عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 40 : 07 PM   رقم المشاركة : [13]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل التاسع
أخبار الأمم الغابرة
في قصص القرآن



[align=justify]
الجهل العام بأخبار الأمم قبل التنزيل
أيّاً كان اجتهاد محمد (صلعم) ــ لو كان باحثاً أو دارساً ــ فهو لن يصل بجهده الذاتي إلى هذا الكم الهائل من أخبار السابقين وقَصصهم، لاسيما وأنه لم تكن هناك، في زمانه، كتب تروي عما مضى من حياة تلك الأمم، فضلاً عن الحديث عن مصائرهم التي آلوا إليها، بمثل تلك الدقة في الوصف، من جهة، والإحاطة الشاملة، من جهة أخرى. الأسفار القديمة السابقة كالتوراة والإنجيل، وملاحم اليونان كالإلياذة، والهند كالمهابهارتا، وبابل كجلجامش، هذه جميعاً لم تعرض إلا النزر اليسير من الأحداث والأخبار للأمم السابقة. وقد سادتها الأساطير (الميثولوجيا) أكثر مما كان واقع الحال الذي عاشته تلك الأقوام. صحيح أن التوراة جاءت بقصص كالطوفان، وخلق آدم وحواء، وخروجهما من الجنة، وفرعون وموسى، ويوسف وإخوته أبناء يعقوب (عليهم السلام). إلا أنها لم تحفل بالتفاصيل الدقيقة المقبولة منطقيّاً( )، ولا هي جاءت بمثل هذا الوضوح الذي اتَّسم به قَصَص القرآن، بحيث يمكن أن يقال أن محمداً نقل عنها. أضف إلى ذلك أن محمداً لم يكن مضطرّاً إلى شيء من ذلك القبيل لكي يصل إلى مبتغاه، إذ ليست هي من المقومات الضرورية في المسألة. كما أنه لم يكن واثقاً من أنه يأتيهم بما لا يقبل الطعن فيه ذات يوم، سواء في حياته أو في العصور التالية لعصره، لو لم يكن مصدر القَصص هو خالق أولئك وصانع مصائرهم، وهو قَصص لم يرد في غير القرآن من قبل على هذه الصورة. فمن أين جاء بها إن لم تكن وحياً إلهيّاً؟
القرآن ينقلنا إلى أجوائهم، وبيئاتهم، وطرائق حياتهم، حتى لنكاد نشعر وكأنهم يمشون بيننا، وليسوا أقواماً بائدة منذ أحقاب بعيدة. كما أن القرآن فيما يروي عنهم من أخبارهم يضمِّن النص حِكَماً وعظات، بغية استخلاص العبرة من مصائرهم التي آلوا إليها. فضلاً عن ذلك يحدثنا القرآن ــ وهي سمة تفرَّد بها ــ بأسلوب قصصي شائق عن الحياة الآخرة، والجنة والنار، وما يلقى أصحابهما فيهما يوم الحساب. أسلوب مهيب حافل بالترهيب والترغيب معاً، معتمداً صيغة الماضي عن (يوم الحساب) مع أنه لم يقع بعد. وما ذلك إلا تأكيداً بلاغياً على حتميتها جميعاً للتأثير النفسي على المتلقي، بمعنى أن ذلك واقع لا محالة. فأنَّى لمحمد الإلمام (أولاً) بالصيغ البلاغية الدقيقة المعجزة إلى هذا الحد، و(ثانياً) ما تضمنت من معلومات غيبية، لو لم يكن رسولاً يتلقى عن ربه إذ هي لم تكن متاحة له من أي سبيل، أو أي مصدر.
ومن الجدير ذكره أن من أهم أهداف القَصص القرآني تثبيت عقيدة التوحيد، والإيمان بالبعث والنشور والقيامة( )، وتقرير جوهر العقيدة، وتوجيه النفس نحو بارئها بما تشيعه فيها من إشراقات روحية شفافة، ذلك كله يتأتى من خلال قراءة القصة القرآنية، للعلم بمضمونها أولاً، ثم تأثراً بجمالية النص وبلاغته، وما تحفل به القصة من وقائع وأحداث لحياة أقوام بادوا، مما يَقِرُ في النفس الخشية من مصير مماثل فيما لو سلكت في حياتها سلوكاً مماثلاً. ناهيك عما تزخر به من وصفٍ باهرٍ ومؤثرٍ لحياة مجتمعاتهم، وما تعرض من صورهم في شتى أحوالهم، ثم ما أفضى إليه سلوكهم من نتائج تبعاً لنوع ذلك السلوك، خيراً كان أو شراً، وانعكاس (هذا) أو (ذاك) على الفرد أو على المجتمع. وكأن تلك القصص تقول لمن بعدهم، أي الذين تلقَّوْا أخبارهم، أن مسلك الإنسان هو الذي يحدد مصيره، سواء في حياته على الأرض أو ما سوف يلقى عند حسابه، بعد مماته في الدار الآخرة. فالسبب المعيَّن يفضي حتماً إلى نتيجة معينة تشبهها. من ثم جاء الكثير من القَصص في شأن أقوام وأمم عاشت ثم بادت، وكانت مصائرهم وفاقاً لما كسبت أيديهم.
تحفل القصة القرآنية بالجدل والحوار العقلي الجدلي، والحوار الافتراضي بين شخصيات معلومة أو مجهولة، أو بين معلوم ومجهول. كما تتضمن ضرب المثل للبرهنة على المضمون المراد إبلاغه. الكثير من ذلك القصص تنزل في العهد المكِّي، مركِّزاً على بناء العقيدة الإسلامية في صيغ متعددة، وأساليب مختلفة تتفق مع الموضوع والحالة. وتثور تساؤلات حول ذلك التأثير العظيم للقصص القرآني والعوامل المؤثرة فيه، أهي دينية بمعنى ترسيخ الإيمان في القلب أم هي نفسية تطميناً للنفس بأن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف؟ إنها كل ذلك. وما هو سر هذا التأثير؟ أهو حضور القول الإلهي المؤجِّج لأشواق النفس الروحية؟ أم هو التحليق مع الغيبي اللامتناهي بعيداً في ملكوت الله ورحابه؟ أم هو هول الأحداث وغرابتها، وتصاريف القدر والمصير الإنساني، سواء كان ذلك يعني الإنسان فرداً أو كان ذلك في المصير البشري على عمومه. وهي أمور سائرها بين يدي الله دونما استثناء ولا محيص عنها.
كما أن هذا القَصص يزخر، عند العرض، بما حاق بالأقوام الغابرة وما انتهت إليه مصائرهم بعنصري الترهيب والترغيب للإنسان الذي يتوجه إليه القرآن بالخطاب، الإنسان الذي هداه الله النجدين .. فإما كافراً وإما شكوراً. من ثم كان له الخيار بينهما بملء إرادته غير مكره، لكي يكون حسابه بين يدي ربه في الدار الآخرة تبعاً لما اختار بمحض تلك الإرادة.
وهذه نماذج من هذا القصَص ــ قدر المستطاع ــ في حيِّز ضيق كهذا الذي نملك:
لا بأس من التنويه بأن العرب كان لهم قصص في باب من آدابهم، فيه دلالة كبيرة على عقليتهم وبيئتهم وعاداتهم. وهذا القَصص في الجاهلية على أنواع منها: أيام العرب، وهي تدور حول الوقائع الحربية التي وقعت في الجاهلية بين القبائل، كيوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفرس، وداحس والغبراء، ويوم الفجار، ويوم الكلاب.
ومنها أحاديث كثيرة عن الهوى في كتب الأدب. وقصص عن الفرس، جاء بعضها في سيرة ابن هشام( ).
ولم يعرف عنهم أبعد من ذلك.
وحتى الأدب الفارسي هذا رغم غناه ــ ولربما اطَّلعوا على شيء منه ــ، لم يكن محتوياً على شيء إطلاقاً من القصص والأخبار التي وردت في القرآن الكريم عن الأمم السابقة. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأدب الروماني، ومن قبله الأدب اليوناني الذي اهتم بالأسطورة (الميثولوجيا) والملحمة والمسرح.
(وإذا كان هناك من وجه للشبه بين الأدب العربي القديم والأدب الفارسي، في زمانه فهو (ذلك النوع من الحكم يشبه مشابهة تامة الذوق الفارسي. فالحكم التي تنسب لأكثم بن صيفي في الجاهلية، والإمام علي في الإسلام، والتي تنسب لسادات العرب كالأحنف بن قيس، تشبه في قوالبها وصيغها واتجاه النظر فيها ما يروى في كتب الأدب عن بزر جمهر، وإبرويز، وموند موبذان ونحوهم)( )، حتى لقد عقد (ابن عبد ربه) فصلاً في كتابه (العقد الفريد) تحت عنوان (أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر) ولم يبين ما لكل منهما، فكان من الصعب التمييز في أكثرها بين ما هو لأكثم وما هو لبزر جمهر( ).
فعن أي جهة ــ مفترضة ــ سابقة لزمانه ترى قد نقل محمد هذا الفيض الزاخر الثرّ من قصص الأولين؟
الوقائع والأحداث وتاريخ الأدب العربي والآداب الأخرى لا تنبئ بشيء من ذلك.



* * *

قصة النبي يوسف عليه السلام(*)
في سورة يوسف تقرأ عجباً. قصة تروي تاريخ الغلام منذ نشأته بين أهله. كما تحكي لنا قصة أولئك الأهل، الإخوة والأبوين.. ثم غدر إخوته به، وعودتهم إلى أبيهم بقصة ملفقة عن مصيره. وإذ هم يحسبون أنهم تخلصوا منه، تأتي قافلة عبر الصحراء لتنقله إلى مصر, حيث يشتريه عزيز مصر. ثم ما جرى ليوسف هناك إثر مكيدة تدبِّرها له امرأة العزيز التي (شغفها حباً) انتقاماً منه، لعدم استجابته لما راودته به عن نفسها. تروي السورة أحداثاً حافلة، وتاريخاً طويلاً على مدى أحقاب، في عبارة مكثفة، بأسلوب قصصي آخاذ، ينقلك من مشهد إلى مشهد، في انسياب رائع وتسلسل بديع. تمضي الأحداث متصاعدة حيناً، وبالإرجاع حيناً، وبالإرهاص بالغيب لما هو مقبل، لا يعلم أمره إلا الله. تحكي عن الرؤيا وتفسير رموزها وإيحاءاتها، كما عن اليقظة والنبوءة. يمتزج الحلم بالواقع، بالماضي، بالحاضر، والمستقبل في سلاسة عجيبة، تشدُّك من البداية حتى النهاية، لا تملك لنفسك فكاكاً من أسرها. وأنت الذي قرأها عشرات المرات إن لم يكن مئاتها، لا يتطرق إليك السأم، كما قد يحدث لو أنك قرأت رواية معاصرة أكثر من مرة. مثيرة فيك الشجى والأسى، والعطف والتعاطف، والمشاركة الوجدانية بالأحاسيس والانفعالات الزاخرة في كل صفحة وفي كل سطر، بل وما بين السطور من إيحاءات تنساب في حنايا النفس، وتسري مع نبضات القلب. كل ذلك في عدد قليل من الصفحات. وكان يمكن ــ لو كانت من إبداع بشر ــ ألا تستوعبها رواية طويلة تتألف من مئات الصفحات، ثم بالرغم من ذلك، قد لا تفي بالغرض الذي وصلت إليه السورة ولا تترك في النفس ذات الأثر الذي أسكنته فيها.
تبدأ القصة بمدخل يحفز على الانتباه وإيقاظ الوعي لما سيجيء من القول:
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (يوسف:1-4)
وبعد أن يتوجه إليه أبوه، نبي الله يعقوب، بالنصيحة بإلا يقصص رؤياه على إخوته، تأتي آيات أخرى كي تشد الانتباه أكثر، مختلطاً بالدهشة والترقب لما يمكن أن يحدث، فتقول عن إخوة يوسف وما دار فيما بينهم لتدبير المؤامرة بحقه:
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (يوسف:7-9)
بهذه البداية البسيطة الممتنعة والموحية تبدأ قصة يوسف (عليه السلام)، لتمضي مع وقائعها المثيرة إلى حقبة طويلة من الزمن، حافلة بالأحداث، سواء فيما يتعلق بيوسف ومسيرة حياته في أرض مصر، وعلوّ شأنه فيها، بعد ظهور براءته مما حاولت امرأة العزيز نسبته إليه، أو بإخوته وما ألمَّ بهم بعد ذلك، أو بأبيه الذي يفقد بصره حزناً عليه: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (يوسف:84)
ما أبدع التعبير عن العمى دون ذكره مباشرة بل على هذا النحو (ابيضاض العينين). ولا يعود إليه بصره إلا حين يأتي إخوة يوسف بقميص، ليلقوه على وجهه حسب توجيه يوسف الذي كان يعرف أثر ذلك على أبيه: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (يوسف:93). ما أروع المشهد وما أشده حزناً وشجناً. عودة الأهل، ولمُّ الشمل بعد ذلك العمر الطويل من الفرقة والغربة والوحشة والقطيعة. ومن ضمنها رحلة العودة بطولها حتى وصولهم إلى ديارهم، ولقاء أبيهم وحديثهم إليه، وما يوحي بحوار جرى فيما بينهم، ومجيء البشير بعودتهم. ذلك كله في آيات ثلاث في أسطر قليلة: في بلاغة مكثفة لا نظير لها، تبلغ حد الاستحالة على مبدع بشري لما حفلت به من شحنات وجدانية دافقة في فؤاد أب مكلوم يشمُّ ريح ابنه الغائب عن كثب فيرتد بصيراً. فأي مبلغ من الأسى كان عليه الرجل بحيث يفقد البصر ثم يرتد البصر إليه جراء فراق ابنه الأثير ثم عودته إليه.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (يوسف:94-96)
ثم يتوجه الخطاب إلى محمد (صلعم): ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (يوسف:102)
ولأن الغاية من وراء هذه القصص هي العبرة بمن سلف فقد ختمت السورة بقوله تعالى:
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف:111)
وينبغي ألا تفوتنا الإشارة ـ ما دمنا في معرض التحليل ـ إلى ما يتعلق بقصة امرأة العزيز، وما حفلت به من صور وتشابيه ومفردات هي غاية في دقة الوصف والتصوير، كما أنها غاية في السمو والرفعة، فهذه مقاطع في القصة تتحدث في موضوع جنسي، ومع ذلك جاءت خالية من عبارات اعتادها كتاب عصور عديدة في هذا الشأن، حيث لا يسيغون التعبير في مسائل الجنس إلا باستخدامهم لمفردات حسية فجة ومكشوفة تخدش الحياء وتثير النفور. هذا الجانب في السورة وحده يكفي لينشئ رواية كاملة ـ كما أسلفنا ـ بما تضمنه من وقائع، وتحليل نفسي للشخصيات (بمنطق النقد المعاصر لقصص معاصرة) وحوارات بينها، ومناجاة للنفس، وحوارات داخلية، سواء كان ذلك لحالة يوسف في ذلك الموقف العصيب، أو حالة امرأة العزيز لدى مراودتها له عن نفسه، وحالها لدى مفاجأة الزوج (العزيز)، وادعاءها باطلاً على يوسف، بأنه هو الذي أراد إغواءها:
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (يوسف:25).
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف:30-32)
هذه القصة وهذا التدبير، وهذا الوصف، وهذه التعليقات والتحليلات، وما أعدت لهن، وكيف جلس وفيم فكرن، وماذا فعلن بأيديهن، وانطباعهن عن يوسف، وردها ووعيدها، وإبلاغهن ما تنوي فعله، بعد التنديد بمواقفهن ـ أيعقل أن يأتي هذا كله في مثل هذا الحيز المحدود.
مما يروي عن المفسرين والبحاثة أن سيدنا يوسف (عليه السلام) كان يتمتع بجمال خارق. ولننظر كيف قالت الآيات ذلك دون أن تقوله بالكلام المألوف والأوصاف المعهودة لدى الكتاب والرواة والواصفين قديماً في ذلك الزمان، وحديثاً في أيامنا هذه. لماذا؟ لأن الآيات تسعى إلى إعطاء الصورة من خلال القصة بعيداً عن الإثارة، خشية استغراق المتلقي في الذهاب مع خيالات مجنحة تصرفه عن ما هدفت إليه الآيات فعلاً من عرضها لتلك الوقائع. كان الوصف ضمنياً ورمزياً، موحياً دون تسمية الأشياء بأسمائها في واقعة امرأة العزيز وحكايتها من بدايتها حتى نهايتها. ولننظر لنرى إن كان هناك من وصف أبدع حتى دون استخدام الألفاظ المألوفة في مثل هذه الحال، وذلك ما ورد في قوله تعالى في الآية 32 من السورة المثبتة آنفاً.
لماذا قطعن أيديهن ترى أليس ذلك بسبب ما حل بهنَّ من ذهول لدى رؤيتهن ليوسف؟ لماذا قلن: ما هذا بشراً؟ لماذا شبهنه بالملك الكريم؟ وهل ثمة كلمات أوفى وأدق من تساؤلها حين تقول: (فذلك الذي لمتنَّني فيه). كأنها تندد بمواقفهن منها. فليعذرنها الآن بعد ما رأين من جماله ما رأين.
أمثل هذا النص الرائع المدهش يمكن نسبته إلى بشر لقَّنه محمداً عليه السلام، أو إلى محمد نفسه، الذي لم يعهد عليه أو منه كتابة، أي كتابة من أي نوع كانت، ناهيك عن أن تكون رواية أو قصة، كهذه التي أتى بها القرآن في روعتها وعظمتها؛ وإعجازها.


* * *

قصة أهل الكهف
ومن القصص الحافلة بالوقائع المثيرة، والتي ما كان للناس في عصر محمد (صلعم) وبيئته العربية كلها إلمام بها، فتأتيهم الآيات بشأنهم، إثر آيات ممهدة ومنذرة ومنبهة إلى أهمية الكتاب (القرآن) الذي ينزل على محمد، مبشِّراً به المؤمنين ومنذراً المخالفين، قصة أهل الكهف:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (الكهف:9)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (الكهف:13)
انظر إلى هذا الاستهلال التشويقي المثير للانتباه والترقب لما سيأتي في قصَّتهم:
تمضي الآيات تحدثنا عن قصتهم العجيبة، غير المألوفة بمعنى الخارقة للمعتاد من سنن الكون، والتي هي برهان ساطع على قدرة الله وإعجازه عن أهل الكهف الذي ناموا فيه ثلاثمائة سنة ونيِّف. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (الكهف:25).
لم تغفل الآية ذكر الفارق في السنين، بين التقويميين الشمسي والقمري. من هنا جاء التنويه بزيادة تسع سنين، الأمر الذي كشفه مؤخراً فقط علماء الرياضيات. فالثلاثمائة سنة بالتقويم الشمسي، تساوي تماماً ثلاثمائة وتسع سنين بالتقويم القمري. كيف تسنَّى لمحمد الذي أمضى حياته كلها في مكة: أولاً معرفة هذه القصة بحذافيرها وتفاصيلها وتفرعاتها، والعبر التي تنطوي عليها. ثانياً أن يعرف في ذلك الزمن الفرق بين التقويميين؟ وما هي الحكمة في إيراده إن لم تكن للتدليل على علم المصدر بحقائق الكون، فتلك الحقائق في علمه وحده دونما ريب. ثالثاً المضي مع التفاصيل عن الرحلة التي قام بها نبي الله موسى (عليه السلام) مع صاحبه الذي لم يستطع معه صبراً. وعن ما رافق ذلك من أحداث: السفينة التي خرقها صاحبه ــ يقال إنه الخضر ــ مما أثار دهشته وعجبه. ثم الجدار المنهار الذي أعاد بناءه رغم أن أهل تلك القرية لم يقدما لهما طعاماً، مما أثار حيرته، والطعام الذي نسيه عندما نسيا الحوت. والسفينة التي خرقها ذلك الصاحب عمداً فأنكر عليه ذلك. ولكن المدهش في هذه القصص هو أنها تأتي رغم كل تفاصيل السرد، مكثفة لا زيادة فيها لكلمة أو لحرف. تؤدي المطلوب وتفي بالغرض، وتصل إلى القلب والعقل معاً بأقل الكلمات عدداً، فلا حشو ولا إطالة ولا إسهاب دونما داع. أما عن الإيقاع والموسيقى الداخلية والخارجية، ووقعها على القلب والسمع فلا سبيل إلى وصفها. فكلام الله يعزُّ على التقليد والمشابهة، أيّاً كانت قدرات الإنسان. وتختتم السورة بهذه الآيات الجميلة الوقع في النفس من جهة، والمؤكِّدة على بشرية الرسول من جهة ثانية، والدالة على سعة علم الله وإعجاز كلماته التي هي بلا حدود:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً. قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف:107-110)
آيات ختام تنطوي على:
ـ البشرى للمؤمنين بالخلود في جنات الفردوس.
ـ إبلاغ للناس بسعة علم الله، وشمول كلماته على نحو يعجز العقل البشري عن تصوره.
ـ تأكيد على بشرية محمد عليه السلام ونبوته في الوقت ذاته.
ـ دعوة للعمل الصالح، ونهي عن الشرك في عبادة الله.
ويبدع القرآن في تصوير المشاهد حتى لكأنك تراها شاخصة أمام عينيك. لننظر أيضاً إلى هذا الوصف التصويري المذهل إذ يقول تعالى في قصتهم: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً (الكهف:17)
ولأن القَصص القرآني هادف وتعليمي، نرى فيه الكثير من الأمثال التي يضربها على صور مختلفة حسب مقتضى الحال ومعطيات الموقف. وإنا لنرى من الإبداع القصصي في القرآن ما لا نراه فيما هو من صنع البشر، حيث يتداخل الحوار مع السرد، مع المتخيَّل وراء حجب الغيب، مع عرض الصورة بكلمات خاطفة كالبرق تشعل العقل، وتذكي القلب والروح معاً، فتثير في النفس مزيجاً مذهلاً مما تنطوي عليه ملكات الإنسان ومكنوناته جميعاً. القصة هنا ليست تزجية لفراغ أو ترويحاً للنفس، وإنما هي قصة هادفة، عميقة الغور، شديدة التأثير، بالغة الأثر. ولنقرأ معاً هذه الآيات في حالتين إنسانيتين يشهد الناس مثيلاً لهما في حياتهم ومن حولهم في كل يوم. يقول تعالى في هذه السورة مخاطباً رسوله محمد عليه السلام، الذي لم يكن يعرف شيئاً عن أهل الكهف، أو سمع بأمرهم قبل أن تتنزل عليه سورتهم، يقول تعالى، وفي بلاغة معجزة لم يألف مثلها البشر في غير القرآن:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً. لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً. فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً. هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (الكهف:32-44)
ليقول بعد ذلك استخلاصاً للعبرة:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف:45)
ما كان محمد قاصَّاً أو كاتباً لكي ينجز من تلقاء نفسه قصة على هذا القدر من الروعة في نصها البديع المذهل، وما تثيره من خيال مجنّح، بحيث تتراءى صور الفتية في الكهف، وما جرى لهم بعد أن ناموا في كهفهم هذا الردح الطويل من الزمن، ولموسى وما جرى له في صحبة صاحبه الرجل الصالح. المعجزة الخارقة التي وقعت بشأنهم بقدرة الله فكان لهم تجاوز سنن الكون. قصة خارقة غير عادية، في حياة جماعة من البشر، أرادها الله عبرة للناس تبعث فيهم عميق الإيمان، والتسليم بقدرته وعظمته.
* * *

قصة موسى عليه السلام
يعرض القرآن الكريم قصة نبي الله موسى عليه السلام، من يوم مولده، وكيف أوحى الله إلى أمِّه أن تلقيه في اليم لكي ينجو من خطر فرعون عليه، إذ كان هذا يقتل أبناء اليهود من الذكور خشية على ملكه. كان يفعل ذلك بناء على تنبؤات العرَّافين والسحرة والمنجِّمين الذين كان يحفل بهم بلاطه.
يقول تعالى:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (القصص:7)
قصته مع قومه فيما بعد، ثم هجرته إلى مدين، فزواجه من ابنة النبي شعيب، وكيف تم ذلك الزواج، ثم عودته إلى مصر بعد أن كُلِّف بتبليغ رسالة ربه إلى فرعون وملئه. وبعد ذلك تأتي المرحلة الأخطر، وهي الخروج مع جماعته هرباً من فرعون مصر، وعبورهم البحر، وغرق فرعون في رحلة مطاردته لهم. وما تبع ذلك من التيه أربعين سنة في الأرض.
قصة موسى وقومه مع فرعون، وقصة إيمانه إذ رأى النار عند جانب الطور الأيمن، وسائر الأحداث والوقائع التي مر بها، وردت في مواضع وسور كثيرة من القرآن الكريم( )، وإذ تتحدث معظم السور عن الأحداث والوقائع التي جرت آنذاك، فهي تحدِّث أيضاً عن بني إسرائيل. مبيِّنة مساوئهم الخلقية والسلوكية، وكفرانهم بنعم الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. بل إنهم لا يحجمون عن التنكر للخالق نفسه. يتبدى ذلك في عدم وقوفهم عند حدٍّ فيما يطالبون موسى بأن يأتيهم به من عند ربه. تعجيزاً وبطراً وجحوداً. وجلُّ مطالبهم استغلالية تتسم بالجشع الذي لا يقْنَع صاحبه أبداً، والغريبة عن المنطق والعقل. ينعم الله عليهم بالمنِّ والسلوى، فيطلبون البصل والثوم والقثَّاء. أي يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة اتسم بها سلوكهم، لم يغفل القرآن شيئاً منها. من ثم فإنك واجد التنديد بهم. والوعيد بالمصير القاتم الذي ينتظرهم، في مواضع كثيرة من كتاب الله، تفوق ما ورد في حق أيِّ جماعة إنسانية غيرهم. ولا يسعنا ــ بطبيعة الحال ــ إلا عرض القليل منها، على سبيل المثال، تعريفاً وتوضيحاً.
يقول تعالى مخاطباً إياهم بالتنديد والتقريع:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة:49-50)
ثم الآيات التي تتلوها:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة:54-55)
ويبلغ بهم الاستهتار والاستكبار، والجهالة أيضاً، أنهم يريدون أن يروْا الله جهرة لكي يؤمنوا..! أي أنهم يضعون لإيمانهم شروطاً تعجيزية خارج كل شرط إنساني أو كوني. لأن الله سبحانه لا يظهر للبشر جهرة لاستحالة قدرة البشر فيزيولوجياً على تحمُّل ذلك. لأن حواسهم ومنها العين، ليس في وسعها رؤية أكثر مما خلقها الله من أجله، وهو مظاهر الطبيعة والحياة من حولها، وما أضيق مداها، فكيف بهؤلاء يهرفون بما ذهبوا إليه. فترد عليهم الآية القرآنية سالفة الذكر.
هنا لابد لنا أن ندرك أن الله سبحانه لم يشأ أن يتجلى لبشسر يراه رأي العين، فالله جلَّ وعلا اعظم وأكبر وأجل من أن تراه عين. الله نور والبشر مادة حلَّت الروح فيها إلى حين، فهم بطبيعة الحال وبحكم تكوينهم غير قادرين على تحمل المشهد. من هذه الآية يمكننا فهم المسألة:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (لأعراف:143)
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن وقائع قصة مولد موسى عليه السلام. تتبدى فيها إرادة الله، التي أحبطت كيد فرعون، الذي حرص على قتل كل طفل ذكر يولد في تلك الحقبة، كيلا يكون هلاكه على يديه كما تنبأ العرافون وحذر الكهنة. ولكن إرادة الله ألانت قلب امرأة فرعون لهذا الوليد (اللقية) ظاهرياً، مما أبطل حسابات فرعون وكهنته ونفذت إرادة الله، إذ نجَّى موسى من النتيجة التي آل إليها سائر أطفال القوم آنئذٍ، وما أفضى إليه ذلك من نتائج ملحمية تكشفت فيما بعد. الآيات التالية تصور القصة أيما تصوير:
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (القصص:3-13)
وآيات لوصف مرحلة أخرى من مراحل قصة موسى مع بني إسرائيل، وما كان يلقى من جفائهم ونكرانهم برغم أن خلاصهم تمَّ على يديه:
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (البقرة:60-61)
هل شهد محمد هذا الحوار المفصَّل بين موسى وقومه؟ أم تراه كان مجبراً على (تأليفه) و(اختلاقه) لكي يقنع قريشاً بزعامته؟ وما هو وجه الأهمية في هذا لخدمة هدفه في زعامة قريش فعلاً؟
أما عن موسى نفسه فنجد في سورة طه (كما في غيرها من السور بصيغ مختلفة ومتعددة) قصته في إيجاز رائع يجذب السمع، ويثير الانتباه، ويوقظ الوعي على الفور، فلا تملك إلا أن تقبل بكل جوارحك متحفِّزاً للاستماع بشغف لتعرف ما هو حديث موسى..
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (طـه:9-15)
هذه الآيات، فضلاً عما ورد فيها من خطاب الله لموسى تدلُّنا أيضاً على أحوال سكان المنطقة في معيشتهم، ومنها حياة البداوة، وحاجتهم إلى النار في يوم برد قارس، كحاجتهم إليها في طهي طعامهم، ومسؤولية الرجل عن أسرته في سعيه إلى تلبية حاجاتهم، إذ ها هو ينبؤهم عن عزمه للذهاب إلى حيث رأى النار، لكي يأتيهم منها بقبس، أو لعله يجد عندها ما يرشده إلى غاية كان يطمح إليها أو هدف كان يرنو إليه.
وتسترسل الآيات لتحدثنا عن حكايته مع فرعون حتى الآيات 98 من سورة طه. ثم قصة زواجه ـ في سورة أخرى ـ من إحدى ابنتي النبي شعيب. لقاء خدمته عشر سنين وذلك بعد أن غادر مصر: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (القصص:21-22)
كان ذلك بعد أن قتل مصرياً واعتزم المصريون الثأر منه.
أما قصة زواجه فترد في الآيات 22-29 ومنها (بعد أن سقى لهما):
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (القصص:26-28)
و تخبرنا الآية التالية عن كيفية تكليفه بحمل الرسالة وكيف كلَّمه الله سبحانه:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص:30)
ثم ذهابه إلى فرعون مصطحباً أخاه هرون، الأفصح منه لساناً، ومعركته مع فرعون وسحرته الذين يتغلب عليهم بما هو أقوى من سحرهم.
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى (طـه:77)
وسورة الأعراف تروي لنا قصة موسى وقومه، وفرعون وملأه كاملة، والمعجزات التي تحققت على يديه سواء لبني إسرائيل لكي يؤمنوا، أو لفرعون نفسه، لكن هؤلاء خيبوا ظنه، بعد كل ما فعله من أجلهم، حين ذهابه إلى حيث واعده ربه:
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (لأعراف:142)
ثم ليعود إليهم بما علَّمه الله، فوجدهم قد ارتدُّوا وكفروا:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (لأعراف:148)
لقد حقت عليهم كلمة الله فتوعدهم بالعذاب في دنياهم وآخرتهم كما توعدهم بالمذلة وسوء العذاب في قوله:
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (لأعراف:166-167)
ووعيد أزلي في سورة أخرى لبني إسرائيل:
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (الإسراء:4-7)
نعود إلى التساؤل:
كيف علم محمد بكل هذه التفاصيل عن حياة الأقوام الغابرة، لاسيما بني إسرائيل والفراعنة؟ ومن ترى أدراه بها، وهو الذي لم يطأ أرض مصر ولا هو قرأ عنها. لم تكن هناك يومئذ مكتبات، ولا صحف، ولا جامعات، ولا أجهزة توصيل للثقافة والمعلومات للناس في بقاع الأرض. أما هو فقد أقام في مكان ناءٍ بعيد عن العمران ومواطن الحضارات الأخرى في ذلك الوقت. وما هو الداعي لأن يرويها لقومه، هؤلاء الذين لم نر أحداً منهم في قريش- حسب السيرة- ينكر عليه هذه الأخبار بدعوى أنه يعرفها قبله، أو أن له علماً بها، ومن ثم فهو لم يأت بجديد. لقد كانت جديدة تماماً عليهم، بل ومثيرة لدهشتهم وعجبهم. ولمَّا أعيتهم الحيلة، إذ لم يكن لديهم ما يحتجون به عليه وصفوه بالساحر. هذا فضلاً عما في الآيات من نبوءات آخذة في التحقق، في هذا العصر، بعد أن تحقق الكثير منها في عصور سالفة.
أما عن موقفهم من الرسول محمد عليه السلام، والآيات الكثيرة بين ثنايا السور التي تنبئ عن خياناتهم وغدرهم لنبيِّهم نفسه، فقد أسلفنا الحديث في ذلك في موضع سابق من هذا الكتاب.
لقد سبق أن ذكرنا كيف جاهروا محمداً عليه السلام بالعداء، بل ذهبوا إلى حد التآمر عليه مع مشركي مكة في عهده المكي. كما أنهم شجعوا المنافقين في المدينة على النكوص عن إسلامهم. أما قصة تآمرهم مع الأحزاب عندما همَّ هؤلاء بالهجوم على المدينة، واتفاقهم معهم على فتح الثغرات في حصونها من ناحيتهم فمعروفة مشهورة. وقد أعلم الله رسوله بالوحي بكل ذلك. كما أعلمه بأن هؤلاء سوف يكونون في مقبل الأيام أعداء الإسلام والمسلمين الألداء الدائمين، تماماً كما هو حالهم في فجر الإسلام ومع رسوله. وهذه آيات تؤكد هذا المعنى تنبئ بالمستقبل الذي أصبح راهناً اليوم. يقول تعالى جلّ من قائل:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة:75)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (التوبة:8)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (التوبة:10)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران:118)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران:120)
أليست هذه صورة أعداء الإسلام المشهودية في عالمنا اليوم؟.
هذا كلام الله سبحانه العليم بخلقه وبما يندُّ عنهم في سائر العصور وشتى أرجاء الدنا.
* * *

قصة إبراهيم عليه السلام
وهذه سورة الأنبياء، في بنائها المحكم، شأنها شأن سائر كتاب الله. هذه السورة، كما هو عنوانها تحفل بقصَصَ عديد من الأنبياء. مما لا ريب فيه أنه لا سبيل إلى الإلمام بسيرهم من قبل دارسٍ أو باحث، في ذلك العصر، وحتى عصور تلت، على النحو المستفيض كمعلومات أولاً، وسرد للأحداث والوقائع في أزمانهم ومجتمعاتهم ثانياً، كالذي جاء في القرآن. وقد جاء ذلك كله في عرض مكثف موجز بليغ لم تعوزه الدقة والقدرة ــ مع ذلك ــ على إعطاء الصورة الواضحة تماماً في شأنهم. وهنا يكمن سرّ الإعجاز القرآني.
تبدأ السورة بالتذكير بالحساب، والثواب، تمهيداً للحديث عن عدد من أولئك الأنبياء، تبدأ الآيات بقوله تعالى:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (الأنبياء:1-2)
في هاتين الآيتين نجد توصيفاً لحالة بشرية عامة. فهي تصورهم في غفلتهم عما ينتظرهم يوم الحساب. كما أنها تشخِّص علَّة دائمة تنتاب بني البشر الذين لا يأخذون على محمل الجدّ ما يأتيهم من ذكر ربهم.
تستثير الآيات في بداية السورة انتباهك بكل حواسك فور قراءاتك لها، أو سماعك إياها. ثم تمضي بعد ذلك تبلّغ الناس رسالات رَبّهم، تقرع آذانهم لإيقاظهم من غفلتهم، فتحدثهم عن خالقهم، عمَّن خلق السموات والأرض، وكيفية نشوء الحياة وحدوث الموت. عن قدرة الله وعظمته، وآياته في خلقه. وعن خلق الإنسان وما جبل عليه من فطرة. وعن الساعة التي لا تأتي إلا بغتة. حتى الآية (50) من السورة، وعندها تبدأ في عرض قصة إبراهيم عليه السلام.
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (الأنبياء:51-55)
تعريفاً بإبراهيم تمهد الآيات لذلك واصفة إياه بالرشد، بمعنى الهداية والرشاد قبل أن يبعثه الله بالرسالة إلى أبيه الأقرب إليه ذي بدء وإلى قومه من ثم مبتدئاً بالنقطة المحورية الأخطر في المسألة برمتها، وهي العقيدة. كان القوم عاكفين على عبادة التماثيل إمعاناً في الضلال والجهالة، فبادرهم بصيغة السؤال الاستنكاري لما كانوا عليه (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون). ولا يجد القوم لهم مسوِّغاً للرد على ما جبههم به سوى دعوى عبادة آبائهم لها من قبل. عبادة الأصنام بالوراثة العمياء دونما تمحيص أو بحث في أمرها. يجبههم إبراهيم ــ برغم المخاطرة التي تنطوي عليها هذه المجابهة ــ بأنهم (هم) و(آباؤهم) جميعاً كانوا في ضلال بيِّن. يضعهم إبراهيم أمام سؤال كبير يبعث على الحيرة ويدفع إلى إعمال الفكر لتبيُّن الحقيقة. ولا يسعهم ــ تغطية على ضعف موقفهم وهزال حجتهم، إلا أن يتساءلوا مستفسرين أو مستنكرين عما إذا كان قد جاءهم بالحق أم أنه كان يبغي عبثاً ولهواً ليس إلا.
ثم تمضي الآيات تحدِّث بقية القصة: تحطيمه الأصنام، وموقف قومه منه، والجدال الذي يقوم بينه وبينهم، وما يتَّسم به منطقه أمامهم من قوَّة إزاء منطقهم المتهافت. ثم إلقاؤهم إيَّاه في نار يوقدونها إمعاناً منهم في المكابرة والضلال. ولكن الله ينجيه من كيدهم، بمعجزة يرونها بأم أعينهم:
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (الأنبياء:69-70)
أما بقية قصة إبراهيم فترد في أماكن متفرقة من القرآن كما ترد في غير قليل من التفصيل في سورة الشعراء من الآية (69) وما بعدها حتى آية (90) حيث نرى ما دار بين إبراهيم وقومه من حوار ومحاجَّة، وما عرض لهم من براهين وشواهد على ضحالة فكرهم، إذ يعبدون أصناماً لا تضر ولا تنفع وأنه كان أولى بهم أن يعبدوا الله الخالق المحيي المميت، الذي بيده كل شيء من أمور دنياهم وأخراهم.
وتسهب سورة (إبراهيم) في عرض قصته. في حلِّه وترحاله ما بين أرض مكة وأرض فلسطين المقدسة. كما في تصدِّيه لقومه وما يعبدون من دون الله.
كذلك في قصة بنائه للكعبة، التي يعينه عليها ابنه إسماعيل. كما تخبرنا بما حفلت به حياته من معاناة، كتركه زوجه (هاجر) وولده إسماعيل في تلك الديار القاحلة. كيف غادرهما حزيناً مهموماً. لكنه يوكل أمرهما إلى الله ويمضي ميّمماً شطر الأرض المقدسة.
ومن أقسى ما مرّ به إبراهيم (عليه السلام) من حالات حرجة مؤلمة تلك الرؤيا التي أمره الله فيها بأن يذبح ابنه إسماعيل. وإذ يشرع في تلبية الأمر إذعاناً، بلا تردد، يأتيه الفرج بفدي عظيم، في هيئة كبش يرسله الله إليه ليذبحه بديلاً عن ولده. وسنأتي على هذا في صفحات تالية.
قبل ذلك وحين يترك إبراهيم ولده وزوجه يضرع إلى الله وهو يهمّ بمغادرة وادي مكة يكتنفه الحزن من أجلهما، بالقول كما يقول عنه ربه سبحانه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم:35-37)
أيُّ معجزة أكبر مما أثبتته الأيام فيما بعد، وعلى مرِّ العصور منذ ذلك العهد؟
استجابة الله لدعاء إبراهيم سارية حتى يومنا، فها هو ذلك البلد (مكة) آمن منذ ذلك الحين. وهاهي ذي أفئدة الناس تهوي إلى تلك الديار. يؤمُّها الحجيج عمرةً وحجّاً على مدار الأعوام والأيام، دونما انقطاع. ليس من أجل اجتناء ربح أو ابتغاء مغنم دنيوي، وإنما ابتغاء رضوان الله عنهم، والتزاماً بأداء مناسكه. أليست معجزة أن تظل استجابة هذه الدعوة قائمةً أزليةً على هذا النحو؟ وذلك على الرغم من كل ما مضى من زمن، وما عهد البشر منذ ما يقارب الآلاف الأربعة من حروب ومتغيرات، لم تتوقف على ظهر الأرض على مرِّ الزمان؟ والبيت المحرَّم ما برح محرَّماً، تقام فيه الصلوات على مدار الساعة، مع دورة الأرض حول نفسها وحول شمسها، طول المدى فيما مضى وفيما هو قادم إلى أن يشاء الله.
ومن الإنصاف أن نضيف تفسيراً يجعلنا نمعن في النظر إلى هذه الظاهرة الفريدة. أليس من المثير للدهشة أن يلازم هذا الشعور (الناس) الذين ما انفكُّوا يتوالدون ويتناسلون لأربعة آلاف عام، وكأنهم يرثون المشاعر والأحاسيس؟ مع أن هذه لا تورث على مستوى الشعوب وعلى مرّ السنين. هذا الشعور الدافق بالحنين والشوق إلى تلك الديار، يأتونها من كل فجٍّ عميق، دون أن يتراخى على مرّ الأيام.
يحدث هذا على الرغم من عوامل الإعاقة والتوهين التي لم تتوقف يوماً، مما يتعرض له البشر من عوامل شتى، منها الحروب، ومنها ظواهر الطبيعة، ومنها تقادم العهد، ومنها المادية الطاغية السائدة في هذا العصر، التي استولت على العقول والقلوب. وكان من شأنها انصراف الناس عن كثير من القيم والمبادئ، فضلاً عن العواطف والمشاعر الإنسانية، وجنوحهم نحو المادة ومكتسباتها، وتقنيات العصر وملهياته، التي أمست بحراً تتلاطم أمواجه وتوشك أن تغرق البشر. وإذا أضفنا إلى ذلك معجزة أخرى مذهلة تتصل بها، هي استمرار تدفق ماء عين زمزم، التي انبثقت آنذاك استجابة لحاجة هاجر ووليدها إسماعيل، وابتهالها إلى الله بأن يقيها الهلاك عطشاً في ذلك الوادي غير ذي الزرع في تلك القفار.
في صفحات تالية قد نشير باستفاضة إلى هذه المسألة، تقتضيها عظمة المعجزة وقدسيتها.
إذا كان محمد عليه السلام راوياً لقصة- كما يدعون- فكيف تسنَّى له التنبؤ بمستقبل البشرية الآتي من بعد زمانه، ولحقب تمتد إلى ما شاء لها الله تشهدها أعيننا نحن أبناء هذا العصر؟
وتحدثنا سورة الصافَّات عن جزء آخر من قصة إبراهيم. قصته مع قومه وأصنامهم. وقصَّته في مسألة التضحية بإسماعيل. في الأولى آيات تبدأ من الآية 83 إلى الآية 90 ثم تتلوها آيات صراعه مع قومه:
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ. قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ. قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (الصافات:91-97)
ونلاحظ هنا الأسلوب الساخر اللاذع استخفافاً بعقولهم وذلك حين يسائل (آلهتهم) بـ (ألا تأكلون).. (ما لكم لا تنطقون).
أما الآيات التي تنزلت في شأن الفداء ففيها تفاصيل ما حدث، وإن تكن في عدد قليل من الآيات، إلا أنها تقدم القصَّة الكاملة حتى لكأنك تشهدها بأم عينك، في دقة التصوير المشهدي، لا سيما وأنها تتحدث عما قبل ولادة إسماعيل حتى بلوغه (السعي) الرشد، ثم الرؤيا، ثم شروع إبراهيم بتنفيذ ما أُمر به في رؤياه، ثم الفداء. كل أولئك في هذه الآيات القليلة العدد والتي ـ كما أسلفنا القول في غير مكان من هذا الكتاب ـ لو شاء كاتب روايتها لتستوعب ما ورد فيها لاحتاج إلى كتاب ضافٍ.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (الصافات:100-109)
ونعترف بأننا قد لا نستطيع الإفاضة في التعليق على روائع ما تضمنته الآيات البينات من معان عظيمة سامية، تقصيراً، أو قل عجزاً منا عن إيفائها حقها. ولكن لا بأس من المحاولة، بالإشارة، في إيجاز قدر المستطاع، إلى ذلك:
أولاً: سيدنا إبراهيم عليه السلام، يدعو ربه بأن ينعم عليه بغلام حليم، بعد أن بلغ من العمر عتيّاً، وبعد أن أيقن أن امرأته عاقر. بيد أنه برغم ذلك، وبدافع من إيمانه الذي لا تساوره فيه ريبة بقدرة الله تعالى على تحقيق المعجزة أن يمَّن الله عليه بالاستجابة. وعندما يتحقق ذلك، ويرزق الغلام على شوق عارم، ولهفة طاغية، لا يلبث أن يرى في المنام أنه يذبح ابنه البكر هذا.
ولما كانت رؤى الأنبياء حق، وأنها بمثابة الوحي فليس عليه سوى الانصياع لما أمر به. لم يشأ إبراهيم الاحتيال على المسألة بالمراوغة أو التأويل لصالحه، تجنُّباً لموقف لا أشد منه على الإنسان، ولكيلا ينسب الأمر إلى (أضغاث الأحلام). وكان في وسعه أن يفعل لو لم يكن هو إبراهيم نبي الله وخليله، فرأى من ثم أن يصدع لأمر الله. همَّ بالتنفيذ وعزم عليه. ولكنه مع ذلك لا يقدم على ذلك قبل الأخذ برأي فلذة كبده. لا بد أن له رأياً في المسألة. فهو إذن يسأل ولده بعد أن يخبره بأمر الرؤيا ((فانظر ماذا ترى)). وهذه هي ذروة المثالية في الأخذ برأي الطرف المعنيّ، حتى لو كان ولده، الذي وجبت عليه طاعته، لاسيما في ذلك العصر الموغل في القدم، وهو، بطبيعة الحال، لا يعرف أنه سيعفى من هذا التكليف وهذه التجربة المريعة لحظة إقدامه على التنفيذ.
ثانياً: نلفي هنا قمة مثالية أخرى، ولكن هذه المرة من ناحية الابن نفسه. الابن يستجيب طائعاً غير مكره.. وأيّ استجابة.. وفي أيّ شأن.. في حياته نفسها.. وبأيّ طريقة؟ الذبح..! وما تثيره فكرة الذبح في الإنسان- كائناً من كان- من هلع وفزع. بيد أن الابن البار بأبيه.. المطيع لأمر ربه، الذي يأبى أن يُعرِّض الأب لما يغضب الرب. يحرص على أن يلبي أبوه أمر الله، وإن تكن روحه هي الفداء والثمن فيقول يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ.. (الصافات:102). ولكي يدخل إلى قلب أبٍٍ يفجع في ابنه الوحيد الأثير، الذي رزقه بعد طول انتظار، امتد العمر كله أو أكثره، شيئاً من الطمأنينة ويشعره باستعداده لتحمل ذلك الابتلاءـ عسى أن يكون في هذا بعض من عزاء، فيضيف القول سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات:102)
ويحدثنا القرآن كذلك ــ في جانب آخر ــ عن دخيلة نفس إبراهيم حينئذٍ، إبَّان بحثه عن الحقيقة وراء ظواهر الكون (في البدايات وقبل التجربة والفداء)، وما كان يتنازعه من أفكار وهواجس قبل استقرار اليقين، حين بلغت منه الحيرة في مظاهر الكون مدى بعيداً. مضى يبحث عن ضالته. حسب النجم إلهاً أول الأمر.. ثم القمر.. ثم الشمس.. كان تفكيره منطقياً وعملياً أيضاً.. إذ هو يحاكم المسألة كلما تغيرت الظاهرة- فهذه الأجرام التي تطلُّ من كبد السماء يحسب أحدها إلهاً، هو هذا أو هو ذاك، لا يلبث أن يراها تأفل وتغيب.. إذن أيّ آلهة هذه التي تخضع لناموس يرغمها على الظهور، كما يرغمها على الاختفاء. استقرَّ في روع إبراهيم أن هذه إذن كلها مخلوقات لمن هو أعظم وهو الذي يحركها ويتدبر أمرها. لا بد أن يكون هناك من هو أعظم وأكبر منها جميعاً.. هو الله..، فهو منشئها وبارئها. هذا ما هداه الله إليه. اهتدى بالفطرة والإلهام بعد إعمال العقل واستخدام المنطق في الموازنة والمقابلة، وصولاً إلى الإيمان بالاقتناع عقلاً وقلباً.
يقول في هذا سبحانه مصوِّراً لنا حالة إبراهيم، والمراحل التي مرَّ بها قبل ذلك. لكي ندرك أن الإيمان ــ كما أسلفنا ــ عن طريق العقل والمنطق غيره عن طريق الوراثة لأبوين معينين.
يقول تعالى:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام:75-79)
يحدثنا القرآن إذن عن دخيلة نفس إبراهيم، وما كان يتنازعه من أفكار وهواجس في البداية، حين حيَّرته مظاهر الكون، فحسب النجم إلهاً، ثم القمر، ثم الشمس، إلى أن استقر في وجدانه وقلبه أنها جميعاً مخلوقات لله الأكبر والأعظم.
ومن أجل أن يطمئن إبراهيم إلى ما هداه الله إليه يتوجه غير متردد إلى ربه سبحانه بسؤاله كيف يحيي الموتى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي(البقرة:260)
فيكرمه الله بالاستجابة: (تتمة الآية) في برهان عملي يجريه على يديه:
..قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:260)
السؤال الذي ربما، أو بالضرورة، سوف يتبادر إلى الذهن مرة أخرى ولكن في سياق مختلف، هو:
كيف عرف محمد عليه السلام ما كان يدور في خلد إبراهيم- وهي أفكار وتساؤلات خطرت لإبراهيم فيما بينه وبين نفسه- لو لم يطلعه الله عليها. أي أن المرويَّ هنا ليس حوادث ووقائع بل خواطر في دخيلة نفس صاحبها لا يعرفها غيره.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما حاول اليهود- طوال القرون الماضية- من نسبة الفداء إلى إسحاق وليس إلى إسماعيل. إسحاق هو الذبيح في زعمهم ومن جملة أكاذيبهم. وواضح تماماً أيّ لغو وأيّ استغفال للآخرين يعمدون إليهما فلا يتورعون عن تزييف كل شيء. حتى التاريخ والدين والوقائع الواضحة البينة، فالوقائع كلها، ومنطق الأحداث تنفي زعمهم ذلك. فإسماعيل كان بكر إبراهيم و وحيده. وإلا لقيل أن إبراهيم احتار أيُّ الولدين هو المعنيّ. والتضحية بالابن الأوحد الذي وهبه الله لإبراهيم، وامرأته عجوز عقيم، جاء بمعجزة إلهية، ليست بالأمر العادي والهين. وفي مثل سنِّ إبراهيم أيضاً. ومن هنا كان معنى الابتلاء العظيم الذي صبر له وأقبل عليه امتثالاً لأمر ربه.
ولكن الله أثابه بفدي عظيم أرسله إليه، يهبط من السماء لكي يخلصه من محنته في ولده إسماعيل، ومثوبة لإيمانه وتسليمه وإسلامه. والقصة كلها حتى ساعة المحنة تلك لم تشر إلى ابنٍ ثانٍ لإبراهيم. حقيقة تقرها الوقائع والشواهد وسلامة المنطق تدفع أباطيلهم وزيف دعاواهم.
وليس لنا أن نغفل قصة إبراهيم مع أبيه آزر كحالة شخصية بين الابن والأب. قصة دعوته لأبيه إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان. ترينا هذه القصة حدب الابن على أبيه في سائر الظروف وكافة الأحوال. وبرُّ هذا الابن بأبيه، خشية أن يحل عليه غضب من الله، والسعي الحثيث دونما كلل لكي يثنيه عما هو فيه من غيٍّ وضلال. وينزل الله سبحانه في ذلك آيات بيِّنات نتعلم منها أن للآباء على الأبناء حقوقاً، حتى لو خالفهم أولئك في شأن معتقدهم. والآيات تُكْبِرُ في إبراهيم برَّه بأبيه، وسعيه إلى هدايته والدعاء إلى الله كي يهديه سواء السبيل. ولكن ذلك الأب لا ينفكُّ مقيماً على الشرك، رافضاً دعوة ابنه إيَّاه إلى الله. هي مسألة كبرياء في الغالب لكأنما يستكثر الرجل على ابنه أن يكون موجِّهاً له. وحينئذ فقط يدع إبراهيم أباه وشأنه، ويمضي عنه حزيناً أسفاً، معتزلاً إياه وقومه وما يعبدون من دون الله، واعداً أباه بمواصلة استغفاره الله له عسى أن يستجيب الله الدعاء.
قصة مشوقة حافلة بالأحداث، زاخرة بالمعاني الجميلة والقيم الرفيعة، ترد في آيات تسع مكثفة تصف الحال والواقعة. يقول تعالى سبحانه مخاطباً نبيَّه محمداً عليه السلام في قصة إبراهيم عليه السلام:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً.إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً. قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (مريم:41-48)
ولنمعن النظر في هذا الحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه السلام وأبيه. كيف كان منطق إبراهيم في محاولته إقناع أبيه، وأيّ مستوى بلغ إبراهيم في محاجته، وأي عبارات توجَّه بها إليه، تفيض بالبر والحنان والخشية عليه من عذاب يصيبه عند لقائه ربه. منطق مفحم لم يجد الأب سبيلاً إلى الوقوف أمامه بغير التجهم والرد القاسي المتعنت. بل لقد بلغ به الأمر تهديده بالرجم، ثم الطرد والتهجير. وبرغم ذلك تابع إبراهيم أسلوبه المهذَّب الرقيق (سلام عليك سأستغفر لك ربي..) الشخصيتان هنا تتحدث كل منها بمنطقها تماماً، بحيث يبدو التباين واضحاً جليّاً بينهما. كما ترينا الآيات ملامح ذلك المجتمع الذي نشأ فيه إبراهيم في ذلك الزمن.
أليس في هذا ما يفحم المرجفين، وما يقنع المغرضين والمنافقين بأن هذا القرآن العربي المبين لن يكون إلا قولاً من رب رحيم؟
لننظر مثلاً إلى هذا الدعاء المستجاب لإبراهيم، لأمر قدِّر في اللوح المحفوظ، وحقّقته الأيام بمعجزة جليَّة بادية للعيان، لا ريب فيها. يقول تعالى على لسان إبراهيم:
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة:129)
أليس محمد هو الرسول الذي بعثه الله في قومه من بعد، أليس محمد هو الرسول الذي جاءهم يتلو عليهم آيات ربه حاملاً إليهم الكتاب والحكمة يعلمهم إياها.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (إبراهيم:40)
وقد جاءت بالفعل من ذريَّة إبراهيم النبوات التي كان ختامها محمد صلى الله عليه وسلم، الذي حطَّم الأصنام حول الكعبة، أسوة بما فعل جدُّه إبراهيم لدى قومه من قبل. وهو لم يعبدها ولم يتقرب إلى عبادتها. بل لقد أوقف محمد عبادتها نهائياً وإلى الأبد، وكأن ذلك رجع الصدى لصوت إبراهيم في الزمن السحيق إذ دعا ربه ضارعاً إليه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (إبراهيم:35)
هذا ما كان. وهذا ما تحقق.

* * *

قصة مريم ابنة عمران عليها السلام
ثم تأتي قصص الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذا الكفل، وذا النون، ثم زكريا الذي استجاب الله له فوهبه يحيى عليه السلام:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (الأنبياء:90)
ويحيى عليه السلام ابن خالة سيدنا عيسى عليه السلام. ثم قصة مريم العذراء، موجزة هنا، لتأتي وافية بعد ذلك في سورة كاملة تحمل اسمها ((مريم)). الأنثى الوحيدة التي سمَّاها القرآن باسمها. وهي واحدة من أروع القصص وأجملها، وأكثرها إثارة للشجن، برائع بيانها وسحر إيقاعها، في بديع عبارتها القصيرة الآسرة في سرد وقائعها العجيبة، وما تبيِّنه من قدرة الله المعجزة.
لقد وضع القرآن الكريم سيدتنا مريم في أعلى صورة وأكرمها في قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (آل عمران:42-43)
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي:
لماذا لا نطلع المسيحيين ــ الغرب خاصة ــ على رأي الإسلام في السيدة مريم العذراء الذي يضعها في مكان ليس أرقى ولا أعظم منه في أي نص ديني أو أدبي مقارنة ــ نبين لهم ذلك أيضاً ــ مع رأي اليهود فيها منذ القديم وحتى اليوم. كما هو رأيهم في المسيح عيسى عليه السلام الذي يحط من قدرهما إلى حدِّ لا نسمح لأنفسنا مجرد ذكره هنا. ومع ذلك ــ وبسبب من تقصيرنا ــ نراهم في صفٍّ واحدٍ معهم في سائر قضايا الصراع والنزاع والخلاف بيننا وبينهم، وكان حريّاً بهم أن يتخذوا عكس مواقفهم هذه مناد منهم على ضوء من الرؤيتين الإسلامية واليهودية في المسيح وأمه مريم البتول.
تُرْدف الآية بعد ذلك بقوله تعالى مخاطباً رسوله محمد عليه السلام بقوله: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران:44)
هذا نفي قاطع لإمكان طلاع الرسول على الغيب إلا ما يوحيه إليه الله سبحانه من نبأ أو علم أو قصة، إذ لم يكن معاصراً لأحداثها أو شاهداً على مجرياتها عند وقوعها كما تنص الآيات.
لقد تضمَّنت هذه السورة واحدة من أروع القصص، وأكثرها إدهاشاً، فقد اعتمدت السرد المتسلسل للوقائع، تتخلله حوارات ترقى إلى مستوى (فوق البشري)، بين مريم وجبريل (عليهما السلام). ثم إلى المستوى البشري بينها وبين قومها. تحاورهم في محاجة منطقية مفحمة لهم، حين أتوا يتجنَّوْن عليها، يرمونها بما ليس فيها من بهتان. بل هي تتغلغل إلى حالة مريم النفسية في محنتها، في ارتباكها وقلقها واضطرابها إلى حدِّ تمنيها الموت قبل أن يقع لها ذلك.
.. قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (مريم:23)
كان ذلك قبل أن تدرك الحقيقة، والإرادة الإلهية التي فضلتها على نساء العالمين. حين خاطبها جبريل عليه السلام مطمئناً إيَّاها، ومبشّراً بوليدها المعجزة، باختيار الله العلي القدير لها لكي تكون أمَّاً لنبيِّ تفرَّد في مسألة خلقه دون سائر العالمين، فكان مَثلُه مثل آدم(*)، إذ هما الوحيدان اللذان جاءا من غير أب بين سائر البشر. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ.. (آل عمران:59)
ولا تغفل الآيات تفاصيل معاناة مريم النفسية. وأهمها خوفها من ذويها بحيث تحتجب عنهم تفادياً لظنونهم ومضايقاتهم واتهاماتهم. ثم حوارها مع الملاك الذي جاءها بالبشرى في صورة رجل لم تعرفه في بداية الأمر، أي قبل أن يتجلى لها فتخاطبه وَجِلَةً خائفة. أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (مريم:18) كما تبدي عجبها واستغرابها إمكان أن تنجب غلاماً، وهي التي لم يمسسها بشر. فيطمئنها جبريل عليه السلام إلى أن ذلك هيِّن على الله، وإن كان معجزاً للبشر الذين تحكمهم سُنَن الله التي لا تبديل لها إلا بإرادته حينما وحيثما يشاء:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (مريم:16-21)
وتمضي الآيات المفعمة عطفاً وحناناً، تأسر الألباب وتأخذ بمجامع القلوب، لتكمل القصة المثيرة للعجب والخيال معاً. وكيف أن قومها حين اتهموها باطلاً، ورمْوها بما هي منه بريئة، فأشارت إلى وليدها كي يرد عليهم، ويبلغهم من هو بادئ ذي بدء، ثم لكي يعرفوا – بقرينة المعجزة- ما له ولأمه من قداسة. فهذه معجزة لم تحدث من قبل. غير أن هذا كله لم يجنح بهم إلى الإيمان، حتى بالمعجزة الأمر الذي عرف عنهم على مدى التاريخ. العجرفة والمكابرة وضيق الأفق كانت دوماً أبرز صفاتهم.
والمعجزات تترى في قصة مريم عليها السلام. طفل رضيع في أيامه الأولى، ينطقه الله، فيخاطب بالغين راشدين بمنطق معجز، كإعجاز النطق عنده، الآيات الكريمة تحكي القصة التي تبين لنا ملامح مجتمع قوم مريم في الوقت عينه الذي تحدثنا فيه بالوقائع التي جرت بينها وبينهم.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (مريم:27-34)
وكما هو مألوف في كتاب الله تأتي الحكمة المتوخاة من وراء سرد القصة، إما متضمنة إياها، وإما في آيات تعقبها كما في قوله تعالى مردفاً:
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (مريم:35-36)
القصة أسلوباً ومحتوى في ذاتها غاية، والحكمة التي تعقبها غاية أيضاً.
الأولى إخبار وتعريف بما مضى من أنباء الأولين، وقصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم الغابرين. وهي وقائع وأحداث لا سجل تاريخياً لها يُرجع إليه، لكي يقال أن محمداً نقلها عنه. والثانية عبرة للناس وموعظة كي يتجنَّب البشر الوقوع في أخطاء من سبقوهم وأوزارهم التي اقترفوها، لكيلا يكون للناس على الله حجّة يوم الحساب، يوم تجزى كل نفس بما عملت في حياتها الدنيا.
وبرغم أن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وما ينبغي له أن يكون كذلك، إلا أنه يمكِّننا من استخلاص صورة لذلك المجتمع، موضوع القصة في ذلك الزمن، مجتمع له صورة محافظة تستنكر الخروج على قواعد الشرف، فهو لا يقرُّ الزنى، ولكنه في الوقت عينه مجتمع نفاق ورياء واستكبار وعناد، يتبدَّى ذلك كله واضحاً في الجو العام السائد في سورة مريم. كما يظهر جليّاً فيما يدور بينهم هم أنفسهم من جدل، من جهة، وفيما بينهم وبين مريم ووليدها المعجزة من جهة ثانية.
عيسى عليه السلام إذ يبشر برسالته، ويعلن على الملأ بأنه رسول الله إليهم، فإنه يبشرهم أيضاً برسول يأتي من بعده:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (الصف:6)
ويشير إنجيل (برنابا) إلى ذلك في الفصلين (34/44) حين يطلب التلاميذ (الحواريون) من المسيح عليه السلام أن يصرِّح لهم باسم النبي الآتي من بعده، فيذكره لهم قائلاً:
(وإن الآيات التي يجريها الله على يدي تظهر أني أتكلم بما يريد الله.. وسيأتي بعدي بكلام الحق ولا يكون لدينه نهاية( ).. هو باركليت أحمد.
ومن القصص القرآني ما يسجل الحوار الذي يدور بين الرسل وأقوامهم، مما يعطي عنهم صورة نابضة بالحياة، وتكشف في الوقت نفسه عن طوايا المتحاورين ودخائل نفوسهم، إلى جانب مواقفهم المستجيبة أو الرافضة، الباحثة عن الحقيقة، أو الساعية للتعجيز وحسب. من ذلك ما ورد في آيات كهذه. نعرضها توخِّياً لتبيان صور قرآنية بارعة:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (المائدة:112-115)
هل كان محمد هناك يشهد حوارهم هذا؟ هل نقلت إلينا كتب وضعها أناس عاصروا هذه الأحداث عما جرى بين عيسى عليه السلام وبينهم؟ حتى الإنجيل لا يورد هذه الواقعة ولا التوراة من قبل لكي يزعم قائل أن محمداً نقلها عنها.
وتظل الأسئلة قائمة من هذا القبيل:
إذا كانت مثل هذه القصة التي لن يبدع نظيراً لها قلم كاتب. إذا كانت من إبداعه هو فلماذا ينكرها وينسبها إلى مصدر غيبي، الأمر الذي لم يعهده أحد من قبل؟ لم يعرف أن أحداً من الناس لجأ عامداً إلى مثل ذلك، مبدعين وغير مبدعين. إذ ما جدوى ذلك لصاحب الشأن؟ أليست هذه القصة كفيلة بأن ترفع اسم مبدعها- لو كان إنساناً- إلى مصاف العظماء بين المفكرين والأدباء، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق في وقته ثم العصور اللاحقة؟ ألا يكون عندئذ قد بزَّ- كاسم أدبي- أمثال هوميروس وأرستوفان وسقراط وأفلاطون ممن جاءوا قبله زمنياً وشكسبير وملتون، من الخَلَف بعده؟ أليس من دواعي المباهاة والتفاخر أن يكون يراعه مبدع هذه القصة الفريدة؟ فلماذا التنصل منها إذن وكأنها أمرٌ يُستحى منه؟
الجواب عن سائر التساؤلات المنطقية هذه وغيرها، هو أنه ما من سبب هنالك سوى ذلك السبب الحقيقي الأوحد وهو: أن هذا هو كلام الله، دونما ريب، أوحي إلى محمد بن عبد الله، ولا سبيل لأن يكون كلام محمد نفسه، ولم يكن أمام محمد إلا أن يبلغه للناس أجمعين.
وإذا كنا لا نستطيع استعراض سائر القصص الواردة في القرآن، فإننا سنكتفي بعرض صور موجزة، ما وسعنا ذلك، لعدد قليل آخر من قصص الأنبياء وأقوامهم السابقين لبعثة الرسول محمد عليه السلام.


* * *

قصة آدم عليه السلام
تسوق لنا سورة البقرة (وسور غيرها أيضاً) قصة خلق آدم أبي البشر عليه السلام: قصة بداية الخلق الإنساني كما نعرفه على الأرض:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:30-31)
ثم تمضي الآيات تحكي شطراً آخر من القصة. دور إبليس الرافض استكباراً. وقصة خروج آدم وزوجه من الجنة. بعد أن أزلهما الشيطان. والوعد الإلهي الذي ما برح قائماً إلى يومنا هذا. نراه في حياة البشر اليوم كما كان في العصور الغابرة. ولسوف يظل كذلك إلى يوم الدين.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة:34-37)
أليس هذا هو حال البشر الذي كان مذ وجدوا، وما يزال كذلك (بعضهم لبعض عدو) من جهة، وللشيطان إبليس من جهة أخرى، فالخطاب موجه بصيغة الجمع (اهبطوا) أي آدم وحواء وإبليس.
وقد ترد القصة في صيغ متعددة تأكيداً لما تضمنته من معنى. ولكل صيغة جماليتها البلاغية وإن كان المحتوى واحداً أو مكمِّلاً للصورة. يأتي بعض من وقائع قصة آدم وموقف إبليس المكابر، وإغوائه لآدم وزوجه، التي لا يأتي القرآن على ذكر اسمها، ثم توعده بني آدم بالأخذ على عاتقه أمر غوايتهم، ولكن الله سبحانه يخيِّب مساعيه المنتظرة في شأن عباده المتقين: حيث لن يكون له سلطان عليهم. يرد شيء من هذه القصة أيضاً في سورة الأعراف من الآية (11) حتى الآية (52). وهنا يرد شيء من التفصيل الذي لم يرد في قصتهما من سورة البقرة. من هذه الآيات قوله تعالى:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ. قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (لأعراف:20-25)
ثم تأتي الآيتان (26) و(27) تخاطبان ذرية آدم من بعده لاستخلاص العبرة من قصة أبويهم للسير على نهج سليم في حياتهم الدنيا وتحذيراً لهم من فتنة الشيطان الذي سبق له أن أخرج أبويهم من الجنة، في قوله تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (لأعراف:26-27)
وقصة ابني آدم جزء من قصة آدم عليه السلام تدور في محورها.
يلقي الله سبحانه بالأمر إلى رسوله محمد عليه السلام بأن يتلو نبأ ابني آدم في ذلك الزمن السحيق، زمن بدء وجود الإنسان على هذا الكوكب، فيقول جلَّ من قائل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَة أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَة أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (المائدة:27-31)
قصة طويلة تزخر بالأحداث والوقائع، لكنها تأتي في هذا العدد القليل المغني من الآيات. ترينا الآيات- فضلاً عن كل ما حفلت به من معان وعبر وقصّ ــ عجز الإنسان وضعفه، ومدى جهله بحيث أن قابيل عجز عن فهم حقيقة الموت، وكيف يتصرف إزاءه، لولا أن (غراباً) من الطير أتى ليرشده إلى ذلك بأمر الله كيف يواري جثمان أخيه هابيل. يصحو قابيل عندئذ على هول فعلته، فيردد نادماً متحسراً على عجزه البادي أمام طائر ضعيف غير ذي عقل قائلاً: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.. (المائدة:31)
للقرآن أسلوب غير مسبوق (ولا ملحوق) في بابه، إذ كثيراً ما يوزِّع عناصر القصة على سور عديدة، وفي ثنايا الخطاب الموجه للبشر، في مواضع شتى من الكتاب، حيثما يقتضيها السياق، فترد متفرقة في ثنايا السور. ففي سورة (طه) قسط آخر من القصة:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى. فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (طـه:115-121)
ليس هذا بالشعر، وما هو بالنثر، ولا هو شبيه بأي كلام مما كان العرب يتداولون. السهولة الممتنعة، السياق المنساب كغدير يتدفق.
كلام عجز العرب حتى عن تقليده، فيما هو متوفر بين أيديهم للنظر فيه والنسج على منواله. لم يجد فيه بلغاؤهم عِوَجاً، ولا خطأً لغوياً، ولا ركاكة أو فجاجة، ولا ضعفاً أو وهناً. ذلك برغم حرص الكثير منهم- وممن جاءوا بعدهم- على ذلك. بل هم قد حاولوا، فبحثوا ونقبوا، فما جنوا غير ذريع الفشل، وذلة الإخفاق. نمط فريد في بابه، لا نجده إلا في القرآن، ولم يقيَّض لأحد أن ينشئ مثله قط. عصيٌّ على التقليد، ممتنع على المضاهاة والمحاكاة.
فهل يتسنى لبشر هذا كله بمسعى منه واجتهاد؟
لو كان هذا القَصص إبداعاً بشرياً لما عمد مبدعه إلى توزيع وقائع القصة الواحدة على أماكن متعددة، كل منها يرد في مكان يحمل عنواناً مختلفاً أو مستقلاً.. كما هو الحال في السور. سوف يتهم ذلك المبدع عندئذٍ بالتخبط وبأنه عاجز عن سرد القصة من بدايتها حتى نهايتها بتواصل يستقيم مع السياق. ولكان من شأن ذلك بروز التعمُّد والإقحام للوقائع هنا وهناك، خروجاً على السياق. في حين نجد هذا التوزيع لأحداث القصة الواحدة في القرآن على سور متعددة يأتي في مكانه غير مقحم ولا نابٍ أو قلق، وإنما في انسياب جميل ساحر ومبهر. لعل ذلك من قبيل التشويق، أو توزيعها على مناسبات ومواقف مختلفة تقتضي وجودها حيث هي من النص القرآني.
ألا إنه كتاب الله العزيز الحكيم بحق، لا ينبغي أن يرقى إليه الشك، فما من بشر على اجتراح معجزته بقادر.


* * *

قصة نوح عليه السلام والطوفان
من القصص القرآني واحدة من أروعها وأقدمها في تاريخ البشر، هي قصة الطوفان، ونبي الله نوح عليه السلام، مع قومه الذين لبث بين ظهرانيهم عمراً مديداً، لم يُعهد مثله لبشر (تسعمائة وخمسين سنة).
قصة نوح تتوزع بين عدد من السور وليس في سورة (نوح) وحدها التي لا تتجاوز الصفحتين في الكتاب، تأتي في عبارات مكثفة للغاية، لكل كلمة فيها دلالة، ولكل آية- على قصرها- شمول وإحاطة. تبدأ السورة بقوله تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(نوح:1-3)
ولما أعياه أمرهم حين لم يستجيبوا لدعوته ويئس من إمكان إصلاحهم دعا ربه أن يهلكهم كيلا يعيثوا في الأرض فساداً وضلالاً.
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (نوح:26-27)
استجاب الله لدعاء نوح ــ الذي يبدو جلياً أنه أُلهِمَه ــ بعد أن استنفد الجهد والزمن محاولاً هدايتهم إلى الله دونما جدوى، فأمره بأن يصنع الفلك، لكي يحمل عليها أولئك الذين آمنوا معه، ومن الحيوان والطير من كلٍّ زوجين اثنين. ثم جاء الطوفان ولم ينج مع نوح غير هؤلاء لكي يستأنفوا دورة الحياة على أرض تطهَّرت من الشرك والضلال. يقول تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (هود:40-41)
وفي سورة الشعراء جزء آخر من قصة نوح مع قومه تبدأ من الآية 105 تعرض لما جرى بينه وبينهم إلى أن تبلغ الآيات:
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ. قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (الشعراء:116-120)
وكان من الذين سبق عليهم القول ولدٌ لنوح عليه السلام، ودَّ لو يستنقذه، فتصور لنا الآيات حالة نوح النفسية وحنوَّه الأبوي في تلك الساعات العصيبة. تقول الآيات:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ. قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (هود:42-43)
لم يجد نوحٌ بدّاً من مناجاة ربِّه، والتضرُّع إليه بأن ينجي ابنه من الغرق، مندفعاً بعاطفة الأبوَّة التي لا حيلة للإنسان فيها:
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (هود:45-46)
هنا يتبدى لنا جانبان للمسألة:
أولهما: التأكيد على أن الرابطة الحقيقية بين الناس هي رابطة العقيدة، وهي الأقوى بين سائر الروابط، الأسرية والمصلحية وغيرها.. الخ، وليست رابطة الدم بالقرابة، أسرة كانت أو عشيرة، أو عرقاً. من هنا كانت الرابطة بين المسلمين هي (عقيدة الإسلام). توحَّد المسلمون فيما مضى حولها، فجعلت منهم أمّةً واحدةً في المعتقد، كما في وحدة شعائر العبادة، ومنحى التفكير والتوجُّه، بحيث تفضي إلى بناء مجتمع متجانس، له تميُّزه على غيره، وله خصائصه التي يعرف بها. ولقد تجلَّى كل أولئك في العصور الزاهرة للأمة الإسلامية على امتداد المساحة التي شغلتها من الأرض وتواجدت فيها. من بلاد الأندلس غرباً إلى بلاد الصين شرقاً وما بينها. اختفت فيها الفوارق بين الناس. فما كان للعرق أو اللون أو الجنس حساب أو قيمة أو اعتبار. التقوى وحدها هي المعيار.
ثانيهما: أنه ليس هناك حالات خاصة للاستثناء، بسبب من قرابة أو غيرها من الأسباب فيما يختص بالعقيدة. درسٌ للبشر كي يتعلَّموه. ليس في هذه المسألة مكان لوساطة أو شفاعة أو محاباة. فهذا ابن نبي الله نوح لم تشفع له بُنوَّته لنبيّ. بل إن الآية لتقسو على نوح في الرد إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ..  (هود:46)
وقد سبق أن رأينا مثل هذه الحالة مع إبراهيم عليه السلام ولكن على نحو معكوس فالأب هنا (آزر) هو الخارج على الدعوة التي جاء بها ابنه إبراهيم. وقد نلمس الحكمة هنا على ضوء هذه المقارنة. لم تقتصر المسألة على حالة واحدة، فكان لنا أن رأينا الأب والابن، في حالتين متعاكستين، تأكيداً على مسألة أن الرابطة الحقة بين الناس هي العقيدة، وليست صلة القرابة أو رابطة الدم أو الانتماء العرقي، وما إلى ذلك من وشائج يتخذها البشر بمثابة الرابطة فيما بينهم، لكنها سرعان ما تتهاوى عند الاختبار كتضارب المصالح مثلاً في صورة من الصور. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه الحقيقة عما قليل.
وقبل الانتقال إلى قصة أخرى من قصص الأنبياء تجدر الإشارة إلى أن العقاب الذي حلَّ بقوم نوح، لم يقع إلا بعد أن استنفد نوحٌ جميع الوسائل من أجل هدايتهم إلى الله. وهكذا هي عدالة الله التي تمهل ولكنها لا تهمل. والوحي لرسولنا محمد عما حلَّ بقوم نوح ما هو إلا بغية استخلاص العبرة كذلك. حاول نوح عليه السلام هدايتهم ولكن دونما جدوى، الآيات:
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (نوح:10-12)
لم يستجب القوم فكان من أمرهم ما كان. وتلك قصة أخرى من أنباء الغيب أوحيت إلى النبي ليكون فيها موعظة وعبرة ــ كما أسلفنا ــ لمن شاء أن يعتبر من قومه وعشيرته، وسائر البشر، فقد أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين.
لم ينج يومئذ مع نوح إلا قليل من البشر ومن الكائنات (من كلٍّ زوجين اثنين)، لكي تعود الحياة إلى الأرض، فتعمرها هذه الكائنات من جديد، من بشر وحيوان وطيور. ففي قَصَص القرآن ذات الدلالة على قضايا ما انفكَّ الإنسان يجهلها طويلاً، إلى أن تبيًّن في العصور الأخيرة ما تنطوي عليه من خفايا الكون وأسرار الطبيعة. فلقد أثبت العلم حديثاً أن للطير لغة وللحشرات لغة، وللنبات لغة. وهذا ما لم يقل به أحد حتى مطلع القرن العشرين وما بعد. القرآن وحده أعلمنا بذلك. ففي سورة النمل نقرأ:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (النمل:17-19)
وآية في هذا الصدد تقول:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام:38)


* * *

قصة لوط عليه السلام
في سورة هود قصص أخرى، فضلاً عن قصته هو مع قومه. منها قصة النبي لوط، وهو معاصر لأبي الأنبياء إبراهيم، يمتُّ له بصلة القربى. وقد حاول إبراهيم التشفع لقوم لوط لدى الملائكة الذين هبطوا من السماء لإنزال العقاب بهم، فجاءه ردٌّ زاجر. ومضى الملائكة إلى لوط وقومه حين حق عليهم العذاب:
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ. فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (هود:69-70)
يبدو أن سيدنا إبراهيم عليه السلام ارتاع للأمر قبل أن ينبَّأ من قبل الملائكة الذين جاءوه على هيئة بشر. حتى أنه قدم إليهم الطعام (عجلاً حنيذاً) ظنّاً منه بأنهم ربما كانوا مجرد عابري طريق أو أنهم يتقصدونه لأمر مبهم أثار مخاوفه وهواجسه. عندئذ ذهب عنه الروع، وطمأنته الملائكة قائلين ((لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط)).
تتابع الآيات في الموضوع ذاته، بلاغاً لمحمد بما حدث بعد ذلك:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (هود:74-76)
مرة أخرى يتبين لنا أن لا استثناء لحالات كهذه. تماماً كما حدث في قصة نوح وابنه. وكما حدث لإبراهيم نفسه مع أبيه آزر الذي ظلَّ على عبادة الأصنام، فلم ينجه من العذاب الذي ينتظره يوم البعث والحساب أن ابنه نبيّ. والرسول محمد عليه السلام أيضاً لم يكن في وسعه أن يتشفع لعمه أبي طالب، الذي أحبَّه وودَّ لو أن الله أراد له الهداية فأسلم قبل وفاته، برغم ما قدَّم الرجل لابن أخيه من حماية ومؤازرة في وجه خصومه من قريش.
ونمضي مع قصة لوط وقومه. فعند وصول الملائكة حدث الآتي، كما تقول الآيات:
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (هود:78-79)
فبعد أن عرض بناته عليهم للزواج منهن، بدلاً من رغباتهم الشاذة نحو ضيوفه الذين حسبهم القوم رجالاً من البشر، أصرُّوا على المطالبة المكشوفة المنكرة بارتكاب الجريمة، عندئذ أعلن الملائكة لوطاً بمهمتهم، وكشفوا له عن حقيقتهم كما حدث مع إبراهيم وهم في طريقهم إلى لوط عليه السلام:
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود:81-83)
لقد أصاب قوم لوط انحراف شائن. فكان ما حكاه القرآن على لسانهم حين قالوا: ((لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)) كاشفاً عن نفسية جماعية منحرفة، تحلَّل أصحابها من قيود الفضيلة. فلم يصدَّهم حياءٌ أو إيمان عن كبت رغباتهم الشاذة، بل أعلنوا عنها في صفاقة، وكأنهم لا يأتون منكراً. ذلك أن الفرد يكتسب من وجوده وسط الجمع قوة تشجِّعه على الاسترسال في ما كان يحجم عنه منفرداً من الميول والأهواء، لا سيما إذا شاعت تلك الأفعال بين عموم الأفراد كقوم لوط..)
ونقرأ في سورة الشعراء من قصة قوم لوط:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ. قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ. )قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ. رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ. فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (الشعراء:160-174)
في أسطر قليلة، عشنا مع قوم لوط، في صورة مجتمعهم، ومع الحوار الذي دار بين لوط وبينهم. في آيات تتسم بقصر العبارة وسرعتها، مثيرة للشعور والتنبه للحالة القائمة والتوقع لما هو منتظر. ثم تأتي بعد سرد القصة آية التنبيه لأخذ العبرة مما يقع لأمثال هؤلاء وما يحل بهم من عذاب الله.
كما نلحظ قوة الحجة التي حاجَّ بها لوط قومه، مستخدماً معهم لغة المنطق لكي يثنيهم عن سلوكهم المغاير للفطرة، الخارج عن الخلق، لكنهم أصروا على ما كانوا فيه، مبدين من السفاهة والقحة في مواجهة ما يشي بالحالة المتدنية البائسة التي بلغوها. ومن ثم حق عليهم العذاب، وحاق بهم ما كانوا جديرين به من عقاب.
بعضهم يسمي البحر الميت في فلسطين (بحيرة لوط)
قصة كهذه في إحكام بنائها، وعظيم مضمونها، كيف يمكن أن تخطر ببال رجل همُّه زعامة قومه من أجل تحقيق طموح شخصي؟ ما جدوى روايتها لأولئك القوم أولاً، ثم ما هو مصدر علمه بها ثانياً، وهو من سبق أن تحدَّثنا عن أميته، بل وأمية عصره وقومه، والجهل بمثل هذه الأحداث. فما كان لها، من ثم، أن تعرف شيئاً عن ذلك لولا أن جاء بها القرآن.
يقول جوستاف لوبون في دراسة له( ):
(تقول دراسات جرت في القرن الماضي أن موقع هذه الأحداث، وموطن قوم لوط هو مكان البحر الميت اليوم. لبث الأمر خافياً طول الأحقاب الماضية. ولم تكشف عنه الدراسات إلا مؤخراً. كما يقولون إن البحر الميِّت تكوَّن إثر الحادثة التي وقعت لقوم لوط.
(لهذا كانت مياهه مليئة بالإشعاعات الذرية التي لم يعرف مصدرها من ناحية علمية أرضية. وهذه الإشعاعات بآثارها الباقية لم تسمح بوجود حياة أو أحياء فيه. فهو خلو من الأسماك وسائر أنواع الأحياء المائية).
وقد أسماها الدارسون أو قالوا أنها سدوم وعمورة. ومما ذهب إليه بعضهم على أنها إشعاعات ذرية، هو تنبيه الملائكة له ولقومه – بألا ((يلتفت منهم أحد)). لماذا؟ لأن الإشعاعات من هذا القبيل تسبب العمى للناظر إليها. عُرف هذا فقط بعد قنبلتي (هيروشيما ونجازاكي) في اليابان، أواخر الحرب العالمية الثانية عام 1945. وما زال بعض من مرُّوا بالتجربة من اليابانيين أحياء يعانون فداحة الخطب الذي ألمَّ بهم. ولكن على يد أمريكا وليس الملائكة..!
فضلاً عما تحفل به هذه القصة( ) من معلومات عن تلك الأقوام فإن لها وظيفة أخلاقية تربوية أيضاً. فهي تندد بمسلكٍ شاذٍ، مرفوض أخلاقيّاً لدى الإنسان السويّ ذي الفطرة السليمة، والمسلكية القويمة. هكذا كانت آفة الشذوذ مرفوضة على مرّ العصور. وما برحت كذلك حتى اليوم. وإن خرج على القاعدة أناس في الغرب، فما هؤلاء سوى حثالات من أفراد مشوهين خلقيّاً وفكرياً وعقلياً. وهم منبوذون عند البشر الأسوياء كافة أيّاً كانت منطلقاتهم ومعتقداتهم. وهي مثال تضربه لنا القصة في نطاق الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في التحريم والمحرمات، لصالح الإنسان، في دنياه وآخرته. وها نحن نرى كيف يقتص الله من أمثال هؤلاء، السادرين في الغواية والضلال برغم علمهم بالعواقب الوخيمة التي سوف تحل بهم جرَّاء سلوكهم المنحرف، وخروجهم على سنن الله وفطرته التي فطر الناس عليها.


* * *

قصص أنبياء آخرين
علاوة على ما سلف نجد في سورة هود أخبار أقوام آخرين مع أنبيائهم: فضلاً عن تفاصيل قصة نوح مع قومه، ولوط وقومه، نجد قصصاً أخرى، قد نمرُّ عليها سريعاً فنذكر آية أو أكثر تختص بكل منها تكفي شاهداً ودليلاً. من هذه القصص هذه الآيات التي حدَّثتنا بأخبارهم:
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (هود:50-51)
إلى أن يحل عليهم غضب الله وعذابه:
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (هود:58)
أما ثمود – صالح عليه السلام فالآيات تقول:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (هود:61-62)
ويخبر الله نبينا محمد عليه السلام كيف حل عليهم العذاب في قوله تعالى:
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (هود:65-66)
ثم قصة مدين مع نبي الله شعيب:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (هود:84)
يجادلهم ويجادلونه دون جدوى، إلى أن يحلَّ بهم العذاب بعد أن ينذرهم إنذاراً أخيراً برغم تكذيبهم إياه وتنكُّرهم لما جاءهم به:
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (هود:93-94)
ومما هو ملاحظ أن كلاًّ من تلك الأقوام عُرف بجانب من المعاصي والموبقات والآثام تخصه. من ثم جاءهم أنبياؤهم من بينهم ليبيِّنوا مَواطِن الخطأ وجانب المعصية في سلوكهم. لكنَّهم في غالبيتهم كانوا يصمُّون آذانهم ولا يستجيبون لدعاتهم من الأنبياء. بل هم ــ فوق ذلك ــ كانوا يناصبونهم العداء، ويعملون على مناوأتهم والكيد لهم. وذهب بنو إسرائيل إلى أبعد من ذلك فكانوا يقتلون أنبياءهم.
.. فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (المائدة:70)
من هنا حقَّ القول على أولئك جميعاً، وحلَّ بهم العذاب بأسلوب مختلف لكلٍّ منهم: الطوفان والموت غرقاً.. ريح صرصر العاتية.. حجارة من سجيل.. الخسف في الأرض ودمار الديار والبنيان.. القحط.. والنقص في الثمرات.. وغيرها من صور العقاب الإلهي.
وقريباً من نهاية سورة هود تقول آيتان تحدِّدان حالةً بشريةً أرادها الله، كواحدة من سننه في خلقه، إذ يقول سبحانه:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود:118-119)
مرة أخرى نتساءل:
ألا يثير الدهشة والعجب أن يكون هذا تماماً هو حال البشرية اليوم، على الرغم من دعاوى التقدم والتطور والحداثة والعقلانية، وأخيراً الحرية والديمقراطية..! وما إلى ذلك من أقوال.. مجرد أقوال لا نصيب لها من التحقق على أرض الواقع.
كانوا على الدوام مختلفين.. ولا يزالون مختلفين..
وعلى الرغم من هذا الفيض الزاخر من القَصَص تقول آية أخرى، في نهاية السورة، تعقيباً على ما ورد من قصص الرسل وما آلت إليه أحوال أقوامهم من جهة، ولكي يكون عظة وعبرة وذكرى، وتثبيتاً لرسول الله في صراعه وجهاده من جهة ثانية.
وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (هود:120)
وفي سورة النساء يقول تعالى في المعنى ذاته:
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء:165-166)
قصص الأنبياء والأقوام الذين أرسلوا إليهم، كما وردت في القرآن الكريم، لم تكن شائعة في تلك الأيام، أو معروفة لدى عامة الناس وخاصتهم على حدٍّ سواء، فأخبارهم لم تكن مرويَّةً أو مدونةً أبداً. فلا كتب التاريخ ولا أيّ مصادر أخرى تعرَّضت لشيء من ذلك بإجمال أو بتفصيل. كان القرآن أول من عرض لقصَصَ هذه الأقوام. ولم يحاجَّ أحدٌ محمداً يومئذ في ذلك.
من جهة ثانية لم تكن هذه القصص من المقومات الضرورية، أو الأدوات أو العوامل اللازمة لدعوة يبتغي صاحبها تزعُّم قومه ليس إلا. وما كان لها أن تلعب دوراً في تحقيق طموح هو محتاج إليه، هذا لو أننا أخذنا المسألة على أنها أخبار وقصص تروى لمجرد الإمتاع أو تزجية للفرغ، فما بالك بالجانب الآخر فيها. وهو كيفية ورودها كصيغ ونصوص على هذا الوجه من الإعجاز والتفرد، وما تنطوي عليه من مضامين وتعاليم تلمُّ بسائر شؤون الحياة، والكون والإنسان، وما يعقب الحياة الدنيا من موت وأخرة ومصير.
نلاحظ هنا ان الرسل الذين جاء القرآن على ذكرهم ليسوا كل الرسل الذين بعض الله بهم إلى أقوامهم .. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24). فمن هؤلاء من لم يذكرهم القرآن، مما يؤكد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يختلق قصص الأنبياء، ولم يدِّع العلم بما لم يعلمه الله. يقول تعالى مخاطباً نبيّه في شأنهم:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (غافر:78).
* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس