اغتصاب فلسطين وملابساتها.
ومن خلال هذا الاختيار الموفق للمسرحين المكاني والزماني، استطاع حسن عرضَ معظم شخصياته بعيداً عن المباشرة والنمطية التي لم يقع في مطبها، إلا في رسمه لشخصية يعقوب، كما أشرت في موضع سابق من هذه الدراسة..
سمة ثالثة لبناء الرواية الفني… وهذه السمة تتجلى في طريقة سرد الأحداث وترتيبها، وفي رسم الأبعاد الخاصة لكل حدث، والأبعاد الخاصة بالشخصيات أيضاً. فانطلاقاً من زعمه الذي فاجأنا به في مستهل روايته بأن هذه الرواية ليست من تأليفه بل هي مخطوط قديم عثر عليه، ظل حسن وفياً لهذا الزعم في بناء أحداث روايته وطريقة عرضها.. فلم يقسم الرواية فصولاً، كما اعتاد غيره أن يفعل، بل صبَّها في بناء يذكرنا ببناء المخطوطات المحقَّقَة... وهكذا راح يُتْبِعُ كل حدث رئيس يعرضه علينا، بعدد من التذييلات والتعليقات والتفصيلات التي تشبه الهوامش والحواشي المألوفة في أي مخطوط محقَّق. وقد أتاحت له هذه الطريقة، كما أتصور، النجاة من قسرية السرد المتواصل التي تفرض نفسها على الروائي، عادة.
كما ساعدته هذه الطريقة المستعارة من البناء البحثي، على هندسة بناء الأحداث وحركية الشخصيات فيها، بأسلوب اللوحات التي قد تبدو منفصلة ظاهرياً، ولكنها متصلة فنياً بخيط رفيع هو خيط المكان تارة، أو خيط الشخصية المتحركة فيه تارة أخرى. ولهذا لا نستطيع، مثلاً، اعتبار حديثه عن شخصية (نانا) البنت البكر ليعقوب التي قتلها زوجها، قبل هجرة أبيها إلى الشماصنة، حديثاً مقحماً في مثل هذا البناء الفني الذي اختاره حسن لروايته، ولكننا نفعل ذلك لو أنه اعتمد نموذجاً آخر لبناء روايته…
وسمة فنية خامسة، تتجلى في تغيُّر أسلوب القص، بتغيير شخصية الراوي أحياناً، وبالتنقل بين ضميري الغائب والمتكلم أحياناً أخرى، أثناء سرد الوقائع وملامح الشخصيات وصفاتها... فبينما نمضي مع المؤلف، في بعض مواضع الرواية، ونحن نتابع ما يسرده علينا من وقائع مرت بها هذه الشخصية أو تلك، من شخصيات روايته، إذا بنا نفتقده، فلا نجده، بل نجد أنفسنا أمام تلك الشخصية مباشرة، وقد بدأت تروي، بنفسها، جانباً من ماضيها أو تمنياتها...
نلاحظ هذا، على سبيل المثال، في انقطاع حديث إحدى راهبات الدير عن الراهبة ماريا، في الصفحة (57) من الرواية، لتأخذ ماريا نفسها مهمة الحديث عن عالمها الداخلي بأسلوب التداعي الحر، عبر البوح بما يثقل صدرها من هموم وعذابات، في حمى صراعها الدرامي بين العفة والخطيئة... وهي نقلة واقعية على الصعيدين الفني والمضموني معاً، لأنه من غير الممكن أن يتحدث إنسان عن العالم الداخلي لإنسان آخر، بنفس دقة هذا الآخر وصدقه في حديثه عن نفسه لنفسه.. ثم، ما نكاد نرتاح لبوح ماريا المباشر إلينا، حتى ينتقل السرد منها إلى المؤلف، ليكمل الحديث عن جانب آخر من حياتها في الدير، وهكذا...
ومن الملاحظ أن حسن، كان يقوم هو أو إحدى الشخصيات بسرد الجوانب الوصفية الخارجية لشخصية أخرى، ولكن حين يريد إضاءة العالم الداخلي لأي شخصية، كان يترك لها أن تتحدث، بنفسها، عن عالمها الداخلي، لأنها الأكثر معرفة به من أي مخلوق آخر.
وأخيرا، أعود إلى ما بدأت به هذه الدراسة، لأشير إلى سمة فنية سادسة تتميز بها رواية حسن حميد هذه، وهي أن البناء الفني الخاص الذي اختاره لها، أتاح أمام قارئه حرية العبور إلى عالمها من ثلاثة منافذ رئيسة: منفذ تاريخي، وآخر مكاني، وثالث إنساني. وهو ما يمكن توصيفه بجديد آخر خاص بهذه الرواية، حسب حدود معرفتي المتواضعة بالفن الروائي.
لكن أكثر السمات الفنية إثارة للاستغراب والجدل، في هذه الرواية، محاولة مؤلفها تقديمَ حكاية روايته، في جزأين لا رابط بينهما، كما يتوهم القارئ للوهلة الأولى… جزء اختص بعرض حياة الراهبات في دير الشماصنة، وجزء عرض فيه للأحداث التي بدأت بوصول يعقوب وبناته إلى هذه القرية…
ومع احترامي لما ذهب إليه الناقد طلعت سقيرق، في تفسيره لنوعية الصلة بين جزأي الرواية، باعتبارها محاولة لعقد مقارنة بين دين ودين، هما المسيحية واليهودية، نافذاً من خلال ذلك إلى القول: (وهنا نصل إلى مفصل في غاية الأهمية، يقول إن حسن حميد أراد أن يقول: هناك جمعٌ قائم بين العهد القديم والعهد الجديد. أنا أضع أمامكم صورة من هذا وصورة من ذاك، وأجمع كما تم الجمع في الكتاب المقدس، ثم أسأل: لماذا مثل هذا الجمع وعلى أي أساس يقوم..؟ إن الفروقات بين الدينين شديدة الوضوح. فإذا قلتم ما معنى أن أورد هنا اثنتين وتسعين صفحة عن الدير، فلماذا لا تسألون على أي أساس يقوم الجمع بين التوراة والإنجيل؟)( ).
أقول، مع احترامي لهذا الرأي، إن لي رأياً آخر، في تفسير ما يبدو انقطاعاً بين جزأي الرواية.. وقوام هذا الرأي الذي لا أجزم بصحته طبعاً، هو أن الرواية لا تعرض في جزأيها مقارنة بين المسيحية واليهودية، بقدر ما تسعى إلى تأكيد نفي أي صبغة دينية عن مشروع يعقوب في الشماصنة الذي يعتبر المعادل الرمزي للمشروع الصهيوني في فلسطين.. وهو نفي ينطلق من القناعة بأن كلا المشروعين مؤسسان على خلفية استعمارية/اقتصادية، بالدرجة الأولى، وأن اللبوس الديني الذي أضفاه كل من يعقوب والصهيونية على مشروعيهما، لم يكن أكثر من غطاء ذرائعي لتسويغ إقامة هذين المشروعين، على أرض، يدركان قبل غيرهما، بأنها أرض مغتصبة.. وهذا ما نجد إشارة واضحة إليه في المقطع الحواري التالي بين يعقوب وسليمان عطارة:
(“أترى الدرب يا سليمان، إنه يمحو آثار خطانا”!!
“هذا أحسن لنا يا يعقوب”!!!
“أحسن لماذا، وهل نحن لصوص يا سليمان”؟!
وينفي سليمان عطارة ذلك بمرجحة رأسه! ويعود يعقوب ويسأله:”ما السبب إذن”؟!
وبهدوء يجيب سليمان عطارة:”لأن الدرب ليس لنا”!!!)
“ماذا”؟!
ودون إجابة!! يدفعه سليمان عطارة أمامه، وهو يقول له: "فكر بالخان، وبكيسك الفارغ، يا يعقوب، ودعك من الأسئلة الموجعة"( )!!
بهذه العبارة الرمزية الموحية (فكر بالخان، وبكيسك الفارغ..) يكون المؤلف قد حدد نوعية الهدف من مشروع يعقوب الذي يرمز به، في الرواية، إلى المشروع الصهيوني، مؤكداً أنه هدف اقتصادي بالدرجة الأولى. ثم جاءت حكاية تضحية يعقوب بالحمار بدلاً من تضحيته بكبرى بناته شكراً للرب، لتكون الإشارة الرمزية الثانية إلى قناعة المؤلف بأن الصهيونية استخدمت الدين اليهودي كغطاء ذرائعي لأهدافها غير الدينية، دون أن يوضح المرامي البعيدة لهذا الاستخدام، والتي تمت الإشارة إليها قبلاً بالقول: إن الصهيونية قامت بالعزف على وتر الوجدان الديني ليهود العالم، بغية خلق حافز ذاتي لديهم يدفعهم للهجرة الطوعية إلى فلسطين.
في وهمي أن هذا التحليل ينسجم مع البنية المضمونية والمعمارية للرواية التي عاد المؤلف، في نهايتها، للإشارة بالرمز ثانية، إلى ذرائعية استخدام الدين في الأيديولوجية الصهيونية، حين جعل الأرض العربية وناسها من مسيحيين ومسلمين يلفظون يعقوبَ وبناته كدخلاء وليس كيهود، أي كمغتصبين وليس كأبناء ديانة أخرى، لاسيما وأن اليهودية واليهود موجودان في منطقتنا العربية، قبل أن تبدأ طلائع الهجرة الصهيونية بالقدوم إلى فلسطين، أواخر القرن التاسع عشر…
إذاً، فالإشارة إلى ذرائعية الاستخدام الصهيوني للدين اليهودي، تنفي أن يكون الهدف من الفصل الظاهري بين جزأي الرواية هو المقارنة بين المسيحية واليهودية كدينين، وبالتالي، يغلب على ظني أن هناك تفسيرات أخرى لهذا الفصل، يمكن أن يقود إليها تمعن مضمون كل من الجزأين معاً.
ومن هذه التفسيرات، أن المؤلف أراد استثمار الفصل بين جزأي روايته، كأسلوب فني، في الإشارة إلى حقيقتين هامتين تنسجمان مع الواقع إلى أقصى الحدود. أولى هاتين الحقيقتين هي تأكيد عروبة المكان وأهله، من خلال النفي الفني ليعقوب وبناته، أثناء الحديث عن الدير وراهباته، في الجزء الأول من الرواية. وهو نفي ينسجم مع الواقع تماماً، فهذا المكان كان عربياً، وكذلك سكانه، قبل مجيء يعقوب وبناته، وبقي كذلك بعد لفظه ولفظهن خارجه…
أما الحقيقة الثانية التي أراد المؤلف الإشارة إليها، من خلال الفصل بين جزأي روايته، فهي، كما أظن، السعي الصهيوني إلى تغييب الهوية العربية لفلسطين، أرضاً وسكاناً، في إطار سياسة التهويد الإسرائيلية... وقد أشار إلى هذا السعي في الجزء الثاني، من خلال تغييب الدير وراهباته، عن المسرح المكاني للحدث الروائي، إلا في ما ندر.. ومن خلال الربط بين هذين التغييبين للعرب، على المستويين الواقعي والروائي/الرمزي، أراد المؤلف أن ينفذ إلى تأكيد الحقيقة التي تقول: إن الهوية العربية لفلسطين وأهلها، لن تعود إلى الظهور مجدداً، إلا بزوال الاحتلال الصهيوني، لأن وجود أي من هذين الضدين ينفي وجود الآخر حتماً، وهذا ما أشارت إليه الرواية في نهايتها، عبر التلميح الذي يوحي به قيام أهل الشماصنة بإعادة تثبيت الجسر، وهو عمل يشير بدوره إلى أن سكان القرية قد أعادوا كل شيء فيها إلى ما كان عليه، فور زوال كابوس يعقوب وبناته. لنتابع معاً ما ورد في التذييل الأخير من الرواية:
(بدا كل شيء مثل الحلم، أو الكابوس الطويل. حلم له متعته ومخاوفه. حلم مثل المنجم فيه الثمين والبخس أيضاً، منجم واكتشف تماماً، لم يبق منه سوى الحجارة السوداء، والمقبرة، وآثار الخطى التي مشت تلك الدروب.. منجم لم يصرف أهالي الشماصنة عن مواصلة الحياة قرب النهر، وفي السهول، والأودية، مع الماشية، والأرض، والطواحين، ومعاصر الزيت، وكأن ما حدث لم يكن مقلقاً، أو لكأنه لم يحدث أصلا!!)( ).
وثمة تفسير ثان، يمكن إيجازه بالقول: إن المشروع الصهيوني، وإن نجح منفذوه في احتلال أجزاء من الأرض العربية، فقد ظلوا عاجزين، وسيبقون، عن احتلال أجزاء مماثلة من النفسية العربية ومن الوجدان والنقاء العربيين، ممثلَين براهبات الدير.. وبالتالي، فمهما طالت حياة هذا المشروع، في هذا المكان، فإنه لابد آيِلٌ، في النهاية، إلى زوال، لعجز مهندسيه ومنفذيه على حد سواء، عن تخريب اللب العربي النقي، وعن التواصل الحقيقي مع سكان المنطقة العرب الذين على الرغم من كل ما تطلقه إسرائيل من ادعاءات حول رغبتها في السلام معهم، تظل في نظرهم تجسيداً حياً للعدوان على أرضهم وثرواتهم ومستقبلهم… وهذا ما يرمز إليه انعدام لقاء يعقوب وبناته مع راهبات الدير، طيلة الرواية، وحصر العلاقة التي قامت بينه وبين سكان المنطقة في الإطارين الجنسي والمادي/الابتزازي فقط، لتظل مجرد علاقة عابرة أشبه ما تكون بالطفح على جلد التاريخ الحضاري والروحي للمنطقة....
وبعد، فإذا كان ثمة ما يوهم بوجود أي مقارنة بين المسيحية واليهودية، في الرواية، فإن هذا التوهم قد يتشكل، أحياناً، على أرضية المشاهد الجنسية التي تزخر بها الرواية.. أي أن المقارنة لا تنعقد بين دينين، بل بين سلوكين متناقضين، في الإطار الديني؛ أي بين تعاملين متناقضين مع الدين، الأول صادق وحقيقي، على الرغم من كل ما يكلفه من مجاهدة باهظة لشهوات النفس، والثاني ذرائعي لا يكلف صاحبه سوى اختراع المزيد من الأكاذيب وامتلاك القدرة على الخداع، في حين لا يفرض عليه أي مجاهدة لشهوات نفسه.. وهذا ما نستشفه بوضوح، عبر ملاحظة ندم الراهبات على مقاربة الخطيئة أو مجرد التفكير فيها، مصحوبا باستغفار حارٍّ للرب، ثم تتبع النقيض السلوكي عبر ممارسة بنات يعقوب للخطيئة كمهنة، لا تثير في النفس أدنى حرج أو تعذيب ضمير... ولأنهما سلوكان متناقضان، فصل المؤلف بينهما، كما فصل بين ممارسيهما، في الرواية... وهنا، قد لا يكون ثمة مفر من السؤال: هل كانت الرواية بحاجة فعلا إلى كل تلك المشاهد الجنسية المفصلة، لتقول ما أراد لها المؤلف أن تقوله، أكان المضمون سيصل إلينا ناقصاً، أو على غير ما أراد له المؤلف أن يصل، لو حذف بعض تلك المشاهد أو لطف من صراحتها الفجة؟

[/align]
انتهى الكتاب
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس