عرض مشاركة واحدة
قديم 14 / 07 / 2008, 21 : 12 AM   رقم المشاركة : [4]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثاني
التشكيك في مصدر القرآن


[align=justify]
التشكيك في المصدر
التشكيك في مصدر القرآن مسألة على قدر من الأهمية والخطر ــ في نظر أصحابها ــ تفوق كل ما عداها. التشكيك يهدِّد الدعوة من أساسها، فهم إذ يحاولون نفي المصدر الحقيقي ونسبته إلى مصدر بشري ــ سواء كان الرسول نفسه أو آخرين ــ إنما يسعون إلى نفي النبوة عن محمد عليه السلام، ومن ثم إبطال الدعوة. فالدين الإسلامي يقوم في الأصل على رسالة نبي هو محمد عليه السلام. فإذا قيِّض لهؤلاء القدرة على أن ينفوا عن القرآن مصدره الحقيقي انهار البنيان كله. وهو ما سعت إليه قريش وأعداء الدعوة من معاصري الرسول، ثم من بعدهم سائر خصوم الإسلام حتى يوم الناس هذا.
يرد القرآن على دعاوى المشركين واليهود مكذّباً ما ادّعوا، وداحضاً ما زعموا بقول قاطع مفحم:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان:4-6)
وآيات أخرى في السياق ذاته، منها:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد:24)
إنه لمما يثير الدهشة في العقول والخشوع في القلوب والنفوس أن نرى أن ما ورد في هذه الآيات من وصف لهؤلاء ما برح ماثلاً أمام الأعين، منطبقاً ـ كوصف لحالة قائمة دائمة ـ كأنما تنزل الوحي بها في زمننا هذا. المشككون المكابرون ما برحوا سادرين في غيهم، وما انفكوا عن الظهور في دنيانا على مرّ الزمان. أقوالهم هي هي، وذرائعهم الباطلة وحيثياتهم المراوغة لم تتغير في جوهرها، وإن هي تمثلت في كل عصر وحقبة بما كانت أو تكون عليه معطيات تلك الحقبة وذاك العصر.
يقول محمد عبد الله الدراز:
(هل أدل نفسياً على انفصال شخصية الوحي عن شخصية الرسول من مخالفة القرآن لطبعه، وعتابه الشديد له في مثل هذه الآية؟ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (لأنفال:67-68)
(فلو أنك تأملت فيما عاتبه الله عليه، وهو قبول الفداء من أسرى بدر، لكان اقرب إلى نفسه الكريمة، وطبعه الرحيم، وهو خير ما يختاره من عرف برحمة أهله وهداية قومه، وتأليف خصمه. وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية. فهل ترى في ذلك ذنباً يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية، ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب( )؟
وكل هذا مما يفنِّد المزاعم القائلة بأن القرآن من آيات العبقرية المحمدية.
(يجب أن ننفي عنه صلى الله عليه وسلم هذه الصفة إطلاقاً إن كانت العبقرية كما قال كرتشمر ـ أحد علماء النفس ـ تقتضي العبقرية لزوم عنصر المرض النفسي كعامل جوهري في شخصية العبقري، بحيث لو فرضنا أن صاحبه يستطيع التخلص منه ـ بوصفه مرضاً ـ لكانت النتيجة المحتومة أن يفقد عبقريته)( ).
منذ بدء الوحي القرآني إلى نهايته نجد أن النبي عليه السلام لم يتحدث مع الذات الإلهية كما كان الحال مع موسى وعيسى عليهما السلام. كما أنه لم يحدث إطلاقاً أن وقف مناجياً ومحاوراً الله تعالى. أي أن القرآن كان فريداً في هذا المساق.
وشخص الرسول حين يرد في مواضع من القرآن لا يرد إلا في صورتين. فإما أن يكون مخاطباً وإما أن يكون في موضع المتحدَّث عنه. في الحالة الأولى كقوله تعالى:
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (الإسراء:22)
(عفا الله عنك
(فأعرض عنهم وتوكل على الله
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن
والخطاب في الآيات التي تبدأ بلفظ الأمر »قل«.
وفي الحالة الثانية كقوله تعالى:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
يقول الأستاذ محمد الفاضل:
(نجد حضور ذاته العلية من خلال نصوص التوراة والإنجيل حضور المخاطّب المتوجَّه إليه بالدعاء أو المناجاة أو حضور المتحدَّث عنه بطريق الحكاية والتبليغ لتعريف الناس به ودعوتهم إليه. فكان للقرآن دون غيره من الكتب السماوية هذه الميزة الفريدة السامية باعتبار أنه (كلمة الله). أعني أن الله تعالى بذاته الجليلة هو المتكلم نفسه بالكلمة القرآنية كما يدل عليه ضمير المتكلم( ) كقوله:
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (الإنسان:28)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة:186)

* * *

المصادر المدَّعاة
منذ بعث الرسول محمد عليه السلام دأب أناس على التشكيك في مصدر القرآن، وإثارة الشبهات من حوله عن غير بيِّنة، مستخدمين منطقاً متهافتاً لا يصمد أمام الحقيقة والحجة الدامغة. كان هؤلاء دوماً، على أهبة أن يتقبلوا أي مصدر مدَّعى غير المصدر الذي جاء منه. بل هم يتقبلون الذهاب إلى أن محمداً نفسه هو واضع القرآن، أو نسبته إلى أفراد عُرفوا، في تلك الحقبة، متحنثين أو كهنة أو أحباراً. أما أن يكون من عند الله فلا..!
هو العناد إذن والمكابرة إلى حد الإصرار على الخصومة واللَّدد، حتى لو أُقنعوا بخطئهم. ولقد وجد أمثال هؤلاء في كل عصر ومصر. أي أنهم يرضون أن يتخذوا من الكذب لو عرض عليهم، حقيقة يصدقونها مراء، ضاربين عرض الحائط بأي حجة، رافضين منطق العقل، في الوقت الذي يدَّعون العقلانية، ويزعمون الموضوعية والعلم والمعرفة، فيما هم أبعد ما يكونون عن ذلك كله.
لقد كان القرآن موضوعاً ومصدراً لدراسات مستفيضة لم تتوقف على مرّ الزمن لكتابات واجتهادات في شتى ضروب المعرفة الإنسانية والكونية، مما أفضى إلى نهضة حضارية، للأمة الإسلامية بعد ذلك، انطلقت منه كأساس لبناء صرح عظيم لم يعرف له العالم مثيلاً في أي حضارة غابرة أو معاصرة. فالحضارة بمفهومها الأخلاقي وتعريفها الفقهي والإنساني لابد أن يكون (الإنسان) موضوعها وغايتها. الحضارة قيمة ومبدأ قبل أي شيء آخر. أما (الحضارة) التي تشمل ـ حسب فهمهم لها ـ وبما يتفرع عنها ويندرج تحت عنوانها، كالمخترعات والتقنية والعمران فهي (مدنية) وليست حضارة بالمعنى الذي أسلفنا. ففي المدنية ــ بما تملكه من أدوات ووسائل القوة المادية ــ ما يلحق الضرر بالإنسان بقدر ما فيها مما يعود عليه بالنفع. ومثال واحد على ذلك مما نشهده اليوم فيه الكفاية والدليل، هو تصنيع السلاح، بدءاً من الديناميت والبندقية حتى الصاروخ والطائرة الحربية والقنبلة الذرية التي قد تمحق البشرية ــ لو أطلقت من عقالها ــ فلا تبقي ولا تذر. وما نحسب أحداً يماري في أن المدنية المادية المعاصرة ــ بوصفها التقني والآلي والمعلوماتي ــ ملك للبشرية عامة، أقروا ذلك أم رفضوه، إذ هي نتيجة تراكمية للتطور العلمي عبر المسيرة البشرية مذ وجدت، في حين أن (الحضارة) خصوصية تختلف من أمة لأخرى ومن عصر لعصر. وعادة ما يكون (الإنسان) هو محور اهتمامها وهو مصدرها أو صانعها.
لقد سخّر الغرب العلم في حقل المادة، في كيفية التصرف بها والسيطرة على استخدامها واستغلالها لمصلحته. وحيثما تناقضت هذه المصلحة بادر إلى توظيفها في تدمير الآخر المتناقض معه. بحيث أضحت (حضارة) الغرب مصدراً للتعاسة والخراب والدمار لثلاثة أرباع البشر.
(المتحضر) لا يستخدم السلاح لتدمير الآخرين إذا هم اختلفوا معه فكراً أو عقيدة، أو تضاربت مصلحته المادية أو غيرها مع مصالحهم. ولكن هذا ما هو حادث اليوم تماماً. من ثم يمكننا القول إن الغرب (متمدن) ولكنه ليس (متحضراً).
وجدير بالذكر أنه حين يرد ذكر للإنسان والإنسانية، ــ في أدبياتهم ومفاهيمهم ــ فلا يرد على أذهان الغربيين سوى الغربيين أنفسهم، على أنهم هم الذين تنطبق عليهم وحدهم هذه الصفة. لكأن الآخرين ليسوا من بني الإنسان. ومن هنا كان التصنيف المتعسِّف السائد بتقسيم العالم والبشر إلى عوالم (أول) و(ثانٍ) و(ثالث). (شمال) و(جنوب). ناهيك عن التقسيم العنصري حسب ألوان الجلود والعيون.. والإثني والمذهبي.. إلى آخر ما هنالك مما تتفتق عنه أذهانهم وعبقرياتهم من تصانيف. المدنية الغربية ـ في حقيقة الأمر لم يواكبها تحضر إنسانها الغربي، هذا الذي سخّرها وسيلة للدمار ولتعاسة الآخرين، فيما انقلب هو نفسه ــ متسلحاً بها ــ إلى ما لا تتدانى إليه الوحوش الكاسرة.
