الفصل الخامس
القرآن وأهل الكتاب
[align=justify]
التحريف في الكتب السماوية
ليس غريباً أن تثير التساؤل حالة امرئ يظل قادراً على الرؤية الصائبة المطلقة، على الدوام، دونما عثرات تحدث أو أخطاء تقع، في مسيرة مداها طويل طويل. وتغدو المسألة أكثر مدعاة للتساؤل حين تتحقق النبوءات، ويصدق الإرهاص على ما هو بعدُ طيّ الغيب حين يحل زمانه، لاسيما إذا كان الزمان ممتداً لمئات من السنين ستجيء. ظاهرة لو حدثت فلا ريب أنها سوف تثير علامات استفهام كبيرة بحجم المسائل التي تعرض لها، وكثيرة بمقدار تعددها ومساحة شمولها، وساحة انتشارها.
ولكي تتوضح الظاهرة، ومن ثم الإجابة على شيء من علامات الاستفهام هذه سنأتي على أمثلة منها، فنورد بدايةً آيات في شأن اليهود تتحدث عن خصالٍ ملازمة لهم أبد الدهر، كانت قائمةً ماثلةً فيهم في عهد التنزيل، وها هي ما انفكَّت ماثلةً فيهم كذلك في زماننا الراهن. لم تغيِّرهم الأحداث ولا التطوُّرات ولا الوقائع التي جرت على مدى القرون الماضية. يقول الله سبحانه فيهم:
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (النساء:46)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (النساء:50)
كيف كان ممكناً أن يعرف محمد (صلعم) أن اليهود حرَّفوا الكلم عن مواضعه، وهو الذي لم يقرأ في التاريخ كتاباً عن حياة الأمم الغابرة، لم يتلق علماً عن أحد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التوراة والإنجيل لم تكن لهما ترجمة معروفة في زمانه، لكي يقال أنها وصلته بطريقة ما. كذلك أنَّى لمحمد (عليه السلام) أن يعرف عن صفاتهم تلك التي كانوا عليها قبل زمانه. وهو لن يعرف ــ من باب أولى ــ ما سوف يكونون عليه في قادم الأيام، وأنها سوف تظل ملازمة لهم على مدى الزمان، الأمر الذي وصلنا نحن من خلال كتب التاريخ، معايشة يومية عيانية. ونراه بأم أعيننا اليوم.
أما افتراؤهم على الله الكذب ـ في الآية الثانية آنفة الذكر ـ فهي تصور حالة ما برحت قائمة بشأنهم، لم تتغير أبداً. وهذه آيات أخرى تعزِّز الصورة عينها فيهم وفيمن يوالونهم من خارجين على المسيحية السمحة:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (المائدة:13-14)
تشير الآية الأولى ـ فضلاً عن تحريفهم التوراة ـ إلى خياناتهم، بصيغة الحال والاستقبال (لاتزال تطلع).. إلى آخر الآية.
أما الآية الثانية فتتحدث عن النصارى ـ مسيحيو أوروبا المثال على ذلك ـ فهؤلاء نسوا ما جاءت به المسيحية. وها نحن نراهم على ما هم عليه اليوم ـ وهو غني عن البيان ـ. يستعمرون ويستغلون المستضعفين في الأرض ويوقعون المظالم في كثير من الشعوب. فضلاً عن صراعاتهم فيما بينهم.
أليس غريباً أن تتحدث الآية في حينها عن عداوة وبغضاء سوف تمتد بينهم إلى يوم القيامة؟ ألا يخطر لنا أن مناوئي الإسلام وأعداءه ربما سخروا يومئذ ــ عند التنزيل ــ من الذهاب بعيداً إلى التنبؤ بأن هذا العداء سوف يمتد إلى يوم القيامة؟
ولكن: ألم يشهد التاريخ على ذلك؟
هل توقفت الحروب والنزاعات والصراعات، أو اختفت العداوات بينهم منذ ذلك الحين؟
ألم يشهد القرن الماضي وحده، بينهم أنفسهم، حربين عالميتين أودت كل منهما بما ينوف على خمسين مليوناً من البشر؟ ناهيك عن الحروب الأخرى التي كانت تقوم من حين لآخر قبل ذلك. نذكر منها: حروب نابليون، وحروب المائة سنة بين إنكلترا وفرنسا، وحرب الارمادا بين الإنكليز والأسبان، وحروب أمريكا مع بريطانيا ــ حرب الاستقلال ــ وحروب دول أمريكا اللاتينية. بل إن الحروب الصليبية قبل أن تحارب المسلمين في بلاد الشرق حاربت بيزنطة ونكَّلت بأهلها من المسيحيين.
لو لم يكن هذا كلاماً صادراً عن مصدر عليم لما وسعته الإحاطة بالصورة على هذا النحو مسبقاً وقبل وقوعها بزمن بعيد.
وهذه الآيات:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (البقرة:78)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة:79)
تجدر الإشارة هنا إلى أن التحريف لم يطل التوراة كلها ولا الإنجيل كله. بمعنى أن التحريف حدث في البعض وليس في الكل. والقرآن يشير إلى ذلك بوضوح في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (آل عمران:23-24)
كلمة (نصيباً) نكرة تفيد قدراً محدوداً من النصوص. أما لفظ (مِنْ) فهو للتبعيض. بمعنى أنهم أوتوا قدراً من الكتاب وليس الكتاب كله كذلك كلمة (فريق) إشارة إلى بعض منهم، وليس كلهم. أما عن تصورهم بأن النار لن تمسهم إلا في أيام معدودات فذلك ناتج عن فهمهم للقسم المحرف المفترى في ذلك الدين كما تقول الآية الثانية أعلاه (24 آل عمران).
أما الآية (14 ـ المائدة) التي سلفت الإشارة إليها فحينما تقول ((فنسوا حظّاً مما ذكروا به.. الآية)) فالنسيان هنا أصاب الجزء وليس الكل أيضاً. فقوله نسوا (حظّاً) تعني أنهم تركوا نصيباً وافراً من الكل مما ذكرناهم به.
يمكن القول إذن، وحسب معطيات القرآن الكريم التي تصور واقع ما حدث قبل التنزيل، ثم ما هو حادث وقائم عند التنزيل.. ثم بعده في قابل الأيام بأن التوراة والإنجيل تعرضا لتحريف في نصوصهما، ولكن أجزاء من تلك النصوص لم تحرف. أي أن التحريف لم يكن بالكامل.
تؤكد الأبحاث والدراسات، من مصادر شتى ــ معظمها غربي ــ أن كتبتهم أيام السبي في بابل وبعدها هم الذين وضعوا التوراة المتداولة اليوم ــ أي بعد أكثر من خمسمائة سنة ــ، وربما بقيت أجزاء قليلة من التوراة الأصلية المنزّلة. ولكن ما من أحد استطاع تحديد هذه من تلك. وكان قد مضى على وفاة موسى عليه السلام قرون عديدة عندما حدث ذلك. ثم زعموا أن هذا الذي كتبوه بأيديهم هو ما جاء به موسى من عند الله. ذلك على الرغم مما حفلت به من خرافات وأساطير لا يستسيغ عقل أن تكون ديناً منزّلاً على نبي، لما انطوت عليه أيضاً من إساءات بالغة في حق أنبيائهم أنفسهم، يعقوب وإسحاق وداوود وسليمان وغيرهم فهم لم يتورعوا عن نسبة الكثير من الأعمال الأثيمة واقتراف الموبقات لأنبيائهم. وما كان ذلك إلا ابتغاء منافع، وتحقيق مغانم أنتجتها عقليتهم الربوية، التي أتقنوا استغلالها للتدليس بها على الشعوب، بزعم أنها دين. وكما زوروا التوراة، زوروا كذلك التاريخ، الذي أقحموه عليها في أسفارهم تلك.
* * *
التضليل اليهودي والمصير
ومن بين ما تفتقت عنه ذهنيتهم المريضة ما ألقوه في روع الغرب، في الحقبة الأخيرة من الزمن ــ لاسيما أمريكا ــ حين استطاعوا تهويد بعض الكنائس فيها وصهينتها ــ بمعنى تسييسها حسب رؤيتهم ــ فأقنعوا أبناءها، بما يملكون من وسائل الإعلام وأدواته المختلفة، بضرورة اتّباع ما أسموه بالعهد القديم (الذي هو توراتهم المزيفة دون غيرها). مدَّعين أن العهد القديم هذا هو الأصل في الديانة المسيحية السابق للعهد الجديد ــ الإنجيل ـ.
وقد انتشرت هذه العقيدة اليوم في الكنائس المسيحية الأنجليكانية. وكذلك البروتستانتية (التي سبق أن بشّر بها ورسّخها في بعض بلدان أوربا، أهمها إنكلترا وألمانيا (مارتن لوثر) اليهودي، ومن بعده (كلفن) خروجاً على المسيحية الكاثوليكية).
كان ذلك توطئة لتسييس المسيحية(*) بل تهويدها حسب المصالح اليهودية. وبحسبها أوجب هؤلاء الاعتقاد بأن المسيح قادم إلى أرض فلسطين تحديداً في مستقبل قريب. وأنه من أجل تحقق مجيئه كان لابد من (عودتهم) إلى ما أسموه (أرض الميعاد). وبغير ذلك لا تصدق النبوءة ولا (يعود) المسيح..! ومن ثم وجب على مسيحيي الغرب التعاون معهم من أجل تحقيق ذلك. وهو ما حدث حتى الآن كخطوة لابد منها تسبق مجيء المسيح. أما ما يلي ذلك فهو ــ حسب مزاعمهم ــ أن حرباً سوف تقع في موقع (مجدو) بفلسطين. وهذه سوف يباد فيها (المسلمون) وتطهّر (أرض إسرائيل الموعودة لشعبه المختار..!) من كل ما هو غير يهودي ومسيحي إنجيلي..!
والمذهل أن ينجحوا في التوصل إلى ما هدفوا إليه، برغم ما بلغه الغرب في هذا العصر من تقدم علمي وثقافة عقلية، وعلمانية سائدة تتنافى جميعاً مع مثل هذه الخرافات، والتخرصات والأباطيل.
والأكثر غرابة أن يؤمن كثيرون في الغرب بمثل هذه التهاويم الدخيلة على فلسفته العلمانية، وهو الذي فصل الدين عن الحياة، وأقام نهضة على أسس علمية صرفة منذ خمسة قرون. الغرب الذي يرفض كل ما هو غيبي، وكل ما لا يخضع للتجربة العلمية يذعن لتقبل هذا المفهوم، استثناء لا مبرر له ولا منطق وراءه يسنده.
بل هم استطاعوا أخيراً تجنيد النخبة في الهرم السياسي للحكم في أمريكا ــ عن طريق حشد الأصوات والإعلام بوسائله الحديثة ومكنته الهائلة التأثير في الرأي العام ــ لخدمة هذه النظرية بحيث أمسى الحكم في أمريكا اليوم يهودياً ـ صهيونياً تماماً، من الكونجرس ومجلس النواب إلى الرئاسة ودوائر الخارجية والعسكرية والإعلامية..! يرى ما يرون ويأتمر بما يأمرون، في استجابة مطلقة، ورضوخ تام شامل. حتى أن أمريكا اليوم، التي أضحت قطباً أوحداً يهيمن على العالم، هم الآن على رأسه وفي قمته. بمعنى أنهم (يهيمنون) على الدولة (المهيمنة) فتحولت هذه إلى أداة تنفيذية لمخططاتهم. تماماً كما رسموا وخططوا في (بروتوكولات حكماء صهيون) منذ ما ينوف على قرن من الزمن.
والغريب أن المسألة برمتها كانت خديعة كبرى، يندهش المرء وتستبد به الحيرة كيف انطلت على رجال الفكر والسياسة والدين في أمريكا، بحيث أصبح أتباع هذه الكنيسة، التي سرقها اليهود (بل قل هوَّدوها)، نحواً من سبعين مليوناً (كما تصرح بذلك إحصائيات رئاسات كنائس مسيحية في كثير من بلاد العالم). وقد أصبح لها كنائسها الخاصة ومراكزها للتوجيه، ومحطات إذاعاتها، وفضائياتها، والكثير الكثير من وسائل الإعلام، بل والفنون كالسينما والمسلسلات، ومعظمها يملكها اليهود أنفسهم، كما هو حال شركات الإنتاج السينمائي في هوليود، ذات التأثير العالمي الهائل، عن طريق أفلامها أمثال شركات: (Warner Brothers),
(Fox Twentieth Centiary), (Metro Golden Mayer), (Universal) وغيرها.
ولكن ما هي تلك النظرية ــ الخديعة التي استطاعوا بواسطتها السيطرة على عقل هذا القطاع من الشعب الأمريكي ذي التأثير، بدوره، عالمياً، سياسة، واقتصاداً، وثقافة، إلى حد كبير، بحيث سادت في الكثير من أرجاء العالم ثقافة أمريكية متدنِّية في مفاهيمها وتوجُّهاتها أوشكت أن تحل مكان ثقافة كثير من الشعوب، وأسهمت في صناعة الأفكار والعقول لدى نخبها وقياداتها الحاكمة تحت عناوين خادعة كالعولمة، ومساواة المرأة بالرجل، والانفتاح، والإصلاح الثقافي وما إلى ذلك من مصطلحات يفرضونها على وسائل الإعلام والتوجيه فرضاً لتحقيق أغراض بعينها.
كان المدخل بسيطاً خادعاً تمكن من التسلل إلى عقول الأمريكيين. قالوا لهم (نحن وأنتم ننتظر المسيح. إن في توراتنا ــ العهد القديم الذي يجب أن تؤمنوا به أيضاً لكي يكون إيمانكم صحيحاً ــ نبوءة تقول بـ (عودة) اليهود إلى (أرض الميعاد) فلسطين أولاً. وبعد تجمعهم فيها تقع معركة (هرمجدون) التي يدمِّر فيها الأعداء (أي العرب والمسلمون) ومن ثم يهبط السيد المسيح إلى الأرض. ليلتحق به المؤمنون بهذه الفكرة.
أين تكمن الخديعة في هذه المسألة؟
فَهِم الإنجيليون من هذا أن المسيح ــ عيسى بن مريم نفسه ــ الذي ارتفع إلى السماء عقب صلبه(*) قبل ألفي سنة سوف (يعود) إلى الأرض في آخر الزمان، ربما هذه الحقبة من الزمن. فالمسألة إذن هي (عودة) السيد المسيح.
لكن اليهود لا يؤمنون بهذا المسيح الذي جاء. ومن ثم أخفوا فكرتهم هم عنه والتي مؤداها أن المسيح (المخلِّص) لم يأت أبداً بعد ولكنه (قادم).
اكتفوا بادعاء (انتظار) المسيح. وكل فريق له فهمه للمسألة. ولكن المسيحيين يجهلون ما يضمره اليهود من أن هذا المسيح غير ذاك المسيح، ويحسبونهم يتحدثون عن مسيح واحد. متجاهلين ما لبث اليهود طوال عشرين قرناً ينكرونه. بل وأنهم هم الذين سعوا إلى صلبه. وأنهم يعتقدون أن المسيح الحقيقي لم يأت، وأن الذي أتى أفَّاق كاذب، ولدته سفاحاً أم زانية (ونستغفر الله عن كل هذا الإفك الذي يفترون). نسي أولئك هذا كله. وربما ساعدهم على ذلك تبرئة الفاتيكان، والمجمع المسكوني لهم من دم المسيح في السبعينيات من القرن الماضي.
وهكذا فرض اليهود عليهم الاقتناع بأن على المسيحي الحق أن يؤمن بالعهد القديم قبل العهد الجديد، وإلا فإن إيمانه باطل..!
وعلى رأس أهدافهم ــ التي تبدو ضرباً من الجنون للوهلة الأولى ــ الوصول إلى السيطرة على العالم. ولما كانت ضآلة عددهم لا تتيح لهم ذلك، فقد سعوا إلى السيطرة، على مفاتيح السياسة الأمريكية وعصبها ومراكز القوة وصنع القرار فيها لتسخيرها من ثم لتحقيق ذلك الحلم. ولابأس من أن تظهر أمريكا على السطح فيما هم يقبعون وراء الستار ممسكين بخيوط اللعبة.
لكن مسيرة البشرية ـ وكذلك التاريخ ـ لن تتوقف أو تنتهي ها هنا، كما يتنبأ (فرنسيس يوكاهاما) بحيث تصبح النظرية السياسية الأمريكية ـ الصهيونية سيدة العالم إلى الأبد دون منازع. فوعْد الله بخذلانهم وإحباط نواياهم وأعمالهم لابد متحقق في النهاية.
وها هي ذي ملامح هزيمة معسكر الباطل هذا شرعت تلوح في الأفق، وعلى نحو متسارع. فهناك الآن قوى كثيرة ـ دولاً وشعوباً ـ كالصين ودول أوربا الغربية والعرب والمسلمين بدأوا يدركون ما يحيق بالعالم من أخطار نتيجة لهذا الزواج غير الشرعي بين الصهيونية والقوة الأمريكية. وأن عليها، من ثم، واجب التصدي لهذا التحالف. بل وإن ذلك أمسى ضرورة لا غنى عنها، لاسيما بعد أن بلغ النفوذ اليهودي أوجه، وإلى حد الطمع والطموح للوصول إلى سدة الرئاسة نفسها في البيت الأبيض. فها هو السناتور (جوزيف ليبرمان) اليهودي يسعى لمنصب الرئاسة، بعد أن سبق له الترشيح لمنصب نائب الرئيس، في حملة آل غور نائب الرئيس كلنتون في عهد هذا الأخير. وقد أوردنا حالة (ليبرمان) هذه كظاهرة ابتدائية. وسواء نجحوا في مسعاهم لإيصاله إلى سدة الرئاسة أو فشلوا الآن، فهي مرحلة تسبق ما سوف يحققونه مستقبلاً بما عرف عنهم من دأب ومن تكريس لكافة الوسائل لتحقيق أغراضهم.
إن اللعبة سوف تنكشف للجميع، بما في ذلك الشعب الأمريكي نفسه في وقت ليس ببعيد. وعندئذٍ يبدأ العد العكسي لانهيار ما بنوا، والقضاء على مؤامراتهم التي ما انفكوا يحيكونها لسائر أمم الأرض على مرِّ التاريخ. وأمم الأرض في نظرهم ليست سوى (الجوييم) الأغيار، أي البهائم التي ما خلقت إلا لخدمتهم. وهم لا يستثنون أحداً من تصورهم هذا، بما في ذلك أرباب نعمتهم من أمريكيين وأوربيين راهناً، ومن عرب ومسلمين فيما سلف، برغم أنهم لم يحظوا بالأمن والسلامة إلا في كنفهم على مدى التاريخ.
ولقد أنبأنا القرآن بكل ذلك. وهذه نبوءة سوف تتحقق ـ ربما في أيامنا هذه أو قريباً منها ـ في أمرين بشأنهم:
ـ أولهما: أن اليهود كتبت عليهم الذلة إلى يوم القيامة. وأن الله سوف يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب.
يقول تعالى:
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (لأعراف:167)
ـ ثانيهما: ما توعدهم به الله في سورة الإسراء بشأن هزيمتهم النهائية، التي يبدو أن هذا أوانها، أو أنها وشيكة، بعد أن تحقق الشطر الأول من الوعد. وفي هذا يقول تعالى:
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (الاسراء:4-7)
* * *
آراء علماء ومستشرقين
نعرف أن الدين عند الله الإسلام، كما تنص على ذلك آيات كثيرة.
لكن ما هو قائم على أرض الواقع هو أن هناك أتباعاً لعقائد أخرى في العالم منها ما هو سماوي المصدر في أصله كالتوراة والإنجيل، ومنها ما هو وضعي كالبوذية والكونفوشية وغيرها. ونحن هنا بصدد التوراة والإنجيل وحدهما.
وقد يكون مجدياً أن نعرض لآراء بعض الدارسين من غير المسلمين في موقع القرآن من هاتين الديانتين، ومن أتباعهما الذين يطلق عليهم القرآن (أهل الكتاب). وهؤلاء لن يكونوا مجاملين لنا ــ بطبيعة الحال ــ أو منساقين وراء عاطفة نحو أمة غريبة عنهم انتماءً ومعتقداً.
يقول المستشرق كرستي ويلسون في كتابه (تقديم الإسلام) ط1، 1950م (ليس بعد الإنجيل ـ من وجهة نظره المسيحية ـ إلا القرآن. فهو أعظم الكتب الدينية تأثيراً، وأكثرها احتراماً وتبجيلاً).
أما الكاتب (شيلليدي) فيقول في كتابه (يسوع في القرآن) ط، 1913م
(القرآن أكثر الكتب المقدسة توقيراً بما فيها العهد القديم والعهد الجديد).
ويقول (مارمادوك بيكال ـ البريطاني) في مقدمة ترجمته للقرآن:
(سيمفونية لا تدانى، ولا تحاكى، تستدر الدموع من المآقي وتستثير أشجان النفس).
ومن هؤلاء الدارسين الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (دراسة في الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة). وهو بعد أن يبين أن الديانتين السابقتين (لا تعترفان بأي وحي جاء بعد المسيح وحوارييه)( ) يقول تالياً:
(أما القرآن وقد أتى بعد المسيح بقرون ستة، فإنه يتناول معطيات عديدة جاءت في التوراة العبرية والأناجيل. ولذلك فهو يذكر التوراة والإنجيل كثيراً. ويوصي المسلم بالكتب السابقة عليه فيقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً (النساء:136)
(كما أن القرآن يخص بالذكر أيضاً السيدة مريم. وفيه السورة (19) باسم (مريم). وهناك فرق جوهري بين المسيحية والإسلام فيما يتعلق بالكتب المقدسة. ونعني بذلك فقدان نصوص الوحي الثابت عن المسيحية. في حين أن الإسلام لديه القرآن الذي هو وحي منزَّل وثابت معاً. فالقرآن هو الوحي الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) عن طريق جبريل (عليه السلام) وفور نزوله.
(أما الكتاب المسيحي المقدس فإنه يختلف بشكل بيّن عما حدث بالنسبة للإسلام. فالإنجيل يعتمد على شهادات بشرية متعددة وغير مباشرة. وإننا لا نملك مثلاً أي شهادة لشاهد عيان لحياة عيسى عليه السلام.
(إن دراسة نص القرآن في العصر الحديث ترينا أن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية. وهي وقائع كثيرة جدّاً، خلافاً لقلتها في التوراة.. إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية وبين تعدد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن. وأنه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية)( ).
هذا رأي عالم محايد منصف لم يذهب به التعصب إلى إنكار هذه الحقائق.
ومن الأمور التي تمادى اليهود في محاجَّاتهم بشأنها ادعاؤهم الانتماء إلى إبراهيم عليه السلام. فيتنزل قوله تعالى مفنِّداً:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران:65-68)
منطق مفحم لا يمكن الرد عليه، وتنديد واضح بهم. كما أنه لا يمكن لرجل يعيش في مكة في ذلك الزمن السحيق أن يعرف ما إذا كان إبراهيم يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً. هذه الحجة على بساطتها ويسر منطقها لابد أنها كانت عصيَّة الفهم على من كان في وضع محمد عليه السلام ـ لو لم يكن مرسلاً يأتيه نبأ السماء ـ فالتوراة جاءت مع موسى عليه السلام الذي جاء بعد نبي الله إبراهيم بنحو ألف ومائتي سنة، والمسيحية جاءت بعد إبراهيم بنحو ألف وثمانمائة سنة، فكيف يمكن أن يكون إبراهيم الجد البعيد (تابعاً) لأي من الديانتين وقد أنزلتا من بعده؟ وإبراهيم (مسلم) منذ البداية، وهو الذي يعلن ذلك في مواقف كثيرة وردت في آيات عديدة من كتاب الله. لا شيء من هذا كان في وسع محمد التوصل إليه من تلقاء نفسه، وإنما هو يؤمر فيصدع بالأمر، ليبلغ الناس ما أنزل عليه.
.. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً.... الآيات السابقة.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (آل عمران:71)
أليس هذا أيضاً هو الواقع المعاصر، وقد وصفه القرآن من قبل؟ إنهم يبررون أخطاءهم وجرائمهم، كما أنهم يدَّعون ما ليس لهم، كما هو حادث في فلسطين، وهم يعرفون تماماً ويعلمون حق العلم أنهم ليسوا على حقٍّ إطلاقاً. بل وأن دأبهم أن يلبسوا دعاواهم الباطلة ثوب الحقيقة. ففلسطين ـ وما أفظعها من أكذوبة ـ أرض ميعادهم وهبها لهم إلههم (يهوه)..! واليهود ـ وكذلك الغرب عموماً ـ يزعمون أنهم منصفون، وأنهم حماة حقوق الإنسان، في حين أن الإنسان في شتى أصقاع الأرض لم تقع عليه مظالم أكثر مما وقعت على أيدي هؤلاء. بل إن معظم ما حاق بالبشر من ويلات وما أصاب الشعوب من مآسٍ ودمار كان من صنعهم. والأمثلة التاريخية أكثر من أن تتسع لها مجلدات. وحالة العالم مابرحت على ما هي عليه برغم دعاوى الحضارة والتقدم والمدنية.. فهي زائفة كاذبة في حقيقتها، اللهم إلا أن تتعلق بهم. وحتى هذه في حدود لا تتعداها. عداؤهم للإسلام قديم قدم الرسالة، نفسها. وهم ما انفكوا على مدى الزمن يكيدون للمسلمين ويعملون على تشويه الإسلام. لا يفرحهم شيء بقدر ما يفرحهم ما يقع للمسلمين من مكاره ومظالم وويلات هم وراءها على الدوام مباشرة أو من وراء ستار.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران:120)
ذلك كان دأبهم في الماضي كما هو شأنهم في الحاضر. ألا تراهم يحتفلون بكل مناسبة تحل بالمسلمين والعرب فيها نكبة أو كارثة؟ وأن أي إنجازٍ عربي أو إسلامي يصيبهم بالغم والحزن؟
من الشواهد المعاصرة على ذلك ما حدث في الخامس من حزيران. لقد رقصوا في شوارع تل أبيب، وسائر المستعمرات التي أقاموها. وكذلك فعلوا عند الاعتداء على شعب العراق. وأكبر احتفالاتهم كانت يوم احتلالهم القدس ودخولهم الأقصى في حزيران 1967 بجيش رأوا أنه أحرز انتصاراً على كافة جيوش العرب. ولقد مضوا، في غمرة نشوتهم يومئذٍ ينفسُّون عن أحقادهم الدفينة الموروثة بالألفاظ والشتائم للإسلام ونبيِّه وآله. بل هم ذهبوا يعلنون للدنيا كلها أنهم إنما ينتقمون لخيبر وقريظة وبني قنيقاع وبني النضير، برغم علمهم ــ وربما جهلهم نتيجة لما لقنوه كذباً ــ أن النبي عليه السلام عاملهم أفضل معاملة، إلى أن بان غدرهم وتجلَّت خيانتهم وانكشف سعيهم لقتل الدعوة في مهدها، فعاملهم عندئذٍ بما استحقوا، وحسب ما قضى فيهم حلفاؤهم في المدينة وبحسب اختيارهم، إذ اختاروا سعد بن معاذ وأعطوه المواثيق اطمئناناً منهم إليه، وظنّاً منهم بأنه سوف يحابيهم ويحول دون عقابهم. لقد أُشربوا الحقد في تربيتهم وتعاليمهم وأدبياتهم، توارثوه أباً عن جد منذ ذلك الزمن، وحتى يوم الناس هذا. وها هم يكشفون حقيقة دواخلهم اليوم مرة أخرى ــ إثر الغزو الأمريكي للعراق بتحريض ومشاركة منهم ــ عن ما أسموه (الانتقام للسبي البابلي ومن نبوخذ نصر)..! ولنر في الوقت عينه صدق آيات الله فيهم:
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (التوبة:32)
ويقول الله تعالى فيهم وفي المشركين:
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (التوبة:8)
أما عن نقضهم للعهود فيقول الله تعالى فيهم:
أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (البقرة:100).
ألم نشهد هذا بأنفسنا على مدى السنوات المنصرمة؟ فكم من معاهدة وعهد نقضوا، حتى مع الذين عقدوا اتفاقات معهم غير مرضيٍ عنها من عامة الناس وأصحاب القضايا، حتى تلك التي كانت في مصلحتهم لم يلتزموا بها فما بتعهد به (رابين) كفريق، ينقضه (بيريز) كفريق آخر. وما يوقعه هذا ينقضه (نتنياهو). وما يتعهد به هذا الأخير ينقضه (باراك). وما يتعهد به باراك ينقضه (شارون)… وهكذا. أليس هذا ما ينطبق واقعاً وفعلاً، وبحذافيره على ما جاءت به هذه الآية..؟ ألا ينقض كل فريق ما عقده من عهد فريق سبقه؟
هل كان محمد (عليه السلام) معنا يشهد هذه الأحداث والوقائع لكي يقول لنا هذا ويصدق القول بعد كل هذه القرون؟ وهل هناك من توصيف أكثر دقة وأعظم إحاطة وشمولاً؟
ومن أعجب ما تنزل من قرآن في حق بني إسرائيل ما توعدهم به الله، وصدق وعده بطبيعة الحال في قوله (وهذه الإضافة لمزيد من الإيضاح):
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف:167ـ168).
يجدر ألا ينخدع أحد بظاهر ما هم عليه اليوم من قوة مادية. فهم قد لبثوا على مدى السنين مكروهين أذلاءً في سائر أرجاء المعمورة. آخر مظاهر ما حاق بهم من إذلال ــ قبل ابتلائنا بهم ــ كان في عهد النازية في ألمانيا. وسيظل هناك على الدوام من يسومهم سوء العذاب. أوَ ليس ما يعانونه اليوم في بلادنا، منذ أن وطئتها أقدامهم من ذلِّ الرعب والخوف المميت الملازم لهم ما يكفي؟ ولن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي ينتقض عليهم الممالئون لهم أنفسهم في هذه الحقبة، بسبب عنجهيتهم وغطرستهم البادية الآن نحو الجميع.
أما عن تقطيعهم في الأرض أمماً فهل هناك ما هو أكثر وضوحاً ودقة في وصف حالهم ومآلهم مما ذهبت إليه الآيات الكريمة؟ ألم يكونوا (مقطَّعين) في كل بلاد الدنيا منذ أيام محمد عليه السلام وما برحوا كذلك؟ وها هم دائبون على تجميع شتاتهم من شتى أطراف الأرض في محاولة من أجل لمِّ شملهم المشتت عن طريق الهجرة إلى فلسطين من كل مكان.
السؤال الذي يتبادر للذهن مرة أخرى هو:
كيف توصل محمد إلى هذه الحقائق مؤكداً ديمومة هذا الوضع الملازم لهم على مدى السنين، في قابل الأيام وإلى أن يشاء الله، والذي كان في حينه طيِّ الغيب؟
ولماذا يغامر ـ لو لم يكن الأمر خبر السماء ـ بالتعرض إلى مسألة قد تكذبها الوقائع في قادم الأيام من بعده؟
لو شئنا المضي في سرد الآيات في هذا الشأن لما وسعنا المقام. غير أننا نعود إلى التساؤل:
هل يجتمع العلم بهذا كله في مثل ذلك العصر لرجل واحد، أميّاً كان أو سيد المتعلمين والعلماء؟
ومن المدهش حقّاً أن نجد في القرآن من أوصاف اليهود الملازمة لهم ما لم تغيره العصور اللاحقة للتنزيل. وكأنه يقول للدنيا بأسرها بأن اليهود هؤلاء سيظلون على توجهاتهم وسلوكياتهم مهما تعاقبت الأيام. فهم يرون في الآخرين ـ أيّاً كانوا ـ مخلوقات دونهم بشرية وأنهم يبيحون لأنفسهم، من ثم سائر التصرفات غير الأخلاقية مع هؤلاء بوصفهم (الأمميين) أي الأغيار. فهذه آية تقول ذلك بالتحديد الدقيق:
ذلك بأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ من سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران: 75).
أجل قالوا عن كل من هو غير يهودي يومئذ (الأميين أي الأممين أي الأغيار). وها هم حتى اليوم يقولون ذلك في سائر كتبهم وأدبياتهم الراهنة والمعاصرة. فكيف اتفق هذا لو لم يكن تنزيلاً من رب العالمين؟ والقرآن يحث على دراسة الكتب السماوية السابقة لرؤية ما طرأ عليها، ومقارنة ذلك بما هو عليه حال الدين الذي يحمله إليهم محمد عليه السلام، والفرق بينه وبين أولئك.
يقول تعالى:
وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (الأنعام:155ـ156).
لقد وسم القرآن اليهود بصفات تلازمهم لم يصف بها غيرهم.
فعند الحديث عن النصرانية (المسيحية)، الدين الثاني، بعد اليهودية زمنياً، يسهب القرآن في إبراز صورة حسنة عن النصارى. كقوله تعالى في الآيتين التاليتين:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة:82ـ83).
لابد من التنويه هنا إلى أن المعنيين هم نصارى الشرق الذين نعرف، وليس الدخلاء على المسيحية من بين الغربيين ـ ممن تبنوا اليهودية ـ الذين باسمها أقاموا الحروب ونشروا المظالم وأشاعوا الفساد، لأن هؤلاء ليسوا من المسيحية في شيء، وإنما هم متهوِّدون ومنحرفون عن حقيقة المسيحية.
وهذه آيات تقول:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (المائدة: 46ـ47).
ولكن ذلك قبل أن يعمد كتَّاب الأناجيل ــ إذ إن الذي تنزل إنجيل واحد وليس أناجيل ــ فيما بعد إلى التحريف الذي تعيش البشرية آثاره اليوم فيما يصدر عن الغرب نتيجة فهمه الخاطئ، وعمله بالأقوال المحرَّفة التي كان للأصابع اليهودية فيها دور كبير ــ كما أسلفنا ــ وأسوة بما أدخلوه من (إسرائيليات) على الإسلام. لكن هذه لم تطل القرآن نفسه كما حدث للإنجيل والتوراة الأصليين، نظراً لاختلاف الطريقة التي دُوَّن فيها القرآن وجمع، تماماً كما تنزل على رسول الله كلمة فكلمة وآية فآية.
والقرآن كما أشاد بأصحاب الإنجيل كأهل كتاب، لم يُغفل ــ في الوقت نفسه ــ جوانب الانحراف لدى أصحاب الديانتين السابقتين عن الأصل فيهما. بل كان الكشف دقيقاً، فجاءت آيات تردُّ على أصحاب كل مذهب في الديانة الواحدة، على حدة، فيما أدخله أولئك على العقيدة النصرانية، مما اعتبر خروجاً على أساسها وجوهرها وهو موضوع الوحدانية لله: تقول الآية:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (المائدة: 72).
لكأن هذه الآية خطاب لأصحاب المذهب الارثوذكسي الذين يقولون بأن الله هو المسيح بن مريم.
ثم تتلوها مباشرة الآية:
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة: 73).
وهذا خطاب موجه إلى أصحاب المذهب الكاثوليكي الذين يؤمنون بالثليث: (الأب ـ الابن ـ الروح القدس).
وجدير بنا أن نورد آيات أخرى في هذا الصدد. منها قوله تعالى موضحاً: من هو عيسى، ومخاطباً الذين يقولون على الله غير الحق: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً، لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً (النساء:171ـ172).
ويثبت القرآن الكريم بشرية عيسى عليه السلام وينفي ألوهيته، فيقول:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (المائدة: 75).
وفي السياق ذاته آيات واضحة الدلالة منها قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة 116ـ118)
* * *
حرية المعتقد في الإسلام
قد ترد على الذهن تساؤلات من قبيل:
ـ لماذا لم يتنكر محمد للرسالات السابقة، مع أن المعروف والمشاهد على الدوام هو أن اللاحق يتنكر للسابق في أمور أهون من هذه بكثير. هذا من جانب، ومن جانب آخر ما وقع له مع بعض أصحاب الرسالتين السابقتين من المجاهرة بالعداوة له ولما جاء به، لا سيما اليهود وبعض المغالين من النصارى. أليس في هذا الدليل القاطع على صدقه وأمانته في حمل الرسالة؟
ــ من دأب البشر ــ لاسيما الزعماء والقادة ــ العمل على إبراز جوانب الضعف، إن لم نقل المساوئ والمآخذ على من سبقوهم، لكي يبرروا ضرورة وجودهم. ولكن محمداً (عليه السلام) لم يكن رد فعله شيئاً من هذا القبيل. بل هو مضى إلى أبعد من مجرد التغاضي والتسامح، فأشاد بسائر النبيين والرسل الذين سبقوه. وبيَّن مزايا كلاً منهم وأثره وفضله، وما أصابه أو وقع له مع قومه الذين أرسل إليهم، منوّهاً بجهودهم، ومعظّماً لمكانتهم بما يقتضيه مقام النبوة من تقديس واحترام لهم جميعاً دونما استثناء.
والتزاماً بسنته عليه السلام وبما جاء في كتاب الله كان على المسلمين الإيمان بالرسالات السابقة وسائر النبيين والرسل. بل إن إنكار المسلم لأي من الرسالات والرسل والأنبياء يخرجه من حظيرة الإسلام، كما لو أن ذلك وقع منه على نبيِّه محمد عليه السلام. يقول تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة:285)
أليس غريباً أن يكون هذا هو موقف بني الإسلام والمسلمين ــ بأمر من ربهم ــ من الرسالات السابقة أو الرسل السابقين في حين نرى من أتباعهم من لا يكنُّون غير العداء، ليس بالأقوال وحدها وإنما بالأفعال أيضاً، كافتعال الأسباب لشنِّ الحروب واغتصاب الحقوق وإثارة الأحقاد والضغائن على المسلمين في سائر بقاع الأرض. حدث ذلك فيما مضى، منذ مجيء الإسلام لهذا العالم، وما زال يحدث اليوم. وها نحن نسمع ونقرأ أو نشاهد على مدار الساعة، في أيامنا هذه، ما يوجهه هؤلاء من إساءات بالغة، للمسلمين، بل ولنبي الإسلام نفسه، في حين أن مسلماً يقوم بإنكار التوراة أو الإنجيل أو ينكر نبوة عيسى أو موسى أو غيرهما عليهما السلام يكون قد كفر بالإسلام نفسه.
ترى أي الجانبين ألصق بمفهوم الحضارة والتحضر والتسامح، في منطق هذا العصر؟ من يحترم الآخر ومعتقده رغم إساءته إليه وإلى معتقده، أم من يعادي الآخر ويسفِّه معتقده وهو لم يسئ إليه، أو ينكر عليه توجهه (الأيديولوجي) والفكري؟ أيهما ينطبق عليه مفهوم الحضارة؟ أي الجانبين أصدق في دعواه، كما في التزامه حرية الفكر والرأي والمعتقد؟ أي الموقفين أكثر صواباً وأدعى للاحترام؟ أيهما أهدى وأيهما أضلُّ سبيلاً؟
ـ لماذا ربط إيمان المسلم بوجوب إيمانه بأولئك الرسل والأنبياء؟
هذا التجرد المثالي من نزعة بشرية معهودة وأصيلة في التكوين النفسي للإنسان، هل له من تفسير سوى أن محمداً (عليه السلام) لم يكن هو صاحب النص، بل هو مبلِّغ عن ربه ليس إلاَّ؟
كما أن الإسلام حدَّد العلاقة مع غير المسلمين في آيتين محكمتين من كتاب الله، تعتبران بمثابة الدستور. في ذلك يقول تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة: 8ـ9).
لا يقاتل المسلمون إذن من خالفهم في العقيدة كما يزعم الكثير من المستشرقين وخصوم الإسلام، الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالسيف. ولكنهم ــ المسلمون ــ يواجهون من يقاتل المسلمين اعتداءً ومنعاً لهم من الدعوة لدينهم بالتي هي أحسن، وذلك امتثالاً لقوله تعالى:
وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت: 46).
وآيات أخرى كثيرة تعزز هذا التوجه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (المائدة:105)
المسألة إذن تتعلق بمن يعتدي على المسلمين ومن يعمل على الحيلولة بالقوة دون انتشار الدعوة الإسلامية. أما في مسألة الاعتداء فقد عرف تاريخ الإسلام قديماً وحديثاً حروباً كثيرة أضرمها اليهود وغلاة من المسيحيين. منها الحروب الصليبية، ومنها ما هو جارٍ اليوم. اليهود يخرجون المسلمين اليوم من ديارهم وتظاهرهم على ذلك دول الغرب أو معظمها. وهم في هذا إنما يخرجون على تعاليم التوراة والإنجيل الصحيحة، كما يخرجون على دعاواهم في مسائل كحقوق الإنسان وما إلى ذلك. النفس الإنسانية الواحدة نهاهم الله عن قتلها فما بالنا بالجرائم المقترفة في حق الشعوب، والتي أزهقت فيها أرواح الملايين من الأنفس. يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (المائدة: 32).
معنى قوله تعالى في هذه الآية أن قتل نفس واحدة (بغير نفس أو فساد في الأرض) يساوي قتل الناس جميعاً، أي الإبادة البشرية الشاملة. (النفس) هنا تعني كل نفس مهما كان معتقد صاحبها وأياً كان انتماؤه. و(الناس) تعني سائر البشر، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم. والآيات تدلنا على أن لفظ (الناس) في القرآن يعني كافة البشر منذ بداية الخلق وإلى قيام الساعة. كقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (الحج:1)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (الحج:3)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.. (الحج:5)
ترى هل بلغت هذا المستوى من الحرص على النفس البشرية سائر القوانين والفلسفات الوضعية، بما فيها المحافل الدولية: من مجلس أمن، وهيئة أمم، ومحاكم دولية، وجمعيات لحقوق الإنسان؟ ناهيك عما يمارس على الإنسان من ألوان الاضطهاد وإزهاق الأنفس في كل مكان تحت ذرائع مختلفة، وبدافع من الكراهية غالباً من جنس لآخر. بل قد وصل الأمر إلى حد ممارسة القتل على سبيل التسلية والهواية في كثير من الأحيان. فأين هذا كله مما جاء به القرآن؟ ألا تعطي آياته للنفس البشرية حصانة ترقى إلى مرتبة القداسة؟ هذه الرؤية المتقدمة على معطيات ذلك العصر، وكل عصر، هل كانت في مقدور أحد لولا أنها تنزلت قرآناً على رسول الله محمد صلوات الله عليه وسلم؟
أليس في شرعة الأمم المتحدة المعاصرة (المتواطئة أيضاً) ما أسموه (جريمة الإبادة الجماعية) و(جريمة إبادة الجنس البشري)؟ فما هذا الذي يصنعه هؤلاء اليوم إن لم يكن (الإسهام) أو (الصمت) على جرائم ينطبق عليها ذلك الوصف. وإلا فكيف نفسِّر هذا الصمت على إبادات حقيقية تقع على فئات من البشر غالبيتها من المسلمين؟ ألم تصبح (الأنفس والأرواح) أرخص في هذا العصر من النفط.. بل من التراب؟
ألا ما أصدقه من قائل في وصفهم. يقول تعالى فيهم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ. كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (المائدة: 78ـ79).
ترى هل تغيَّرت هذه الصورة لهؤلاء؟
نضرب ها هنا مثالاً واحداً ــ تجنباً لمزيد من الإطالة ــ فقد روي عن جابر: (أن النبي عليه السلام مروا عليه بجنازة فقام لها واقفاً، فقالوا: يا رسول الله: إنها جنازة يهودي. فقال أليست نفساً؟( ).
للموت كرامة في الإسلام، للمسلم ولغيره. فأين هذا مما يشهده العالم اليوم من تمثيلهم بجثث الموتى؟ بل هم يعذبون الإنسان حتى الموت. يقطِّعون الأوصال، ويبقرون بطون الحوامل، ويمنعون الجرحى والمرضى من الوصول إلى حيث يمكن إسعافهم، إلى أن يموتوا على مرأى منهم، نزيفاً وألماً، مستمتعين بالمشاهد الرهيبة في سادية وحشية وضيعة يقول تعالى إذ يخاطبهم مندِّداً بما هم عليه من قسوة فيقول:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ (البقرة:74)
فماذا بعد هذا؟
إن الله سبحانه يطلب إلى نبيه دعوة أهل الكتاب إلى الالتقاء على موقف عادل للكافة هو العدل، والحرية، و(الديمقراطية) على الحقيقة وليس الزيف والرياء، فيقول:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64)
ويقول تعالى:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس:99)
بل ويذهب القرآن في تفنيده لدعاوى المكابرين، مخاطباً الرسول في شأن الرد عليهم، لاسيما أولئك الذين يدَّعون بأن لله ولد بقوله تعالى في المسألة وتنزيهاً عما يصفونه به:
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (الزخرف:81-83)
ترك الإسلام للإنسان حرية الاختيار، حتى بين الإيمان والكفر. إنه العدل والإنصاف للإنسان في أن يتمتع بحرية الاختيار وحسابه عند الله. دعا الإسلام لهذه الحرية قبل أن تعرفها مؤسسات تدعو إليها في عصرنا الراهن. مع أنها تتغاضى عن ممارسات غير المسلمين إزاءهم، حين تحاول التدخل في معتقداتهم وثقافتهم وموروثهم الإسلامي بدعوات ظاهرها الدعوة للحرية وباطنها عدوان على الحرية، لاسيما فيما يتعلق بالمسلمين. ألا يرى العالم كيف يحولون بين مسلمي فلسطين وصلاتهم في المسجد الأقصى؟ بل إنهم يعتدون حتى على الكنائس المسيحية في فلسطين ويضطهدون رجال الدين فيها. ألم يحاصروا الكنائس وعلى رأسها كنيسة المهد ويقتلوا من لجأ إليها من الناس دون أن يراعوا لها حرمة أو احتراماً؟
لم يخرج محمد على الناس بدين أراد أن يفرضه عليهم فرضاً عن طريق الإكراه والقسر. إن القرآن بما حواه من آيات في شتى شؤون الكون والحياة والإنسان وخالقها جميعاً ليس إلا عرضاً تنويرياً مسهباً لسبيلي الرشاد والضلال.
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان:3) لكي يأخذ الإنسان بأيهما شاء بعد إعمال الفكر، وتدبر العقل، وصولاً إلى الاقتناع.
حرية الفكر والمعتقد إذن كانت متاحة لكل إنسان. لم يجبر الإسلام ــ في تاريخه كله ــ أحداً على تبنِّيه مكرهاً. القرآن جاء بهذا الميدأ في الكثير من آياته البينات.
يقول تعالى:
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.. (البقرة:256)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.. (الكهف:29)
وفي سورة (الكافرون) يقول تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون:1-6)
هل لمنصف بعد هذا ألاَّ يُقرَّ بالمصدر الإلهي للقرآن؟
* * *
[/align]