قال جرير يهجو الفرزدق، وكانت تميم احتلت في سنة مجدبة صؤار، وهي ماءة
لكلب في طرف بادية السماوة، في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب، فصنع أبو
غالب أبو الفرزدق طعاماً وقسَّمه على أهل المزايا - أي أهل القْدر والمكانة فيهم-
فكفأ سُحيم بن وَثيل التميمي الجفنة المرسلة إليه، أنفة لمكانته، وضرب الخادم،
وتمادى القولُ بينه وبين غالب حتى تداعيا إلى المعاقرة، فعقر غالب مائتين من
الإبل وعقر سُحيم بعد ذلك إبله في كناسة الكوفة، لأنها كانت غائبة في وقت
المعاقرة. فقال سيدنا علي حينئذ: " لا تأكلوها فإنها مما أهلَّ به لغير الله" وأمر
بطرد الناس عنها:
تعُدُّون عقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدكمْ
بني ضوْطرى لولا الكميَّ المُقنَّعا
و(عَدَّ) هنا: يجري مجرى "حسب" وبابه، في أنه يتعدى إلى مفعولين؛ لأنه من
جهة الاعتقاد، لا من جهة الأعداد. ويصح أن يكون من " العدد" ويكون قوله:
أفضل مجدكم، مفعولاً ثانياً بإسقاط حرف الجر؛ أي تعدون ذلك من أفضل
مجدكم.
والعقر: عرقبة الإبل لئلا تبرح لما يرام من نحرها.
والنيب: جمع ناب، وهي الناقة التي نصفت سنها، وتكون أحمد ما تكون لكثرة
لبنها وتتابع نسلها، وعقر النيب في شعر العرب دلالة على الكرم، لكن جريراً
قصد الذم، فزعم أنها عُقرت لأنها نيَّبَت وأسنَّت فلا يرجون نسلها ولا لبنها.
وبني ضوطرى: منصوب على النداء، وتقديره: يا بني ضوطرى.
رماهم بالحمق، لأن أمهم محمَّقة. والضوطرى: المرأة الحمقاء، الضخمة، الكثيرة
اللحم، التي لاغناء عندها.
ولولا: بمعنى " هلاَّ" أي هلاَّ تعدون قتل الكميَّ المقنع أفضل مجدكم. فحذف، وهذا
النحو من الكلام كثير في لغة العرب، قال تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما
آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم) أي البخل خيراً لهم، فحذف المفعول الأول
لدلالة الفعل "يبخلون" عليه. ونحوه قول النعمان بن المنذر:
قد قيل ما قيل إنْ حقاًّ وإنْ كذباً
فما اعتذارك منْ قولٍ إذا قيلا
والكمي: الشجاع الذي لا يخيم، وهو أمدح من البطل، والبُهْمَة أمدح منه لأنه
لا يُدرى كيف يؤتى، والبئيس أكثر منه. وهو من كَمَى وتكمَّى: إذا قصد إلى
القتل. وقالوا: هو من كمى الشيء إذا ستره، فكأنه مستور، فهو يخفي شجاعته
فلا يظهرها إلاَّ عند الحاجة، ويخفي نفسه في السلاح، يقال: كمى الشهادة وكل
شيء وأكماه، إذا ستره، والكمي كأنه في ستر الله، ومن أمثالهم: الشجاع مُوقَّى.
والمُقنَّع: الذي عليه لباس الحرب وعدَّته المغفر والبيضة.
يقول لبني مجاشع: فخرتم بعقر النيب المُسنة، لا بعقر الكماة عند اشتجار الأسنة
والتطاعن بها.