وعود ـ بعد هذا الاستطراد الذي لابد منه ـ إلى صلب موضوعنا فنقول بأن علوم القرآن وحدها، وشروحه وتفاسيره شغلت حيِّزاً هائلاً لا مثيل له لدى أمة من الأمم أو في شأن كتاب من الكتب. ومازال الكثير منها بين أيدينا، أو مشتتاً على أرفف المكتبات في أرجاء العالم الفسيح. وإن يكن أكثر من هذا وذاك قد تبدَّد، أو أحرق، أو أغرق في حملات الحروب المعادية من صليبية غربية، ومنغولية وتتارية بربرية. أضف إلى ذلك ما تبدد في أيامنا الراهنة على أيدي التتار الجدد في بلاد الرافدين، وفلسطين وسائر بلاد الشرق.
وسنتعرض هنا لتلك المفتريات حول من زعموا أنهم المصدر لما جاء به محمد من قرآن، بعد أن أغضى هؤلاء عن نسبته لمحمد نفسه، مستدلِّين على ذلك بدعاوى غريبة، منها نسخ آيات لآيات سبقتها في النزول، فادَّعوا أن محمداً يبدل أقواله من حين لحين، وأن هذا دليل على أنها ليست من عند الله. لكن آيات نزلت للرد على هؤلاء في حينه منها قوله تعالى:
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:101-102)
ثم تأتي مباشرة بعد هاتين الآيتين، الآيات التالية رداً مفحماً على من زعموا بأن هناك من يلقن محمداً ما يتلوه عليهم في قوله:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (النحل:103-105)
الآية (103) ترد بجزم قاطع وبإفحامٍ بيِّن على تخرصاتهم. كأنها تقول لهم: كيف يعلِّم أعجمي لا يتقن العربية ولا يفهمها محمداً مثل هذا البيان العربي البليغ يا أهل البلاغة من قريش؟
وهنا ترد على الخاطر تساؤلات من قبيل:
ــ هل يمكن أن يرد محمد بآية كهذه ــ من عنده ــ على من كان يعلمه وهو هنا، وبالضرورة، لابد مقيم معه أو قريباً منه؟ ألم يخش محمد أن ينبري له هذا الغلام( ) الفذ غاضباً لكي يرد على الرد المهين له، ويفضح المسألة بحيثيات تعينه عليها قريش وتكافئه من أجلها؟ ولم لا يفعل ذلك ـ بحكم الطبيعة البشرية ـ مادام من يتلقى عنه قد تجاهله وتنكر له..!؟
ــ لو كان ذلك صحيحاً، فلماذا لا يظهر ذلك الغلام نفسه بهذا القرآن، وتصبح له في العرب مكانة ما بعدها مكانة، فضلاً عن أن يحظى بمجد أدبي وفكري غير مسبوق، عوضاً عن بقائه في الظل والخفاء مغموراً؟
ــ لماذا يدع الغلام الأعجمي (جبر) محمداً يستأثر من دونه بهذا الشرف العظيم الذي هو له في الأصل؟
ــ أين كان هذا الغلام الأعجمي مختفياً كل ذلك الوقت قبل إعلان محمد عن رسالته؟
ــ كيف لبث هذا ملقِّناً لمحمد آيات تناسب كل مقام وموقف ومناسبة على مدى سني البعثة، دون اكتشاف أمره في ذلك المجتمع الضيق. هل كان هذا ملازماً له كظله دون أن يراه أحد؟ وأين كانا يلتقيان؟
ــ مقابل ماذا كان يقدم هذه الخدمة لمحمد؟ ولماذا لمحمد بالذات دون غيره؟ ولو أنه قدمها لسادات قريش المتربصين والأثرياء في الوقت ذاته لكان ذلك أجدى وأنفع، ولابد أنه ملاقٍ عندهم من الحظوة ما لا يملك محمد مثلها، بل إنه لن يلقى مع محمد سوى المعاناة والمشاركة في النضال المرير حتى يلقي محمد وجه ربه. غلام كهذا ما الذي يدعوه إلى تقديم (روائعه وبدائعه) إلى الجهة الأضعف بين الفريقين؟
ــ لماذا لم يعلن عن نفسه بعد أن نجحت الدعوة وأصبح لها من القوة والمنعة والانتشار ما لها، وما كان ذلك كله إلا بفضله؟
لو شئنا الاسترسال في طرح التساؤلات لما وسعنا المقام، ولأتينا ولأمكن لغيرنا أن يأتي بالكثير من قبيلها. ولا يفوتنا ـ مع ذلك ـ أن نتوجه بسؤال آخر يقطع الشك باليقين. هو:
إذا كان هذا قد تيسر لمحمد مع الغلام على مدى السنوات المكِّية، فكيف تسنى له أن يواصله في السنوات المدنية، ثم تكون الآيات متجانسة على مدى ثلاث وعشرين سنة الآيات التي تشكل منها القرآن بمجمله في النهاية؟ هل صحب محمد الغلام معه إلى المدينة؟ والسور المدنية هي الأطول بين آيات الكتاب، وهي التي حوت التشريع وتنظيم العلاقات الاجتماعية، فضلاً عن متابعة الأحداث والوقائع المتتالية في مسيرة الرسول وصحابته من المهاجرين والأنصار. وفيها ما أدهش البشرية على الدوام بما حوته من الأحكام، سواء كنصوص بيانية لا سبيل إلى محاكاتها بلاغة وتركيباً وبناء، أو فيما تضمنته من فكر ومضامين علمية ومعرفية، أحاطت بسائر شؤون الحياة البشرية والمسائل الكونية، التي مابرحت تكشف الأيام عن مكنوناتها وتميط اللثام عن أسرارها.
هل استطاع ذلك الغلام الأعجمي اجتراح هذه المعجزات جميعاً ذاتياً يا أولي الألباب؟
ورقة بن نوفل والراهب بحيرة
أما فيما زعموا عن ورقة بن نوفل فهذه هي الحكاية:
جاء في كتب السيرة أن محمداً (عليه السلام) حينما جاءه الوحي أول مرة في غار حراء اعتراه خوف شديد. وذلك أمر طبيعي لا غرابة فيه. إذ هو ينظر بغتة أمامه ليجد في مواجهته كائناً يسدُّ عليه أرجاء الأفق. يدنو منه ليطلب إليه أن (يقرأ). يرتج عليه، ويجيب بأنه (ليس بقارئ).. إلى آخر القصة التي وردت في كتب السيرة، وذلك عندما تنزلت سورة (القلم) كأول ما تنزل به الوحي من قرآن على محمد بن عبد الله.
انطلق محمد عائداً إلى خديجة زوجه في مكة لينبئها بما وقع له، وقد كان هذا الذي وقع رهيباً، وحريّاً به أن يثير لديه الفزع والرهبة. بيد أنها هدَّأت من روعه وطمأنته إلى أن الله لن يخذله فهو الذي عرفت من أخلاقه ومناقبه ما عرفت.
(أبْشِر يا بن عمّ واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة. والله لا يُخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحِم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)( ).
(توجهت خديجة من فورها إلى ورقة الذي كانت تربطه بها صلة قرابة. كان الرجل طاعناً في السنّ. عُرف في قريش بالحكمة ورجاحة العقل. وكان يتعبَّد على طريقته، بعيداً عن نوادي قريش. قيل إنه تهوَّد في أواخر أيامه قبل ذلك. بعد أن استمع ورقة إلى خديجة لم تبْدُ عليه الدهشة، وإنما بدا عليه كمن كان ينتظر هذا الحدث. أجابها وهو مطرق إلى الأرض:
(قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. وإنه لنبيُّ هذه الأمة فقولي له فليثبت)( ).
عادت خديجة إليه تطمئنه وتقصُّ عليه نبأ ورقة وما حدثها به، ولكي تدفع عنه الخوف مما رأى وسمع. ثم أعلنت إسلامها فكانت أول النساء في الإسلام، كما أسلفنا( ).
ولم يلبث ورقة بن نوفل الطاعن في السن أن توفي قبل أن يعم انتشار الدعوة، فما بال القرآن الذي تنزل بعد ذلك؟ وأي دور واضح يمكن أن يعزى للرجل في شأن رسالة محمد، وفي أمر القرآن من باب أولى؟
(التقى ورقة محمداً يوماً، فيما كان الرجل يطوف بالكعبة فقص عليه محمد أمره فقال ورقة: إنك لنبيُّ هذه الأمة. ولقد جاءك الناموس الأكبر. ولتُكذَّبنَّ، ولتؤذينَّ، ولتُخرَجنَّ، ولتُقاتلَنَّ. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنَّ الله نصراً يعلمه)( ).
هذه هي كل الحكاية فيما يتعلق بورقة ابن نوفل. وما أوهاه من دور مزعوم، من قبل الخصوم، فيما يتعلق بالمسألة.
أما الجهة الأخرى التي نسبوا إليها تعليم محمد وتلقينه آيات القرآن فهو الراهب بحيرة. ودحض هذه الحجة ليس عسيراً على من شاء تبيُّن الحقيقة، بحسن نية ـ أو سوء نية ـ كما حدث ويحدث لبعضهم قديماً وحديثاً.
كانت مرة واحدة تلك التي التقى فيها محمد الراهب بحيرة يوم كان في صحبة عمه (أبي طالب) إلى بلاد الشام. وكان محمد غلاماً غضَّ الإهاب حينها. يقولون إن الراهب تبيّن فيه صفات وملامح كان يعرفها من الإنجيل الذي بشَّر بمجيئه من قبل. فأوصى عمه بالعودة سريعاً إلى مكة بابن أخيه خوفاً عليه من يهود. وهكذا كان. فأين هو دور بحيرة في الرسالة أو في القرآن الذي تنزل بعد عقدين أو نحوهما على محمد؟ وامتد أكثر من عقدين آخرين، هما زمن الدعوة. هل امتد العمر ببحيرة كل هذا الزمان؟ وهل التقى بمحمد طوال الوقت.. وكيف في زمن لم تكن فيه طائرات، ولا مواصلات، ولا هواتف، ولا فضائيات والمسافة بينهما من ديار الشام إلى مكة..؟ أليست قصة عجيبة هذه؟ كيف تابع بحيرة ـ إن لم يكن قد مات قطعاً ــ مع محمد الأحداث والوقائع التي كان بعض القرآن يأتي منجماً بحسبها، يعالج ويتناول كلاً منها في وقتها؟ وأنت إذا عدت إلى (أسباب النزول) سترى أن كثيراً من الآيات كانت متابعات شبه يومية، لا تتاح إلا لمن يعيشون معاً، في الزمان والمكان، إن لم يكن في بيت واحد..! فكيف له ــ مرة أخرى ــ مواصلة تلقينه آيات للمناسبات المختلفة والقضايا المستجدة؟


* * *

آراء مستشرقين
وإذا كان بعضهم أكثر اطمئناناً إلى شهادات المستشرقين الغربيين إذ هم يتصورون أن هؤلاء أكثر دقة في أبحاثهم، فهذا واحد منهم هو المستشرق الألماني (درمنجهام) يقول متحدثاً عن كفالة أبي طالب لمحمد عليه السلام بعد وفاة جده، وعن لقائه الراهب بحيرة:
(إنه لم يكن غنياً، فلم يُتّح له تعليم الصبي الذي بقي أميّاً طول حياته، ولكنه يستصحبه في التجارة، فيسيِّر القوافل خلال الصحراء، يقطع هذه الأبعاد النائية، إنه في إحدى هذه الرحلات إلى الشام التقى (بحيرة) في جوار مدينة بصرى، وأن الراهب رأى فيه علامات النبوَّة على ما تدل عليه أنباء كتبه.)( ).
وقد يرد هنا على الخاطر عديد من الأسئلة المماثلة ــ على نحو ما ــ لما ورد في مسألة الغلام الأعجمي. منها:
إذا كان لبحيرة الراهب مثل هذا العلم، وتلك القدرات الخارقة، فلماذا آثر بها محمداً على نفسه أولاً، وعلى سادة قريش ثانياً؟ لماذا لم يحاول أن يكتسب بما لديه جاهاً ومكانة لدى القوم؟ وما هي مصلحة بحيرة الراهب في أن (يمنح) محمداً قرآناً كان هو أولى به وأحق، وهو على دين مختلف مؤمن به ومقيم عليه كي يعينه على الدعوة لدين جديد غير دينه؟
سؤال آخر يرد على الذهن هو:
كيف عمد محمد ـ مادام الفضل للراهب بحيرة فيما أتى به ـ إلى التعرض إلى عنصر أساسي في معتقد بحيرة نفسه، دون أن يثير في الرجل من الضيق والحنق ما يدفعه إلى كشف المستور إزاء رجل ينكر عليه فضله؟ ألم تأت آيات قرآنية تصحح ما كان يعتقد النصارى في ذلك الوقت في مسألة الصلب؟ كهذه الآية التي تعارض معتقد بحيرة في مسألة الصلب تحديداً:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء:157-158)
ألم يكن حرياً بمحمد ألا يصدم بحيرة في معتقده. ألم يكن أولى به وأجدر أن يجامل الرجل، على الأقل، فيقره على ما يعتقد تفادياً لإثارة خلاف أو مشاحنة بينهما؟
أما اليهود فحين اتهموا مريم العذراء بما هي بريئة منه:
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (النساء:156)
فقد جاء القرآن يرد عليهم من جهة ويؤكد في الوقت نفسه تنزيه الله عن أن يكون له ولد الأمر الذي كان في جزئيته الأخيرة هذه ضمن معتقد بحيرة. فجاءت الآيات تقول:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (مريم:29-35)
وإذا كان لبحيرة أن يصبر على كل ذلك فإنه لن يطيق الصبر ابداً عندما يسمع محمداً يتلو هذه الآيات.. التي ستكون في هذه الحالة من عنده، أي من عند محمد لا من تعليم بحيرة:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة:116-118)
وهناك آيات كثيرة في هذا المنحى. فهل هذه الآيات لمحمد أم لبحيرة الراهب، أم إنها كلمات الله؟
غير أن هذه الافتراءات لم تتوقف على مرّ الزمان، وإن هي لم تصمد أمام نور الحق. وقد جاء أخيراً ــ فضلاً عن آخرين ــ المدعو سلمان رشدي ليضيف في روايته (آيات شيطانية) ضمن السياق اسم »سليمان« (كمعلم) لمحمد. ولسنا نعرف عن أي سليمان يتحدث. فلعله يقصد الصحابي (سليمان الفارسي)، وما ذلك إلا كيلا يبقى لعربي ـ حتى لمحمد نفسه ـ أي فضل أو دور في دين وحضارة وثقافة. لابد أن يكون المعلم والموجه والسيد للعربي دائماً أجنبياً..! وهي ذاتها مقولات دائمة للغربيين عنا. ينكرون تاريخنا الحضاري العريق، وما قدمته حضارتنا من علوم في شتى ضروب المعرفة نهل منها الغرب، وبنى عليها مدنيته القائمة ثم تنكر لها. وهذا القول ليس دائماً من عندنا. وإنما قاله كثيرون منهم.
