الفصل الثالث
التحدي المعجز بتفرد القرآن
[align=justify]
التحدي المعجز
يتحدى القرآن الكريم سائر البشر، في شتى العصور، تحدياً ما انفك قائماً دون أن تتسنى لأحد القدرة على ردّه وإبطاله. يقول تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:23-24)
تحدِّ واثق قاطع. فهل لعاقل أن يطلقه دون أن تكون لديه قناعة يقينية في صموده للتحدي؟ ألا يتوقع محمد أن يأتي أحد بمثله، لو كان هذا كلامه؟ لاسيما وأن الأنموذج المثال أمسى في المتناول بين الأيدي مما يتيح التعلم منه، والنسج على منواله. أي أنه لن يبدأ من فراغ أيضاً. وهذا تسهيل للمهمة متاح. وهو إذ يطلب إليهم، وإلى شهدائهم الإتيان بمثله فإنه يؤكد جازماً ـ في الوقت ذاته ـ بأنهم (لن يفعلوا). (لن) هنا تفيد المستقبل بغير حدود في الزمان. فالإخفاق مآلهم لو حاولوا. وهذا ما حدث فعلاً. فها نحن بعد نيِّفٍ وأربعة عشر قرناً نرى أن التحدي ما انفك قائماً. هذا على الرغم من رغبة أعداء الرسول، بل وسعيهم الحثيث إلى إبطال الرسالة وتكذيبها.
أسئلة كثيرة يمكن طرحها هنا:
لماذا لم يفعلوا؟
لماذا آثروا الاقتتال وخوض المعارك في بدر وأحد وحنين والأحزاب؟
ألم يكن أسهل عليهم لو اجتمع بعضهم إلى بعض وألَّفوا لهم سورة مثلاً؟
كان من شأن ذلك أن يوفر عليهم خسائر في الأرواح والأموال ما كان أغناهم عنها. ناهيك عن مهانة الهزيمة والخذلان. أم ترى أن ذلك كان متعذراً على قريش سيدة البلاغة في سائر بلاد العرب؟
إذا كان الكلام (القرآن) لمحمد فكيف عرف أن قريشاً سوف تعجز قطعاً عن ذلك..؟
ويمضي التحدي إلى مدى أكثر بعداً وأوسع شمولاً:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء:88)
ليس البشر وحدهم المقصودين بالتحدي، وإنما الجن أيضاً.
فلماذا عجز كافة الخصوم، على مرِّ التاريخ عن قبول التحدي؟
هل كان محمد واثقاً إلى هذا الحد من أن المستقبل لن يبطل هذه الدعوة المتحدية إلى حدّ المغامرة لو كان المتحدي واحداً من الناس؟
ويقول تعالى في آيات أخرى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (هود:13-14)
هذه التحديات سمعها بلغاء العرب فوقفوا حيالها عاجزين تماماً، وعلى مدى نيِّف وعشرين سنة من حياة الرسول، فراحوا من ثم يصفونه بالساحر حيناً والمجنون حيناً تبريراً لذلك العجز. ولو أنهم استطاعوا شيئاً غير ذلك لفعلوا.
ولا يغفل القرآن تصوير هذه الحالة فيقول تعالى مخاطباً نبيَّه:
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (يونس:16-17)
يطلب الله تعالى إلى محمد عليه السلام، في الآية الأولى، أن ينفي عن نفسه القدرة على ما نسبوه إليه، وأن يحاجهم بالمنطق، مذكِّراً إياهم بأنه لبث فيهم عمراً، نحواً من أربعين سنة قبل ذلك دون أن يدَّعي أنه رسول يتلقى الوحي عن ربِّه، فلماذا يأتيهم بهذا الآن؟ ثم يندد في نهاية الآية بحمقهم وسفه عقولهم في صيغة تساؤل استنكاري موجه إليهم: »أفلا تعقلون«. كما يصفهم في الآية الثانية بالافتراء على الله الكذب وأن ذلك جريمة لن يفلح مقترفها.
إنه إذن وحي يتلقاه الرسول. وهو مكلَّف بنقله إليهم وإلى سائر البشر. ولو كان مدعياً أو كان هو صاحب القول هل كان في حاجة لإعلان خوفه من (عذاب يوم عظيم) فيما لو عصى ربه إذعاناً لرغباتهم ومسايرة لأهوائهم كما نقرأ في نهاية الآية التالية:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس:15)
وهاتان الآيتان في السياق:
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (الطور:33-34)
لماذا لم يأت القوم بحديث مثله لينتهي الأمر، ولا يحتاجون، من ثم، إلى أن يعرضوا عليه المال والملك والجاه؟ كما أنهم لا يحتاجون إلى الدخول معه في صراع فكري ومجتمعي، ثم عسكري بعد ذلك، على مدى عقدين من الزمن وأكثر.
ونكرر تساؤلنا:
أما كان هذا أسهل عليهم، من أي شيء آخر، لو أنهم وجدوا إليه سبيلا؟
ولننظر إلى وقع هذه الآيات على النفس. وهل يمكن لإنسان ذلك العصر صوغها على هذا النحو؟ ذاكراً مواقع النجوم المجهولة ـ علمياً ـ يومئذٍ؟ ناهيك عن عظمة موضوع جواب القسم »إنه لقرآن كريم«. الآيات:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الواقعة:75-80)
يعلم القائل ـ وهو الله تعالى ـ أنهم حتى ذلك الحين لا يعلمون معنى القسم بمواقع النجوم لتخلف علومهم وقصورها يومئذٍ عن بلوغه.
والآيات التالية في المعنى نفسه:
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ. وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (التكوير:15-22)
يتلو محمد (عليه السلام) آيات التحدي هذه دون أن يداخله شك، أو تعتريه خشية من إمكان قبولهم التحدي واحتمال نجاحهم فيه. وها نحن نرى اليوم ما وصل إليه العلم في آفاق المعرفة، كما نرى آلافاً مؤلفة من الدارسين وعلماء اللغة واللسانيات، ومدارس بنيوية وتفكيكية ورمزية وما إليها، كما أن هناك أعداداً لا حصر لها من الجامعات وحملة الدرجات العلمية العليا كالدكتوراه، إلى جانب المفكرين والمبدعين في الشرق والغرب، وسائر أرجاء المعمورة، وبينهم الكثير من خصوم الإسلام الحريصين على الطعن فيه، وقد عجز الجميع تماماً كل هذا الزمن عن الإتيان بسورة أو حتى بآيات محدودة من مثله.
يقول المفكر الهندي وحيد الدين خان:
»إنه أغرب تحدٍّ في التاريخ، وأكثره إدهاشاً. فلم يجرؤ أحد من الكتاب في التاريخ الإنساني ـ وهو بكامل عقله ووعيه ـ أن يعلن عن تحدٍّ مماثل. إن مؤلفاً ما لا يمكن أن يضع كتاباً، يستحيل على الآخرين أن يكتبوا مثله، أو جزءاً منه. فمن الممكن إصدار مثيل من أي عمل إنساني في أي مجال، ولكن حين يدعي أن هناك كلاماً ليس في إمكان البشر الإتيان بمثله، ثم تخفق البشرية، على مدى التاريخ، في مواجهة التحدي، حينئذٍ يثبت تلقائياً أنه كلام غير إنساني، وأنها كلمات صدرت عن صميم المنبع الإلهي لا يمكن مواجهة تحدياته«( ).
* * *
محاولات التقليد
وقد حدث أن حاولت كثرة من الأقدمين التنطع للإتيان بما يرد التحدي القرآني. منهم لبيد بن ربيعة. فعندما سمع لبيد (وهو من أصحاب المعلقات) أن محمداً يتحدى الناس بكلامه قال أبياتاً علقها على باب الكعبة. وحين رآها أحد المسلمين أخذته العزة فكتب بعض آيات الكتاب الكريم، وعلقها إلى جوار أبيات لبيد الذي مرَّ بباب الكعبة في اليوم التالي، ولم يكن قد أسلم بعد، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى إنه صرخ قائلاً: (والله ما هذا بقول بشر. وأنا من المسلمين).
وأمثلة أخرى لأناس حاولوا مواجهة التحدي. من هؤلاء مسيلمة بن حبيب (الكذاب) وطليحة بن خويلد الأسدي، والنضر بن الحارث، وأبو الحسين الراوندي، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري صاحب كتاب (الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات).
إذا كان هؤلاء جميعاً وغيرهم كثير ـ وهم ليسوا أميين ـ بل شعراء وبلغاء، وأصحاب مواهب، قد أخفقوا إخفاقاً ذريعاً، فماذا يعني ذلك؟
الآيات التي وردت في القرآن متحدية قريش، لم تحدد شروطاً معينة، كالطول والقصر والمساحة. فهي لم تحدد مثلاً ـ كما يحدث في المسابقات لنيل الجوائز..! ـ شروطاً بعدد الكلمات أو الصفحات، أو عمر المتقدم للمسابقة..! وشروط المهلة للتقدم بالعمل..! أو أية شروط أخرى، بل جاءت على إطلاقها، مفتوحة دون قيود ــ في الزمان أو المكان ــ سوى أن تكون مماثلة للنص القرآني. حتى أنها لم تطلب إليهم سوى النظم على غراره. أي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثله شكلاً، حتى دون الالتزام بالحكمة والقيمة. والمضمون. ليس مطلوباً إلا النظم والأسلوب، وهم أهل اللغة والبيان. والقرآن فيه سور طويلة جداً كالبقرة، وآل عمران، والنساء (286-200-176 صفحة على التوالي) وفيه السور القصيرة جداً التي لا تعدو السورة منها السطر والسطرين (العصر، والكوثر، والنصر، والإخلاص). معنى هذا أن القرآن يتحداهم الإتيان ولو بسطر أو سطرين لا أكثر. ألا ما أسهل الأمر إذن؟ ويا لها من فرصة (تاريخية) متاحة لقريش، وسائر المناوئين المعارضين المنكرين، منذ ذلك الزمن البعيد وحتى يومنا هذا. هل عجزت الآلاف، بل الملايين المتكاثرة من هؤلاء، على مر الزمان، من عرب وعجم عن أن يأتوا بهذا السطر الواحد مماثلاً لسورة تتألف من سطر واحد؟
وقد حدث أن الذين قاموا بمحاولات في هذا الصدد مؤملين النجاح، عمدوا فعلاً إلى تقليد السور القصيرة تيسيراً للأمر. فماذا حدث؟ لقد باءوا جميعاً بالفشل الذريع والخذلان المبين.
فها هو ذا مسيلمة يقوم بالمحاولة، فتكون النتيجة هي هذه الفجاجات، من قبيل: (والشاة وألوانها، وأعجبها السواد وألبانها، والشاء السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد مرم المذق، فما لكم لا تمجعون).
وهذه أيضاً على شاكلتها:
(والمبديات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللافحات لفحاً، إهالة وسمناً، قد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه..!)( ).
أما سجاح فقد جاءت بما هو (أبلغ) من زميلها مسيلمة فقالت لهذا عندما سألها: أوحى الله إليك؟ ثم قرأت له:
(ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحشا)( ).
ويا سبحان الله، فلأنها امرأة جاءتها (آيات) خاصة بالمرأة..!
ولنلاحظ هنا أيضاً أنها اقتبست جزءاً من آية قرآنية هي /ألم تر كيف فعل ربك/ ثم أضافت تفاهاتها.
ومما قالته أيضاً:
(إن الله خلق الناس أفواجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن مقساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً نتاجاً)( ).
ومحاولة أخرى من هذا القبيل لابن الراوندي، وهي أن جماعة من الملاحدة دعته للقيام بالمهمة، فأخبرهم أنه يحتاج إلى سنة كاملة لإنجازها، وأن عليهم، من ثم، أن يتكفلوا بما يحتاجه خلال تفرغه هذه المدة ففعلوا. ولما عادوا إليه مستطلعين بعد نصف سنة، وجدوه مستغرقاً في التفكير، والقلم في يده، والأوراق الممزقة متناثرة من حوله. وعندها اعترف لهم، وهو في ضيق شديد وخجل، أنه أخفق في أن يأتي بآية واحدة تشابه آيات القرآن.
وإذا كان لابد من مثال شديد الوضوح فذلك هو أبو الطيب المتنبي، سيد الشعر وأمير البيان. ألم يكن الرجل مالئ الدنيا وشاغل الناس في زمانه؟ وربما هو كذلك حتى زماننا هذا. وقد أطنب الرجل في وصف نفسه لفرط ثقته واعتزازه بمواهبه الإبداعية البيانية إذ يقول مفاخراً:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقول اعتداداً:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم
لقد توفر للمتنبي من الأسباب ـ ما لم يتوفر لمن سبقه في مضماره ـ مما كان حريّاً بها أن تمكنه من النجاح في مسعاه ومبتغاه. فلقد جاء المتنبي وأمامه القرآن كاملاً بحيث يمكنه السعي إلى تقليده والنسج على منواله. ناهيك عن أنه جاء في زمن انتشار الثقافة العربية الإسلامية في سائر الأرجاء من العالم المعروف يومذاك. وكانت رفوف المكتبات تغصُّ بكتب الحديث والدراسات والأبحاث والعلم ـ ومنها علم الكلام ـ فكانت لديه، وبين يديه ذخيرة وفيرة هائلة، جديراً بها أن تهيئ له نجاحاً متميزاً. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، لم يخفق المتنبي في سائر حياته إخفاقه في ادعائه النبوة، الصفة التي غدت ـ برغم ذلك ـ لصيقة باسمه لا يعرف إلا بها، فهي إذن لم تكن شبهة أو اتهاماً ظالماً له من قبل شانئ أو حاسد، بل كانت نتيجة مسعى كان جاداً فيه كل الجد. لكأن الكلمة تحمل إيحاءً بمعنى السخرية من حاملها في مضمار لم يكن له من نصيب فيه سوى الخذلان. وربما لا يعرف أحد من الذي أطلقها عليه يومئذٍ.
نصوص المتنبي التي طلع بها على الناس، زاعماً أنها وحي من عند الله وأن الله اختاره نبياً، جاءت على قدر من التهافت في صياغتها والتدني في مضمونها ومستواها، لغة وبياناً على نحو لا يصدق إذا ما قورنت بشعره العظيم.
* * *
أمِّية الرسول
لمزيد من الإيضاح في هذه المسألة يمكننا أن نقول:
من الثابت أن محمداً (عليه السلام) كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب. عُرف بذلك بين قومه في مكة ذاتها. لم ينكر ذلك أحد من معاصريه ولم يجادل فيه أحد منهم. ولو كان الأمر غير ذلك لقالوه منذ البداية وأراحوا واستراحوا. فهو لم يذهب إلى مدرسة ولم يتلق العلم على يد أحد وإلا لواجهوه بذلك حين تنزلت به الآيات. كان هذا اسهل شيء عليهم لكي يكذِّبوا دعوته. وما كان في وسع محمد إخفاء الحقيقة عنهم في ذلك المجتمع الضيق المحدود، الذي يكاد أن يعرف فيه كل امرئ عن الآخر كل شيء. لاسيما وأنهم مجتمع المفاخرة بالعشيرة والقبيلة والصفات الشخصية، كما في الكتابة والأدب بالشعر، وما المعلقات وسوق عكاظ سوى أمثلة من ذلك.
نعرض لهذه المسألة ردَّاً على بعض معاصرينا ممن ذهبوا إلى القول بأن محمداً لم يكن أميّاً. وأن كلمة (أمي) في القرآن كقوله (النبي الأمي) وقوله (الذي جعل في الأميين رسولاً منهم) تعني (الأمميين) أي الأمم وليس جهل الكتابة والقراءة. ولكننا في الحقيقة لا نعرف أحداً يفاخر مدعياً بأنه (أمي) حين لا يكون كذلك. بل إنه لبديهي ومنطقي أن يفاخر المرء بعلمه ومعرفته القراءة والكتابة وليس العكس. فلماذا يصف محمد نفسه بالأمي إذا لم يكن أميّاً فعلاً. بل ماذا يفيد محمد من الإصرار على أنه أمي..؟ ما هي وجهة نظره في المسألة وماذا يضيره ــ لاسيما إذا كان القرآن كلامه هو كما يدَّعون ــ أن يكون متعلماً وقارئاً وكاتباً.؟ وهل يُنقص ذلك شيئاً من قدره أو قيمة ما جاء به..؟ أم أن العكس هو الصحيح؟
من المألوف عادة، ولدى الناس كافة أن يباهي الإنسان بنتاجه الإبداعي، الأدبي والعلمي، إن وجد. ويحرص على نسبته إليه دون غيره من الناس، حتى إنه ليدخل معارك مع الآخرين لو حدث أن تجاهلوا مصدره، وتجرأوا على انتحاله، أو حتى مجرد الاقتباس عنه، دون الإشارة إلى صاحبه. فلماذا ينسب محمد هذا الكتاب المعجز لغيره إذن؟ لماذا ينكره فيقول أنه ليس كلامه بل هو كلام الله؟ ولماذا يخرج على عرف إنساني معروف ونزعة بشرية مألوفة؟ إن المبدع ـ أيّاً كان مستوى إبداعه حتى لو لم يكن على درجة عالية ـ لا يرضى أن تنسب لغيره صفحة، بل عبارة، مما أبدع. وإذا ما حدث هذا فإنه يعدُّه (سرقة أدبية) يقيم الدنيا ولا يقعدها على رأس الجاني، وقد يقاضيه على ذلك.
إن معظم كتَّاب العربية اليوم ـ حتى الذين لا يؤمنون بالرسالة وبمصدر القرآن ـ يسعون إلى الارتفاع بمستوى كتاباتهم بما يضمنونها من آيات قرآنية أو مقاطع منها، ويسمون ذلك (تناصّاً) و(تضميناً). ونحن نرى اليوم أن الكاتب المجيد هو من تتلمذ على القرآن وتأثر به، فتكونت لديه ملكة البيان وإشراقة العبارة، وموسيقى الإيقاع. بل إن أعظم كتاب عصرنا من العرب ــ فضلاً عن العصور السابقة ــ من مسلمين ومسيحيين هم من تأثرت كتاباتهم بالقرآن. ونذكر من هؤلاء طلائع النهضة في بدايات القرن الماضي: رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، الرافعي، المنفلوطي، طه حسين، العقاد، باكثير، السحار، رشيد رضا، رشيد الخوري، خليل مطران، جبران، محمد حسين هيكل وغيرهم. كان أغلبهم من خريجي جامعة الأزهر(*)، الصرح الذي حافظ على اللغة العربية لأكثر من ألف سنة خلت.
ناحية أخرى جديرة بالانتباه نعرض لها. من المتعارف عليه أن الرجل هو الأسلوب، والأسلوب هو الرجل. قاعدة معروفة. وما من كاتب إلا ويُعرف بأسلوبه، فقاموسه وكافة أدواته من لغة وغيرها هي ذاتها التي يستخدمها في كل ما يكتب. وإذا حدث اختلاف أحياناً بين كتاب وآخر للمؤلف، فإن ذلك يعود إلى النوع ــ الجنس الأدبي ــ الذي يختاره الكاتب كالفرق بين نص مسرحي وآخر قصصي أو شعري، وتظل المسألة نسبية مع ذلك، بحيث يشي كل من هذه النصوص بأسلوب الكاتب الواحد ويدل عليه. ولكن الشيء المؤكد الذي لا جدال فيه هو أن الكاتب لا يمكنه أن يصدر عملين فيأتي الفارق بينهما في الأسلوب كما هو الفارق بين الحديث والقرآن. فكيف تأتَّى لمحمد أن يصطنع لنفسه أسلوبين متباينين إلى هذا الحد؟ فالحديث واضح في لغته، دالٌّ بنفسه على أنه ليس القرآن، ولا هو قريب منه في شيء، والقرآن كذلك مفارق للغة الحديث مفارَقةً بيِّنة وبائنة. هذا على الرغم من أن حديث الرسول عظيم البلاغة في مقاييس الكلام البشري. أي أنه على الرغم من بلاغته، ليس كالقرآن أبداً، لا من قريب ولا من بعيد. حتى أن أي ذي إلمام باللغة في وسعه التمييز بين الحديث والقرآن فور سماعه النص لسطر واحد أو عبارة واحدة، ليدرك للتو أنه القرآن أو أنه الحديث. وحين يصرُّ أحدهم ــ مكابرةً أو جهلاً ــ على أن كلاهما لمحمد، برغم الفارق بينهما، يتوجب عندئذٍ السؤال عما هي الحكمة في أن ينسب محمد لنفسه النص الثاني منزلة، والأول لغيره، أي إلى الله..؟ وهل هذا من صفات البشر، في فطرتهم وأحوالهم النفسية المعهودة عنهم؟ أليس القرآن ونسبته إليه مفخرة له تؤهله لأن يتيه بها على سائر الناس لو كان هو مبدعه؟
لماذا يتنصل محمد من نسبة ما جاء في القرآن إلى نفسه؟ أيّ مأخذ أو ضير عليه في ذلك لكي يتفادى نسبته إليه؟
لماذا لا يباهي القوم بعلمه وسعة اطلاعه حين يأتيهم بآيات تقص عليهم كل عجيب وغريب من أنباء الأولين، بل على العكس من ذلك يؤكد لهم بالآيات نفسها أنها ليست من لدنه. كما في الآية:
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (هود:49)
فهل استطاع أحد (من قومه) أن يتصدى لهذا القول بتكذيب، فيزعم أنه كان يعلم (قبل هذا) شيئاً من أنباء الغيب التي يقول محمد فيها أنها أوحيت إليه؟ بل إن الآية تقول لمحمد نفسه أيضاً أنه ما كان يعلم شيئاً من ذلك ولا قومه أيضاً. بصيغة أخرى يمكننا أن نتساءل:
لماذا لم يتصدَّ القوم لإنكار ما ورد في هذه الآية بشأن جهلهم فيعلنوا من ثم، عن علمهم بتلك الأنباء (من قبل) وأنه لم يأتهم بجديد. ما هو تفسير صمتهم المطبق إزاء تحدٍّ من هذا القبيل يدمغهم فيه بالجهل والافتقار إلى العلم والمعرفة؟
وإذا كان محمد سيوطِّد النفس على الصبر، كما تطلب الآية، فلماذا الإعلان عن ذلك؟ بل هو يمضي إلى أبعد من هذا حين يأتيهم بآية تزيد في إحراجهم وإفحامهم بصيغة السؤال الاستنكاري، مبتدئة بالتنديد بعدم تدبرهم وتفكرهم في هذا القرآن، ومصدره:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)
أين هم متعلموهم ومثقفوهم، بلغاؤهم وعلماؤهم لكي يتصدوا له ويثبتوا بطلان القول، إذ هم يعيشون الظروف نفسها، والمجتمع ذاته، بما في ذلك إلمامهم، بالضرورة، بمعارف العصر وعلومه أيّاً كان شأنها وكانت ماهيتها..؟
(أيُّ أميِّ في التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم، يقطع مرحلة الشباب وديعاً هادئاً لم يؤثر عنه علم ولا شعر ولا خطابة، ولا إبداع العباقرة، ولا وثبات الأبطال والزعماء ثم ينفتح في الأربعين على عالم حيث الله يدبر النظام، ويهيمن على أسراره، فيصلح أديان البشر: عقائدها وآدابها وشرائعها، ويحدث ثورة روحية اجتماعية لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية في سنٍّ لا يتأتى لمن بلغ مثلها أن يبتدئ أو يبتدع فيها علماً أو يسنَّ شرعاً أو ينهض في العالم بانقلاب عظيم ما لم يكن قد ظهر استعداده له، وأخذ مقدماته في ريعان الشباب؟)( ).
يقول تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (الجمعة:2)
هل ألف الناس أن يجدوا بين أظهرهم من يفاخر بأميته، لكأن في العلم والتعلم ما يشين، بحيث نجد الآيات تؤكد على أمية محمد عليه السلام في أكثر من مكان ومناسبة؟ والمسألة هنا ليست عرضية أو مجانية أو عابرة. إنما هي غاية ارتأتها حكمة الله في أن يظل محمد أميّاً طول الزمن السابق للرسالة، لكيلا يزعم المرجفون المغرضون ـ في حال كونه ليس أميّا ـ بأنه درس ونقل وقرأ إلى أن كذَّبهم الواقع وكذَّبهم القرآن، لتكون أميته شاهداً على أن هذا كلام الله. وأنه ليس لأمي أن يقدر على الإتيان بمثله. ولكي يظهر من جهة ثانية عجز كافة المعاصرين والمتأخرين، الدارسين والمتعلمين أمام الأمي، عندما يتحداهم بأن يأتوا بمثله ـ كما أسلفنا ـ وفي هذا المضمار تقول الآيات بوضوح لا التباس فيه ولا اختلاف في فهمه وتفسيره:
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام:105-106)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (العنكبوت:48-49)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (الدخان:58-59)
أما سورة »اقرأ« فتصور الموقف كله، وعلى لسانه هو. تروي كتب السيرة لنا الحوار الذي جرى بينه وبن الملك جبريل( ):
في تلك الليلة كان محمد يتحنث في غار حراء كعادته، وكانت ليلة القدر. جاءه جبريل (عليه السلام) ليأمره قائلاً:
»اقرأ«
فاهتز محمد من هول الموقف قبل أن يرد في هلع:
»ما أنا بقارئ«
فيضمه جبريل بشدة ويقول:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5)
أسرع محمد عائداً إلى بيته في مكة، إلى زوجه الرؤوم خديجة (رضي الله عنها) يروي لها ما حدث وهو يرتجف ويقول:
»زملوني زملوني«
لو لم يكن القرآن من عند الله فما الذي يجبر محمداً على إبلاغ قريش بما حدث وهي التي قد تتخذ منه سبباً للإساءة إليه. كان في وسعه ألا يخبرهم بشيء من ذلك لاسيما وأن أحداً لم يشهد الواقعة. وهل لرجل في مثل مجتمع مكة أن يخبر الناس عما حلَّ به من خوف في موقف ما، إلى درجة الهلع مما يلجئه إلى أن يلوذ بزوجه فزعاً مذعوراً، ملتمساً لديها العون والسكينة؟ يأبى ذلك رجل من عامة الناس، فما بالنا برجل يسعى إلى زعامة قومه.. كما يزعمون..؟ المسألة إذن لا هذا ولا ذاك. هي بالبساطة والصدق معاً أمانة الرسول في حمل الرسالة وتبليغ ما أوحي إليه. كان الأمر جديداً عليه، وكان في وسعه إخفاءه لو شاء خشية ردة الفعل لدى القوم في أمر يصعب تصديقه، والتي أهونها تكذيبه أو اتهامه بما لا يحب.
* * *
التمايز بين الآية والحديث
وإذا نحن عدنا إلى مسألة الأسلوب من أجل مزيد من التوضيح، أمكننا أن نتساءل:
كيف تسنَّى لمحمد أن يصطنع حداً يفصل بالقطع بين القرآن وحديثه هو، لو كانا كلاهما من عنده، بحيث لا تجد أبداً حديثاً واحداً يشبه آية، ولا يحدث التباس أبداً بينهما؟ وكيف وسعه أن يفرز نصّاً عن نص، ثم يسمي هذا قرآناً وهذا حديثاً..؟ ولماذا؟ وما هي الضرورة الملجئة إلى ذلك؟ والأعجب من هذا ألا يقع اختلاط أو اشتباه بين حديث وآية في المصحف كله؟ عمل كهذا ليس في وسع فريق أكاديمي مختص إنجازه دون أن تشوبه الشوائب، أو تعتريه احتمالات الخطأ والالتباس ولو بنسبة مئوية أيّاً كانت ضآلتها. ومن ذا الذي يفعل ذلك كله وعلى هذا النحو المضني محمِّلاً نفسه هذا العناء الثقيل؟ أمي من قريش.
وهذا الذي ذهبنا إليه لا ينتقص من قدر أحاديث الرسول عليه السلام، فهو أفصح العرب لساناً كما تجمع كتب السيرة وأبحاث الدارسين من خصومٍ وموالين وإنما نقرر حقيقة لم تدحضها وقائع التاريخ ولا فنون الأدب والإبداع.
وإذا كان القرآن والحديث كلاهما لمحمد (عليه السلام) فكيف به يوجه الخطاب إلى نفسه بطريقة مختلفة في كل منهما؟ ففي الحديث يقول ما يريد قوله مباشرة، لكنه في القرآن، في كثير من الآيات ذات السمة التوجيهية والتعليمية، يبدأ الآية أو المقطع منها بكلمة »قل«، فإذا كانت الآية من عنده ــ كما الحديث ــ فلماذا اختصها بهذه الصيغة؟ لماذا لا يقول لهم ((يا أيها الكافرون)) مباشرة، بدلاً من »(قل) يا أيها الكافرون«. أو (أعوذ برب الناس) بدلاً من »(قل) أعوذ برب الناس«. هناك إذن من يأمره بالقول وهو الذي يصدع لما يؤمر. ومن مثل هذا كثير في القرآن:
»ويسألونك عن الروح (قل) الروح من أمر ربي..«. »(قل) هل يستوي الأعمى والبصير..«. »(قل) انظروا ماذا في السموات..«. »(قل) هو الله أحد..«..
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر:9)
وفي صياغة أخرى: »وإذ قال (ربك) للملائكة اسجدوا لآدم.. الآية« وكان يمكن أن يقول »وإذ قال (ربي) للملائكة..«. يستخدم هنا ضمير المخاطب وهو نفسه المتحدث، إذن هي جهة خارجةً عنه تخاطبه وإلا فما هي الحاجة إلى استخدام كلمة (قل) أي نسبة الخطاب إلى جهة أخرى آمرة ومهيمنة؟
ثم كيف تسنى لمحمد أن يأتي بهذه المواضيع التي تشمل كافة أوجه النشاط الإنساني في الحياة الدنيا، وما ينتظر الإنسان في الحياة الآخرة، دون أن يقع في خطأ أو منزلق؟ بل وأن يأتي بنبوءات مستقبلية لا تخطئ، وتثبت صحتها على مرِّ الزمن. ونُبوءات علمية استطعنا اليوم فقط معرفتها، في الحياة وأسرار الكون وخفاياه، فضلاً عن الإنسان نفسه جسداً ونفساً وروحاً.. حقاً كيف أمكنه ذلك، لو لم يكن من لدن الحكيم العليم، وليس له فيه سوى نقله عنه؟ وإذا كان ذلك كله ـ وهو غيض يسير من فيض كثير، لا يحيط به وصف ولا عدّ ليس في وسعنا الإحاطة به قطعاً ـ قد جاء به أمي لم يقرأه في كتاب، ولا درسه في جامعة، فلابد أن يكون ذلك الأمي رسولاً مبعوثاً من عند الله إلينا نحن البشر. لأنها حالة إعجاز خارق. حالة خاصة لم تحدث في تاريخ البشرية لأحد سواه. فالرسالات الأخرى جاءت على نحو مختلف. وليس هذا تهويناً من شأنها، وإنما هو وصف لواقع ما حدث.
* * *
تفرد القرآن عن سائر فنون البيان
نعرف أن في اللغة العربية الشعر والنثر. وتحت باب النثر تندرج القصة، والرواية، والمقالة، والمسرحية النثرية. أما فيما يتعلق بالشعر فيندرج الشعر العمودي، وشعر التفعيلة. هذا فيما هو معروف اليوم، يضاف إليه ما عرف في عصور سابقة بالبديع والسجع والمقامة. لكن أحداً لم يقل، قديماً أو حديثاً، بأن هناك نوعاً أو باباً ثالثاً في أبواب الأدب العربي. القرآن وحده خرج على هذه القاعدة. فهو ليس بالشعر وما هو بالنثر. هو نسيج وحده، لا يماثله شيء في فنون القول، هو قول مبتكر فريد في نوعه ونهجه لا سابق له. أليس في هذا مدعاة للتساؤل من ثم:
لماذا لم يُنسج على منواله وهو بين الأيدي على مدى القرون الأربعة عشر الماضية؟ لماذا لم يصبح لدى العرب، إلى جانب الشعر والنثر منهجاً أو باباً أو جنساً أو صنفاً أو نوعاً ــ سمه ما شئت ــ ثالثاً يماثل القرآن أو على غراره؟ إذن جاء القرآن فريداً في بابه لا شبيه له ــ كما سلف ــ، وبقي كذلك على مر الأيام. فتأكدت، من ثم، معجزته الخالدة. حتى مضاهاته أو تقليده عجز عنها سائر البشر قديماً وحديثاً.. وتحديه لهم ما برح قائماً على مر الدهور والعصور. وبقي في اللغة للعرب الشعر والنثر ولا ثالث لهما. سوى القرآن في فرادته. فلو كان القرآن صياغة بشرية، بمعنى الإبداع البشري، لأمكن ظهور جنس أدبي في العربية ـ غير الشعر والنثر ـ من قبيله على غراره ومن طرازه ثم يسود هذا الجنس وينتشر. ولأن هذا لم يحدث ففيه بحد ذاته دليل الإعجاز والتفرد بسبب وحدانية المصدر. وبقي القرآن كتاباً أوحداً لا شبيه له على مدى القرون الأربعة عشر الماضية، واستنتاجاً، وبالمنطق السليم وحده، لابد أنه سيبقى كذلك ما بقي من الزمان.
يقول صلى الله عليه وسلم:
»فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه«( ).
(وإنما يدرك أسرار تأثير القرآن في الأمة العربية أولئك الذين كانوا حين أنزل الله القرآن عَبَدة البيان. وقد سمعنا بمن استخف بأوثانهم ولم نسمع قط بأحد منهم استخف ببيانهم)( ).
خلاصة القول أن محمداً (صلعم) لم يكن يعرف القراءة والكتابة، أو حتى التوقيع باسمه. ولو عُرف عنه ذلك لدى قومه لما سكتوا عنه. وكان أسهل شيء عليهم تكذيبه عندما تلا عليهم الآيات التي تصفه بالأمي. وقد أجمع المؤرخون، مسلمون وغير مسلمين على أميته، وأهمية هذه المسألة تتأتى من كونها جاءت حائلاً دون احتمال اتهامه، من قبل منكري دعوته، بتأليف القرآن أو نقله أو اقتباسه عن كتب سابقة لزمانه، كالتوراة والإنجيل أو فلاسفة الإغريق، بما لديه من ثقافة واطلاع فيما لو كان متعلماً ذلك التعليم التقليدي المتاح لمن شاء من الناس، أو مَنْ مكنته ظروفه من تلقي العلم والتعلم بوسائل العصر المتاحة آنئذ.
لو لم يكن محمد أميّاً، وكان يعرف القراءة والكتابة فلربما اتهمه القوم بتأليفه، ولكن إرادة الله شاءت أن يكون الرسول أميّاً لحكمة يرتئيها، يقطع هذا الطريق عليهم منذ البداية. ومن هنا يمكننا فهم قوله تعالى ــ الآية التي أوردناها في مكان آخر.
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (العنكبوت:48)
صدق الله العظيم
لو لم يكن أميّاً ــ قبل البعثة ــ لما عَدتْ النظرة إليه، عندئذٍ، إلى أكثر من كونه خطيباً مصقعاً، أو شاعراً ملهماً، أو فيلسوفاً عبقرياً، أبدع نصاً تفوق فيه على المألوف في زمانه بما امتلك صاحبه من خصائص الشاعر المبدع ومؤهرت الأديب الموهوب، الأمر الذي يبرر ارتياب المبطلين ويعطيهم ذريعة رفضهم إياه على أنه رسالة منزلة من السماء.
الله الأعلم بخلقه وبما سوف يصدر عنهم شاءت حكمته أن يرسل في الأميين رسولاً منهم لا يخط كتاباً ولا يقرؤه. ما كان الرسول يتلو قبل ذلك من كتاب يستمد منه المعلومات والأخيار والنظريات، وما كان يخط بيمينه حرفاً ولا كلمة. من هنا كان الإعجاز الحق فيما أتاهم به مما لم يتح لأحدٍ من قبله ولا من بعده سواء في معجزة الشكل والبيان أو المحتوى والمضمون.
ويصدق قوله تعالى سبحانه:
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم (النمل:6)
* * *
[/align]