الفصل الرابع
الإعجاز في البلاغة
والتأثير الروحي
[align=justify]
في الشكل والمضمون
ما أكثر ما كتب، منذ التنزيل، وحتى اليوم، في ظاهرة إعجاز القرآن بلاغة ولغة وبياناً. وما أحسبني سآتي بجديد، أو بما هو أكثر أهمية في هذه المسألة. ولكن، ولأن القرآن معين لا ينضب أبد الدهر، فسيظل مصدراً للإلهام بالجديد من الفكر والرأي والعلم والرؤية لكل من سعى إلى ذلك. ولأن النور، أيّاً كان إشعاعه لا يضيره، ولا يقلل من شأنه أن تضيء شمعة، أو أن تأتي بقبس من نور، حتى وإن يكن انعكاساً للنور الأصل ذاته من على سطح مرآة صقيلة، فلا يكون والحالة هذه، إلا نبْعاً يفيض عن المصدر عينه.
من القدامى الذين تعاملوا مع موضوع إعجاز القرآن ــ على سبيل المثال ــ ابن قتيبة الدينوري، في كتابه (تأويل مشكل القرآن). والسجستاني في كتابه (نظم القرآن) وغيرهما. أما المحدثون، ومنذ بدايات القرن الماضي أو نحو ذلك فكثير. كان من روادهم الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابيه (السحاب الأحمر) و(إعجاز القرآن)، وعباس محمود العقاد في الكثير من كتبه (الله)، و(عبقرية محمد). ومحمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد). ومالك بن بني في كتب له منها (الظاهرة القرآنية). ثم توالت الكتابات بعد ذلك تبيِّن ما اشتمل عليه القرآن الكريم في علوم الحياة والفيزياء، والكيمياء، والجيولوجيا، والأرصاد، والفلك، وعلم الأجنة، والطب.. الخ
لم يقل أحد من هؤلاء بأن هذه العلوم وردت مفصلة محددة، كما هو حال الكتب العلمية ذات الاختصاص. غير أنهم أجمعوا على أن الآيات القرآنية اشتملت على مفاتيح وإشارات وتحديدات واضحة أيضاً في سائر هذه العلوم. الأمر الذي هو إعجاز في حد ذاته حين يأتي على هذا النحو من الإنجاز.
يقول د. زغلول النجار في هذا الصدد:
(إننا نقصد بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم هو سبق هذا الكتاب الخالد بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره لم تكن معروفة لأحد من البشر في زمن تنزيله، ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله، وإثبات أن القرآن الكريم، الذي أوحي به إلى نبي أمي (صلى الله عليه وسلم) في أمة أميَّة قبل أربعة عشر قرناً، يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه إلا منذ عقود قليلة، وبعد مجاهدات طويلة عبر عدد من القرون المتواصلة، وهذا لا يمكن لعاقل أن يتصور إمكانية حدوثه إلا بوحي من الله الخالق البارئ المصور)( ).
لقد اتفق الأقدمون والمحدثون والمعاصرون إذن ــ إلا من شاء المكابرة أو أعمته الجهالة ــ على أن القرآن معجزة محمد أتى بها للبشر. ولقد باءت محاولات تقليده قديماً بالإخفاق. وقبرت في مهودها، وتوقفت إما معلنة جهاراً، أو مقرَّة في خفاء عن عجزها وإخفاقها.
ونحن جميعاً نعرف أن القرآن تنزل على محمد في وقت كان العرب قد بلغوا فيه من الفصاحة والبلاغة ما لم يعرف من قبل. كانت المعلقات قبل بعثة الرسول، وحتى عصر بعثته تعلَّق على جدران الكعبة. وليتبارى المتبارون في سوق عكاظ، الموسم السنوي التقليدي لعرض الشعر من قبل أفذاذ الجزيرة ونوابغها من الشعراء. وكان فيهم الحكماء والخطباء فضلاً عن الشعراء. ومنهم من بلغ به الغرور مبلغاً جنح به إلى التألُّه، أو إلى ادِّعاء النبوة. إذن جاءهم القرآن متحدياً لما برعوا فيه وأجادوا وبلغوا الشأو الذي لا يبارى. والقرآن لم يعتمد الصورة الجمالية في البلاغة اللفظية الشكلانية وحدها. لكن مضامينه كانت معجزة في ذاتها. فهو لم يدع لهم شاردة ولا واردة إلا أحصاها بإجمال حيناً، وبالتفصيل حيناً، سواء كان ذلك في شؤون الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة، متضمناً الحكمة، والإرشاد، والتاريخ، والعقيدة، والقصص، والتشريع، والقانون، ونظام الحياة، في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع. هذا فضلاً عن العبادات، والتعريف بالخالق وأسرار الخلق والكون، والإنسان. وقد جاءهم صادقاً، متَّسماً بالصراحة فيما يعرض، دونما مداراة أو محاباة. انقض عليهم في البداية انقضاضاً، مسفِّهاً آلهتهم التي كانوا يعبدون، كي يحدث لديهم صدمة تحثُّهم على التفكير لتبيِّن خطل تفكيرهم وسوء تدبيرهم. وانبرى معلناً الحرب على ما تفشى فيهم من صور الفساد، ومظاهر الضلال والانحلال، كشيوع الرذيلة، ووأد البنات، والانكباب على الخمر والميسر، وإذلال الأقوياء للضعفاء، واغتصاب الحقوق. ناهيك عن مظاهر المفاخرة والمكابرة بما لا فخر فيه، ولا مسوِّغ للتكبر بسببه، جاءهم القرآن بالبصائر من ربهم، لكي يعلمهم الكتاب والحكمة، وقيمة العقل والفكر، والنفس البشرية. ولسائر بني البشر دونما تمييز »لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ـ حديث« و»إن أكرمكم عند الله أتقاكم ـ آية« (ولنلاحظ الفارق بين الآية والحديث في الصياغة). المقياس الوحيد الذي لا يقاس بغيره في المجتمع الإسلامي يومئذ هو التقوى في الذات الإنسانية، وليس فيما حولها أو ما يكتنفها ويحيط بها من مظاهر، كالجاه والمال والانتماء للعشيرة أو القبيلة مما يلحق بالذات إضافة من خارجها ولا ينْبع منها.
كيف يتفق أن يكون ذلك كله من صنع رجل واحد نشأ فيهم، عرفوه أصلاً ومحتداً ونسباً، خلقاً ومسلكاً، لم يغادرهم يوماً طالباً لعلم، ولا هو جاءهم من مكان قصيّ، فكان دخيلاً وافداً، مجهول الأصل، غامض المنحى فيما يعرض، ولا هم أنكروا عليه أمراً منذ حداثته. كيف يتفق ذلك مع موقفهم منه إنكاراً واعتراضاً ناهيك عن تكريسه ما بقي له من عمر من أجل ذلك. لقد ضحى براحته، بل تجاهل متطلبات حياته الشخصية ذاتها، وما كان يمكن أن يجني في حياته لو شاء ـ شأنه شأن سائر الناس ـ من وراء تجارة يتعاطاها، أو عرَضٍ من أعراض الدنيا لو شاء التفرغ له، دون هذه الدعوة المرهقة، الثقيلة الوطأة عليه وعليهم على حد سواء إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (المزمل:5). بل هو حمَّل أسرته وآله من العناء والمعاناة نتائج ذلك كله. ثم هاهم، على الرغم من ذلك. يواجهونه بكل ما عرفنا من سيرته فيهم، معلنين عليه حربهم الشعواء، وهاهم يسدّون آذانهم عما أتاهم به، حتى وإن كان فيه هداهم وخيرهم:
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (فصلت:5-6)
أي بلاغة، وأي مفردات تغني واحدتها عن (محاضرة) ـ الأكنة، الوقر الحجاب ـ مما لم يألف القوم سماعه على هذه الصيغة الغريبة وهم أرباب صناعة الكلمة، وسدنة الشعر، وإن حاول المستشرقون وتلامذتهم من معاصرينا نفي الشعر الجاهلي، مغرضين هادفين إلى التنكيل من شأن ما بلغ عرب الجاهلية من فصاحة وبلاغة، ومن ثم إبطال إعجاز القرآن بتحديه لهم فيما برعوا فيه. يقول الأستاذ محمود شاكر في هذا الصدد في مقدمته لكتاب الظاهرة القرآنية:
(كان الشعر العربي حين أنزل الله القرآن على نبيِّه (صلى الله عليه وسلم) نوراً يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان، قبل أن يكونوا عبدة الأوثان، وقد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم)( ).
من أولئك المستشرقين الذين عملوا دائبين للتشويه لهذا التاريخ، توطئة للتهوين من شأن البلاغة العربية، وبالتالي الإساءة إلى معجزة القرآن (الأب لامانس) العامل على تقويض دعائم الإسلام ـ كما يقول مالك بن نبي ـ (بسبب من بغضه الشديد للقرآن ولمحمد). ومنهم المستشرق الإنكليزي مرجليوث بما نشره عن الشعر الجاهلي عام 1925 في إحدى المجلات الاستشراقية، وجاء من بعده مباشرة في عام 1926 د. طه حسين بكتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أثار عاصفة في الأوساط الثقافية في حينه.
(في البداية ظنَّ العرب أنه كلام محمد، فلبثوا يتربصون مواطن الضعف عنده علهم يعثرون عليها، ومواقع القدرة عندهم للتصدي له، ولمواجهته بما هم فيه ابرع وعليه أقدر ـ في ظنهم ـ فإذا بهم تأخذ الحيرة بألبابهم لما يستمعون إليه من كلام لا عهد لهم بمثله في البيان العربي كله، شعراً ونثراً وخطابة. هو نسيج وحده، فريد في بابه ونهجه، لم يُسبق إليه، ولا قدرة لهم على محاكاته. وقد كان من طبعهم المساجلة والمعارضة والمفاخرة والتسابق والتنافس يعرضون ذلك كله في المواسم. لكنهم ها هنا لبثوا عاجزين. وقد جاء القرآن على لسان محمد يقول لهم وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:23-24)( ).
كلمات لا يقولها عربي من العرب في ذلك العصر من تلقاء نفسه أبداً. ولم تحدد لهم الآية معلماً مما هو مألوف في مثل هذه الأحوال حتى في عصرنا الراهن: عدد الكلمات، المدة المتاحة، الزمن، السِّن. وفي مسألة عدد الكلمات مثلاً، تتراوح السور بين البقرة ذات الثماني والأربعين صفحة، في كل صفحة خمسة عشر سطراً وسورة الإخلاص ذات السطرين. أما المدة فغير محدودة، بل هي ــ إمعاناً في التحدي ــ مفتوحة من الأزل وإلى الأبد. أما المكان فسطح الكرة الأرضية.. المعمورة كلها. المتقدمون للمسابقة: أياً كانوا.. البشر كافة ومعهم الجن كافة أيضاً، إذا أمكن اجتماع الثقلين..! و»كان بعضهم لبعض ظهيراً«.. ثم ماذا بعد..؟
يقول الجاحظ:
(بعث الله محمداً (صلعم) أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً. وأحكم ما كانت لغةً، واشد ما كانت عدَّة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة ـ لا يُحتجُّ عليهم بغير القرآن ـ يدعوهم صباحاً ومساء أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة. فكلما ازداد تحدياً لهم بها، وتقريعاً لعجزهم عنها، تكشَّف من نقصهم ما كان مستوراً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة، قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف. قال فهاتوها مفتريات. سورة واحدة كانت أنقض لقوله. وافسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الإسْجاعُ المزدوج واللفظ المنثور. وهم أشدُّ الخلق أنفةً، وأكثرهم مفاخرةً، والكلام سيِّد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة. ولمدة ثلاث وعشرين سنة( ).
يقول الرافعي:
(وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات: وكثيرة ما هي، إلا في شيء واحد، هو في القرآن سرُّ الإعجاز إلى الأبد. وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها ووجه صناعتها فقد بطل إعجازها..
(ذلك هو وجه تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباين بنفسه لكل ما عرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، فكأنه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كل بليغ، من التفاوت باختلاف الوجوه التي يصرِّفه إليها، والعلو في موضع والنزول في موضع، ثم لابد من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها..
(وليس في شيء من أسلوب القرآن يُغضُّ من موضعه، ويذهب بطريقته، أو يدخله في شَبَهٍ من كلام الناس. وما من عالم أو بليغ إلا وهو يعرف ذلك ويعدُّ خروج القرآن عن أساليب الناس كافة دليلاً على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان..
* * *
الإعجاز في الصياغة
(وقد استحال أن يقع في تركيبه ما يسوِّغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض. كما تجد من ذلك في أساليب البلغاء. ولو أن العرب وجدوا سبيلاً إلى نقض كلمة من القرآن لأزالوها وأثبتوا فيها هذا الخطأ أو ما يشبهه في مذهبهم، إذ كان من المشهور عنهم مثل هذا الصنيع في انتقادهم وتصفحهم بعضهم عن بعض في التحدي والمناقضة)( ).
وقد عرض الرافعي لكلمات، ولمقاطع من الآيات يبين فيها مواطن الإعجاز، لا بأس من أن نأتي على بعض منها كأمثلة هي فيض من غيض، أو هي صورة مماثلة لما في القرآن كله، كقوله تعالى »ليستخلفنهم في الأرض« فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات تنطق على أربعة مقاطع. وقوله »سيكفيكهم الله« فإنها كلمة من تسعة أحرف وفي ثلاثة مقاطع. وقد تكررت فيها الياء والكاف وبينهما هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
وفي القرآن لفظة غريبة من أغرب ما فيه. وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة »ضيزى« من قوله تعالى »تلك إذن قسمة ضيزى«. وأنت لو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها. ثم هي في موضع الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، إذ جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله، مع أنهم يئدون البنات فقال تعالى »ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى« فكانت غرابة اللفظة أشد ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها في الأولى ثم التهكم في الأخرى. وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة. والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم.
(ومما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة، ومن وراء الفكر، وكأنها صبت على الجملة صبّاً أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت إلا مجموعاً ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها فلفظة »اللب« فإنها لم ترد إلا مجموعة »إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب«، وليذكر أولو الألباب«. ولم تجئ مفردة بل جاء في مكانها (القلب). ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، مع أنه جاء بلفظة »الجب« وهي في وزنها ونطقها، ولكن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة. وكذلك لفظة »الكوب« استعملت مجموعة ولم يأت بها مفردة لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الرقة وحسن التناسب. وعكس ذلك لفظة »الأرض« فإنها لم ترد إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة كما في قوله تعالى »الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن« ولم يقل سبع أرضين.
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (الفرقان:63)
هذا النص الرائع الذي يدخل إلى النفس الخشوع والمشاعر الجياشة في تصويره لعباد الرحمن ـ وهذه في حد ذاتها من أجمل الأوصاف وأكثرها وقعاً في النفس ـ وكيف يمشون الهوينى على الأرض في رفق ورحمة تعبيراً عن خشوعهم وتواضعهم ومسلكهم الإنساني.
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (الفرقان:67)
أما في مسألة الإنفاق فالوصف »لم يقتروا« يختصر بحثاً طويلاً في الصدد نفسه. ولننظر إلى وصف الوسطية بكلمة »قواماً«. يقول الرافعي أنه لم يجد في اللغة كلمة يمكن أن تحل محلها وتأتي بالتأثير والوقع ذاتهما.
ومثلها في البلاغة والإعجاز وبلاغة الحكمة والموعظة والتعليم الإلهي قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (الإسراء:29)
الوسطية هي المطلب. والشق الأخير من الآية كلمة »ملوماً« تعني اللوم من قبل الآخرين المنددين بصنيعك و»محسوراً« من قبل الذات التي سيُلمُّ بها، عندئذٍ، الندم والحسرة على ما فرطت وأضاعت.
ومثلها في الإيجاز البليغ الموحي قريباً من السياق ذاته قوله تعالى قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً (الإسراء:100).
ترى كيف تصور الآيات شدة الحرص والبخل، إذ أن هؤلاء لو أمسكوا بخزائن »الرحمة«، وليس المال وحده، لخشوا الإنفاق منها على غيرهم لشدة تقتيرهم وشحِّ أنفسهم. أما لفظة »قتوراً« فما من كلمة في اللغة يمكن أن تحل محلها دون الإخلال بالصيغة البليغة كلها.
* * *
مواضع الكلمات
ونتساءل: هل كانت له هذه القدرة دون سائر العرب؟ وكيف تأتى له التدقيق في الحرف والكلمة والجملة، دونما خطأ ولا هفوة واحدة في سفر ضخم كالقرآن؟ ناهيك عن المضمون، وعن سحر الأسلوب. ومن أين له العلم باللغة وأسرارها وتراكيبها إلى هذا الحد المذهل، غير المسبوق أو الملحوق فيما بعد؟ إن ما ورد في القرآن أعجز العصور كلها ـ عرباً وغير عرب ـ . ولو كان هذا الذي طلع به على الناس لإنسان ما على وجه هذه الأرض غيره، لتاه به على الدنيا بأسرها، كأعظم أديب وفيلسوف وعالم، وما شئت من الصفات. فلماذا إذن هو يتحاشى نسبته إليه، بل ويعلن على الملأ أنه لو فعل فادعى ذلك لعوقب عقاباً شديداً من قبل صاحب النص. هو يقول هذا في القرآن نفسه. فها هو يعلن نصّاً ـ خطاباً موجهاً إليه مؤكداً للملأ المصدر الذي يتلقى عنه:
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل:6)
لأن القرآن الكريم بين أيدينا، نقرؤه على الدوام أو من حين لآخر، فقلما نتنبه إلى الكثير من روائعه، فتمر بنا أو نمر بها مروراً عابراً عادياً تماماً، وقد يصرفنا المضمون ومحاولة الفهم عن الناحية البلاغية. فنحن نرى أن آيات ومعاني كثيرة تغيب عنا، أو أننا لا نعيرها انتباهاً ـ كما أسلفنا ــ بحكم التعود والألفة على السمع. هذا في حين نرى أن كلمة معينة لأنها جاءت في موضعها من الآية. ولأنه لا يمكن لكلمة أخرى أن تحل مكانها دون حدوث خلل في السياق، أو في موسيقى العبارة، أو في الإيقاع أو الوقع على النفس فتبدو الآية كلها، وهي على حالها طبيعية تماماً لأنها في تمام كمالها، أما لو أننا جئنا إلى كلمة فيها وحاولنا تغيير موضعها تقديماً أو تأخيراً، أو حاولنا استبدالها بمرادف لها، يعطي معناها ذاته تماماً لاختلف النص واعتراه الخلل والارتباك ولم يعد قرآناً. ولنضرب مثلاً:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأحقاف:33)
لنأخذ كلمة »يعيَ« هنا. مرادفات الكلمة كثيرة: مثل (يتعب) (ينْصَب) على سبيل المثال، ولها ذات المعنى. لنتصور أننا وضعنا إحدى هاتين الكلمتين مكان كلمة »يعيَ« فكيف يصبح حال النص كله؟ سوف تضيع منه سائر سمات البلاغة والفصاحة، ويغدو ضعيفاً وغير متوازن وإن بقي المضمون واحداً. ترى هل فكر محمد في هذا أيضاً، فعرف بهذه الدقة، وقرر الاختيار على علم ووعي بأسرار اللغة وإعجازها الفريد..؟
ومثلها قوله تعالى:
أفعيينا بالخلق الأول
ماذا لو قلنا (أفتعبنا) بالخلق الأول..؟
ولننظر في هذه الآية:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لأنفال:26)
نتوقف عند التعبير بكلمة »يتخطَّفكم«. ترى كم من الصفحات، الشارحة العارضة للحالة، كان يلزمنا مكان هذه الكلمة، لو كان الخطاب في دراسة أو بيان أو محاضرة، لكي نصل إلى المعنى المراد وإلى الصورة المتوخاة؟ أي إيحاء في هذه الكلمة..؟ الخطف.. الأسر.. الضياع.. الانقضاض.. التبعثر إثر (التخطُّف) كم من الصفحات تقتضينا المسألة لكي نبلغ المعنى المراد وما نحن ببالغيه في كل الأحوال على النحو الذي جاء هنا في الآية. ليس هناك مناص من أن تجيء الكلمة هكذا في مكانها كما هي. فمن ذا الذي قرر اختيار الكلمة دون سائر مفردات القاموس كله فضلاً عن تحديد موقعها من النص؟
ونحن لو عمدنا إلى أيٍّ من آيات القرآن فغيرنا مكانها أو بدَّلناها بمرادف لها يحمل المعنى ذاته لتغير السياق، حتى لو لم يتغير المعنى، ولتغيَّر وقعها وأثرها النفسي والروحي. لنأخذ مثالاً، لا على التعيين، سورة العصر:
وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(العصر:1-3)
فلو أننا بدلنا كلمة »خسر« بكلمة (خسران) أو (خسارة) ماذا يحدث؟ مع أننا لم نخرج بالمعنى عن سياقه.. كذلك لو أننا عكسنا كلمتي (بالحق) و(بالصبر) فقدمنا الأخيرة على الأولى فأصبحت وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق..! ألا يصبح النص قلقاً فاقداً لبلاغته وفصاحته التي كانت له مع أن الكلمات هي هي، وأن المضمون لم يتأثر..؟
هل كانت سعة العلم ووفرة المعرفة اللغوية عند محمد الأمي على هذا القدر؟ وكيف تسنَّى له التدقيق في كل كلمة لكي تجيء في موضعها، فلا تنبو عنه ولا تتجافاه، بحيث لا تغني عنها كلمة أخرى تحل محلها؟ أم تراه كان لديه من الوقت متسع يفرغ فيه للإنجاز الإبداعي في الوقت الذي كان يخوض غمار معارك شرسة على كل صعيد، مما يستنفذ وقته ويشغل عقله ووجدانه أكثر مما يمكن أن تشغله (جمالية) الإبداع.
العاملون في حرفة الكتابة ــ درساً أو إبداعاً ــ يعرفون تماماً أي عناء تقتضيهم كتابة نصٍّ يصلح أن يطلع به صاحبه على الناس، ولو في حدِّه الأدنى من الإجادة. مَنْ بين هؤلاء من لا يقع له أن يسوِّد ثم يعيد، ثم ينقص أو يزيد، يمحو هنا ويثبت هناك قبل أن تطمئن نفسه إلى ما أنجز، وقبل أن يطلع به على الملأ، يراوده الأمل بأن يحظى بشيء من الرضا والتقدير؟
ما أحسب كاتباً لم يمر بتجربة من هذا القبيل، فما بالنا إذا كان النص بحجم هذا الكتاب وبمضمون يستوفي شروط الحياة كافة ناهيك عن محتواه في سائر شؤون الخلق من: فقه وتشريع ونظام للمجتمع ومناسك عبادة وغير ذلك مما لا سبيل لحصره.
ولسوف أستميح القارئ عذراً إذ أقدم له هذه الواقعة آملاً تصديقها، ألا وهي أنني فيما كنت أنقل الآية التالية:
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (يونس:2)
أقول إنني فيما كنت أنقل هذه الآية حدث أن شردت قليلاً فكتبت من الذاكرة »أكان عجباً للناس.. بدلاً من أكان للناس عجباً..«.
ولكنني حين عدت لقراءتها من أجل الطباعة ــ دون الرجوع إلى الأصل ــ أحسست بأن شيئاً قلق نافر هنا. أقنعت نفسي، بادئ الأمر، بأنني نقلتها من المصحف على هذا النحو. بيد أنني لم أطمئن إلى ما وقر في نفسي، إذ مازلت أشعر بأن هناك شيئاً غير مستقر في النص. عدت إلى كتاب الله لكي أستيقن فأدركت الخطأ. ما الذي دلَّني على موضع الخطأ يا ترى؟
أما فيما يتعلق بالآية من حيث المضمون، فها نحن نرى في النص على قصره صوراً عديدة: الآية تذكر الوحي، والموحى إليه، والناس، والإنذار لكي يتنكبوا الطريق السوي، والبشرى للمؤمنين، والعجب المسبق لعدم تصديقهم أو قدرتهم على تصور أن يجيئهم رجل منهم يحمل إليهم رسالة من عند ربهم. كل أولئك في سطرين اثنين. ثم ختامها بما يقول الكافرون فيها بأن هذا هو السحر ليس إلا. أما التعبير بـ »قدم صدق« فالعرب لم يألفوا هذا التعبير المثير للدهشة من قبل في آدابهم وأدبياتهم.
وسنورد هنا عدداً من الآيات، على سبيل المثال أو التذكير وحسب، لنرى إلى إيحاءاتها وكثافة نصوصها، وإحاطة النص في كل منها، على قصره بالمراد والمبتغى:
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة:118)
هذه الآية تلخص قصة المنافقين الذين تخلَّفوا عن رسول الله. تخلُّفهم من ناحية، ثم ما أسفر عنه من ضيق عليهم في الأرض فأصبحت أضيق عليهم، على الرغم من رحبها، حتى لتكاد أن تزهق أنفاسهم. كما ضاقت عليهم أنفسهم ذاتها. وهذا لعمري أقسى أنواع العذاب للنفس، إلى أن تاب الله عليهم بعد أن أيقنوا أن لا مناص لهم من العودة إليه تائبين مستغفرين.. وإن الله سبحانه يسع المخطئ ــ حين يشاء ــ برحمته.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ (الرعد:26)
في أقل من سطرين حديث عن الرزق، وكونه بيد الله، وكذلك مقداره من حيث الكم والنوع. فرح الإنسان بمباهج الحياة الدنيا وزخرفها، ثم تذكيره بفناء الدنيا ونعيمها، مع تضمين الإشارة إلى الفارق الهائل بين الدنيا والآخرة، بحيث يصبح نعيم الدنيا هذا بمثابة لا شيء إذا ما قورن بنعيم الآخرة.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً .. (النحل:92)
أيُّ تشبيه وأي صورة؟ (نقض الغزل) بعد التعب والمعاناة؟ صورة موحية تماماً. (والأنكاث) من بعد القوة، أي هذا العبث الذي يقع فيه الإنسان دون طائل في كثير من الأحيان.
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل:96)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (النحل:111)
كم مرة جاءت كلمة (نفس) في الآية وفي كل مرة بمعنى مختلف وفي سطر واحد دون أن تحس بالتكرار أو الإقحام أو التكلف؟
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.. (الإسراء:18)
هذا التركيب العجيب وهذا الترادف. وهذا الاختلاف في معنى الكلمة ذاتها »العاجلة« بمعنى الدنيا. »عجلنا« أسرعنا. كلمة »عجَّلنا« أغنت عن صورة كاملة تقتضي صفحات كثيرة للوصول إلى المعنى ولن تصل إليه بنفس الوقع والتأثير مع ذلك.
ومن الإعجاز في المعنى والنبوءة (وسبر أغوار النفس الإنسانية) التي ظلت باقية على مدى الزمن وكأنها تتنزل اليوم كقوله تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (لأنفال:53)
تؤكد الآية الكريمة على حقيقة لا مراء فيها، تنطبق على سائر المجتمعات في سائر العصور، هي أنه لا سبيل لمجتمع يبغي تغييراً حقيقياً نحو الأفضل، دون أن يغير أفراده ما بأنفسهم ذاتها قبل أيّ شيء آخر. التغيير داخل النفس لابد أن يسبق أي تغيير اجتماعي مبتغى.
وقوله:
.. لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ .. (لأنفال:63)
أليس هذا هو حال البشر.. كان ذلك قديماً وإنه لكذلك حتى اليوم كما عرضته الآيتان. وفي السياق ذاته، ولكن محمَّلة بمعاني أخرى إضافة لما سبق.
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (الحجر:3-5)
أليس الناس هكذا دائماً. يأكلون ويشربون ويمارسون ترفهم، وتلهيهم الآمال التي ما إن يتحقق أمل منها حتى يطمح صاحبه إلى أمل آخر، فالأمل حين يتحقق لا يعود أملاً، من ثم يحل مكانه أمل جديد. الأمل هو دائماً الحلم الذي لم يتحقق. ويستمرون في تلك الحلقة المفرغة العبثية حتى ينقضي الأجل. والأمة كالفرد، كما أن الفرد كالأمة لا يسبق إليها الأجل ولا يستأخر عنها، وإنما يأتي في أوانه المكتوب.
وفي المعنى ذاته قوله تعالى:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (التكاثر:1-2)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (النحل:112)
الجوع والخوف، على مر الزمن، كانا العنصرين الرئيسيين لقلق الإنسان في الحياة. كانا همه الأكبر على مدى حياته، وسائر الأمور الأخرى تتفرع عنهما. وما أكثر الأمم التي انطبقت عليها هذه الحال. ونحن في عصرنا هذا نفسه رأينا الكثير مما يقع أمام أعيننا، وعلى مسمع منا. وحال الإنسان قديماً لم تخرج على ذلك. ففي سورة قريش:
لإيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (قريش:1-4)
الخوف والجوع أيضاً. تلافيهما حافز الإنسان الأكبر للسعي في حياته.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف:45)
هي الدنيا كذلك. ولننظر إلى التصوير المدهش »فأصبح هشيماً تذروه الرياح« هذا التشبيه في كلمات أربع، كم فيه من الخيال والتصور للمصير في دنيانا هذه.
وحالة إنسانية مشاهدة تصورها الآية:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (الكهف:103-105)
كم من مرة تبين لأي منا أنه كان على خطأ في تصرفه إزاء أمر ما في الوقت الذي كان يحسب ــ لحظة التصرف ــ أن ما هو بصدده وما يصدر عنه هو عين الصواب؟ أليس هذا وما سبقه هو التصوير الأصدق لواقع الإنسان والحياة؟ لم تكذبه الأيام، ولن ينقضه المستقبل، ولا التطور ولا التقدم، لأنها حقيقة إنسانية ملازمة للإنسان في تكوينه وجبلته وطبيعته وفطرته معاً.
خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (الأنبياء:37)
وها هو الإنسان يكتشف آيات الله اليوم، وبعد انقضاء أربعة عشر قرناً من الزمان، عن طريق العلم والبحث، وتجلِّي تلك الآيات بالتتابع أو على فترات متباطئة أو متسارعة، وهي تترى تتوافد منذ ذلك الحين. وحتى يوم الناس هذا وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذه الآيات ومثيلاتها تؤكد حقيقة أزلية، هي أن الإنسان في تكوينه وجبلَّته ونوازعه المختلفة، وهواجسه الملازمة له دائماً في القضايا الأساسية في حياته على الأرض، هذه جميعاً ثوابت تدخل في تكوينه العضوي والنفسي، وهي غير قابلة للتغيير بتغير الزمان. كان الإنسان هكذا وسيظل كذلك. وها هي الأيام تثبت صدق الآية في الرؤية للإنسان، وهي بمثابة النظرية من قبيل سنن الكون التي لا تتخلف. أما ما هو قابل للتغيير ــ حسب ما سبق ذكره من أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ــ فهو المعتقد وهو السلوك والعمل حسب ذلك المعتقد، توخياً للهداية والرشاد أمام الله وإيثاراً للخير في صالح الفرد والمجتمع ــ الأمة.
* * *
في الإيمان والوحدانية
في مسألة الإيمان بالله، والوحدانية لله، تنزلت آيات تندد بمن ينسبون إلى الله اتخاذه الولد أو أن هناك آلهة غير الله. جاءت هذه الآيات بصيغة المحاجَّة المفحمة وبمنطق الفلسفة والفلاسفة، مسفِّهةً آراءهم من قبيل »فبهت الذي كفر«، إذ هم لم يستطيعوا أن يحيروا جواباً أو يأتوا بردٍّ شافٍ يؤيد تخرصاتهم. وكان هؤلاء يحاجون الرسول في ذلك.
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (الأنبياء:22-24)
وقوله تعالى:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (المؤمنون:91)
»لو كان معه إله«:
ألم يكن هذا هو الذي سيقع لو كان الأمر كما ذهبوا إليه، لجهلهم وإغراقهم في الضلالة؟ فالمسألة تغدو حينئذ كالحالة البشرية، سوف يختلفان إن كانا اثنين ويختلفون إن كانوا أكثر. وسيتقاسمون النفوذ والمناطق الكونية من الملكوت، وسيمضي (كل إلهٍ بما خلق) ليتدبر أمره. فضلاً عن هذا فلسوف تجنح بهم المنافسة ــ تماماً كبني البشر ــ لأن يعلو أحدهم على الآخر لتصبح له الهيمنة والكلمة الأولى كما يحدث لدول هذا الزمان..!
بل إني لأقول: إنه لو كان هناك آلهة أُخَر لما سكتوا على هذا الكلام المنزَّل على محمد. كان لابد أن يصنع هؤلاء شيئاً. وإلا فعلام هذا الصمت المطبق حتى الآن..!! هل يسكت الآلهة الآخرون على تفرُّد أحدهم بالدعوة لوحدانيته وأنه هو مالك الكون الوحيد وإلهه الفرد الأحد الصمد..؟ ومن ذا الذي يحول بينهم وبين أن يتدخلوا في المسألة؟ حاشى لله تعالى عما يصفون.
ويهيب الله بالبشر والبشرية، على مدى الزمن، ليقول لهم ولها حقيقة وضعها وحكايتها كلها في الحياة، وذلك من أجلهم هم، إذ لا يضير الله خالقهم شيئاً ألا يستجيبوا. ولكنها محبة الله لخلقه، ومن ثم عنايته التي يكلؤهم بها، ورعايته التي يغدقها عليهم، شأن نعمائه وسائر آلائه، فيقول من ثم سبحانه مخاطباً إياهم بما يشبه الصيحة فيهم:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد:20)
هل هناك حقيقة أوضح، أو تصويرٌ أبلغ؟ في هذه الآية الواحدة عرضت علينا حقيقة الحياة الدنيا، ومعناها، وحالات البشر الاجتماعية والنفسية، وسلوكهم فيها، وإلى ماذا يسعون، وفيم يكدحون يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (الانشقاق:6)، ثم شبَّه لنا كل ذلك بالنبات الذي سيعجب الكفار في مظهره، ولكنه لا يلبث أن يغدو حطاماً بعد اصفراره وجفافه. وهذا هو شأن الحياة نفسها التي ستنتهي إلى لا شيء، تماماً كما تبدَّد ذلك النبات في مهب الرياح في نهاية المطاف، دون أن يغني عنه أصحابه شيئاً. ما الحياة إذن سوى متاع وغرور للإنسان على المدى.
كيف إذن يتصوَّر بعضهم، بل كيف يجرؤ على الحكم بأن هذا الكلام المعجز المحكم يمكن أن يكون لبشر؟ كيف تتأتى له الصياغة أولاً من حيث البلاغة، ثم التضمين لسائر هذه المعاني السامية المحيطة الشاملة في الوقت عينه لكل ما في حياة الإنسان على الأرض، ثم مصيره، في نهاية المطاف في الدار الآخرة. ذلك كله في بضعة سطور في عدد من الآيات.
القرآن كله دعوة للإيمان بوحدانية الله في كونه العظيم. والله سبحانه يغفر للبشر ما يشاء ولكنه لا يغفر أن يشرك به. يقو تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (النساء:48)
ويقول:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (الحشر:23)
لا غرفو في أن هذا الحشد الهائل من الآيات في مسألة الوحدانية على أنها الركن الأساس في الإيمان والإسلام إنما جاء لهداية الخلق إلى هذه الحقيقة والتأكيد عليها، لاسيما بعد أن تفشت الوثنية وعبادة الأصنام في أماكن كثيرة من الأرض. أما الرسالات السابقة التي بعُدَ بها العهد وتنكب الكثير ممن تنزلت فيهم الطريق السوي إليه تعالى، كما أنكر الكثير وجود الخالق أصلاً فقد بلغ بهؤلاء جحودهم واستكبارهم حدَّ المواجهة والتصدي، ولو بالقتال دفاعاً عن معتقداتهم الباطلة التي أفسدت ضمائرهم وأعمت بصائرهم. وفي هذا يقول تعالى على لسان يوسف (عليه السلام) لصاحبي السجن، والخطاب عام للناس كافة، بطبيعة الحال:
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يوسف:40)
وهذه سورة الإخلاص تحدد مبدأ الوحدانية في أربع سو قصار، قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (الاخلاص:1-4)
وقد شغلت هذه المسألة البحاثة والدارسين والفلاسفة والمتصوفة منذ ظهور الإسلام، وما برحت حتى يومنا هذا محوراً لمساجلات ومناظرات وحوارات بل وخصومات بين المؤمنين بالله ربّاً واحداً لا شريك له للخلق جميعاً، وبين المشركين والملحدين والمنكرين. وقد عرفنا في العصور السابقة الكثير ممن كتبوا وألَّفوا وصنفوا في المسألة ومن ذم جاء بعدهم في بلاد الشرق والغرب على حد سواء.
لقد أفاض القدماء في الحديث في مسائل كالماهية والصفات ووحدة الوجود والتسيير والتخيير (المعتزلة والجبرية). وغير ذلك كثير مما لا يسعنا فيه المقام.
يخاطب الله نبيَّه ليرد على المشركين بقوله سبحانه:
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الزخرف:82)
* * *
النظر إلى آفاق المستقبل
ولم تُغفل الآيات معالجة قضايا أساسية في الحياة الإنسانية، الاجتماعية منها والصحية، والنفسية، والجسدية، في ذلك الزمن المغرق في البداوة، وحين لم يكن الناس قد أوتوا حظاً من العلم أو نصيباً من الثقافة يؤهلهم لاجتراح النبوءات، أو التكهُّن بما سيقع في المستقبل للأجيال القادمة لمئات من السنين. دعْك من المدى المتبقي للحياة الإنسانية على الأرض حتى قيام الساعة. وها هي القرون تمضي تلو القرون، ثم نشهد بأنفسنا نحن معاصري هذا الزمن أن سائر ما جاء به القرآن كان صواباً، وكان الله بكل شيء محيطاً. ولنضرب مثلاً ليس ببعيد في الزمان: وقد يبدو غريباً استشهادنا بهذه الواقعة ولكن دلالتها على قدر من الأهمية في مسألة معيشية اجتماعية لواقع يخص جماعة من البشر غير المسلمين:
في عام 1918 أدخل في الدستور الأمريكي ما سمي (بالتعديل الثامن عشر، الذي يأمر بحظر الخمور فيما سمي بقانون (فولسند). وقد كلف الأسطول الأمريكي بمراقبة الشواطئ الأمريكية، كما كُلِّف الطيران بمراقبة الأجواء، إضافة إلى الرقابة المسلكية والعلمية والصناعية. وعرفت تلك الفترة التي استمرت حتى عام 1933 بـ (عهد التحريم). ولكن لماذا توقف العمل بذلك القانون؟ كان ذلك لأن الحكومة فشلت في منع التهريب، ومن ثم التعاطي بالخمور. أي أنها لم تستطع تطبيقه. فالمسالة علَّة في الناس أنفسهم الذين يعرف واحدهم المضار الناجمة عن تصرف ما ومع ذلك يقدم عليه. كما هو الحال بالنسبة للتدخين أيضاً وغير هذه وتلك كثير. أما لماذا سُنَّ القانون؟ وهذه هي المسألة الأهم! فلأنهم اكتشفوا مساوئ الخمر ومضارها، ليس من الناحية الدينية، بالنسبة إليهم بالطبع، ولكن من ناحيتي الصحة، من جهة، والأثر المدمر على الفرد والمجتمع من جهة أخرى.
أما القرآن فقد كان له السبق بنحو من ثلاثة عشر قرناً، حين جاءت آيات الكتاب متدرجة في تحريمها بسبب من الظروف السائدة فيما يذهب إليه بعض الدارسين والمفسرين. وعلى الرغم من أن المسألة تشريعية بحتة، وعادة ما تكون لغة التشريع والقانون جافة، غير مشوقة، على الرغم من ذلك جاءت الآيات لا ينقصها الإعجاز، ولا الجمال الفني، صياغة وأسلوباً، ولا تعوزها البلاغة المعهودة في سائر أخواتها. الآيات بالتتابع الزمني (متضمنة الميسر أيضاً):
يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.. (البقرة:219)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.. (النساء:43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة:90)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (المائدة:91)
هل كان متاحاً لمحمد (عليه السلام) أن يتبين مضار الخمر في أكثر من مضمار على النحو الذي أوردته الآيات في ذلك الزمان، لو لم يكن من عند الله العليم بأحوال البشر في سائر الأمكنة والأزمنة؟ هل كان دارساً للطب ليعرف مضار الخمر من الناحية الصحية، أم كان باحثاً في علم الاجتماع ليدرك أضراره ومساوأه الاجتماعية؟. ومثل ذلك يقال في الميسر كآفة اجتماعية يعرف عواقبها الناس اليوم مسلمين وغير مسلمين.
وقد تجدر الإشارة إلى أن دولاً كثيرة اليوم، في أوربا وغيرها، شرعت تسنُّ القوانين التي تمنع القمار في بلادها نظراً لما تبيَّن لها من أضراره الفادحة على الأفراد والجماعات. لقد اعتبر القمار الآن من أهم الآفات التي تلحق الأذى بالأسرة على وجه الخصوص وتعرضها للتفكك.
يحدث هذا في أيامنا هذه، بعد أربعة عشر قرناً من تحريمه في الإسلام.
وننتقل إلى مسألة أخرى أولاها القرآن عناية بالغة برغم حساسية الخوض فيها في مثل تلك البيئة في ذلك الزمان. وقد جاءت آياته موضحة مفسرة، وموجهة نحو السلوك القويم السليم بين الرجل والمرأة، بدءاً من علاقتهما الطبيعية، التي تنشأ عن طريق الزواج وليس غيره. فلقد بيَّنت الآيات الكثيرة المضار والمحاذير الناجمة عن الممارسات غير المشروعة (الزنى)، والمشروعة أيضاً إذا ما أسيء استخدامها، ثم دارت عجلة الزمن وتبين الناس أجمعين أن ما جاء به القرآن كان الصواب عينه. وغني عن القول أنه ليس في وسع بشر أن يأتي بكلام في مثل هذا السياق، وقبل أربعة عشر قرناً، ثم لا ينفك صالحاً، بل هو الصالح وحده، على مدى هذه القرون، وما سوف يأتي بعدها. فالمرأة ـ كما أثبتت الدراسات الطبية الفيزيولوجية ــ في حالة الحيض، كما في حالة ما بعد الولادة، تكون في وضع لا يسمح بالممارسة الجنسية، إذ إن لذلك محاذير صحية تصيب الرجل والمرأة على حد سواء. وبرغم أنها آيات للتوجيه المسلكي، والعظة الأخلاقية، والتعليم، إلا أن البلاغة ما انفكت ملازمة لها. كقوله:
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (البقرة:222-223)
تحدد الآية أيضاً الموضع الطبيعي من جسد المرأة، للممارسة بعيداً عن الشذوذ المقيت فتقول: (من حيث أمركم الله) في مجاز يتسم باللباقة وبعيداً عن خدش الحياء. حتى هذا يراعيه كتاب الله. ألم يتبين لسائر الناس اليوم، وفي مدى الربع الأخير من القرن الماضي أن الشذوذ مع المرأة، أو الشذوذ المثلي هما آفة العصر، وهما مصدر انتشار مرض (الإيدز ـ السيدا) تحديداً، بعد انتشار الأمراض التناسلية الأخرى؟ وقد كان من شأن ذلك وفيات ومآس مروعة للكثير من الناس والأسر بمن فيهم الأطفال الأبرياء. ومعروف حتى الآن أن ما من أحدٍ استطاع التوصل إلى علاج لهذا المرض برغم التقدم التقني والطبي في معظم حقول الطب والمرض الأخرى. لقد تبين للمختصين أن هذه الممارسات الفاجرة البشعة تتلف جهاز المناعة. فكأن الله يعاقب الخارجين على قوانينه ونواميسه بوقف هذا الجهاز عن العمل. فالإنسان وُهب هذا الجهاز، وما دام هذا الإنسان لا يراعي حرماته، ولا يقدِّر نعمه التي أفاء الله عليه فها هو يعاقبه، ليكون الجزاء من جنس العمل. يبدو أن العقوبات الإلهية لم تتوقف، ولكن ليس من أنبياء ــ بعد ختم النبوة بمحمد عليه السلام ــ يخبروننا أن هذه العقوبات تحلُّ اليوم كما حلَّت بالأمس بالخارجين على نواميسه. ومما يؤكد هذه الحقيقة ذلك العجز الشامل والمطبق عن التوصل إلى علاج شافٍ لهذا المرض المدمر للكيان الإنساني، قبل القضاء عليه بالموت، بسبب من فقدان فاعلية جهاز المناعة عنده. وإلا فما معنى أن لا تكون وسيلة عدوى انتقال المرض إلا عن طريق الممارسة المحرمة من هذا النوع؟ وما معنى أن يستطيع البشر في هذا العصر، التوصل، في مخابرهم ومعاملهم، إلى علاج لأكثر الأمراض شيوعاً وخطورة، وإلى مكافحة معظم أنواع الفيروس عدا هذا المرض تحديداً؟ إرادة إلهية عطلت جهاز المناعة عن القيام بدوره لهؤلاء الخارجين على أوامر الله وقوانين الحياة والطبيعة.
آفة الشذوذ هذه انتشرت قديماً في قوم لوط، وتنزلت بشأنها الآيات تُحدِّث عن مصيرهم البائس، وقد أصاب قوم لوط ما أصابهم عندما حلَّ عليهم غضب من الله جرّاء أفعالهم المنكرة وممارساتهم الشبيهة بما هو جارٍ الآن.
من هذه الآيات في قوم لوط قوله تعالى:
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ. أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (العنكبوت:28-29)
ولنلاحظ كيف أن الآيات تتحدث عن أسوأ ما يمكن أن يمارسه الإنسان سلوكاً، ولكنها مع ذلك، تقدم القصة في أرقى عبارة وأعف كلمات. المدهش كيف قدمت قصة ممارسات غير نظيفة بمفردات نظيفة راقية؟ (إنكم لتأتون). بهذا الخطاب القصير الحاسم اسْتُعيضَ عن كلمات جارحة غالباً ما يستخدمها الإنسان في وصف مثل هذه الممارسات.
ــ لغة من هذه؟
ــ كيف أمكن لقرشي في الجزيرة العربية العلم بقصة قوم من هذا القبيل قبل عصره بزمان سحيق؟ وفي مسألة على هذا القدر من الحساسية والخطورة التدميرية للإنسان؟
ــ هل كان ضرورياً أن يتصدى محمد (عليه السلام) لمثل هذه المسألة الأخلاقية الشائكة لو كان منشغلاً بأمر الزعامة في قومه من أجل تحقيق طموحات خاصة يسعى إليها؟ ما له ولهذه القضايا عندئذٍ، وأين هي الضرورة الملجئة إلى الخوض فيها؟
ــ مرة أخرى هل كان محمد مختصاً في علوم الطب والكيمياء والفيزياء لكي يخوض في مثل هذه المسألة، فضلاً عن أن يكون عارفاً بآثارها وأضرارها على النفس والجسد وما يلحق بالمجتمع نفسه من وبال نتيجة لها؟.
وفي شأن آخر كالربا تتنزل آيات تحرمه تحريماً قاطعاً، حفاظاًً على الفرد والمجتمع، وإن كانا غير مهيئين بعد لتقبل الفكرة وما تنطوي عليه من خير للمصلحة العامة والخاصة معاً. الربا، دونما ريب، آفة خطيرة ذات آثار تدميرية، إلا أنه ما كان لها أن تدخل ضمن اهتمامات من يسعى لزعامة دنيوية، لاسيما إذا كانت نتيجة التعرض لها بالمنع والتحريم سوف تثير في وجهه الكثير من ردود الفعل الغاضبة والمتاعب والخصومات، لاسيما وأن القوم كانوا يضعون أموالهم في منزلة أرواحهم؟ ومن ثم كان حرصهم على ألا تُمسَّ من قريب أو بعيد.
ألم يكن خليقاً بمحمد إذن أن يتجاوز عن هذه المسألة، مسايرة وتفادياً لما سوف ينجم عن إثارتها من صعوبات تعترض طريقه في مسعاه لاجتذابهم إليه وصولاً إلى تحقيق طموحاته؟
لكن المسألة ــ كما أسلفنا ــ لم يكن له فيها خيار. هي قرآن يتنزل عليه، وهو مكلف بتبليغه، أحب الناس ذلك أم كرهوه. فالأمر لا يتوقف على رؤيته، أو ما يوافق هواه. الآيات تتنزل صارمة، منذرة، متوعدة، غير مهادنة ولا مساومة فها هي تقول في التحريم وفي وصف متعاطي الربا:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (البقرة: 275-276)
وصف حال متعاطي الربا، تحريمه، علاجه، مصير المخالف للتحريم، »المحق« في الدنيا و»الخلود في النار« في الآخرة، ذلك كله في آيتين وحسب، في أقل عدد من الكلمات التي لا تعوزها البلاغة، وفي أفصح بيان لا تخطئه الذائقة الأدبية الرفيعة. وهو إذ يتصدى للمسالة لا يخشى ردود أفعالهم حياله، أو وقعها عليهم إزاء قرار يتعلق بواحدة من أهم خصوصياتهم، ومصدر الرزق للكثيرين منهم. بل هو يعلنها حرباً عليهم إن لم يستجيبوا للأمر في آيات أخرى من السورة تقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:278-280)
ترى لو كان المتصدي لمسألة كهذه مجموعة من الاقتصاديين المعاصرين، وكان هدفهم التأجيل لصالح المدين العاجز عن سداد الدين وفوائده، أي ما يطلقون عليه اليوم تمويهاً وإمعاناً في التضليل مصطلحاً براقاً هو (خدمة الدين)، فماذا كان هؤلاء يقولون. دعك حتى من الجانب الأخلاقي في المسألة؟ هل كان في وسعهم الإتيان بلفظة واحدة محددة تغني عن بحث مطوَّل يستغرق صفحات طوالاً. وتفي بالحاجة أيّما إيفاء كلفظة »فنظرة« للإمهال، ولفظة »ذو عسرة« لوصف حالة (المدين) تجنباً لامتهان كرامته عند استخدام مصطلح (جدولة الدين) مثلاً مقابل فرض شروط سياسية أو اقتصادية معينة لصالح الطرف الدائن وخدمة لأهدافٍ له عند المدين غالباً ما تكون أقرب إلى الاستعباد.
ناهيك عما تشتمل عليه الآيات من بشرى للمستجيب ووعيد للسادر في غيِّه، ــ للرافض ــ إيثاراً لمصلحة يتوهمها أو تتراءى له.
يقول الداعية أحمد ديدات:
(اقرأ القرآن وتدبَّره، وقلَّبه على أيّ وجه تريد تصل دائماً إلى نفس النتيجة وهي [أنه ليس كلام بشر]، حيث لا يستساغ عقلاً القبول بفكرة أن يواصل إنسان ما تأليف كتاب يستغرق جمعه ثلاثة وعشرون عاماً، يبتلى فيها وخلالها بأشق ما مرَّ به نبيٌّ مرسل، دون أن تتقلَّب أفكاره، وتتفاوت تعبيراته، ويختلف أسلوبه. فعلى الرغم من نزول آيات القرآن منجّمة، مفرّقة في أوقات شتى ومناسبات عديدة، فما اختلف السياق والجرس المميز لكلِّ سورة على حدة ولسوره كافة. وما تضاربت الحقائق والأفكار والتشريعات بين سورة وأخرى، بل تكاملت، وفسَّر بعضها بعضاً. وليس هذا شأن أي كتاب بشري يكتب ويجمع بهذه الكيفية، وطوال تلك المدة)( ).
* * *
التأثير الروحي للنص القرآني
إن من أعداء الإسلام أنفسهم من لا يملك غير الإقرار بعظمة القرآن، واختلافه عن سائر كلام البشر المعهود قبل نزوله وبعده سواء بسواء. فهذا هو القس (بورسوت سميث) وهو معادٍ للإسلام يقول في كتابه (محمد والديانة المحمدية)( ): (إنه معجزة في صفاء الأسلوب وفي حكمته وصدقه). وكاتب بريطاني آخر (آريري) تصدى لترجمة القرآن يقول في تقديمه للترجمة: (كلما أستمع إلى ترتيل القرآن الكريم، أشعر كأني أنصت إلى نغم ينساب في لحنٍ موسيقي ذي إيقاع متصل ينبض مع دقات قلبي)( ). وكذلك شأن (مارما دوك بيكال) الذي اعتنق الإسلام فيقول (سيمفونية لا تدانى، ولا تحاكى، تستدر الدموع من المآقي، وتستثير أشجان النفس). ويقول (كريستي ويلسون) في كتابه تقديم الإسلام (ليس بعد الإنجيل ــ من وجهة نظره المسيحية ــ إلا القرآن فهو أعظم الكتب الدينية تأثيراً وأكثرها احتراماً وتبجيلاً).
وإذا نحن أخذنا إحدى قصص القرآن الكريم. ولتكن قصة النبي موسى عليه السلام لنرى إعجاز التعبير القصصي فيها، مع ملاحظة أن الخطاب موجه لأكثر من جهة، منها المشركون ومنها المنافقون، ومنها اليهود والنصارى. أي أنه خطاب شامل. تأتي البداية هكذا:
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (طـه:9)
عبارة قصيرة جداً، لكنها مثيرة للنفس، تشحنها على الفور بالترقب لما يتبعها من سياق. فالمسلمون يتشوقون لسماع قرآن يتنزل على الرسول الذي آمنوا به. والآخرون آذانهم صاغية تأهباً للمعارضة بل والسخرية مما عسى أن يلقيه عليهم أميٌّ لا يعرف عن موسى مثل ما يعرفون في كتبهم، أي يهود المدينة.
ثم يمضي الوحي في عبارة أقصر:
»إذ رأى ناراً..
وهنا قمة الإثارة. ثم تمضي القصة.
.. فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (طـه:10-13)
قصة قد تستغرق الصفحات، في العادة، وربما الكتب، لو أراد أن يكتبها إنسان ما، تأتي في هذا العدد القليل من الآيات، بيد أنها تستوفي المطلب من ناحية القصّ، كما أنها تحفل ببلاغة لا نظير لها ـ إلا في القرآن ـ في موسيقاها الشجية، وتركيبها المتماسك الرائع، ووقعها على النفس وفي القلب والوجدان جميعاً.
فالقرآن فريد في أسلوبه، يصل دائماً إلى الهدف مباشرة، دون استطرادات مملة لا داعي لها. لن تجد بين دفّتيه روايات مطوَّلة ابتغاء اكتساب الواقعية والمصداقية قبل أن تصل إلى ما تريد قوله. الأمر الذي يعمد إليه القصصيون والروائيون في كتاباتهم عادة.
حين استقر الإسلام في المدينة المنورة، وعمَّ صداه أرجاء الجزيرة العربية أرسل نصارى نجران وفداً إلى المدينة لكي يناقشوا النبي (عليه السلام) على ضوء ما لديهم من معرفة بالله والأديان. أحسن المسلمون استقبالهم. ثم جرى بينهم وبين الرسول حوار طويل ـ أوردته كتب السيرة ـ قبل أن يوجهوا إليه سؤالهم القاطع المستفز سلفاً:
(أنبئنا يا محمد من هو الله)
تنزَّل الوحي لتوه على رسول الله صلى الله عليم وسلَّم. وكانت سورة الإخلاص الجامعة المانعة ذات الآيات القصيرة الخاطفة، ذات السطر الواحد لإجابة هي جماع العقيدة برمتها:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (الإخلاص:1-4)
السورة التي تلخص جوهر العقيدة الإسلامية، وتمثل الفيصل الحاسم بين الحق والباطل.
وعود إلى مسألة البلاغة في اللفظ والجزالة في العبارة والبيان السامي المعجز كما يراها مالك بن نبي:
(إن لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاَّّقة، طبقاً لعبقريته ومزاجه. فالفراعنة مثلاً اهتموا بفنون العمارة والرياضيات. كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه منه (فيدياس) وبآيات المنطق والحكمة على ما جاءت به عبقرية (سقراط وأرسطو وأفلاطون). أما العرب في الجاهلية، فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا في استخدامها على ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى، وإنما كان العربي يفتنُّ في استخدام لغته، فينحت منها صوراً لا تقلُّ جمالاً عما كان ينحته (فيدياس) في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليوناردو دافينيتشي) في لوحاته ومنحوتاته.
(هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن، فكان لإعجازه أن ينفذ إلى الأرواح، بما ركِّب في الفطرة العربية من ذوق بياني. ومن ذلك ما ترويه كتب السيرة مما يظهر فيه أثر الإعجاز على الذوق الفطري عند العرب في الجاهلية. ونقتصر على صورتين، الأولى: إسلام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما تأثر بآيات سمعها من أخته فاطمة أو قرأها في صحيفتها (من سورة طه). والثانية: حكم الوليد بن المغيرة ــ حين يستمع إلى محمد ــ فيقول في القرآن كلاماً هو أبلغ شهادة ينطق بها مناهض للدعوة إذ يقول:
(والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة..) ولكنه سرعان ما ينتكس، متأثراً بموقف أبي جهل، فيختم كلامه منكراً صدق الرسالة بقوله: (وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء يفرق بين المرء وأبيه.. الخ..).
وهذا هو صدى الإعجاز في فطرة العرب، في صورتين مختلفتين. حتى إذا تقدم الزمن، وتغيرت الظروف الاجتماعية، وتقدمت العلوم صار الإعجاز موضوع دراسة قائم بذاته، فكتب فيه أئمة البيان، من أمثال الجاحظ في كتابه (نظم القرآن) وعبد القاهر الجرجاني صاحب (دلائل الإعجاز)( ). وفي عصرنا كثير، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
يقول محمود شاكر في أهل الجاهلية:
(وعلى الذين تلقوه به من اللدد في الخصومة والعناد لم يلبث أن استجاب له النفر بعد النفر إقراراً وتسليماً بأن الكتاب كلام الله، وأن الرجل نبي الله. حتى لم تبق دار من دور أهل الجاهلية إلا دخلها الإسلام أو عمَّها. فأقبل كل بليغ منهم، وكل متذوق للبيان، ناقد يتحفظ ما نزل من القرآن يتلوه ويتعبد به. ويتتبع تنزيله تتبع الحريص المتلهف، وينصت حين يتلى في الصلوات وعلى المنابر يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام. وكلهم خاشع لذكر الله وما نزل من الحق، يصدق خشوعهم( ) قوله تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر:23)
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أفصحُ ذي لسان وأبلغ ذي لبٍّ، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغاية التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدها. يقول الله عز وجل:
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الزمر:27-28)
(وينبغي أن نمعن النظر في قوله تعالى »غير ذي عوَج« وتقف على موقع هذا الفصل الآية، وتتأمل لفظة (العِوَج) فضل تأمل، فإنك لا تثير دفائنها البيانية إلا إذا حملتها على ما ذهبنا إليه، فتراها تصف القرآن بأنه فطرة هذه الفطرة العربية نفسها. وإنها لكلمة من الوصف الإلهي ترجح في موقعها بالكلام الإنساني كله( ).
(فقد وضح أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته. ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بد.. وذلك معنى من أبْيَن معاني الإعجاز، إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن)( ).
وفي هذا المعنى يقول مالك بن نبي:
(فأهل الجاهلية هم من وصفت لك منزلتهم من البيان، وقدرتهم على تصريفه بألسنتهم، وتمكنهم من تذوقه بأدق حاسة في قلوبهم ونفوسهم، وعلمهم بأسراره، وتغلغلهم في إدراك الحاجز الفاصل بين ما هو من نحو بيان البشر، وما ليس من بيانهم. أهل الجاهلية هؤلاء، هم الذين جاءهم كتاب من السماء بلسانهم، هو في آيات الله بمنزلة عصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص في آيات أنبيائه ـ يقصد عيسى عليه السلام ـ لتكون تلاوته على أسماعهم برهاناً قاهراً يلزمهم بالإقرار له بصحة تنزيله من السماء على قلب رجل منهم، وأن هذا الرجل نبي مرسل، عليهم أن يتبعوه وأن يستجيبوا لما دعاهم إليه. فلما كذبوه وأنكروا نبوته، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الذي يسمعون في نظمه وبيانه. وألح عليهم يتحداهم في آيات منه كثيرة. ولكنهم وجدوا في أنفسهم مفارقته لبيان البشر، وجداناً ألجأهم إلى ترك المعارضة إنصافاً للبيان أن يُجار على حقه، وتنزيهاً له أن يزري به جورهم على الحق)( ).
* * *
القرآن هو المعجزة
أما الإمام الشيخ محمد عبده فيقول:
(وإني عندما أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينطق به كما نزل به عليه جبريل عليه السلام) ( ).
كان القرآن هو معجزة الرسالة، ومصداق النبوة لمحمد عليه السلام. ولكن قريشاً وغيرها من مناوئي الدعوة، لاسيما يهود المدينة والجزيرة، وقد عرفوا، عن طريق القرآن نفسه، حين كان يتلوه عليهم، بأمر المعجزات التي كانت للرسل والأنبياء السابقين، فقد طالبوا محمداً بمعجزات من ذلك القبيل، لكي يصدقوه، كما زعموا، وإن كانوا لا يهدفون غير التعجيز والمماحكة، فجاء قوله تعالى في وصفهم:
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (الإسراء:90-93)
وفي نفس المقام قال تعالى أيضاً:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (الأنعام:109-111)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (الحجر:6-8)
هذه الردود المفحمة في هذه الآيات المحكمة ما كان الرسول بقادر على اجتراحها من عنده على هذا النحو، وفي مثل هذه الصياغة. ثم إنه يقول لهم ـ أي القرآن ــ أن هذا هو رد الله سبحانه على ما يطالبون به، وهو الأعلم بما وقر في نفوسهم. والله لا يريد منهم الإيمان بالإسلام عن طريق معجزات مادية ــ كما حدث من قبل في اليهودية، والمسيحية لما اقتضته ظروف كل منهما ــ ولكنه يريدهم أن يؤمنوا عن طريق الدليل اليقيني والإقناع العقلي، والتصديق بالقلب والروح بما تعرضه وتوحي به الآيات البينات من كتابه الكريم، وما تتضمنه من آيات الإعجاز في بيانها، ما من سبيل إلى إنكارها، ولا مندوحة عن إقرارها. وذلك بعد أن تحداهم ـ كما سلف في فصول سابقة ـ بأن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله.
ولما كانت رسالة محمد بالإسلام جاءت إلى الناس كافة، في كل زمان ومكان، ولم تقتصر على قوم بعينهم، كقوم موسى وقوم عيسى، فهنا تبرز قضية على غاية من الأهمية ردّاً على هؤلاء هي:
لو أن الإيمان بالله وبالإسلام يقتضي شهود معجزة على يد محمد ليقتنع بها معاصروه عند مشاهدتها، فمن لأولئك البعيدين في المكان والزمان، الذين لم ولن تتسنى لهم فرصة كهذه، لاسيما بعد انقضاء مئات من السنين، ثم آلافها ربما، إذا ما قيض للبشر البقاء حتى ذلك الزمان. من لهؤلاء بمعجزات يشهدونها عياناً، فيما بعد، لكي يتحقق الإيمان مادام هذا شرطه؟ لهذا كان القرآن الذي وعد الله بحفظه مدى الدهر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9) هو المعجزة الحقيقية في حد ذاته، الباقية والتي سيؤمن بها اللاحقون. وهذا هو ما حدث من يومئذ، وما هو حادث في أيامنا هذه.
نقول هذا على الرغم من علمنا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم كانت له معجزات مشهودة وفي مواقف كثيرة، منها ما تضمنه القرآن (كعصمته من الناس)، ومنها ما كان على الواقع. لكن الله سبحانه لم يشأ أن تكون المعجزة المادية هي مصدر الإيمان بهذه الرسالة تحديداً، كونها آخر الرسالات لخاتم النبيين، من ثم كان الأولى أن تبقى للمسلمين معجزة أزلية لا تبطلها الأيام، ولا تقتضيها المشاهدة. وهل كان يمكن للناس في أيامنا ـ مثلاً ـ أن يصدقوا رواية تنقل إليهم عن أناس كانوا شهودها قبل أربعة عشر قرناً؟ أوَليس القرآن الذي بين أيديهم أصدق، كشاهد وكبرهان، من أي شيء آخر؟
ويكفي أن نذكر معجزة الإسراء والمعراج، التي فتنت بعض الناس فأوشكوا أن يرتدوا عن إسلامهم حين لم تستطع عقولهم تصور إمكان حدوثها، حسب المقاييس الطبيعية والبشرية بطبيعة الحال. إذن المعجزة المادية ليست شرطاً لازماً لكي يؤمن من شاء أن يؤمن، أو يكفر من لم يشأ إلا أن يكفر.
وقد نختم هذا الفصل بفقرة من كتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل( ):
(بلغت حياة محمد الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها، في نواحي الحياة جميعاً. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بجوهر الكون وكنهه، من أزله إلى أبده. واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة. ولولا هذا الاتصال، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، لرأينا الحياة على كرِّ الدهور تنفي مما قال شيئاً. لكن ألفاً وأربعمائة من السنين انقضت ومايزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى. وبحسبنا على ذلك مثلاً واحداً نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرناً لم يقل أحد خلالها إنه نبي أو إنه رسول رب العالمين فصدقه الناس. قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنَّموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة، فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة. ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون، فينذر كلٌّ قومه أنهم ضلُّوا ويردهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم أنه أرسل إلى الناس كافة، أو أنه خاتم الرسل والأنبياء. أما محمد فيقولها، وتصدّق الأيام والقرون كلامه. ولولا أنها من عند الله لخشي أن تكذبها الأيام والوقائع التي مابرحت طي الغيب).
* * *
سياق روائي في التحليل والتصوير
من اللافت للنظر، مسألة تبدو على غير قليل من الطرافة. ذلك أن القرآن الكريم سبق المدارس النقدية التي لم تعرف إلا حديثاً في شأن الرواية والقصة تعريفاً. هذه المدارس تجمع، مثلاً، على وجوب إنطاق الشخصية حسب مستواها الاجتماعي والثقافي والبيئي. كما أنها تتحدث عن المونولوج الداخلي، وعن تيار الوعي، والحوار بين الشخصيات والأدب الهادف والملتزم ونقيضهما، وما إلى ذلك من مصطلحات هي تسميات لمفهوم الرواية والقصة وتحديدات لمواصفاتهما.
هذا كله تجده في القصص القرآني وقد سبق إليه. ولا بد لنا هنا أن نؤكد أن المقارنة مع الفارق لصالح النص القرآني الأقوى والأهم والأسمى. وليس الغرض مما نذهب إليه في هذا التفسير والتحليل القول بأن القرآن ينطبق على مفاهيم النقد الحديث، وإنما نرمي إلى العكس بقولنا إن القرآن سبق كل هذه المدارس وإن لم يستخدم المصطلحات والتسميات، فما هذه سوى أدوات يستجد منها ما يستجد في كل عصر، تمشياً مع معطياته، التي أياً كانت، لا تخرج عن جوهر المسألة التي هي ثابتة في النص القرآني كأصل وجذر غير قابل للتبديل أو التغيير أو التعديل.
وسنأخذ هنا قصة يوسف عليه السلام، حيث نجد فيها أولاً: تعدد الشخصيات: يعقوب.. يوسف.. أخوة يوسف.. امرأة العزيز.. العزيز.. صاحبي السجن.. النسوة صويحبات امرأة العزيز.
فماذا نجد عند هذه الشخصيات؟ سوف نجد أن لكل منها منطقها ولغتها وشخصيتها المستقلة بمعنى أن كل شخصية منها تختلف في تصرفها وردة فعلها إزاء الأحداث والمواقف في كل مرة حسب متطلبات ذلك الحدث وذاك الموقف. فيوسف الغلام الذي يتحدث بلغة هي غير لغة يوسف الناضج في مراحل مقبلة من حياته، كمناجاته لربه حين همت به امرأة العزيز بأن (يصرف عنه كيدهن). ويختلف هذا عن حديثه إلى صاحبي السجن يفسر لهما رؤاهما ـ بل ولكل منهما بمنطق مختلف حسب نوع رؤياه. كذلك في حديثه إلى إخوته، تعريضاً بما فعلوا بيوسف الغلام، حين جاءوا مصر للحصول على مؤن وأغذية، فعرفهم دون أن يعرفوه، رداً على تعريضهم بيوسف وأخيه بقولهم ((إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)). بل تتحدث الآية كيف أسرَّ يوسف ذلك في نفسه ((ولم يبدها لهم. قال أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلم بما تصفون)). ثم بعد ذلك موقفهم واستخذاؤهم حينما عرفوه ((قالوا إنك لأنت يوسف.. قال أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)). وتتغير لهجتهم الاعتذارية بقولهم: ((تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)). كما تتغير لهجته هو التي تُشعر بالتسامح والغفران: ((قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)). ثم بلهجة مختلفة أيضاً يطلب إليهم: ((اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين)). ثم يأتي موقفه الأكثر تأثيراً عاطفياً، بما يقتضيه الموقف المختلف، عند لقائه أبويه إثر قدومهم إلى مصر ورفْع: ((أبويه على العرش)) وقوله لأبيه في حنان دافق: ((يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً)) مذكراً برؤياه في العهد البعيد في أول القصة، وقبل تصاعد الأحداث وهذا ما يعرف (بطريقة الاسترجاع). مكملاً القول: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (يوسف:100). ونعلم من سياق الآية كيف جاءوا من البدو إليه. ثم يتوجه إلى ربه مبتهلاً شاكراً، (مذكراً المتلقي أيضاً) بقوله مناجياً ربه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (يوسف:101).
وهنا نلاحظ العودة إلى ذلك الزمن البعيد، زمن الرؤيا، ليرى تأويلها يتحقق على الواقع.
كذلك الأمر في شخصية يعقوب وموقفه من مجريات الأحداث. كموقفه عندما جاءوه بالنبأ المفجع: »أكله الذئب ونحن عنه غافلون«. موقفه منهم ورده عليهم. بقوله وهو غير مصدق لهم: »قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون«. ثم نراه بعد انقضاء زمن، وبمناسبة ما حدث لأخي يوسف الأصغر وعودتهم إلى أبيهم من دونه يشكو إلى الله في مناجاة وضراعة: »إنما أشكو بثي وحزني إلى الله«. ولأن إحساسه الداخلي، في حنايا قلبه، يخبره بأن يوسف مازال حياً يرزق، يطلب إليهم بلهجة مختلفة كأنها الرجاء: يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف:87). وعندما يشم ريح يوسف.. وحين يلقى قميصه على وجهه »فيرتد بصيراً«. في كل مرة يختلف الحديث، والنبرة، واللهجة، والمنطق. ولا ننسى حوارهم معه فيردون على أبيهم حانقين عندما يعلن أنه يجد »ريح يوسف« بقولهم: ».. تالله إنك لفي ضلالك القديم«. كذلك كانت حدَّتهم عندما وجه إليهم يوسف الاتهام بسرقة صواع الملك، فكان ردهم الانفعالي:
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (يوسف:73).
أما تلك المرأة المتحدية. لماذا قلنا (متحدية)؟ لأن شخصيتها المرسومة بدت كذلك في النص. جرأتها وكذبها وافتراؤها عندما أمسك بها الزوج متلبسة فأنكرت، بل عمدت إلى تحريضه على يوسف، تبرئة لنفسها وتغطية على موقفها الحرج بقولها: »ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن أو عذابٌ اليم«. ثم تذهب إلى أبعد من ذلك بحكم تلك الجرأة في شخصيتها، فتدعو نساءها في جرأة وقحَّة أشد، لتريهن وقع مرأى يوسف عليهن. وعندما »قطَّعن أيديهن« »وقلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم« أعلنت في تحدي من لا يخشى العواقب: (قالت فذلك الذي لمتنَّني فيه) بل وتعترف: »ولقد راودته عن نفسه فاستعصم«. ثم تهدد جهاراً نهاراً على مسمع منهن: »ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنَّن وليكونن من الصاغرين«. ثم تمضي القصة على محاور عديدة، إلى أن تعود امرأة العزيز فتثوب إلى رشدها معترفة بأنها كانت له ظالمة فتقول: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (يوسف:51). مضيفة أيضاً القول: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (يوسف:52-53).
ألا ترى كيف أن لها في كل موقف منطقاً مختلفاً حسب المعطيات والظروف؟ لكنها دائماً متحدية، عدا موقفها الأخير الذي ينمُّ أيضاً عن ثقتها بنفسها كشخصية قوية واثقة إذ تعترف ــ وقلما تعترف المرأة ــ جهاراً نهاراً بما كان منها. تلك كانت صورة المرأة الجريئة العنيفة المعتدة بمركزها وجمالها، حتى بدت في تصوير القرآن لها عبر هذه الأحداث وكأننا نعرفها بل كأنا نراها رأي العين. وكذلك باقي الشخصيات في القصة بدت وكأننا نعاصرها ونعايشها زماناً ومكاناً مع أبطالها.
والغريب أن السورة التي جاءت في خمس عشرة صفحة ومائة وأحد عشر آية، بما في ذلك ما تضمنته من عظات وعبر، تُستخلص من بين ثناياها، أعطتنا ــ كأحداث ووقائع ــ نصاً روائياً طويلاً كاملاً في الزمان والمكان وتعدد الشخصيات وتنامي الأحداث، وصورة المجتمع القائم آنئذ كما لو كنا نشهده بأم أعيننا.
وقد نجد في آية واحدة ـ وهو أمر مذهل حقاً ـ ما يعرض سمة العصر في ذلك البلد (مصر)، وما ساد فيه من عادات وتقاليد وأعراف ومواصفات اجتماعية واقتصادية.
كما نلحظ تصوير الموقف المحوري في القصة وذلك عند مفاجأة العزيز لهما في تلك اللحظة الحرجة. تبين لنا موقف العزيز في تصوير قصصي بديع. فها هو إذ يخاطب يوسف وكأنك تراه يقف أمامهما محدِّقاً في يوسف معاتباً أو مندداً:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا.. (يوسف:29)
ودون أن تقول الآية أنه (نظر إليها) أو أنه (أردف قائلاً)، ــ كما نفعل ونحن نكتب نصّاً قصصياً ــ بل تنتقل الآية مباشرة إلى حديثه مع امرأته، تاركة لك تخيل الموقف، ليقول لها دون أن يناديها باسمها، فتفهم أن الخطاب موجه إليها:
.. وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (يوسف:29). تاركاً لك أيضاً الربط في خيالك بين الصورتين.
والسورة تدلنا على أنه كان مجتمعاً محافظاً. يتبيَّن ذلك من موقف العزيز الاستنكاري لمحاولة الخيانة الزوجية، كما تبين من موقفها مع النسوة وخشيتها القيل والقال، فتدعوهن لتريَهنَّ أنها كانت معذورة في تصرفها وفي ضعفها الأنثوي أمام إغراء وسامته الصارخة.
ففي الآية (30) من السورة ـ على سبيل المثال ـ نرى صورة المدينة، والقصر، والطبقة الحاكمة بأرستقراطيتها وتعاليها وسلطانها من جهة، وما يشغل مثل هذه الأوساط من قضايا تحمل سمة الترف والسطحية والفراغ، حيث تنتشر الشائعات، وتكثر الأقاويل في الخصوصيات والفضائح. تقول الآية:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (يوسف:30)
صورة النساء المترفات الفارغات من الهموم والمشاغل. اللواتي لا يجدن ما يملأ فراغ حياتهن غير الحديث عن الآخرين ــ الأخريات بخاصة ــ وأسرارهم وخفاياهم، وإثارة الشائعات المغرضة.
وتكتمل الصورة عند امرأة العزيز، حين تبلغها أحاديث النسوة في شأنها فترد عليهن بالأسلوب الماكر ذاته الذي تصوره لنا الآية الكريمة التي تليها مباشرة فتقول:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف:31)
وهذه الآية الأخيرة تصور الشحنة النفسية المحتدمة في داخلها بحيث تدفعها إلى استخدام كلّ دهائها ومكرها لإيقاعهن في الحرج وتسويغ ما أقدمت عليه. إرسالها إليهن، إعداد المكان للجلوس، إعطاءهن السكاكين، ثم طلبها إليه الخروج عليهن، إكبارهن وإعجابهن إلى درجة تقطيع (جرح) الأيدي، ردة فعلهن مأخوذات بجماله ووسامته. ذلك كله في آية واحدة من ثلاثة أسطر أو أقل، يعجز عنها أبرع الكتاب والمبدعين في أقل من عشرات الصفحات، دون أن يبلغ فيما كتب وأبدع بعض ما بلغته الآية الواحدة هذه( ).
هل أدق من هذا الوصف للمجتمع الملكي، وللمدينة الرافلة بالعز والنعمى يومئذ في مصر؟
هل كان في وسع محمد عليه السلام الإلمام بذلك كله، بتفاصيله الصغيرة وجزئياته، ثم التعبير عنه على هذا النحو؟
هذا مثال في سورة واحدة. ويمكننا أن نخلص إلى نفس النتائج في سور قصصية كثيرة: كسورة مريم، والكهف، وإبراهيم، وطه، ونوح، ولوط، ومعظم قصص الأنبياء الآخرين.
إنهم يتحدثون اليوم عن ما أسموه قصة قصيرة جداً. لقد سبق القرآن ما نعرفه الآن عن هذا الضرب من القصص. لننظر، على سبيل المثال، إلى تلك القصص القصيرة جداً، في السور القصيرة جداً، فماذا عسانا أن نجد:
سورة الفيل جاءت في خمس آيات، في ثلاثة أسطر. لكنها عرضت قصة كاملة عن أصحاب الفيل، وماذا فعل الله بهم، وكيف أرسل عليهم طيراً أبابيل، أبادتهم وأحلت بهم الخسران والخذلان. وفوق ذلك تضمنت آية من آياتها الخمس عظة جاءت في صيغة تساؤل: (ألم يجعل كيدهم في تضليل) أي أن القصة كلها جاءت في أربع آيات قصار فقط.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (الفيل:1-5)
وفي سور أخرى جاءت القصة في بضع آيات وحسب، لكنها كانت وافية وكافية لإعطاء الصورة للقصة كلها. فقصة ثمود وما حل بها جاءت في أربع آيات من سورة الشمس، في ثلاثة أسطر فقط التي هي جزء من السورة:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (الشمس:11-14)
في هذا النص القصير جداً، عرفنا قوماً اسمهم ثمود، وعرفنا أنهم كذبوا وطغوا. وكأن كل كلمة من الآية الأولى تتحدث عن مرحلة وتصف حالة: كذبت.. ثمود.. بطغواها.. وتستوفي بها المعنى كاملاً والصورة. ثم عن انبعاث اشقاها.. صورة كاملة أخرى. وفي الآية التي تليها صورة لما قال لهم رسول الله وفيها ذكر لناقة.. وتليها آية قصيرة تصف: تكذيبهم إياه.. ثم عقرهم إياها (الناقة).. ثم غضب الله عليهم فأشارت إلى عقاب الله الذي حلَّ بهم، بكلمة واحدة هي: »فسواها«. كلمة جامعة مانعة مثيرة للخيال، ناطقة بما حدث للقوم.
وتنتهي القصة وأنت ملمٌّ بكل ما جرى وكأنك قرأت كتاباً يحكي قصتهم البائسة.
أما سورة (الحاقة) ففي آيات أربع منها فقط تصور لنا مآل شعبين في ذلك الزمن الغابر، وما حاق بهم من عذاب، ونوعية ذلك العذاب ووسيلته. الشعبان هما ثمود وعاد. والآيات تبين السبب أولاً بالقول:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (الحاقة:4)
ثم النتيجة بسبب تكذيبهم وهي:
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا . وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (الحاقة:5-7)
ثم التساؤل، للاعتبار مما حلَّ بالقوم:
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (الحاقة:8)
ولنمعن النظر في قوله تعالى بعد أن عرفنا أن الريح الصرصر العاتية كانت وسيلة العقاب وأداته (وكم هي مخيفة كلمة صرصر هنا). تصف الآية الريح التي تواصلت بسبعة أيام بلياليها. وأما الوصف إثر تلك العاصفة لما أمسى عليه حال القوم فليس هناك ما هو أبلغ ولا أدق ولا أوقع في النفس »فترى القوم فيها صرعى«.. »كأنهم أعجاز نخل خاوية«. في عبارة قصيرة تتخيل المشهد حقلاً مترامي الأطراف تناثرت فيه أعداد هائلة من الأجساد خالية من كل حياة، فبدت كجذوع النخيل الجوفاء الملقاة على الأرض هامدة لا حراك فيها.
وقد تأتي تتمة القصة لقوم من الأقوام، في كثير من الحالات، في مكان آخر من القرآن، في سورة أخرى. فقوم عاد جاء وصف بلادهم مثلاً، في سورة الفجر إذ نقرأ:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (الفجر:6-8)
وصف بلادهم (إرم ذات العماد) بأنه »لم يخلق مثلها في البلاد« يدلنا على ما كان عليه القوم من تمدّن في مضمار العمران وإشادة البنيان. ولكنهم لم يرعوا نعم الله التي أغدقها عليهم: (فأهلكوا بريح صرصر عاتية).
يقول سبحانه:
.. مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف:111)
وما محمد (عليه السلام) سوى مبلِّغ عن ربه ما أنزل إليه. وهل من أحد، كائناً من كان من البشر، بقادر على اجتراح مثل هذا الإعجاز؟ أليس هذا فوق مستوى البشر ـ سائر البشر؟
* * *
[/align]