يقول المفكر النمساوي (ليوبولد فايس) في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق)( ):
(ليس من الضروري أن نستشهد بآيات القرآن الكريم للدفاع عن موقف الإسلام من العلم أو بأحاديث الرسول. إن التاريخ يبرهن أنه ما من دين أبداً حثَّ على التقدم العلمي كما حثَّ عليه الإسلام. وإن التشجيع الذي لقيه العلم والبحث العلمي من الدين الإسلامي انتهى إلى ذلك الإنتاج الثقافي الباهر في أيام الأمويين والعباسيين ودولة العرب في الأندلس. وإن أوروبة لتعرف ذلك حق المعرفة لأن ثقافتها هي نفسها مدينة للإسلام بتلك النهضة بعد قرون من الظلام الدامس).
ويقول المفكر الفرنسي موريس بوكاي:
(على حين كانت تفرض القيود على التطور العلمي في بلداننا المسيحية، أنجزت كميات عظيمة من الأبحاث والمكتشفات بالجامعات الإسلامية. في ذلك العصر كان الباحث بهذه الجامعات يجد وسائل ثقافية عظيمة. ففي قرطبة كانت مكتبة الخليفة تحتوي على أربعمائة ألف مجلد، وكان ابن رشد يعلِّم بها. ولهذا السبب كان الكثيرون يسافرون من مختلف بلاد اوروبا للدراسة في قرطبة مثلما يحدث في عصرنا أن نسافر إلى الولايات المتحدة.. ولكم نحن مدينون للثقافة العربية في الرياضيات وعلم الفلك والفيزياء (البصريات) والجيولوجيا وعلم النبات والطب (ابن سينا) إلى غير ذلك..
(وبعد عصر النهضة في أوربا، كان رد الفعل الطبيعي أن يأخذ العلماء بثأرهم من منافس الأمس وهذا هو الثأر مستمر حتى اليوم..)( ).
أما الباحثة المؤرخة (زيجريد هونكه) المتوفاة (عام 2002) فتقول:
(إن الإسلام هو ولاشك أعظم ديانة على سطح الأرض سماحة وإنصافاً. نقولها بلا تحيز، ودون أن نسمح للأحكام الظالمة أن تلطخه بالسواد إذا ما نحَّينا هذه المغالطات التاريخية الآثمة في حقه، والجهل البحت به. وإن علينا أن نتقبل هذا الشريك والصديق، مع ضمان حقه في أن يكون كما هو)( ).
ولها كتاب قيِّم في هذا الصدد عنوانه: »شمس العرب تشرق على الغرب« تقول في مقدمته:
(أقول بمرارة، إن الناس عندنا لا يعرفون إلا القليل عن جهودكم الحضارية الخالدة ودورها في نمو حضارة الغرب. لهذا صممت على كتابة هذا المؤلَّف، وأردت أن أكرِّم العبقرية العربية وأن أتيح لمواطني فرصة العودة إلى تكريمها. كما أردت أن أقدم الشكر للعرب على فضلهم، الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصُّبٌ ديني أعمى أو جهل أحمق.
آمل مخلصة أن يحتَّل هذا الكتاب مكانه في العالم العربي أيضاً كسجل لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة)( ).
وتقول أيضاً:
(لقد صار العالم العربي ــ في قرون التخلف الوسطى للغرب ــ المؤسس لعلوم الكيمياء العضوية. ولم يتردد في امتحان الفروض اليونانية وإخضاعها لمقاييس النقد التجريبية، وكان معظمها لا أساس له سوى التخمين..
(إن إنجازات علماء العرب من أطباء وكيميائيين ورياضيين وفلكيين ومخترعاتهم هطلت على أوربا كالغيث على الأرض الميتة، فأصابها قروناً وخصَّبها في نواح متعددة.. لقد قدموا البواعث التي أشعلت الشرارة الأولى لإطلاق البحث العلمي الذي كان منذ القرن التاسع الميلادي مشلولاً ويكاد يموت خنقاً، وذلك بسبب عدم السماحة الكنسيَّة، والملاحقة والمنع والتحريم الذي فاق كلَّ حد.)( ).
وهناك آخرون غير (وليم موير) إما كانوا موضوعيين، أو كانوا مشيدين بالإسلام ونبيِّه منذ القرن الثامن عشر أمثال: كوسان، وسبرنجر، وبارتملي، وكاستري وغيرهم، أو كانوا ممن صرفهم عداؤهم عن رؤية الحقيقة، أو هم قد رأوها، ولكن تعصبهم أبى عليهم الإقرار بما انطوى عليه الإسلام من هدي للبشرية، ومزايا ومكونات قيمية إنسانية لا تحصى ولا وجود لها في غيره، سماوياً كان المصدر أم وضعياً لأنه ــ القرآن ــ جاء مكملاً لما سبقه من رسالات سماوية.
كان يكفي هؤلاء أن يروا كيف أن محمداً عليه السلام ساوى بينه وبين سابقيه من الرسل، وأن الإسلام يلزم المسلم الإيمان بمن سبق محمداً من الرسل قبل محمد عليه السلام، في حين أن أتباع الديانات الأخرى لا يقرون برسالته، هذا إن هم لم يتنكروا لها ويناصبوها العداء والكره ويبادروها الحروب.
وقد نذكر من بين هؤلاء، على سبيل المثال، مستشرقون ممن أساءوا إلى الإسلام ونبيه، بما اجترحوا من أكاذيب، وما حملوا من تعصب، فأنشأوا الكتب ودبجوا الدراسات في هجوه، وتعمدوا إساءة التفسير للقرآن، بحيث كانوا يخلصون إلى استنتاجات وتخرصات لا أساس لها، ولا تمت بصلة لما ترمي إليه آياته. كانت بحوثهم وكتبهم لا تقوم إلا على أساس من سوء الظن وخبث الطوية، وليس سوء الفهم وحده. من هؤلاء:
جولد زهر، وغولدكي، وبارتملي، وبيترسون سميث، وبيير باسكال، وجان داماسين، وتدجن، وفوستر وغيرهم وغيرهم كثير.
ومنهم من لجأ إلى العرض التاريخي المجرد كوقائع وأحداث في السيرة النبوية، كالغزوات ومسيرة انتشار الإسلام. من هؤلاء: ول ديوارنت، وبروكلمان، وأرنولد تويبني. وهناك من أفضت به دراسته للإسلام إلى الدخول فيه مثل ليوبولد فايس وروجيه جارودي وغيرهما. وقد ألف كل منهما عدداً من الكتب في الإسلام والدعوة له. من كتب ليوبولد فايس (الطريق إلى مكة) و(الإسلام على مفترق الطرق). ومن كتب جارودي (ما يعد به الإسلام).


* * *

بشارة الأناجيل بالنبي محمد
قد نفترض أن هؤلاء لابد قد اطلعوا على الأناجيل الأربعة (متى، مرقص، لوقا، يوحنا) إضافة إلى إنجيل (برنابا). لاريب أنهم فعلوا ذلك كأبناء مجتمع مسيحي في الأصل وثقافة مسيحية، ثم كدارسين باحثين من بعد ذلك، لاسيما وأنهم قد أزمعوا التصدي للدين الآخر (الإسلام) لأسباب ليست نزيهة عن الغرض لخدمة المستعمرين من جهة،وتعزيز التوجهات العدائية نحو الإسلام من جهة، وإن كانوا يدَّعون (البحث العلمي) المجرد، و(الحيدة) النزيهة في البحث.
مادام الأمر كذلك، فهم قد قرأوا إنجيل يوحنا وإنجيل برنابا بين ما قرأوا.
ولقد بشَّرت التوراة والإنجيل بمجيء محمد عليه السلام. ففضلاً عن أن القرآن يقول ذلك ـ وهم لا يأخذون بما جاء في القرآن بطبيعة الحال ـ فإن في نصوص الكتابين السابقين ترد هذه البشارة. ولكن كتبة الإنجيل والتوراة، فيما بعد، ولأسباب يطول شرحها ــ ليس هنا مكانها ــ، عملوا على طمسها وإخفائها.
يشير إنجيل (يوحنا) إلى نبيٍّ سوف يأتي بعد المسيح عليه السلام كما بشَّر بذلك المسيح نفسه. وهناك كتاب في هذا الشأن عنوانه: (بيير كليت ـ اسم بني الإسلام ـ في إنجيل عيسى عليه السلام ـ حسب شهادة يوحنا)، لكاتبه الدكتور أحمد حجازي السقا. هو مسلم كما هو واضح من اسمه، ولكنه اعتمد في دراسته المتخصصة على مصادر مسيحية وكتّابٍ مسيحيين. ولسنا هنا في صدد إيراد المباحث الضافية في هذا الكتاب في هذه المسألة. من النصوص التي أوردها الكاتب عن إنجيل يوحنا:
قال عيسى عليه السلام:
(إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد) [يو 13: 33-35].
(وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله باسمي، فهو يعلِّمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم) [يو 14: 26].
وفي مكان آخر يقول:
(إن لي أمور كثيرة أيضاً لأقول لكم: ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق. لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية) [يوحنا 16: 4-14].
وجاء في الإنجيل عن النبي الأمي المنتظر ما يلي:
(ويدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقول:
»اقرأ هذا«
فيقول لا أعرف القراءة. إشعيا 29/2).
قارن هذا النص بقول محمد عليه السلام عندما جاءه جبريل متنزلاً بالوحي الأول مخاطباً إياه بقوله:
»اقرأ«
فكان جوابه:
»ما أنا بقارئ«.
أما إنجيل برنابا( ) فلا تعترف به الكنيسة. ولهذا الموضوع ـ عدم الاعتراف به ثم إخفاؤه ــ قصة لسنا هنا بصددها، تتحدث عن ظهوره واختفائه بطريقة غامضة عام 1785. الكتاب بعنوان (نظرات في إنجيل برنابا المبشر بنبوة النبي محمد عليه السلام) (لمحققه محمد علي قطب ومترجم الإنجيل برنابا الدكتور خليل سعادة).
مما جاء فيه من الأمور الجوهرية كما يقول المترجم:
أولها: قوله أن (يسوع) أنكر ألوهيته وكونه ابن الله. وذلك على مرأى ومسمع من ستمائة ألف جندي، والسكان من رجال ونساء وأطفال. والثاني: أن الابن الذي أمر الله (إبراهيم) على تقديم ذبيحة للَّه إنما هو (إسماعيل) لا (إسحاق)، وأن الموعد إنما كان بإسماعيل. والثالث أن (مسيِّا أو المسيح) المنتظر هو (محمد). وقد ذكر (محمداً) باللفظ الصريح. وقال إنه رسول الله، وأن (آدم) لمَّا (طرد( )) من الجنة رأى مسطوراً فوق بابها بأحرف من نور: »لا إله إلا الله محمد رسول الله«. والرابع أن (يسوع) لم يُصلب، بل حُمل إلى السماء، وأن الذي صُلب إنما كان (يَهوذا) الخائن الذي شُبِّه به، فجاء مطابقاً للقرآن: »وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم«.

* * *

إنجيل برنابا
هناك معلقون من الغربيين يؤكدون تعمد إخفاء (إنجيل برنابا). فقد كان هذا الإنجيل موضوع أخذ ورد، وخلاف، بين فرقاء عديدين في الأوساط المسيحية من جهة ـ أي فيما بين الكنائس المسيحية ـ وبين بعض من اهتموا بالمسألة من علماء المسلمين. ويقال إن هذا الإنجيل أقرب ما يكون إلى الإسلام في مسألة التوحيد ـ الإله الواحد الذي لم يلد ولم يولد ـ وكون نبي الله عيسى عليه السلام ابن السيدة مريم العذراء، وضعته من غير أب، معجزة من الله بما يتطابق مع ما جاء في القرآن الكريم (من روح الله) الآية:
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (مريم:19-23)
كما أنه يبشر على لسان المسيح عيسى بن مريم عليه السلام برسول يأتي من بعده بالاسم. وقد صدَّق القرآن ذلك في قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (الصف:6)
وقوله:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (لأعراف:157)
وها هو الزمان نفسه يثبت صدق نبوءتين عظيمتين:
بشارة عيسى عليه السلام بنبيِّ من بعده اسمه أحمد (محمد) بدليل أنه لا نبيَّ جاء بينهما تحت اسمٍ آخر.
وإعلان محمد عليه السلام بأن لا نبيَّ بعده. وتأكيد ذلك بقوله تعالى له بأنه رسول الله وخاتم النبيين:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب:40)
ولم يظهر نبيٌّ بعده حقّاً وأبداً.
هذا قول الله سبحانه كيما يصدق على مرِّ الأيام..؟

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس