الفصل السادس
آيات عتاب
وتنبيه من الله لنبِّيه
[align=justify]
عتاب وتنبيه وتحذير
عهد الناس على مر الزمن، فيمن ينشدون الزعامة، أو السلطة أو الجاه في أقوامهم أن يكون لديهم من الأنفة والغطرسة، ونزعة التعالي ما يمنعهم من الاعتراف بأخطائهم، إن هم أخطأوا، وكثيراً ما يفعلون. كما ألف الناس في هؤلاء، أن ينسبوا إلى أنفسهم بطولات لم يكونوا أصحابها وأمجاداً ليسوا بصانعيها. وهؤلاء في الأغلب الأعم ينطوون على عقد متأصلة في نفوسهم ــ حسب علم النفس ــ ترقى إلى مستوى المرض المزمن.
أمثال هؤلاء يرفض واحدهم أن يكون موضع لوم أو حتى عتاب، أو تلميح بمؤاخذة، فما بالك أن يتقبل تأنيباً أو تنديداً أو تقريعاً من أحد؟ والأكثر بعداً عن التصور والاحتمال أن يوجه هذا الصنف من الناس مثل ذلك إلى نفسه بنفسه، من قبيل (نقد الذات)، العبارة التي يكثر تداولها ادّعاءً دون أن يكون لها نصيب من التطبيق على أرض الواقع.
بيد أن محمداً عليه السلام لا يتردد في تلاوة آيات، على الملأ، فيها من التحذير والعتاب واللوم والنقد لهذا الموقف أو ذاك، موجَّهاً إليه بسبب حادثة هيِّنة أو حتى خاطرة قد تعنُّ له عرضاً، أو موقف اجتهد فيه قبل أن يأتيه الوحي بشأنه. يحدث هذا حتى دون أن يكون هناك مأخذ واضح لنا يقتضي شيئاً من ذلك، حسب مفاهيمنا ومقاييسنا البشرية المعتادة. وعندما تتنزل عليه آية من هذا القبيل لا يكتمها ــ حرصاً منه على مكانته بين أصحابه مثلاً ــ وإنما هو يعلنها ثم ينقلها عنه الحفاظ، ويسجلها كتبة الوحي لكي تحفظ ويعمل بها. وما برحت تتلى حتى يومنا هذا نصوصاً قرآنية، شأنها شأن سائر التنزيل. يحدث هذا برغم احتمال أن يتخذها مناوئو الدعوة، وخصوم محمد وسيلة للطعن في رسالته، والتعريض به وبدعوته. ولكن هل في وسع محمد ألاّ يفعل والله يأمره بأن يتلوها عليهم كسائر ما يتلو من كتابه؟ لم يقل أحد أنه، عليه السلام، تردد في ذلك أو راودته نفسه فيه. وهو من ثم يصدع بالأمر:
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر:94).
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة:67).
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (المائدة:49).
آيات تأمر وتنذر وتوجه، تتنزل وحياً على الرسول صلوات الله عليه.
مسألة أخرى تتعلق بالتكوين النفسي للإنسان العادي. لم يألف الناس أن ينسب إنسان إلى نفسه عدم المعرفة، والإقرار بإمكان تفوق غيره عليه بحيث يستطيع هذا الأخير أن يجره إلى الضلال. فما بالك أن يفعل هذا، خروجاً على القاعدة والمألوف، من يبغي سيادة على قومه وزعامة في عشيرته؟ ناهيك عن أن يبلغ به الطموح إمكان التطلع إلى القيادة والسيادة على دول عصره كالفرس والروم.
تقول الآية في هذا الصدد:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (النساء:113).
الإشارة الواضحة إلى محاولتهم وسعيهم إلى تضليله.
تعلمه عن طريق الكتاب والحكمة، ما لم يكن يعلم أي الجهل به قبل ذلك المنّ بفضل الله العظيم عليه.
هذا ما تضمنته هذه الآية التي يستحيل أن تصدر في مضامينها العديدة عن إنسان في نفسه.
ما هي الضرورة الملجئة إليها إذن؟
ومن أين يخطر لمحمد ــ المبتغي زعامة قومه في رأيهم ــ أن يقول عن نفسه كلاماً كما في الآية التالية التي تبلغ الذروة في النهي والتحذير، حيث ينهاه الله عن أن يكون من الجاهلين. وهل يعقل أن يقول ذلك عن نفسه إذا كان هو صاحب القول؟ وأي فائدة تعود عليه جراء تصريحه هذا؟ وهل فيه ما يعلي من شأنه أمامهم؟
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (الأنعام:35).
نهي صارم عن الرضوخ للكافرين والمنافقين وطاعتهم. وأمر بألاَّ يأبه لإعراضهم، فهو لن يستطيع هدايتهم إذا لم يشأ الله ذلك، مهما فعل. ونهي عن الجهل إذا ما فكر في غير ذلك..
وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (الأحزاب:48).
وهذا نهي عن إطاعة الكافرين والمنافقين وهو رسول الله المعصوم عن ذلك. فليس له إذن سوى أن يتوكل على الله متحاشياً أذاهم.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الأحزاب:1-2)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (يونس:15-16).
بعد تأكيده على أنه لا يتلو عليهم إلا ما يتنزل عليه من ربه، وأنه يخشى عذاباً عظيماً فيما لو عصاه أو امتنع عن تأدية ما أُمر به. بعد هذا يذِّكرهم ــ بالمنطق ــ بأنه لبث فيهم عمراً طويلاً (بلغ الأربعين آنئذ)، دون أن يصدر عنه شيء مما يسمعهم إياه، أو يدعي نبوة أو رسالة كلِّف بحملها، وما ذلك إلا لأنه هو نفسه لم يكن يعلم شيئاً عن هذا من قبل. وأنه قد جاءه الوحي بغتة محمِّلاً إياه عبئاً ثقيلاً جديداً عليه، كما هو طارئ عليهم تماماً، وما كان في وسعه إخفاء آرائه ورغباته وقدراته هذه التي ظهر بها، كل هذا الزمن، لو كانت متوفرة لديه من قبل، مضمراً لها في قرارة نفسه. وإنه ليفحمهم بهذا المنطق إلى حد اتهامهم بفقدان العقل والتدبر.
ولننظر في هذه الآية في ناحية بعيدة عنهم ولكنها تجيء ضمن السياق ذاته في توجيه الخطاب له على الصورة إياها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التحريم:1).
إن شخصية الرجل، لا سيما العربي، تأنف الاعتراف بالخضوع لرغبات الزوجة لاسيما إذا ما حاول إرضاءها فيما لا يحرمه الله. فلماذا يأتي محمد بمثل هذا النص ولا يتردد في إعلانه على القوم؟
وآية قريبة من المسألة(*):
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (الأحزاب:37)
وحتى في هذه الخصوصية البالغة الحساسية يعلنها محمد، إذ جاءته وحياً، دون أن يتحسب لمحاذير محتملة، من قال وقيل في بيئة ضيقة، يعرف الناس فيها بعضهم بعضاً. هل يعلن الإنسان العادي ــ ناهيك عن باحث عن قيادة ــ على الملأ ما يجري بينه وبين أزواجه دون أن يخشى عواقب ذلك على سمعته الشخصية؟ وهل يسمح له كبرياؤه بمثل ذلك؟
وفي الآية أيضاً توجيه حادُّ في مسألة زواجه عليه السلام من زينب بنت جحش، مطلقة من كان متبنى من قبله، زيد بن حارثة. تحرَّج الرسول وتورَّع عن الإقدام على الزواج منها، فترد الآية معلنة عن القصة، مستنكرة خشية الناس بدلاً من خشية الله، وتعلن أنه ليس في المسألة ما يضيره لكي يخشى الناس على هذا النحو. وفيها تأكيد على أن الأدعياء ليسوا أبناء ينطبق عليهم ما ينطبق على الأبناء لكي يكون في ذلك سابقة لسائر المؤمنين. ونلاحظ أن التوجيه جاء بصيغة ضمير المخاطب المباشر مما لابدَّ أنه أثار في نفس محمد عليه السلام غير قليل من الرهبة لقوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.
آيات أخرى لا تنقصها الدلالة ذات المغزى في موضوع البحث، نأتي بها في هذا المقام فتبدي لنا أي نوع من الخطاب هي، موجهة لرسول الله، وتنبئ في الوقت ذاته استحالة أن يكون القائل لرسول نبي، غير من هو فوقه، وهو الله سبحانه. يتقبلها الرسول بنفس رضية خاشعة خاشية، ثم يبادر إلى تلاوتها على مسامع قومه ــ المؤمنين منهم وغير المؤمنين ــ مع ما تضمنته من خطاب شخصي موجَّه له، لكنه أيضاً نص قرآني كسائر نصوص القرآن حفظاً وتلاوة.
من هذه الآيات قوله تعالى:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة:80)
وآية تعلن عجزه عن صنع شيء حتى لنفسه. إلا بإرادة الله:
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (يونس:49)
بل هذه آيات أشد وطأة:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (يونس:94-95)
تضمنت الآيتان:
ــ التساؤل الاستنكاري عما إذا كان في شك مما أنزل إليه.
ــ إذن فليسأل الذين قرأوا الكتاب من قبله، أي العارفين والدارسين.
ـ الأمر بألا يكون من الممترين ما دام الحق هو الذي جاءه من ربه.
ــ ألا يكون من الذين كذبوا بآيات الله لئلا يكون من الخاسرين.
أليس هذا تأكيداً لقوله تعالى من قبل:
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (المزمل:5)
لنا أن نتصور كيف كان وقع هذه الآيات على رسول الله يلقيها جبريل على سمعه وقلبه. صور غير عادية، خارقة للسنن والمألوف فهي كلام الله، ورسول الله أعلم الخلق بربه، يتلوها عليه كائن غير عادي أيضاً. ملاك لا ندري نحن ما هي صورته وعلى أي نحو كان يتجلَّى للرسول عليه السلام.
من الجدير بنا هنا أن نلحظ مسألة على قدر عظيم من الأهمية هي أن القرآن كما هو بين أيدينا، قد وصل إلينا كاملاً بين دفتي مصحف نقرؤه متى نشاء. بهذا أصبح مألوفاً لدينا بحكم التعود والرفقة منذ اليفاع. ولكن المسألة لم تكن كذلك في عهد التنزيل، إذ كان يتنزل منجماً وبالتتابع، وعلى فترات متفاوتة، على مدى ثلاث وعشرين سنة، على رجل يأتيه ملك من السماء. كان يثير في المتلقين ــ سواء كانوا من المؤمنين مع الرسول أو المنكرين من الخصوم ــ غير قليل من الدهشة والعجب. كان ذلك أمراً عجباً بطبيعة الحال، ربما يشبه على نحو ما ــ مع الفارق في نواحي كثيرة ــ ما تثيره الأخبار عن الأطباق الطائرة، أو عن مخلوقات تأتينا من الفضاء البعيد.
جدير بالتنويه كذلك أن كثيراً من الصحابة لم يصلهم القرآن كاملاً. فالذين قضوا في بدر وأحد وغيرهما من الغزوات، والذين توفاهم الله في حياة الرسول وقبل وفاته واكتمال التنزيل لم يصلهم منه إلا ما تنزل حتى يوم وفاة الواحد منهم.
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (يونس:106-109)
أوامر وتعليمات ونواهي وتحذير وتنبيه إلى قدرة الله التي إن مسته بضر أو أرادته بخير، فلا كاشف للضر ولا راد للخير عنه إلا هو، ثم هو بلاغ يعلن أنه ليس وكيلاً على الناس، وان ليس له سوى اتباع ما يوحي إليه.
وها هي ذي آية تصرح بعجزه المطلق عن هداية الناس وأن الأمر كله متعلق بمشيئته تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس:99).
وهكذا تأتي نهاية الآية ــ بعيداً عن التقريرية ــ في صيغة مثيرة في تساؤل استنكاري فتقول: (أفأنت تكره الناس..)؟ والاستنكار هنا لمن يحجمون عن الإيمان، وأنه ليس مطلوباً منه إكراههم على ذلك، بمعنى أنهم أحرار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.. كما سلفت الإشارة إلى هذا المعنى في مكان سابق.
قال صلى الله عليه وسلم: »شيبتنى هود وأخواتها« عند تلاوته آيات منها:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (هود:112-113)
هذه الشدة في الخطاب، بل هذا التحذير الخطير (من النار) له ولمن معه فيما لو أنهم ركنوا إلى الظالمين.يعلنه جهاراً على الملأ كما هو. وإنا لنقرأ كذلك آيات تذكره بانطوائه على جهل وغفلة قبل نزول القرآن.
الآيات التالية تقول:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف:3).
أليست هذه إشارة واضحة تماماً إلى جهله بمضامين هذا القصص القرآني قبل أن يتنزل إليه وحيه؟ ولا غرو في ذلك مادامت من أنباء الغيب الذي لا يطلع الله عليه أحداً، إلا أن يشاء، ولمن يشاء من رسله وأنبيائه.
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ. وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف:102-103)
* * *
استحالة اختلاق هذه النصوص
يبلغ التنبيه ذروته ها هنا، ولولا صدوره عنه تعالى لنبيِّه لقلنا أنها تنديد وتهديد: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (الإسراء:22).
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (الإسراء:73-75)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (الإسراء:86-87)
في كل من هذه الآيات ما ترتعد له الفرائص، وتقشعر له الأبدان لولا أن الله يثبت فؤاد نبيِّه لتلقيها، فالقائل هو الله العظيم الجبار المقتدر القاهر. والناقل هو جبريل، الروح الأمين. ولكن لقاءه ليس بالأمر الذي يستهان به، بدليل ما كان يطرأ على الرسول ــ فيزيولوجياً ــ من تغيُّر بالكاد يقدر على تحمُّله كلما تنزلت عليه آيات من الكتاب.
ولعل الآيات التالية أيضاً من أشد ما تنزَّل على محمد عليه السلام، كالذي سلف إيراده من الآيات الكريمة.
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:213-215)
هل نجرؤ على القول بأن الآية الكريمة الأولى تحذر الرسول من أن (يكون من المعذبين) إذا ما دعا لغير الله، الأمر المستحيل حدوثه بطبيعة الحال. فهو لن يدعو لغير الله وهو معصوم عن ذلك. لكنه الله هو الذي يخاطب نبيَّه. إلا أن الآية تقول بأنه لا استثناءات في هذه الحالة. والآية الثانية التي تليها أمر للرسول بأن يخفض جناحه (بمعنى ألا يتعالى) وأن يتواضع (وهو المتواضع بطبعه) أمام من اتبعوه وآمنوا برسالته. وفي السياق ذاته:
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (الزمر:64-66)
قد يعجز المرء هنا عن التعليق، إكباراً وإجلالاً لرسول الله ولكن الذي يوجه إليه الخطاب، كما أسلفنا، هو الله سبحانه وإن كنا لا نملك إلا أن نقول:
لو أن أحداً سعى إلى دليل قاطع لا يقبل الجدل على صدق محمد وإخلاصه في تبليغ رسالة ربه لوجد في هذه الآية آنفة الذكر (الزمر: 65) ذلك الدليل.
وهذه آيات أخرى لمن شاء المزيد لعلها أخف وطأة من السابقات:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الأحزاب:1-2)
وآيات ثلاث نزلت على محمد عليه السلام خاطبته بضمير الغائب إمعاناً في التشديد، فهل عرف محمد الأمي الفارق على هذا النحو بين أسلوب وأسلوب في الخطاب البياني، الأمر الذي يخلب لبَّ كل ضليع في فنون اللغة ومجازاتها منذ زمانه وحتى هذا العصر، لكي يأتي بالنص بضمير الغائب بدلاً من المخاطب. عند الحديث عن الرسول وهو مَنْ يتوجه إليه بالخطاب، ثم تأتي في صيغة ضمير المخاطب مباشرة الآية الرابعة موجهة الخطاب لمناوئيه وغيرهم.
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة:44-47)
وفي آيات من سورة الأنفال حول معركة بدر دليل صدق آخر، لمن كان في حاجة لدليل نرى أن محمداً لو كان مبتغياً زعامة دنيوية لكان له من الصفات كالتكبر والغرور والاعتداد بالنفس، ما يمنعه من أن ينسب العجز لنفسه في واقعة كانت ظاهرة للعيان. فهو الذي قاتل في بدر، وهو الذي رمى على مرأى من الخصوم ومن المهاجرين والأنصار، ومع ذلك جاءت الآيات تنفي عنه ذلك، وتجرده من الفضل فيه وتنسبه إلى الله. والسؤال هنا: ما معنى أن يتلو محمد على الناس ما يجرده تماماً من قيمة ما قام به أمامهم من قتال أبلى فيه بلاء حسناً؟ معناه الجليّ أن ذلك الكلام ليس من عنده. وما هو إلا ناقل أمين، يقول تعالى:
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (لأنفال:17)
ثم هذه الآية التي تذكرهم بضعفهم واحتمالات ضياعهم لولا رعاية الله وعنايته:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لأنفال:26)
وهذه آيات في منحى آخر، تبدي استحالة أن يكون عليه السلام ملماً بتاريخ البشرية الغابرة، أو أن يكون شاهداً على ما حدث في عصور سالفة، فضلاً عن القدرة على استكناه الغيب، ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً، لولا أن الله يُنهي إليه أخبار الأمم الغابرة، لاسيما في ظروف محمد وفي قريش وبيئتها البدوية المغلقة.
يقول تعالى:
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (القصص:44-46)
هذا النفي المتكرر لصور ووقائع متعددة، ما هو إلا من قبل التأكيد على أن محمداً لا يأتي القوم بشيء من عنده.
ثم في آية أخرى يقول تعالى:
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران:44)
كما تشير آيات أخرى، على نحو قاطع، وبصورة جازمة على المحدودية القصوى لقدرة محمد على أن يصنع للناس شيئاً ــ أو حتى لنفسه ــ بله أن يعدهم بشيء من عنده، من تلقاء نفسه:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الملك:28)
بل أي وقع تحدثه في نفس محمد حين تتنزل عليه آية يخاطبه ربه فيها بقوله:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (آل عمران:128)
هل في وسع أحد بعد هذا أن يدَّعي بأن محمداً يرسل القول على عواهنه من لدنه، أو أن ينسب إليه هذا الكلام، سواء كان في نصه لغة وشكلاً وبياناً، أو كان في مضمونه الذي يرتجف المرء خشية ورهبة لدى سماعه؟ وما جدوى أن يقول محمد كل ذلك عن نفسه ولنفسه؟
وما دمنا في معرض التدليل على هذه القضية، فلا بأس أيضاً من إيراد الآيات التالية التي من شأنها أن تقطع الشك عند المستريبين باليقين:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص:85-88)
* * *
أمانة التبليغ
آيات جامعة مانعة. تبين الدور المنوط بمحمد صلى الله عليه وسلم. وإنها لتعلن أنه لم يكن ينتظر تكليفه بهذه الرسالة من قبل، وبأمانة حمل هذا الكتاب ـ القرآن الذي لم يكن محمد يعرفُ له اسماً حتى يوم بعثته ـ القرآن الذي فرض عليه فرضاً لينقله إلى الناس. محذرة إياه ــ الآيات ــ عن أن يكون ظهيراً للكافرين. أو أن يتراخى في حمل الدعوة وتبليغ الرسالة، أو الدعوة لغير الله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو. ثم ختامها بما تقشعر له الأبدان، عن حتمية المصير للكائنات والكون جميعاً، الذي هو الفناء المحتم، والذي لن يبقى بعده غير وجهه تعالى. أما في الأسلوب من روعة في البيان، أما عن وضوح القصد، في شمول الصورة، وفي مثل هذا الحيز المحدود من الآيات فتلك مسألة أتينا عليها عند الحديث عن الإعجاز البلاغي في القرآن.
ثم لننظر إلى الآيات التالية التي تبين للخلق جميعاً مصدر الرسالة وفحواها ومرماها، والتي تثير في النفس الخشية والرهبة، لتستقر فيها من ثم الثقة اليقينية، وليقيم الإيمان في حنايا القلب بما انطوت عليه، من حوار، ويستكنَّ اليقين، يخاطب العقل والقلب معاً، فلا يدع مجالاً لغير الإيمان بصدق المصدر وعظمته، وإلى تطامن النفس البشرية أمام قدرة الله، وخضوعها لمشيئته:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً، وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَ رَجُلاً مَّسْحُوراً، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً، تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً )الفرقان: 1ـ10).
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (الفرقان: 32).
سيرة الرسول مع القرآن ترينا بوضوح لا يرقى إليه الشك أن محمداً لم يكن له من الأمر شيء في شأن التنزيل، وإلا لأخفى آيات موجهة إلى شخصه مثلاً. آيات تتحدث عن شخصه تحديداً، خشية إساءة تفسيرها من قبل المغرضين والمتربصين. إذ يحسبونها تمسُّه على نحو ما، أو يستنتجون منها تحجيماً لشخصه أو تهويناً من أمره، لاسيما حين تتعرض لقضايا تتعلق بالطبيعة البشرية ونوازعها المعرضة للميل مع الهوى، أو تلبية رغائب النفس. قد يخشى محمد تفسيراً من هذا القبيل، مغرضاً أو حاقداً. أو متسقطاً للهفوات. فيؤثر الصمت من ثم عن إبلاغهم تلك الآيات تحديداً. ولكن محمداً حاشاه أن يفعل هذا أمام نفسه من جهة، وأمام الأمر الإلهي من جهة أخرى. سيقوم بتبليغ ما أنزل إليه من قرآن وحسب. وستجد آيات كثيرة غيرها مبثوثة في ثنايا العديد من السور، وهو لا يملك صلوات الله عليه إلا أن يصدع بما يؤمر.
من هذا القبيل نأتي بعدد آخر من الآيات الكريمة في جوانب أخرى ذات علاقة، إلى حد ما، بعلاقاته الخاصة الشخصية والأسرية، كقوله تعالى:
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (طه: 131).
ومن هذه الآيات ذات الدلالة القاطعة قوله تعالى في حديث الإفك المتعلق بالسيدة عائشة، كما أوردت تفاصيله كتب السيرة إلى أن تنزلت هذه الآيات بشأنها( ):
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور: 11).
وفي مسألة أخرى ذات طبيعة شخصية وضمن أهله عليه السلام ولكنها تحمل تحذيراً:
َإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ، عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (التحريم: 3-5).
لو كان له الخيار في هذه المسألة لما عمد إلى نشرها على الملأ وهي ــ كما قلنا ــ ذات خصوصية أسرية حساسة؟ وإذا نظرنا إلى القصة في عصرها نرى كم كان ذلك عظيماً على نفسه، فالخوص في القضايا الأسرية في ذلك الزمن، وفي تلك البيئة، من المحرمات.
أضف إلى هذا، الناحية الاعجازية في نقل القصة الطويلة هذه في أسطر قليلة تفي بالغرض وتبلغ القصد.
وما أكثر الآيات في مضمار الأمر والنهي والتكليف لمحمد بنقل الرسالة وطرائق توصيلها، ودقة المنهج في تبليغها، ضمن تعليمات إلهية صارمة، حتى وإن تكن موجهة للمصطفى نفسه الذي اختاره الله لحملها:
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (الشورى:15)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الشورى:23-24)
أما سورة (عبس) ففيها دلالات دامغة على أنها ليست من كلام محمد ولا يمكن أن تكون. وهي قصة عليها شهود عند وقوعها من معاصريه، الخصوم المناوئين منهم والمؤمنين معاً ولنستعرض القصة أولاً:
(هو ابن أم مكتوم. ذلك أنه أتى النبي (صلعم) فيما كان يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل عمرو بن هشام، وعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، يدعوهم إلى الله تعالى ويرجو إسلامهم. فقام ابن مكتوم فقال:
(يا رسول الله علمني مما علمك الله. وجعل يناديه ويكرر النداء، وهو لا يدري أنه منشغل عنه، مقبل على غيره، حتى ظهر الغضب في وجه الرسول لقطعه كلامه، وقال في نفسه: سيقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد فعبس رسول الله (صلعم) وأعرض عنه مقبلاً على القوم يكلمهم. فأنزل الله تعالى هذه السورة. فكان رسول الله بعد ذلك يكرمه وإذا رآه يقول له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي( ):
عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلاَ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (عبس: 1ـ11).
على الرغم من أن الخطاب موجه لشخص الرسول عليه السلام وحده، إلا أنه جاء في صيغتين. الصيغة الأولى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأعْمَى) جاءت بضمير الغائب إشعاراً بعدم الرضى عما حدث. ثم انتقلت الآيات بعدها وحتى نهاية السورة، وعلى الفور، إلى صيغة المخاطب مباشرة: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى.. إلى آخر السورة تأكيداً على المؤاخذة. ثم بلغت هذه المؤاخذة ذروتها في قوله تعالى في تساؤل استنكاري: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى
ثم يأتي بعد ذلك التقرير بأنه ليس من مسؤوليتك ألاَّ يتزكى ذلك الرجل، الذي استغنى، بحيث توليه كل اهتمامك، مهملاً ذاك الذي ((جاءك يسعى)) من تلقاء نفسه، وهو الذي يخشى الله، أفتتلهى عنه؟ تلي ذلك الآية شديدة الوقع منذرة ومحذرة: (كَلاَ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ).
قصة ابن مكتوم هذه تعالج موقفاً هو صورة ضافية شديدة الوضوح، عظيمة الدلالة على عناصر الصراع، التي كانت قائمة في ذلك الحين، في المجتمع القرشي: الغني والفقير، الوجيه والوضيع، المؤمن أو الساعي إلى الإيمان، والجاحد المستكبر، المقر بالرسالة والمنكر لها. ويتبدى جليّاً هنا الانتصار للفريق الأدنى غنىً ومكانة، الفريق المؤمن الصالح. الانتصار لعامة الناس وبسطائهم الذين ينزعون، بفطرتهم إلى الايمان والهداية.
وهنا يجدر التنويه إلى أن محمداً لم يكن مضطراً، بداهة، إلى اختراع هذه القصة التي تنطوي على مساس بشخصه على نحو ما ــ من وجهة نظر الخصوم الذين يترصدون الأخطاء والسقطات كما يتراءى لهم ــ لم يكن بحاجة إلى اصطناع قصة، ونصٍّ، وخطاب يوجهه إلى نفسه. فمثل هذا لا يخدم قضيته، ولا يضيف إلى موقفه إيجابياً. إذ ما هي الحكمة في ذلك؟ هذه السورة ــ لو كانت وحدها دليلاً ــ لكانت كافية لإقناع من يبتغي تبيّن الحقيقة في مسألة التنزيل، بأن محمداً آخر من يخطر له أن يكون مؤلفها بما ينطوي عليه مضمونها، ناهيك عن أن تتأتى له القدرة على صوغها على هذا النحو المدهش. هي إذن كلمات الله وليس غيره. أما الذين قد يصرون على أنه يتلقى هذه النصوص عن غيره من البشر، فلابد أن مخترع النص من هؤلاء كان ينوي الإساءة إلى شخص محمد (عليه السلام ). ولكن محمداً عندئذٍ كان سيواجهه بالرفض. ولن يسمح له قطعاً بتوجيه النقد إليه على هذا النحو أو هو ــ على أحسن الفروض ــ سوف يتجاهله وينصرف عنه.
فإلى أي مدى يمكن أن يذهب الظن بالمستريبين والمتربصين بمحمد ودعوته عند سماعهم هذه الآيات؟ ولكننا إذا عدنا إلى أسباب النزول في كل منها وجدنا محمداً عليه السلام قد تنزه عما قد يذهب إليه هؤلاء من الظنون.
أضف إلى ذلك هذا الاستسلام والتسليم لقضاء الله وقدره الذي يقول: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) فيأمره الله بكيفية الرد عليهم بقوله: .. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الأحقاف:8)
ويأمره ربه مرة أخرى بأن يقول لهم في الآية التي تليها:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ.. (الأحقاف:9)
.. وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (الأحقاف:9)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (الجاثـية:18-19)
كان خليقاً به أن يدعي نجاته من مصير ينتظر الآخرين وأنه مستثنى وسيحظى بمعاملة خاصة..! ولربما يعدهم أيضاً بالنجاة على يديه من قبيل الترغيب. ويذكرنا هذا بمسلك من كانوا يصدرون صكوك الغفران حتى زمن ليس ببعيد. أما أن يقول: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ) فذلك هو البرهان الدامغ الذي لا دليل فوقه، ولا برهان بعده على أنه ليس صاحب القول، ولا يمكن أن يكونه.
وفي علم الله أن رسوله قد يلمُّ به شيء من الحرج في مواقف معينة وما يتنزل فيها من قرآن، ولكن الله سبحانه ومن أجل أن يعفيه من ذلك الحرج ينزل عليه قوله تعالى:
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف:2)
* * *
وفي صيغ أخف وطأة على نحو ما، في الخطاب الموجه إليه، وليست هي كذلك فيما يتعلق بهم:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ (الزخرف:40-44).
هم سوف يُسألون عن سدورهم في الغي والضلال. وهو سوف يسأل أيضاً عن تبليغ الرسالة.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (قّ:45)
ينفي الله عنه صفة الجبروت والتحكم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (الذاريات:55)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (القلم:48)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (القلم:51)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (لأعراف:205)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية:21-22)
لو أردنا المضي قدماً في إيراد الآيات، وتقديم البراهين والبينات، ثم التعقيب عليها بما تقتضيه، لما وسعنا المقام، ولا واتتنا القدرة على استيفاء القول في آيات الله ومعجزاته، كما في أمانة الرسول في نقل الرسالة لسائر البشر.
الدلالات التي يمكن استخلاصها من هذه الآيات جميعاً ــ فضلاً عما تقدم في الفصول السابقة ــ هي أن الرسول (صلعم) كان يتلقى التوجيه عن ربه، يحمله إليه جبريل عليه السلام أولاً بأول، مواكباً الأحداث والأحوال، في كثير من الأحيان. وكان الرسول يتلوها على مسامع القوم كما تنزلت. ثم يدونها كتَّاب الوحي من حوله، لتصبح دستوراً ومنهاجاً في الشريعة والسلوك والحياة، وتتردد على الأسماع، وتدون في الصحائف وتتلى في الصلوات، لتصلنا بعد كل هذا الزمان المنقضي منذ التنزيل، وكأنما نزل بها الوحي الأمين اليوم. نتمثلها، وفي خيالنا تتوالى صور ذلك العصر، ومهبط الوحي، والرسول، ومن حوله الصحابة الأبرار، خاشعين مصدقين مؤمنين، وغير بعيد أعداؤه من يهود(*) وأعراب يتربصون به ومن معه الدوائر، يدققون ويحققون وينقبون، لعلهم يجدون مأخذاً فيما يلقى إليهم من قول.. ولكنهم لا يبوؤن، بعد الجهد، إلا بالخسران المبين.
* * *
[/align]