الفصل الثامن
نبوءات تتحقق في مصائر بشرية
[align=justify]
نبوءات في مصائر بشرية
لأن عداء اليهود للإسلام وللمسلمين كان سافراً، لا هوادة فيه ولا مهادنة، فما فتئت الآيات القرآنية تتنزل في شأنهم، لكي يتبين المسلمون أمرهم ويأخذوا حذرهم حيالهم. من ثم يتحدث القرآن، هنا أيضاً عن عدائهم المتأصل ليس للإسلام وحده، بل وللمسيحية كذلك. القرآن لا يتحدث عن واقعهم وصفاتهم في عهد الرسول وحسب، وإنما كذلك عما سيكون منهم في قابل الأيام، فضلاً عن الإفاضة حول ماضيهم وما كان منهم مع سائر الأنبياء. من ثم فإننا نرى أن هذه الآيات تبدو وكأنها قد تنزلت اليوم. وإنك لن تجد وصفاً لهم أدق وأوفى لكاتب معاصر يعيش بين يدي هذا العصر في رسالة أو كتاب. ومن المدهش أن الآيات التي تنزلت بشأنهم لم تغفل جانباً من صورتهم ومما هم عليه إلا وعرضته في تفصيل واضح شامل، تعرض لمعتقداتهم الفاسدة الضاربة في التيه والضلال، وعن دخائل نفوسهم وما انطوت عليه من خبث ومكر. كذلك عن ممارساتهم العدوانية وجرائمهم وغدرهم، حتى بمن عاهدهم أو وثق فيهم، وفي أمور لم تتوقف أو تفتر على مدى الزمن. يقول تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (البقرة:8-12)
أليسوا هم المفسدين في الأرض حقّاً؟ كانوا كذلك منذ ما قبل المسيح كما في زمن الرسول عليهما السلام، وما برحوا حتى يومنا. يتظاهرون بأن لهم معتقداً يؤمنون به كذباً، وبالولاء لمن يعيشون بين أظهرهم نفاقاً، إلا أنهم في الواقع لا يضمرون غير العداوة والبغضاء. من ذلك خياناتهم للعديد من شعوب أوروبا، الذين يقيمون بينهم كمواطنين، وتآمرهم مع الأعداء على مواطنيهم. وفي أدبيات القرون المنصرمة منذ القرن السادس عشر، نماذج أدبية تتحدث عنهم، منها ــ على سبيل المثال ــ مسرحية شكسبير (تاجر البندقية)، ومسرحية كريستوفر مارلو (يهودي مالطا) وغيرها، وما صنعوه في سبيل إسقاط الخلافة الإسلامية في العقد الثاني من القرن الماضي. وكانت قبيلة منهم تدعى (الدونما) تظاهرت بالدخول في الإسلام قبل ذلك بزمن، حسب خطة رسمت بإحكام ودهاء من قبل كبرائهم أسفرت بالفعل عن سقوط الخلافة وانهيار الدولة العثمانية، وبالتالي هيمنتهم المباشرة حيناً، ومن وراء الستار حيناً، على تركيا الحديثة اقتصاداً، وإعلاماً، وسياسةً، وبصورة خاصة المؤسسة العسكرية التي ظلت منذ ذلك الحين حارساً (أميناً) على تراث (كمال أتاتورك) وأعوانه من اليهود. ذلك كله لأنهم رأوا أنها دولة المسلمين. ساعدهم على تحقيق هدفهم وتنفيذ مخططهم ما ساد تلك الدولة من عناصر التحلل والفساد ــ التي أسهموا هم فيها قبل غيرهم ــ وما لجأت إليه من تفريق وتمييز بين رعاياها في الأقاليم المختلفة وعلى أسس عنصرية واثنية، كالتفريق بين عربي وتركي، وسيادة العنصر (الطوراني)، كما في بنيتها الاجتماعية. أما هدفهم الأبعد مدى فقد كان تقسيم تركة (الرجل المريض) كما أسموها، لكي يتسنى لهم من بعد الاستيلاء على فلسطين، أرض ميعادهم المزعوم، ووعد هرتسل لهم عام 1897 بدولة يهودية وذلك ما كان، وذلك ما تحقق، وهو ما نعيشه اليوم. أما (أتاتورك) فقد كوفئ بالإبقاء على تركيا كياناً في وحدة سياسية، لم تخضع للتقسيم أو التجزئة، دون سائر ممتلكاتها. وكان ذلك لهدفين:
الأول إبعاد الإسلام عن الحياة فيها تماماً ــ إذا استطاعوا ــ.
والثاني لكي تظل مركزاً بل وكراً لمؤامراتهم على العرب والمسلمين، فانتشرت فيها المحافل الماسونية واللوثرية وما إلى ذلك من مؤسسات وجمعيات مشبوهة تحت أسماء وعناوين مختلفة، براقة وخادعة.
وقد عمدوا إلى مثل ذلك في أماكن عديدة من العالم على نحو أو آخر. وقد بات ذلك معروفاً عنهم كصفات ملازمة لهم لا تتخلف. وهم لم يكفُّوا عن مسلكهم هذا أبداً على مدى الزمن، فهناك اليوم أسر يهودية، في أقطار عربية وإسلامية تحمل أسماء لا تثير الريبة في ظاهرها، يتخذونها تُقيةً وستاراً لكي يتسنى لهم المضي قدماً في حبك المؤامرات وإثارة الفتن والقلاقل، وإفساد الذمم والأخلاق، والاستيلاء على مواقع السلطة والمال، للوصول أخيراً إلى أهدافهم بتسخيرها وتوجيهها حيث تحقق الغرض المنشود.
وغني عن القول أن محمداً لم يعرف شيئاً عن كل ذلك من قبل، إلى أن أخبره به ربه. وهذه واحدة من صورتهم في القرآن:
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ. قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص:48-50)
والله أعلم ــ دونما ريب ــ بأنهم لن يستجيبوا للرسول. (فإن لم) هنا تعني (عندما). ولأن الآية تتحدث عما لم يحدث بعد، الأمر الذي يعلم الله أنه سيحدث ولكن الخطاب موجه لرجل لا يعرف شيئاً عما سوف يحدث مستقبلاً.
هم الآن يريدون أن يأتيهم محمد بما أوتي موسى. وهم الذين كفروا من قبل بما أوتي موسى. وهم لم يؤمنوا بأيٍّ من الرسل في أي وقت من الأوقات، بل إنهم كانوا يقتلون الأنبياء. لم يسلم من مؤامراتهم وإجرامهم نبي من الأنبياء. كما كان موقفهم المعروف من سيدنا عيسى عليه السلام، وتآمرهم عليه واتهاماتهم الباطلة، له ولأمه السيدة مريم العذراء، التي فنَّدها القرآن ونفاها عنها، وأعلن براءتها وطهارتها، وفضَّلها على نساء العالمين. ثم كيف سعوا إلى صلبه. وعند التحدي بالمنطق والحق والبيِّنة، أو حتى بالمعجزة لا يجدون سبيلاً، غير الفرار من المواجهة.
ويزعمون اليوم تمسكهم بالتوراة كتاباً للدين اليهودي، وهم الذين لم يرتضوها عندما تنزلت على موسى عليه السلام، فمضوا يحرفونها بما يتفق وأهوائهم ومصالحهم واهدافهم السياسية. كقولهم (أرض الميعاد) و(شعب الله المختار)، وما إلى ذلك من مقولات ابتدعوها لأغراض سياسية دنيوية بحتة، بعيداً عن كل دين وخلق، ينسبونها إلى مصدر إلهي زوراً وبهتاناً، هو إلههم وحدهم دون سائر الخلق اسمه (يهوه) يقول تعالى فيهم:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة:5)
وصورة أخرى من خصالهم الملازمة لهم على الدوام والتي ترينا كيف تتحقق النبوءة في شأنهم وفيما هم عليه على مدى القرون التالية لزمن الرسول وليس زمانه وحده.
* * *
اليهود والقتال في قرى محصنة
ألم يكن ذلك هو واقعهم قديماً؟ أو ليس هو حالهم اليوم أيضاً؟ ها هم في هذا العصر الذي تمكنوا فيه من اقتناء أعتى وسائل القتل، وأكثر أدوات الدمار فتكاً، هؤلاء هم مع ذلك، لا يقاتلون إلا في تحصينات باتت معروفة: المستعمرات والمستوطنات، والاستحكامات وجدران الدبابات الحديدية والمصفحات وما إليها. لا يملكون القدرة ولا الشجاعة على القتال خارجها.
في شهادة للفريق سعد الدين الشاذلي حول حرب عام 1973 يقول: (كانوا يحاربون إما من وراء خط بارليف، وهذا كان بالفعل أشبه بالقرى المحصنة في مواقعه ونقاط دفاعه على طول خط قناة السويس، وإما من وراء جدران الدبابات. فالدبابات في الواقع جدران من حديد، لا يبرحونها. لا يقاتلون مواجهة أبداً وقد صدق قول الله فيهم لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ. كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الحشر:14-15)
(كما أنهم على درجة من الجبن غريبة. لقد فقد الكثير منهم صوابه وأصيب بالهستيريا عند المواجهة التي لم يكن يتوقعها، كما ألقى في روعه قادته. فهم كذلك أحرص الناس على الحياة).
أليست هذه نبوءة تستحق الوقوف عندها؟ ومن ثم استقرار اليقين بأنها لن تكون إلا من عند الله، منذ نيف وأربعة عشر قرناً، قبل أن نراها نحن أبناء هذا الزمن رأي العين على الفضائيات؟
أما أن بأسهم شديد بينهم، في حين نحسبهم جميعاً. ولكن قلوبهم شتى، فإنهم لكذلك. هم قساة عتاة فيما بينهم، تلمس ذلك في جدلهم ومماحكاتهم وخصوماتهم فيما بينهم، أفراداً وأحزاباً ومؤسسات، على الرغم من ظهورهم أمامنا كأنهم متحدون وعلى موقف واحد. مرد ذلك خوفهم المفرط وإحساسهم المرضي المزمن بالخطر ليس إلا. أما أن قلوبهم شتى فيتبدى ذلك في مواقفهم المتعارضة، واختلاف آرائهم في سائر قضاياهم، خاصة كانت أو عامة، مما نشهده في صراعاتهم الداخلية، ومعارك أحزابهم المحتدمة دوماً، بين ذلك الخليط الهجين العجيب.
أما أنهم (قوم لا يعقلون) فهل من جدال في هذا؟ إن حماقاتهم وفقدانهم للتعقل تدل عليها سلوكياتهم التي عرفها عنهم العالم أجمع. بل وإننا نعيش صوراً من ذلك في أيامنا هذه. فها هم بعد أن استولوا على البلاد وشردوا العباد، وتحقق لهم أكثر مما كانوا يحلمون (بفضل التقصير العربي الراهن)، لم يقتنعوا بكل ذلك، بل ها هم يواصلون اعتداءاتهم وحروبهم، ويقترفون الجرائم، ويقيمون المذابح للشعب ذاته الذي اغتصبوا وطنه، جهاراً نهاراً، على مسمع ومرأى من العالم. ولو كانوا يعقلون حقّاً لأدركوا أن ذلك ليس في مصلحتهم، وأنه سوف يفضي قطعاً، في نهاية المطاف، في وقت قريب أو بعيد إلى هلاكهم المحتَّم، واندثار ما أقاموا من كيان. ويبدو أن ذلك ليس إلا توطئة لتحقيق إرادة الله فيهم.. ليقضي الله في شأنهم أمراً كان مفعولاً. ألا إنها (لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
كما أن مسعاهم إلى إحكام هيمنتهم على الغرب، وعلى رأسه أمريكا لن يكون في مصلحتهم ــ لو كانوا يعقلون ــ على المدى البعيد. ذلك برغم أنهم يعتقدون الآن أن فيه إنجازاً لهم يمكنهم من تحقيق كل ما يطمحون الوصول إليه، عن طريق هؤلاء (المهيْمَن) عليهم من قِبَلهم في الزمن الراهن. "يحسبونه خيراً لهم وهو شرٌّ لهم". ولعل الله أن يزيدهم انغماساً فيما هم فيه من خطل في الرأي، ومن تيه في الفكر. يؤكد ذلك قوله تعالى:
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (آل عمران:178)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران:140)
لم يذهب القرآن في وصفه لأقوام من البشر، على قدر من السوء والضلال كما ذهب في وصفه لليهود. وإذا نحن نظرنا إلى العالم منذ عرف اليهود، وحتى يومنا هذا، وجدناهم أُسَّ البلاء لسائر البشرية، وأنهم كانوا سبب الحروب في كل زمان ومكان. كانوا وراء الحروب والفتن والقلاقل والاضطرابات جميعاً، ما ظهر دورهم فيها واضحاً جليّاً، وما ظل منها سرّاً خفيّاً.
في القرن المنصرم وحده كانوا سبباً مباشراً لحربين عالميتين. ثم كانوا بعدهما سبباً فيما آل إليه حال العالم مما أشرنا إليه من فوضى واضطراب ومظالم ودمار. حتى ما سمي بالحرب الباردة وملحقاتها، وما نتج عن انتشار الشيوعية لوقت ما، وانقسام العالم إلى رأسمالي وشيوعي، يميني ويساري، وما أسفر عنه ذلك من حروب صغيرة (نسبيّاً) كادت تغشى معظم بلاد العالم، باسم هذه الجهة أو تلك، بيد أنها جميعاً كانت تصب في مجرى النهر ذاته، إما لأسباب اقتصادية بغية تشغيل مصانع السلاح، وتقتيل شعوب برمتها من أجل جني المال، وأقطاب هذه الصناعة يهود معروفون، وإما من أجل تجارة النفط وصناعاته، وأقطاب هذه أيضاً من اليهود، أو هي حروب للتغطية وصرف الأنظار عن اغتصابهم أرض شعب، ثم ملاحقته في المنافي عملاً على إبادته. وما حدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية( )، وحتى الآن، فكانت ضحاياه وآثاره التدميرية أكثر من تلك التي أنتجتها الحربان معاً. أما نصيبنا نحن منها ـ عرباً ومسلمين ـ فيحتاج إلى مجلدات ومجلدات قد لا تتسع لها. أليس الوضع الراهن للعرب والفلسطينيين والمسلمين هو واحدٌ من تلك النتائج؟ فلولا تلك الحرب الأخيرة، وما نسب إلى الألمان وغيرهم، حكايا (الهولوكست)، و(اللاسامية)، وما إليها، هل أمكن أن يقع لنا ما وقع؟ ولولا آثار الحرب الأولى التي مهدت لذلك، من وعد بلفور، إلى تقسيم الوطن العربي إلى دويلات، والهيمنة عليها بصورة هنا وأخرى هناك، و(سايكس بيكو) والانتداب، ثم تسليم فلسطين جاهزة لهم بواسطة البريطانيين، لولا ذلك كله هل كانت صورة العالم على ما هي عليه الآن؟
من الآيات التي تحدثت في أمرهم وانطبقت على أحوالهم، واصفة ممارساتهم وطبائعهم، متوعدة إياهم بسوء المصير على مدى الزمان، قوله تعالى:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (آل عمران:112)
* * *
ضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة
هذا هو واقعهم تماماً اليوم. الحبل من الله كان قديماً، ربما أيام كان فيهم موسى عليه السلام. أما الحبل من الناس في عصرنا فهو ما نراه من مدد لهم من أطراف عديدة. بعضها يمدُّهم بالمال وبعض بالنفوذ، عوناً وتأييداً على الباطل، مؤازرة وحماية لهم ــ كالفيتو الأمريكي مثلاً ــ وبعض بالرجال، كهجرة السوفيات، والمصادر الأخرى لإمدادهم بالعنصر البشري، تجميعاً لقطعانهم من شتى أصقاع الأرض. جراء ذلك ــ الماضي والراهن ــ فقد باءوا بغضب من الله. أما المسكنة والذلة فقد ضربت عليهم ولما تزل. برغم أن الظواهر المرئية تقول غير ذلك. ولكن ليس على المدقق المحقق إلا أن ينعم النظر في المسألة ليرى أنهم ما برحوا أذلاَّء. ألا تراهم (يتمسكنون) في كل مناسبة، لدى القوى الدولية المختلفة سعياً وراء مزيد من العون والدعم استجداءً وابتزازاً؟ ألا تراهم يختلقون الأسباب والذرائع والأكاذيب، من قبيل أن العرب يعتزمون إلقاءهم في البحر؟ ومن قبيل أن العرب يسعون لدمار (إسرائيلهم) والقضاء عليهم؟ هذا على الرغم من تفوقهم العسكري والتسلح الذي وصل حد امتلاك السلاح النووي وسائر ما سلفت الإشارة إليه من وسائل الدعم المادي والمعنوي، وعلى الرغم من أن العرب لم يجمعوا على شيء في شأنهم، أو حتى مجرد الوقوف في وجههم دفاعاً عن أنفسهم. إذا لم تكن هذه ذلَّة ومسكنة، فماذا يمكن أن تكون؟ وإذا لم تكن هذه نبوءة تتحقق فماذا عساها أن تكون؟.
وآية في السياق ذاته تقول:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (المائدة:64)
هذه الآيات أيضاً تتحدث عن الواقع المعاصر، تنطبق عليهم اليوم كانطباقها وقت نزولها. تصوير دقيق لما هو قائم بيننا كمسلمين وبين أعدائنا عموماً، وفي مقدمتهم اليهود، أو أن اليهود ــ كرأس حربة ــ يقودونهم إلى الصدام معنا، ويؤلبونهم علينا دوماً وبلا هوادة. بيد أنهم ليسوا بمنجاة من الأذى، أو في حصانة من أن تحل بهم الهزائم. لكنها المكابرة والعناد إلى أبعد مدى. كفراً وطغياناً. وإذا كنا نألم نحن أيضاً فإن ألمهم أكبر، ما دمنا نرجو من الله ما لا يرجون. وكذلك فإن الأيام دولة بيننا وبينهم. وإذا كانت لهم جولة الباطل في هذه الآونة فإن ما هو آتٍ من الزمان سيكون لهذه الأمة. والله يملي لهم بما يجدونه لدى من يشاركونهم عداوة الإسلام من عون على باطلهم، بسبب من مصالح مشتركة فيما بينهم، إلى جانب ما يضمرون للمسلمين والإسلام من عداء عقيدي تقليدي مشترك أيضاً. يمدهم هؤلاء بأسباب القوة والدعم للبغي والعدوان. تأخذهم من ثم مشاعر العزَّة بالإثم. فيحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فيزدادون في الشر إيغالاً، وينغمسون في اقتراف المزيد من الجرائم والموبقات.
وبعد. أليست هذه نبوءات صادقة تنزلت وحياً على محمد رسول الله؟
ونبوءات أخرى في مسائل ذات طبيعة مختلفة، للكثير منها صلة بقضايا ذات علاقة بالعلوم الحديثة، نفياً أو تأكيداً وبما يتفق مع الآيات في الحالتين:
* * *
عجز الإنسان ومحدوديته
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج:73)
على الرغم من كل ما وصل إليه العلم. لم يستطع الإنسان أن يخلق خلية حية. لقد تعامل مع الخلايا والجينات ومع الفيروسات والكائنات الدقيقة، ولكن مسألة الخلق لخلية حية من العدم أمر آخر عجز الإنسان عنه، برغم تقدم العلم غير المسبوق كما نشهد اليوم. هذه الآية من سورة الحج تحدث بما كان الناس يفهمونه في ذلك الزمن، فضربت المثل بالذباب، وليس بالخلية التي لم يكن العلم ولا المعرفة البشرية تحيط بها أو تعرف عنها شيئاً. لكنها ــ الذبابة ــ تصلح مثلاً للأزمنة اللاحقة كعصرنا أيضاً. إذ هل استطاع العلم بعد أربعة عشر قرناً أن يخلق ذباباً؟
كيف عرف محمد أنهم لن يستطيعوا خلق ذبابة؟ ولماذا يضرب لهم هذا المثل ــ وهو يجهل ما يخبئه المستقبل ــ في مثل هذه الشؤون؟ إن البشرية جمعاء بكافة علومها وقدراتها على صعد لا يحصيها عدد عاجزة عن خلق ذبابة. وهذا هو التحدي!
وتحدٍّ معجزٍ آخر في الآية نفسها هو أن الذبابة على ضعفها حين تحط على طعام وتستلب منه شيئاً، لغذائها الهين الضئيل، هل من أحد بقادر على استرجاعه؟ لقد ضعف (الطالب) الإنسان، بمعنى عجزه عن ذلك تماماً، برغم أن (المطلوب) هو ما اختلسته الذبابة، أو هو الذبابة نفسها. وما أضعف المطلوب في كلتا الحالتين.
ومن هذه الآيات ذات الصفة التنبؤية:
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (النمل:65)
تحدٍٍّ آخر قائم أبداً، فما من أحد استطاع اختراق حجب الغيب، أو كشف أسراره برغم التطورات التقنية والمنجزات العلمية الهائلة، فها هنا وقف العلم عاجزاً تماماً. حتى الطقس لا يستطيعون التنبؤ بأمره على وجه القطع واليقين. وكل ما يقدمه علم الأرصاد هو (احتمالات) قد تصح، وقد لا تصح، حسب معطيات لها شواهد ودلائل يستخلصون منها نتائج على سبيل الاحتمال والتوقع ليس إلا.
ومن هذه الآيات:
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (يس:68)
تقدمت العلوم، ولاسيما الطب، والفيزيولوجيا، والبيولوجيا، فهل استطاع العلم أن يمنع عن الإنسان النكس الذي يصيبه عندما يعمّر؟ لماذا لم يستطع الطب أن يمنع مرض (الزهايمر) عن رئيس الولايات المتحدة (رونالد ريغان)، ودولته أغنى دول العالم وأكثرها تقدماً في العلوم والتكنولوجيا، بل إن غرورها يذهب بها إلى حد ادعاء القدرة على كل شيء. فلماذا لا يكذِّبون محمداً في قضية جاء بها قبل أربعة عشر قرناً، بأن يفعلوا في هذا المضمار ما ينقض ما جاء به إذا استطاعوا، وهم الحريصون على ذلك الحرص كله؟
ومنها:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (النمل:93)
آيات الله أي دلائل إعجازه وعلامات قدرته التي سينجلي عنها المستقبل القريب أو البعيد كما تقول الآية: (سيريكم آياته) أخذت تظهر بالتتابع وعلى مر الزمن من بعد، وعرفها الناس بالفعل بعد ذلك كل منها في وقتها. وما اكتشافات العلم قديماً وحديثاً حتى عصرنا، إلا بعض آيات الله. فما اكتشفه العلماء في الفلك والأجرام السماوية، وكيفية خلق الكون، والفضاء ومكوناته، وطبقاته الواقية للأرض كطبقة الأوزون (السقف المحفوظ) وارتياد الفضاء، وعلوم الطبيعة، من بحار وأنهار وجبال، والمطر والبرق، والهواء، والكهرباء، والأثير، والجاذبية، والذرة، وفيزيولوجيا جسم الإنسان والحيوان، والطب البشري، وعلوم النبات والحشرات، ما هذه جميعاً سوى آيات الله في خلقه. وقد نبَّأتنا هذه الآية من سورة النمل أن الله سوف يرينا آياته ــ نحن البشر ــ في زمن لاحق لعهد الرسول، وأننا (سوف نعرفها) في حينها وأوقاتها من الزمان الذي تقع فيه. وهكذا كان وها هي البشرية تعيشها اليوم واقعاً ملموساً. ما كان لأحد ــ بطبيعة الحال ــ في زمن التنزيل أن يشتط به الخيال إلى حد التصور لنوع الحياة التي يعيشها إنسان هذا العصر كواقع عادي مألوف لا يثير دهشة أو يبعث استغراباً بحكم التعوُّد والمعايشة.
ومن الآيات التي تحذر البشر عواقب طغيانهم وعصيانهم وتنكرهم للقيم والأديان، وما تحمل في ثناياها من عامل النبوءة:
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (الملك:17)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (الملك:21)
ظاهرة الكوارث الطبيعية المفجعة كانت تقع في العصور القديمة وما زالت تقع حتى اليوم. بل إنها في هذه الأيام تتبدى أكثر وضوحاً وأوسع انتشاراً في الأرض عما سبق. ويشاهد الناس بأم أعينهم، في كل مكان، على الشاشات الفضائية صوراً مروعة للفيضانات الكاسحة، وحمم البراكين المتفجرة، والدمار الناتج عن الزلازل، تهدم بلداناً وتبيد آلافاً من البشر، وعصف الأعاصير التي لا تبقي ولا تذر، تطيح بالمباني والأشجار وأبراج الكهرباء، حتى أن كل إعصار أمسوا يعطونه اسماً علماً يدل عليه، وإن بعضها وما نجم عنه من آثار شُبِّه بما تحدثه القنابل الذرية من تدمير.
أما العقوبات الإلهية فما برحت قائمة.
فالقران سبق أن وصف لنا ما حلَّ بالأقوام الغابرة البائدة، كعاد وثمود وقوم صالح وتبع وغيرها من عقاب، بصور متعددة تبدو لنا مشابهة لما يحدث اليوم. ولا نعتقد أن مثل تلك العقوبات قد توقف بعد ذلك العهد الذي نزل فيه القرآن، فما من شك في أن البشر أصبحوا أكثر سوءاً عن ذي قبل، وما من سبب يدعو للاعتقاد بأن القدرة الإلهية كفَّت عن إنزال العقوبات بمستحقيها. والفارق بين ذلك الزمان وزماننا هذا هو أن ما من نبي يخبرنا الآن أن هذه عقوبات إلهية، بعد انقطاع الوحي، واختتام عهد النبوات بمجيء الرسول محمد عليه السلام. وقد أعلن محمد أن لا نبي بعده. وهذا ما كان بالفعل، فلم يأت نبي بعده، وهذه في حدّ ذاتها نبوءة كالمعجزة في صدقيتها وتحققها طول هذا الزمن. ولكن القرآن في آيات كثيرة، أنبأنا محذِّراً بأن الله لن يغفل عن عباده، وأنه ليس بغافل عما يقترفه الطغاة والعصاة من بينهم.
والملاحظ أن معظم ما يحدث من هذه الكوارث يقع في بلدان( ) عرفت بالظلم والطغيان والافتئات على حقوق الغير، والخروج على شريعة الله في الحق والعدل. وقد بلغ ببعضها الجبروت والتغطرس حدوداً تفوق التصور، دفعتها إلى ضروب من الممارسات بحق بشر آخرين، من المستضعفين في الأرض، لا سابق لها في الوحشية والإجرام. وإذا كنا لا نجنح إلى التعيين فلأن وسائل البث الحديثة كفيلة بذلك، تزحم الفضاء في سائر الأرجاء.
قد يحسن بنا أن نذكّر بزلزال »تسونامي« الذي وقع أوائل عام خمسة وألفين، مصحوباً بطوفان المحيط الجارف مجتاحاً مساحات شاسعة من بلدان جنوب شرق آسيا. لقد قضى يومئذٍ على نحو من مائتي ألف من البشر، وأزال قرى ومدناً برمتها فأمست خراباً يباباً (كأن لم تغن بالأمس). كانت تلك المناطق الساحلية حافلة بالمنشآت السياحية المنفتحة على كل شيء وبلا حدود، من فنادق باذخة، ومسابح فارهة، وشواطئ مدهشة يؤمها السياح من سائر أرجاء الأرض. وقد قضى من بين السياح وحدهم ما يقارب العشرة آلاف إنسان من أمريكا والدول الغربية. كما أن جزيرة دييجوجا جارسيا (Diego Garcie) الغربية من سواحل المالديف التي اتخذ منها الأمريكيون أكبر قاعدة لأسطولهم (المارينز"). وهي مزودة بأفتك الأسلحة، خزِّنت فيها الصواريخ والرؤوس النووية. كما أنشأوا فيها مركزاً هاماً للتجسس لـ (C.I.A) حيث يتم استجواب من تدعوهم بالإرهابيين. ويرافق الاستجواب عمليات تعذيب عرف العالم صوراً ونماذج منها في (غوانتانامو) و(أبو غريب) وغيرهما. وفي هذه القاعدة ــ الجزيرة زودت ثلاث غواصات (دولفين) إسرائيلية بصواريخ ذات رؤوس نووية من طراز (هاربون) استعداداً للانقضاض على بلدان عربية وإسلامية كالعراق وإيران تحديداً في البداية. هذه الجزيرة ابتلعتها أمواج الطوفان بكل من فيها من جنود (نحو ألف وخمسمائة) وما عليها من أسلحة وأدوات دمار، لم تعن قوة أمريكا وجبروتها، فضلاً عما تملك من تكنولوجيا العلوم، عن هؤلاء شيئاً، فذهبوا في طرفة عين حين ارتفع الموج إلى زهاء عشرة أمتار وبسرعة خمسمائة متر في الساعة.
أليس هذا مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24)
على أن هذه الظواهر الطبيعية لا تأتي ــ بالضرورة ودائماً ــ كعقاب إلهي، كما أن الكوارث حين تحل بقوم أو جماعة تأخذ معها وفي طريقها الطالح والصالح معاً. ولكن تختلف المصائر الأخروية عندئذٍ بين اولئك وهؤلاء. وفي هذا يقول تعالى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (لأنفال:25)
ويقول تعالى:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16)
يقول تعالى:
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام:65)
وبعيداً عن كوارث الطبيعة نرى اليوم أن العذاب من فوق الرؤوس، والعذاب من تحت الأرجل يذيقه بعض الناس لبعض آخر. أهو غير الطائرات (من فوق) والقذائف والصواريخ الطائرة؟ أهو غير الألغام وما شابهها (من تحت الأرجل)؟ هؤلاء الذين توعدت الآية البشر (ببعثهم) أدوات لمثل ذلك العذاب الموعود. أليسوا هم الذين اخترعوا البارود، وصنعوا القنابل والصواريخ وأجهزة نقلها، وأدوات حملها، ثم تفجيرها في الآدميين؟ أمَّا تلبُّس الناس (شيعاً) وأحزاباً وفئات وأقواماً، يذيق بعضهم بأس بعض فهو ما يحدث تماماً في هذا العصر. ونحن نعيشه يوماً بيوم.
هذا التوصيف المكثف للظاهرة في عدد محدد مقتصد للغاية من الكلمات، ومع ذلك تبدو محيطة بكل ما يجري، ناهيك عن سمة النبوءة فيها. أليس إعجازاً لا قبل لبشر الإتيان بمثله ويكون مصيباً دائماً، ومطابقاً للواقع القائم، راصداً للوقائع حتى قبل وقوعها؟
ثم بعد هذا تدعونا الآية بصيغة الأمر للنظر في كل ذلك، لعلنا نفقه الحكمة، ونتفهم الحقيقة، فلعل السادرين في غيِّهم أن يفقهوا آياته فيطامنوا من سلوكهم، ويتحاشوا ما غلَوْا فيه من إجرامهم.
ثم تأتي نبوءات في شأن الإنسان، توصيفاً له ككائن، وتحديداً له كمصير، ومسائل أخرى. يقول تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان:34)
هذه قضايا كونية ومصيرية على درجة بالغة من الخطورة والأهمية تتعلق بالمصير الإنساني ككل، ومصير الإنسان الفرد نفسه في الدنيا والآخرة، في إيجاز مدهش، في آية واحدة لا تعدو السطرين:
علم الساعة؛ أي المصير النهائي للبشرية.
هل تمكن العلم برغم ما حققه من تقدم أن يبِّين أو أن يحدد موعداً قاطعاً في شأن الساعة التي هي نهاية الحياة على الأرض؟
تنزيل الغيث:
من ذا الذي يستطيع منعه إن نزل، أو إرغامه على النزول إن امتنع؟ أو تخفيف وطأته أو زيادة تهاطله حسب المصلحة والاقتضاء مثلاً؟
علم ما في الأرحام:
معرفة ما تنطوي عليه الأرحام من ذكر أو أنثى. شكل المخلوق، صورة مستقبله، ماهية حياته التالية لميلاده، عمره الذي يعيش على الأرض. وإذا كان علم الطب قد تمكن في كثير من الحالات تحديد الذكر من الأنثى قبل الولادة، فليست هذه هي المسألة. هي جزئية لم تقل الآيات بامتناعها على المعرفة. ولكن أنَّى لأحدٍ معرفة الأمور الأخرى سالفة الذكر، ذات الأهمية البالغة والشأن الخطير؟
توقيت الموت ومكانه:
جهل الإنسان المطبق بمكان موته وساعته وكيفيته، فما من أحد يعرف شيئاً من هذا حتى عن نفسه مهما أوتي من مال أو جاه أو علم. كما أن الإنسان يجهل تماماً ما ينتظره في الغد. و(غداً) في الآية مجازية، قد تعني اللحظة التالية وقد تعني سائر حياته حتى نهايتها. ماذا يكسب الإنسان غداً أمر لا ينفك مجهولاً، ما دام الغد لم يأت. فالغد يظل الغد المجهول الذي قد لا يشهده الإنسان. كما أن الإنسان يجهل ما يخبئه له ذلك الغد من وقائع (فضلاً عن مسألة الموت والحياة) وعلاقات ورزق وخير وشر.
وهذه آية في سياق مسألة الموت:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (النساء:78)
هل هناك حصانة لإنسان ما على وجه الأرض تنقض هذا المعنى؟ وهل استطاع أو سوف يستطيع العلم أن يمكِّن أحداً من الخروج على هذه السنة في الخليقة لكي يكون استثناءً؟
محاولات الطب في العلاج والوقاية والدواء كافة، لم تهدف إلى غير إمكان إبعاد الموت وإطالة العمر، بتلافي المرض أو الشفاء منه. هذا باعتراف العلم والعلماء والطب والأطباء. لكن أحداً لم يفكر في (منع) الموت عن الإنسان و(منحه) الخلود. وهذه أيضاً في حالات نجاحها ــ أي فيما يحسبونه إطالة للعمر ــ مسألة قدرية.. بمعنى أن من ينجو من الموت بالشفاء أو بالعلاج ــ دواء أو جراحة ــ إنما كان له ذلك بقدر خفي في علم الله بأن يمتد به العمر إلى ما شاء له الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (الرعد:38).
هل هناك إذن ما هو أبلغ دلالة على عجز الإنسان أمام القدرة الإلهية (التي قد يؤمن بها وقد لا يؤمن) بأنه هو نفسه ليس سيد مصيره، حتى في مسألة حياته وموته، وزمن وجوده على الأرض، سواء كان ذلك عن الحقبة التي يوجد فيها، أو كان عن مدى بقائه حيَّاً. بما في ذلك رزقه، بما في ذلك حياته الاجتماعية من زوجة وأبناء. من تكون الزوجة من بين سائر النساء، ومن يكون الأبناء، عددهم، أجناسهم، مزاياهم وصفاتهم.. قد يكون له نصيب منهم وقد لا يكون..
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (الشورى:49-50)
ثم مصائر هؤلاء جميعاً، وهل أسهموا في خير يجنى أو شرٍّ يلقى. ناهيك عن علاقاته بالآخرين من حوله في مجتمعه وعمله، برغم أن ذلك كله من صميم حياته، وأخص شؤونه. فها هو ذا يجد نفسه في هذا المكان بعينه من الكرة الأرضية، من هذا الكون الشاسع، دون أن يدري كيف ولماذا ومن قدر ذلك (غير الله)، وفي هذا الزمان، أو ذاك، دون غيره أيضاً. ثم هو يجد نفسه هكذا خُلق شكلاً ولوناً وملامح وهوية وانتماء لجماعة لم يخترها، ولأبوين لم يخترهما، وأسرة وأصدقاء ولغة، واسم أعطاه إياه أبواه يحمله طول عمره. وهو أيضاً لم يختره، كما أنهما ورَّثاه اسم عائلة بعينها، كما ورَّثاه ما ورَّثاه من جينات وكروموزمات. ومستواهما الاجتماعي والاقتصادي والثقافي حسب عصر معين. فهو من ثم لا يملك من أمر هذه جميعاً شيئاً، مسائل قدرية مطلقة لا يد له ولا رأي في إيجادها وصنعها، ولا قدرة له على توجيهها أو التأثير فيها( ).
ولا ينطبق هذا على بشر دون غيرهم، وإنما يخضع له سائرهم. ولننظر إلى رئيس لدولة عظمى في عصرنا، يملك من الإمكانات ما لا يملكه عامة الناس، وفي وسعه أن يسخِّر الطب والعلم فيما بلغاه من تقدم وتطور وإمكانات توشك أن تتجاوز كل معقول، فهل يملك دفع الموت عن نفسه في نهاية المطاف عندما تحين ساعته؟ هل يستطيع الخروج عما جاءت به الآية هذه؟ فهل في وسعه أن يعلم بأي أرض يموت؟ وأين وكيف؟ أو ما الذي سيقع له غداً على وجه القطع واليقين؟
لماذا يغامر قائل بالتعرض لمسائل على هذا القدر من التعقيد ما لم يكن صاحب القول حكيماً مقتدراً، عليماً بمحتواه ومضمونه، متحدياً بصدقه وحتميته ومطابقته للواقع الحياتي للبشر؟
أو ليس هو القائل أيضاً:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل:78)
خلقكم لا تعلمون شيئاً من أمر الحياة والكون، وأمر أنفسكم أيضاً عند خروجكم من بطون أمهاتكم. كما أنكم لم تصنعوا لأنفسكم السمع والبصر والفؤاد وسائر ما تملكون من أعضاء وحواس وملكات عقلية. هو الذي صنعها لكم، وهو الذي زوَّدكم بها لتمكينكم من السير في دروب الحياة بسمع وبصر وبصيرة. ولولا ذلك ما كان لكم وجودٌ أصلاً. وإلا فكيف يتسنى لكم العيش من دونها؟
أليست حياتكم كلها إذن منحة إلهية؟
مرة أخرى ينتصب السؤال أمامنا: أنَّى لمحمد معرفة هذا كله، من تلقاء نفسه وفي مثل عصره، لولا أن من أنبأه هو الله العليم الخبير؟
* * *
معجزة الخلق
كانت مسألة الخلق دوماً محور الجدل والنقاش وتعدد النظريات التي شغلت الإنسان وحيَّرته على مدى العصور. بل كانت في كثير من الأوقات الفيصل بين الكفر والإيمان. فإن تنسب الخلق إلى الله فأنت مؤمن، وإن تنسبه إلى غيره فأنت لست كذلك. وكم من حروب ــ فكرية( ) وعسكرية ــ قامت على وجه الأرض من أجل هذه المسألة.
و »الخلق« تعني كل شيء مخلوق. الكون والإنسان والحياة بكل ما فيها. وهي مسألة كانت محوراً أساسياً في العقيدة والإيمان. من ثم فأنت بالكاد تجدُ في القرآن سورة لا تتحدث عن الخلق، تصويراً وتذكيراً، وبراهين وبيِّنات، دعوة للإنسان إلى الإيمان بالله تعالى عن طريق إعمال الفكر، والنظر في آياته وخلقه وكونه العظيم المهيب:
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (غافر:57)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (الزخرف:9)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يّـس:81-82)
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (لقمان:28)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (الزخرف:12)
حدث في العقد الأخير من القرن المنصرم، ما أثار الدهشة والحيرة، وربما الفزع، في سائر أرجاء العالم، وأثار زوابع من الجدل والنقاش، إن لم نقل المعارك الفكرية في أوساط العلماء والمثقفين على نحو خاص. كانوا بين فريق مستحسن معجب، وفريق مستنكر رافض. كان ذلك عندما تمكن فريق من العلماء استنساخ نعجة عن طريق التوالد الطبيعي، أسموه التوالد (اللاجنسي). ثم زعموا بعد ذلك استنساخ أبقار وخنازير. وأخيراً استنساخ إنسان.
هذا الحدث العلمي طرح من جديد، مسألة الخلق، في كافة الأوساط وفي شتى أرجاء العالم. إذ رأى بعضهم في ذلك خلقاً جديداً، فاتخذها برهاناً على تعزيز القول والاعتقاد بأن الخلق من صنع الطبيعة، وحتى إن كان من صنع الله فليس الله وحده هو الذي يخلق إذ ها هو ذا الإنسان يخلق أيضاً..! وما ذلك إلا لكي تكون هذه المقولة منطلقاً للتأكيد على توجهات إلحادية خطيرة، في حين رأى آخرون أن الاستنساخ ليس خلقاً جديداً، وإنما هو توليد حياة من حياة قائمة في الأصل، بمعنى (استنسال) كما في التعبير الفرنسي عن المسألة. ورأى فيه هؤلاء ما يعزز اليقين بإيمانهم بقدرة الله عز وجل وتفرده في الخلق وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (النحل:20) أليس إعجازاً أن نرى القرآن يقول بعدم قدرة الإنسان على الخلق من العدم ثم تتوالى الحقب إلى أن تبلغ عصرنا الراهن الذي بلغ فيه العلم مبلغاً عظيماً، ولكن مسألة الخلق ما انفكت عصية على الإنسان. خلْق الحياة، ولو في خلية واحدة عجز الإنسان والعلم عنه، عجزاً مطلقاً وأقرّ بعد التجارب والمحاولات بذلك العجز.
يقول تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (النحل:17) أليس هذا تحدياً أزلياً للخلق كافة؟ هذه إذن ليست سوى واحدة من آياته التي تتوالى ولا تنقطع. والتي وعد البشر بأن يريهم إياها متتابعة على مر الزمن:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت:53)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت:20)
وفي الآية التي تسبقها:
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (العنكبوت:19)
الذي يعنينا في هذا الشأن هو أن القرآن الكريم أنبأنا عن هذا قبل وقوعه بزمن طويل. حتى هذا أنبأنا به كتاب الله، وهو وجه إعجاز آخر لا يسع المرء إلا التسليم بعظمته. ولقد جئنا بهذه المسألة في باب النبوءات هذا.
ففي سورة النساء، وفي معرض ذكر الشيطان، وتوعده البشرية بألاَّ يألو جهداً في تضليلها، لإيرادها موارد التهلكة في الدنيا والآخرة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يعلن عن واحدة من وسائله التي يعرف أن من شأنها أن تكون سبباً في إغواء الكثير من البشر، وحرفهم عن سبل الرشاد. وذلك لما لها من تأثير على عقل الإنسان وبلبلة فكره، نظراً لما تنطوي عليه من غرابة وإبهار، بما تفترضه من قدرة الإنسان العلمية والعقلية. مُنسِيةً إيَّاه في الوقت ذاته أن الإنسان وما يعمل، وما ينتجه عقله أيضاً هو من صنع الله في الأصل.
فالله تعالى يقول:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات:96)
أما الآية التي نحن بصددها وآيتان قبلها ممهدتان فتقول:
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (النساء:117-120)
إنجاز علمي هائل؟
نعم. ولكنه ليس خارقاً لسنن الله في الطبيعة والكون. كل ما في الأمر أن الإنسان (عرف) أو (اكتشف) حقيقة من الحقائق، التي لبثت خافية عليه زمناً، شأنها شأن حقائق كونية لا حصر لها، ولن ينفك أكثرها خافياً عليه، إلى أن يشاء الله لها كشفاً. غني عن القول أن (اكتشاف) الحقيقة لا يعني (خلقها) أو (إيجادها) من العدم. تماماً كمسألة الفضاء، عندما صعد (جاجارين) كأول إنسان يدور في الفضاء حول الكرة الأرضية. أثار ذلك الحدث في العالم يومئذ زوبعة مماثلة، تبعتها زوابع أخرى كلما جدَّ جديد في مضماره، كنزول أول إنسان على سطح القمر (نيل أرمسترونج) ورفيقاه. ومكث الناس زمناً في ذهول يؤرجح بعضهم بين الإيمان والكفران لهول المفاجأة.
إنسان يهبط على سطح القمر؟ أيعقل هذا؟ إلى أن تذكَّروا بعد إعمال الفكر والروية، أن القمر كان موجوداً، وأن الأرض كانت موجودة مثل وجودهم عليها. وليس القمر سوى جرم تابع لها يدور من حولها على بعد معين.(*) كل ما في الأمر هو أن الإنسان عرف كيف يقطع المسافة ما بين الأرض والقمر، واتخذ الوسيلة إلى ذلك. بما مكنه منه العلم، عن طريق الصواريخ والمركبات الفضائية، تماماً كما يقطع المسافة بين مكان وآخر على الأرض نفسها. فما هو وجه الغرابة والعجب؟
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33)
وآية سبقت الإشارة إليها، ونعيد نصها لمقتضى السياق:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت:53)
إذن، لم يأت الإنسان في مسألة الاستنساخ بـ (خلق) جديد. هو لم ينشئ (حياة) من العدم. الخلية التي استخدمها كانت مخلوقة حية جاهزة. إذن ما هو الجديد؟ الجديد فقط هو اكتشافه لوسيلة أخرى للتكاثر غير طريق الإنجاب الطبيعي الذي عرف. ومن قدر الله أن يعرف الإنسان هذه الوسيلة في زمن ما وتصادف أن كان هذا في زماننا. أما مسألة حلاله من حرامه أو أنه إيحاء من الشيطان أو غير ذلك فليس هنا مكان الخوض فيها.
هذه الوسيلة كانت موجودة في الطبيعة والخلق من قبل. وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدلُّ على جهل الإنسان بأمرها طوال الأحقاب الزمنية الماضية إلى يوم الاكتشاف الذي أعلن عنه في الخامس من تموز عام 1996. هي إذن مسألة بيولوجية بحتة، تلخصت فيما يلي:
فريق من العلماء الاسكتلنديين يعلن عن ولادة أول كائن حي من الثدييّات بالاستنساخ، هي نعجة أطلق عليها اسم (دوللي Dolly) تيمناً بالنجمة المغنية الأمريكية (Dolly Parto)..!
وبعد أن هدأت الضجة في وسائل الإعلام كافة، من أقصى الأرض إلى أدناها، بدأ الحديث عن إمكانية استنساخ إنسان. وانقسم العالم، من جديد وما زال منقسماً حول هذه المسألة، بين مؤيد مشجِّع، وبين مستنكر ممانع. ولكلِّ أسبابه ومنطقه ووجهة نظره. ولا يزال بعضهم يرى استحالة ذلك.
ما يهمنا في هذه الحكاية برمَّتها هو أن يتبين للناس أن القرآن أنبأنا بهذا من قبل. وإن لم يسمِّ الفعل باسمه الذي عرَّفوه به. ذلك في وقت لم يكن ممكناً لبشر أن يتنبأ به، إذ هو فوق معطيات ذلك العصر وإمكاناته من الناحية العلمية، بل إن هذا ما برح سرّاً كامناً حتى أواخر القرن العشرين. وقد أشار القرآن أيضاً إلى المحاذير المترتبة عليه إذا ما طبق استخدامه على الإنسان. وذلك بإشارته إلى مصدر الإيحاء به، وهو الشيطان الذي توعَّد الإنسان بمزيد من الغواية والضلال، وأن هذه سوف تكون إحدى غواياته. وهذا ما يفسِّر استنكار الأكثرية الساحقة من البشر، لاسيما في الوسط العلمي ذاته لفكرة الاستنساخ البشري وما سوف يترتب عليها من عواقب هي غاية في السوء. ونورد فيما يلي بعض ما يرد إلى الذهن من محاذير للوهلة الأولى في هذا الشأن، حتى دون الذهاب إلى أبعاد أشدَّ فداحة وأبعد خطراً، لكيلا ننأى بعد هذا الاستطراد، عن موضوعنا الأساس:
أولاً: هل سيختفي دور الرجل والمرأة في الإنجاب، فلا يكون هناك اتصال بينهما مثلاً الأمر الذي لولاه لما كان هناك بشر على وجه الأرض (ولسنا بصدد حلاله من حرامه، المشروع منه وغير المشروع)، وهل سيكون الإنسان ــ رجلاً أو امرأة ــ سعيداً بذلك؟
ثانياً: هل سوف نرى أصنافاً من البشر، كفئات ونماذج من قبيل (الماركات المسجَّلة، والطرازات، والموديلات) كالسَّيارات والثلاَّجات والساعات اليدوية، بما في ذلك سنة الإنتاج، ومدة الصلاحية، وكفالات الصيانة..!!؟ هل سوف يصنَّف إنساناً أم آلة؟
ثالثاً: إلى مَنْ سوف ينتمي مثل هذا الإنسان المُنْتج، إلى المصنع؟ إلى بلد المنشأ؟ وما نوع الهوية التي سوف يحملها للدلالة عليه؟
رابعاً: ماذا عن المقومات النفسية والخلقية والفكرية والإبداعية، والمشاعر والأحاسيس؟ وماذا عن الانتماء لأبوين وأسرة وعلاقات اجتماعية من زواج وأبناء ومصاهرة؟
خامساً: هل سوف يلتزم هذا الكائن مراعاة القوانين والأعراف والقيم السائدة في المجتمع، كما تعارف عليها البشر عامة؟ ناهيك عما تختصُّ به كل جماعة، أو شعب، أو قبيلة في بيئتها ومكانها؟ وإذا هو لم يفعل بسبب تكوينه المختلف عن التكوين الأصلي للإنسان العادي؟ هل سيكون معفى من المسؤولية فلا حساب عليه، أم أنه سيخضع في ذلك لما يخضع له الإنسان العادي.. الطراز القديم!
سادساً: هل سوف يعتبر هذا (إنساناً) لدى من يستخدمه في عمل أو دائرة، أم يعتبر آلة مثل الروبوت، وجهاز الكومبيوتر؟ إنساناً حرّاً… أم عبداً رقيقاً، آلة مسيَّرة حسب مشيئة المستخدِم ومصلحته التي قد تقتضي الاستغناء عن خدماته، وما مصيره عندئذ؟ هل يحق لمقتنيه إلقاءه في مخزن الانقاض أم إعدامه؟ أم أين يذهب به في نهاية المطاف؟ وإذا هو توفي هل يقام له عزاء؟ ومن يتقبل العزاء فيه؟ هل يدفن في مقبرة العائلة أو الجماعة، أم تلقى جثته في مكبِّ للنفايات؟
سابعاً: هل إذا توفي هذا سيصلى عليه إن كان مسلماً في الجامع، أو إن كان مسيحياً في كنيسة؟ بل هل سيكون من أتباع دين ما؟
ولسوف يخطر بالبال كذلك.
ـ ماذا سيحل بالإنسان العادي؟. أعني طرازنا القديم؟!
التساؤلات كثيرة بلا حصر. والأجوبة تظل معلقة في فراغ. ويبقى هناك سؤال لابد من طرحه هو:
ـ ما مصير أعضاء إنساننا العادي؟ إنساننا نحن الذين أنجبَنا أبوانا طبيعيّاً؟
نحن نعرف عن طريق العلم، الطب والفيزيولوجيا، أن الأعضاء التي لا تُستخدم تضمر مع الزمن، ثم تفقد وظيفتها، ثم لا تلبث أن تتلاشى. كان للإنسان قديماً قدرةٌ فائقة على الحدْس والإلهام، كالحاسة السادسة وما فوق. موقعها في مؤخرة الرأس تدعى (الغدة الصنوبرية) تمكِّنه من معرفة الكثير مما يدور حوله، حدْساً وإلهاماً, وتجنِّبه الكثير من كوارث الطبيعة، وما فيها من أخطار الفيضانات والزلازل والأعاصير والبراكين، فضلاً عن الوحوش الكاسرة التي كانت تعج بها الأرض. بل وتمكِّنه من الحكم على من يواجهه من أبناء جنسه. يتوسم في هذا خيراً، ويتوجس من هذا شراً، ويصدق حدْسه. بيد أن الإنسان المعاصر فقد أو هو يكاد أن يفقد تماماً هذه الحاسة، بعد أن سار أشواطاً في طريق التقدم والتطور، مبتعداً عن حياة الفطرة الأولى إلى حياة المدنية والمدينة والصناعة والتجارة، ومنذ أخذ في الاستعاضة عن كثير من حواسه بالأدوات الصناعية والتكنولوجية، والمنجزات العلمية المستخدمة، التي باتت في متناول يده. إلى أن خسر هذا العضو الهام جدّاً لحياته. هذا ما يقول به علماء السسيولوجيا والسيكولوجيا، لا نحن. يقتضينا التنويه بذلك كيلا نوصم بالدعوة إلى التخلف.
وإذن حق لنا أن نتساءل عن مصير الأعضاء التناسلية لدى كل من الرجل والمرأة. هل تنتهي الحاجة إليها. هل ستفقد وظيفتها، وينتظر لها من ثمَّ أن تضمر إلى أن تتلاشى وتختفي؟ وهل سيفقد الإنسان الطبيعي تلك المتعة المشروعة، التي منحها إياه الخالق، كوسيلة للاتصال الحميم الجميل، بين المرأة والرجل، ووسيلة للتكاثر النوعي، والتي ما برحت مبقية على العلاقة الأسرية الطبيعية في دفئها، وقدرتها على دفع الإنسان عاملاً مجدّاً في حياته كلها من أجل أسرته أولاً؟
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21).
يفعل ذلك راضياً أيّاً كانت معاناته ومتاعبه التي يلقى. الشعور بالمسؤولية العائلية، والواجب الوطني والقومي والإنساني. كل أولئك ما شأنها ألن يخسر الإنسان عندئذٍ ذلك الجو الأسري العائلي الجميل مع الزوجة والأبناء الطبيعيين الذين أنجب؟ ويقال مثل ذلك عن المرأة نفسها؟ ثم هل يرضى الإنسان العادي السَّوي أن يتخلى عن شيء من ذلك في سبيل منجز علمي اقتحامي كهذا لن يكون من شأنه تسهيل الحياة أو تجميلها، وإنما تعقيدها أكثر مما هي عليه من تعقيد، وزيادة في البشاعة والبؤس والكآبة في شتى جوانبها.
ونحن لا ندري لماذا يريد الإنسان استنساخ بشرٍ آخرين. هل منشأ تلك الرغبة هي الحاجة لمزيد من البشر على ظهر هذه الأرض؟. ألا يقولون أن الأرض بالكاد تتسع لمن عليها، فاتخذ هذا السبب ذريعةً لمن يدعون إلى تحديد النسل لدى دول بعينها. ولا بد أن تكون الدول العربية والإسلامية تحديداً من بينها أو على رأسها..!
لو أننا شئنا الاسترسال في إيراد الشواهد والبيِّنات، في التحليل والتعليل، والبرهنة إلى ما لا نهاية فيما تحفل به آيات كتاب الله لما بلغْنا من الإحاطة إلا بالنزر اليسير، الذي لا يعدو قطرات من بحر محيط، حتى لو أننا حبَّرنا مجلدات في شأن سورة واحدة، بل آية واحدة من آياته. فإيجازاً ننتهي، من ثم، إلى التساؤل:
من ذا الذي أنبأ محمداً بكل هذا؟
أم تراه كان ممكناً أن يأتينا به من عنده، وفي عصره؟
ترى أي مصادفات تلك التي جعلت كل ما جاء به صحيحاً أثبتته الدراسات والأحداث والوقائع على مر السنين؟ أيُّ مصادفات تلك التي جعلت النبوءات المستقبلية ـ التي كانت طيَّ الغيب عند صدورها، وفي شتى شؤون الحياة والبشر والمخلوقات والأفلاك، تصدق جميعاً فلا تشذ عنها حالة واحدة أبداً؟
وفيما يتعلق بالآية الخاصة بمسألة الاستنساخ آنفة الذكر، نجد معطيات الآية بتفاصيلها تماماً تؤكد وقوع ما حذَّرت منه. فخلايا الأغنام والأبقار والخنازير جميعاً أخذت من آذانها. حتى لو كانت من غير هذا العضو فما كان ذلك ليغير في الأمر شيئاً. لكنها فعلاً أخذت من آذان الأنعام. كذلك مسألة تغيير خلق الله الواردة في الآية. ألا يعكف العلماء على انتزاع الخلايا والجينات والكرموزومات، والتعامل مع الحمض النووي والمورِّثات من أجل التهجين لتبديل الصفات الوراثية للمخلوق، لكي تكتسب صفات غير صفاتها الأصلية الطبيعية. فما هو التغيير في الخلق إن لم يكن هو هذا؟
وإذا جاز هذا في النبات فهل يجوز في الكائنات الحية وفي مقدمتها وأخصِّها الإنسان.
أليس في هذا كله معجزة تنبؤية تؤكِّد صدق المصدر المرسِل وصدق النبي المرسَل؟.
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (الجـن:26-28)
* * *
[/align]