الفصل العاشر
النبوءات المعرفية زمن التنزيل وبعده
[align=justify]
النبوءات المعرفية في القرآن
»دلالة المصطلح«
النبوءة المعرفية غير النبوءة العلمية. الأولى هي ما يتصل بأحداث سوف تقع، وتنبئ بوقوعها قبل أوانها، بزمن قصير أو على مدى بعيد. فهي ما برحت طيَّ الغيب. تتضمن النبوءة من هذا القبيل كذلك ما سوف يكون عليه حال البشر، أو حال جماعة منهم في قادم الأيام. ما سيصدر عنهم من سلوك، أو ما سوف يتعرضون له من أحداث مصيرية، قد يكون فيها الخير لهم وقد يكون غير ذلك. وهي قد تتعلق بالمسلمين كما تتعلق بغيرهم. من قبيل ذلك الآيات الكثيرة التي تصف اليهود في مسلكهم كخاصية تلازمهم، وما يصدر عنهم بحسبها في المستقبل. كمسألة عدائهم للمسلمين، وسعيهم الدؤوب للإساءة إليهم وتشويه صورتهم كأمة، ومعتقدهم كدين. وهو ما يجري اليوم تماماً، نعيشه يوماً بيوم. كما كان هذا دأبهم فيما مضى منذ عهد الرسول عليه السلام. ومنها ــ في حالة مختلفة ــ هزيمة الروم أمام الفرس، ثم انتصارهم عليهم بعد ذلك ببضع سنين. منها كذلك نبوءات للرسول عليه السلام كثيرة كتصويره لحال المسلمين في زمن قادم بأنهم سوف يصبحون ضعافاً متخاذلين لا وزن لهم في العلاقات الأممية »غثاء كغثاء السيل«، وتقليدهم الأعمى لمن يعادونهم من غير المسلمين الذين »لو دخلوا جحر ضبِّ لدخلوه من ورائهم«.
أما النبوءة العلمية فتتصل بقضايا العلوم عامة. ما سوف يتوصل إليه العلم من كشوف وما يحققه من منجزات تظهر تباعاً وعلى مراحل متساوقة مع تطور البشرية علمياً ومعرفياً، في مختلف العصور القادمة. وهي كثيرة جداً حفل بها القرآن الكريم، وتحقق الكثير منها منذ التنزيل وحتى الآن. نعرض لنماذج منها في مكان آخر من هذا الكتاب.
وقد يكون غنياً عن البيان القول بأن النبوءة المعرفية أكثر شمولاً وأعم إحاطة من العلمية. ذلك أن هذه الأخيرة فرع من الأولى في حقول علمية مختلفة محددة محصورة في نطاق العلم وما يتصف به من دقة ومقاييس صارمة. الكشف العلمي يظل، في سائر الأحوال، جزءاً من (المعرفة) التي تتصف بالشمول ولا تقف عند حدود. من هنا تندرج المعارف العلمية تحت عنوان (المعرفة) الواسع سعة الحياة نفسها.
* * *
تنزلت النبوءات قرآناً على الرسول محمد صلعم في نواحي شتى منها ما تحقق في عهده،ومنها ما تحقق بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بزمن وجيز، أو مستقبل بعيد. وقد جاء تحقق هذه النبوءات مصداقاً وتصديقاً لكلام الله، وتأكيداً على مصدر القرآن الذي كان خصوم الرسول يشكِّكون فيه. وقد كان يكفي هؤلاء المتربصين، الباحثين عن ثغرة، كنقطة ضعف، ينفذون من خلالها، تدعيماً لمواقفهم المناوئة ودعواتهم الباطلة في المجتمع القرشي، ثم المحيط العربي من حولهم في شبه الجزيرة العربية. كان يكفي هؤلاء أن يتنبأ محمد بأمرٍ ما ثم لا يتحقق، فتكون في ذلك نهاية دعوته وإبطالها على ملأ من قومه والناس أجمعين. إذ سوف ينبري هؤلاء عندئذ للتشهير بصاحب الدعوة وإشاعة بطلانها بعدم تحققها. وبسبب ما ران على أبصارهم من غشاوة لم يسأل أولئك أنفسهم : من أين استمد محمد تلك الثقة بأن ما يتنبأ به سوف يتحقق بالتأكيد، وأنه لن يكون هو الذي يسعى لتكذيب نفسه. ولو في أدنى الاحتمالات، في الوقت الذي لم يكن مضطراً إلى شيء من ذلك. لماذا يضع نفسه في مأزق من هذا القبيل ــ على خطورته ــ لاسيما وأن رسالته لاتقوم، أولاً وأخيراً، إلا على أرضية تصديق الناس لها، وإيمانهم بصوابها وصدقها؟ ألم يخطر لهؤلاء أنه سوف يكون حريصاً، غاية الحرص، على ألا يأتيهم بما قد تبطله الظروف والأيام، في أمور غيبية تتعلق بالمصائر والمقادير في حياة الأفراد والأمم؟ يصدق هذا لو كان محمد هو صاحب القول حين لا يتحقق منه شيء.
وتكون الدهشة أكبر عندما تتحقق نبوءات تتعلق بمصير صاحب الدعوة نفسه، حياة أو موتاً، نصراً أو خذلاناً، فضلاً عن مصائر دول وشعوب معاصرة، وأخرى لم تنشأ بعد. إحدى هذه النبوءات ذات صلة بمصير محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، هي وعد الله له بالعصمة من الناس، وأن الناس هؤلاء لن ينالوه بأذى، على الرغم من العداوات الكثيرة من حوله، والنوايا المبيَّتة ضدَّه، والمؤامرات المتربِّصة به، والمعارك الشرسة التي لم تفتر بينه وبينهم على مدى حياته كلها من قريش وغيرها، من العرب حيناً، ومن اليهود الذين سعوا إلى الغدر به حيناً أخر. بل لقد بلغ الأمر بيهود المدينة أن دسّوا له السمَّ في طعامه. أما مؤآمراتهم مع قريش و الأحزاب في غزوة الخندق(*) فكان من شأنها – لو قيَّض لها النجاح – أن تودي بحياة محمد ومن معه، ولكن الله نجَّاه من كل ذلك تحقيقاً لوعده. عاش محمد صلى الله عليه وسلم حياته كلها بعد ذلك في صراع قلما يشبهه صراع. كان صراعاً محفوفاً بالخطر في كل لحظة. ثم توفي على فراشه تحقيقاً للنبوءة وكما أرادها الله سبحانه. فهل كان من الحكمة في شيء أن يعلن على الملأ أنه سوف ينجو من كل ما قد يحيكون له من مؤامرات، وسينجو كذلك من كافة الحروب القائمة والقادمة ؟ وأيُّ إنسان لن تساوره الشكوك والمخاوف في مثل هذه الأحوال على كثرة الخصوم وشدّة لددهم ومراسهم ؟ ألن يؤخذ إعلانه حول (العصمة من الناس) على محمل التحدي الذي سوف يحملهم حملاً على السعي الحثيث لمواجهة ذلك التحدي؟ لاسيما وأنهم إن أفلحوا في الإيقاع به فلسوف يقضى على دعوته التي جاءهم بها. لقد كان أسهل شيء عليهم أن يقدموا على فعلتهم لكي يفرغوا من هذه القصة التي أقضَّت مضاجعهم. أكثر من ذلك صرف محمد، بعد نزول هذه الآية، من كانوا قائمين على حراسته. ثم أمضى بقية حياته دونما حراسة ولا حماية. ولقد تعرض لأكثر من محاولة اغتيال بعد ذلك. فقريش عملت فعلاً ما كان متوقعاً منها. تآمرت مع عدد من القبائل، من بطون قريش لإنفاذ المهمة. اختار القوم من كل قبيلة رجلاً لمهاجمة محمد. تضمنت الخطة أن يضرب تجمُّع القبائل محمداً بسيوفهم معاً ضربة رجل واحد. لكي يتفرق دمه في القبائل، ولا تكون لبني عبد مناف قدرة على محاربة قبائل العرب مجتمعة. النتيجة كانت مضمونة، فيما توقعوا. ولماذا لا تكون كذلك؟ فالمهاجمون رجالٌ كثرٌ أشدَّاء، والهدف فردٌ بلا حماية؟ لقد أيقنوا أن حرباً لن تقوم، إثر ذلك، بينهم وبين بني هاشم، الذين قد يرضون بالدية، لاسيما وأن من بين بني هاشم من لم يتبعوا محمداً. ولم يدخلوا في الإسلام.
وتحدث معجزة أخرى ــ ومحمد والصديق مهاجران في الطريق إلى المدينة ــ عندما أعلنت قريش عن جائزة قدرها مائة ناقة لمن يوصلها أو يبلغها عن محمد وصاحبه: أقبل على قريش رجل أخبرها أنه رأى ثلاثةً مرُّوا عليه، يعتقدهم محمداً وبعض أصحابه. وكان سراقة بن مالك حاضراً فقال: إنما هم بنو فلان، وذلك لكي يضلل الرجل وليفوز هو بالجائزة. عاد إلى بيته وتدجَّج بسلاحه، وامتطى فرسه، وانطلق إلى الناحية التي ذكر الرجل. بدأت الشمس تنحدر، وبدأ محمد و أبو بكر يفكران في امتطاء جمليهما (بعد أن استراحا في ظل شجرة)، إذ كان سراقة قيد البصر. وكان جواده قد كبا به قبل ذلك مرتين. لكز جواده، لكن الجواد كبا كبوةً عنيفة ألقت بالفارس من فوق ظهره. تطيرَّ سراقة وألقي في روعه أن الآلهة – حسب مفهومه – مانعةً منه ضالَّته، وأنه معرِّضٌ نفسه لخطر داهم إذا هو لم يكفَّ عن محاولته. عاد أدراجه وعمد إلى تضليل من يطارد محمداً وصاحبه. تابعا رحلتهما المضنية إلى أن وصلا المدينة وتلقاه أهلها بالترحاب كما هو معروف)( ).
ترينا هذه القصة – التي تجمع عليها كتب السيرة – أن نجاة محمد وصاحبه كانت ضرباً من المستحيل، فيما قريش كلها تطلبه، وتعمل على الإيقاع به لولا أن منعه الله وعصمه منهم وردَّ كيدهم إلى نحورهم. وإذا ما عمد الخصوم إلى التشكيك في الآية التي وصفت الحادثة، وقد كان هذا هو شأنهم، أن يشككوا في كل شيء، إذا ما هم فعلوا فإن سؤالاً هاماً يطرح نفسه بمثابة الرد على هؤلاء: هل سيأتي محمد بآية – يختلقها هو من عنده – لكي تصف حالهما في الغار، وما اعترى أبا بكر من خوف شديد، وتطمين محمد له في حوار جرى بينهما؟ أي مصلحة له في ذلك؟ هل يعمم امرؤ يبتغي زعامة وقيادة على من يطمع في تزّعمهم وقيادتهم اختباءه في غار أو كهف، وخوفه ورفيقه كل ذلك الخوف الذي أفصح عنه أبو بكر، والذي جاءت الآية نفسها لتؤكده..!؟ أما كان الأجدى والأكثر حصافة ادِّعاء الشجاعة في هذه المغامرة، ورواية القصة على نحو آخر يكون كفيلاً بإكسابه مهابة يتوخاها في عيون من يتوجه إليهم بالخطاب؟ أولئك الذين يدعوهم إلى اتباعه والانضواء تحت رايته وزعامته؟ نعرف أن الناس قد يستعرضون شجاعتهم لا مخاوفهم في مثل هذه الأحوال…؟
تصف هذه الوقائع الآية:
إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة:40)
ونبوءة أخرى ذات طابع مختلف لتعلقها بموقف مختلف. تلك هي قصته مع عمه أبي لهب. وهي كما ترويها كتب السيرة: (صعد محمد يوماً الصفا ونادى: يا معشر قريش : قالت قريش محمد على الصفا يهتف. وأقبلوا عليه يسألون ماله؟ قال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم. أنت عندنا غير متَّهم. وما جرَّبنا عليك كذباً قط. قال فإني نذير بين يدي عذاب شديد. يابني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تميم، يا بني مخزوم، يا بني أسد. إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين. وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله. فنهض أبو لهب – وكان رجلاً بديناً سريع الغضب – فصاح: ((تبّاً لك سائر هذا اليوم..! ألهذا جمعتنا؟)) استاء محمد وهو ينظر إلى عمه يقف منه هذا الموقف. ثم ما لبث أن جاءه الوحي بقوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (المسد:1-4)
من المسائل اللافتة للانتباه، ولها من الدلالة ما يدعو إلى إعمال الفكر في هذه المسألة غير العادية. ذلك أن أبا لهب لم يسْعَ بعد سماعه ما جاء في حقه من قرآن إلى التصرف بما يبطل نبوءة أبن أخيه حول حتمية دخوله النار في آخرته. ما كان عليه سوى إعلانه إسلامه – ولو تظاهراً أمام قريش – وعندئذ سوف يُسقط في يد محمد (عليه السلام)، حيث لا يمكن عندئذ توعُّد أبي لهب بمضمون الآية. إذ هل يمكن أن يقال له: برغم أنك أعلنت إسلامك لكنك سوف تصلى النار ذات اللهب؟ وكيف يمكن ذلك وهو الذي يعلن أن الإسلام يجبُّ ما قبله؟ وحجة أبي لهب عندئذ سوف تكون قوية ومنطقية: لماذا يدخل في الإسلام إذن مادام المصير سيكون واحداً، وهو النار سواء أسلم أم لم يسلم؟ أو ــ سوف يقال ــ إن أبا لهب سيدخل الجنة ويبطل مفعول ذلك الوعد والوعيد، وينفي احتمال دخوله النار، الأمر الذي سيبطل مضمون الآيات. كيف ذلك والذي توعده هو الله؟ تناقض لا يمكن حلُّه في هذه الحالة. ولكن إرادة الله ومشيئته وعلمه بما هو كائن، وبما سيكون صرفت الرجل وامرأته عن التفكير في السعي إلى الإسلام، ولو من قبيل التحدي وإبطال مفعول النص – كما أسلفنا – لقد عاشا زمناً بعد ذلك دون أن يُلْهَما النطق بالشهادة، على بساطة النطق بها (لا إله إلا الله محمد رسول الله). لماذا لم يقولاها؟ وكيف اتفق أن يظل كلاهما على نفس الموقف؟ أليس ذلك لأن الآية توعدتهما معاً؟
كان الرجل يعرف تماماً – مما كان يعلنه محمد – أنه ليس عليه سوى النطق بالشهادة، فينجو ولا يحق عليه القول بدخول النار خالداً فيها. ولم يثنه عن موقفه المكابر المتعنّت دخول الناس في دين الله أفواجاً، ولم تصرفه عنه كافة التطورات اللاحقة التي كانت قمينة بأن تدفعه إلى تغيير ذلك الموقف، كما فعل أبو سفيان مثلاً، اقتناعاً أو رضوخاً أو مسايرة للأمر الواقع.
يرد الآن هذا التساؤل: - لماذا لم يخش محمد نفسه أن يصدر عن أبي لهب ما ينقض الوعيد الذي تنـزل في حقه قرآناً؟
وتساؤل آخر: -لماذا لم يرد محمد على أبي لهب في اللحظة ذاتها (لحظة المواجهة) بتلك الآيات (السورة)؟
الجواب هو أن الوحي تنزل عليه فيما بعد وليس ساعة الحادثة.
* * *
هزيمة الروم المؤقتة
ومن النبوءات، على صعيد مختلف ما جاء في سورة الروم:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ,. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:1-6)
كانت الحرب قائمة بين الفرس والروم. فنزلت الآية في ساعة إنتهاء المعركة تنبئ أن الروم قد غُلِبَتْ. وإذ لم تكن هنالك وسائل اتصال تحمل الأخبار إلا بالوسائل البدائية البطيئة، التي تتطلب أياماً وأسابيع وربما شهوراً، فكيف علم محمد بهزيمة الروم لحظة وقوعها على ذلك البعد (في أدنى الأرض) وأخبر بذلك مَنْ حوله لولا أن الخبر قد جاءه من السماء ..؟ ولما كان المسلمون أمْيَل إلى الروم منهم إلى الفرس يومئذ، لأن أولئك أهل كتاب. فهم أقرب إليهم على نحو ما، فقد حزن المسلمون لدى سماعهم للنبأ. أما القرشيون (الوثنيون)، فقد سرَّهم أن تهزم الروم وينتصر الفرس. بيد أن الآية نفسها لم تلبث أن طمأنت المسلمين بأن الروم سوف ينتصرون من بعد. بل إن الآية التالية حددت وقت النصر القادم ((في بضع سنين)) وذلك ما حدث فعلاً. فقد انتصر الروم، بعد سبعة أعوام، برغم القناعة التي سادت إثر هزيمتهم، لدى كثير من المعاصرين في تلك الربوع، بأنه لن تقوم لهم قائمة بعد ذلك. ولمزيد من التأكيد، ولأن الأمر موثوق تماماً بأنه لابد واقع أُتبعت الآية المتعلقة بانتصارهم بآية التأكيد ((وعد الله لا يخلف الله وعده)).
يرى علماء معاصرون أن (أدنى الأرض) تعني المكان الأخفض في الأرض. وأن الموقعة بين الفرس والروم وقعت هناك، في وادي الأردن تحديداً. حيث إن هذه المنطقة ــ وفيها البحر الميت ــ تنخفض عن سطح البحر بنحو من خمسمائة متر. وليس هناك مكان أخفض منها على الكرة الأرضية.
هذه الحقيقة المدهشة تؤكد أيضاً أن مصدر القرآن هو الله سبحانه، لعجز أي كان، في ذلك الزمان، عن معرفتها جيولوجياً، الأمر الذي لم يعرف إلا في زمن متأخر.
كيف تسنى لمحمد أن يتأكد من هذه الوقائع الشائكة، وهي ما برحت في طيّ الغيب؟ وكيف يتفق له أن يصف الناس بأن أكثرهم لا يعلمون لو كان حريصاً على خطب ودِّهم على حساب الحقيقة والمبدأ؟ بل ولماذا يتصدى لمثل هذه المسألة الحساسة والخطيرة أصلاً، والتي كان من شأنها الإساءة لمسعاه إلى الزعامة فيما لو لم تتحقق لو كانت الزعامة رائده؟ وهو إذ يدمغهم بالجهل لما وقع وما سوف يقع بعد بضع سنين إنما يؤكد في الوقت نفسه أن مصدر معرفته وعلمه بكل ذلك، هو الواثق العليم بما وقع وسوف يقع في الزمن القادم.
* * *
التنبؤ بموت النبي عليه السلام
وكما سلفت الإشارة، ليس في وسعنا أن نعرض لكافة النبوءات التي تحققت، سواء في عهد الرسول أو من بعده. ولكننا نشير إلى واحدة منها تدعونا إلى التسليم بأنه (عليه السلام) لم يكن ينطق عن الهوى. قدم الرسول في حجة الوداع لخطبة الوداع الشهيرة وللآية الأخيرة من القرآن بالقول:
((أيها الناس. اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بموقفي هذا، أبداً.
ثم مضى يلقي خطبته، كما أوردتها كتب السيرة. ولما أتمَّها نزل عن ناقته القصواء، وأقام حتى صلى الظهر والعصر. ثم ركبها حتى بلغ الصخرات. وهناك تلا عليهم قوله تعالى:
..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ ديناً.. (المائدة:3)
ولما سمعها أبو بكر بكى إذ أحسَّ بأن النبي وقد تمت رسالته قد دنا يومه الذي يلقى فيه ربه)( ).
أليس عجيباً أن يتنبأ إنسان بموعد موته وهو ليس في حالة مرض؟ وليس هناك مقدمات أو موجبات ذلك أو أسبابه الداعية. كان في تمام صحته وقوَّته، ومن العمر لم يتجاوز الثالثة والستين، وهي سنٌّ عطاء عاش كثيرون في تلك الأيام أطول منها، ومنهم أحد أصحاب المعلقات (زهير بن أبي سلمى) الذي يقول:
رأيت المنايا خبط عشواء من تُصِبْ تُمِتْهُ ومن تخطئ يُعمَّرْ فيهرمِ
سئمت تكاليف الحياة ومن يَعشْ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
لم يكن هناك سبب ظاهري، واحد يدعوه إلى الاعتقاد بأنه لن يلقاهم بعد ذلك العام، بل وأن يعلن ذلك على ملأ من أصحابه وسائر المسلمين، وعلى محمل أن الأمر حتمي الوقوع. كانت المسألة بينه وبين ربِّه وحياً.
((بدت إثر ذلك إشارات توحي باقتراب التحاقه بالرفيق الأعلى. فلقد أرِق ذات ليلة أول ما بدأ يشكو. وطال أرقه. وحدثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام من الصيف فيما حول المدينة. خرج ولم يصطحب معه أحداً سوى مولاه أبي مويهبة. ذهب إلى بقيع الغرقد حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة. فلما وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: ((السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. يتبع آخرها أولها. الآخرة شرٌّ من الأولى)). حدث أبو مويهبة أن النبي قال له أول ما بلغا البقيع ((إني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي)). فلما استغفر لهم وآن له أن يؤوب قال ((يا أبا مويهبة. إني قد أتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)). قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي: فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فقال: ((لا والله يا أبا مويهبة. لقد اخترت لقاء ربي والجنة))..
(مرض النبي واشتد به المرض. وخرج إلى الناس تثقله أكبر الشواغل: جيش أسامة، ومصير الأنصار من بعده، الذين أوصى بهم قبل ذلك ببضعة أيام، وكان مريضاً بقوله: (يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي( ) التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم). ومصير الأمة التي ربط الدين الجديد بينها. لذلك حاول أن يقوم في غده ليصلي بالناس كما عودهم، فإذا هو لا يقدر، إذَّاك قال: (مروا أبا بكر فليصلي بالناس). صلى أبو بكر بالناس كأمر النبي... ( ) (وبلغت به الشدة في المرض حدّاً آلمه. وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم. وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل لابنته الواحدة الباقية له من عقبه. لذلك كانت إذا دخلت على النبي قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه. فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته، فقال: مرحباً يا بنيتي. ثم أجلسها إلى جانبه وأسرَّ إليها حديثاً فبكت. ثم أسر إليها حديثاً آخر فضحكت. فسألتها عائشة في ذلك، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفي ذكرت أنه أسرَّ إليها أنه سيقضي في مرضه هذا فبكت. ثم أسرَّ إليها أنها أول أهله يلحقه فضحكت، وكان يعاني من الحمَّى أشد الكرب، حتى قالت فاطمة يوماً وقد حزَّ الألم في نفسها لشدة ألم أبيها: واكرب أبتاه! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم. يريد أنه سينتقل من هذا العالم عالم الأسى والألم)( ) وكان عنده (صلى الله عليه وسلم) أول ما اشتد به المرض سبع دنانير، خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، لكن اشتغالهم بتمريضه أنساهم تنفيذ أمره. فلما قام يوم الأحد الذي سبق وفاته سألهم: ما فعلوا بها؟ فأجابت عائشة إنها ما تزال عندها. فطلب إليها أن تحضرها. ووضعها في كفه ثم قال: (ما ظن محمد بربه لو لقيه وعنده هذه) ثم تصدق بها على فقراء المسلمين.
ولما شقَّ عليه النزع توجه إلى الله يدعوه (اللهم أَعنِّي على سكرات الموت). قالت عائشة: (وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول ((بل الرفيق الأعلى من الجنة)) قلت: خيِّرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض الرسول بين سحري( ) ونحري لم أظلم فيها أحداً..) كان ذلك يوم الاثنين من حزيران عام 632 م.
وقد نستخلص من هذه النبوءة تحديداً معاني كثيرة ذات دلالات بالغة. لقد كان في قصة وفاته عليه السلام أكثر من نبوءة على أكثر من صعيد، تحققت جميعاً. منها تنبؤه باقتراب رحيله. وإذا خطر بالبال سؤال: لماذا لم يتنبأ بيوم الوفاة أيضاً وتحديداً، بحيث ورد في خطبة الوداع قوله. (لعلي لا ألقاكم). (لعلًّ) لاتقطع ولا تحسم، هي الانتظار والاحتمال والتوقع والتمني وما ذلك إلا لأن الله لا يطلع على غيبه أحداً في مسائل منها الموت. و(أحداً) تشمل هنا الجميع دون استثناء، وإلا تناقض ذلك مع قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان:34)
نبوءة أخرى ضمن النبوءة ذاتها في هذه المرحلة، هي حديثه إلى ابنته الرضية فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وإبلاغها أنها سوف تكون أول من يلحق به من آل البيت. وذلك ما حدث، فقد توفيت رضي الله عنها عقب وفاة أبيها بنحو من ستة أشهر، وكانت بالفعل أول المتوفين من بعده من آل البيت. وما من شيء كان يشير يومئذ أو يوحي بأن فاطمة، المعافاة القوية – بالمقاييس الدنيوية العادية، في حساب الصحة والمرض – على أبواب الرحيل بمثل هذا القرب.
* * *
نبوءات تحققت في تتابع حتى عصرنا
كذلك نبوءته فيما حدَّث به أهل القبور في حضور مويهبة مولاه. يخاطب أهلها بالقول ((أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم..)). ألم يحدث ذلك فيما بعد؟ لم يمض وقت طويل حتى جاءت الفتنة الكبرى لدى مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وما ترتب عليها من فتن تلاحقت. وفتنة كبرى في حرب معاوية – للاستئثار بالخلافة – والإمام علي كرم الله وجهه، والتي قضى فيها كثير من الصحابة والمسلمين ظلماً، فشكل ذلك خسارة فادحة للإسلام والمسلمين. ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار الخديعة التي تمت في قضية ما سمي بالتحكيم، التي أفضت إلى خلع أبي موسى الأشعري لصاحبه عليّاً كرم الله وجهه، في حين ثبَّت عمرو بن العاص صاحبه معاوية، خلافاً لما اتفق عليه بين الحكمين. وكان لذلك ما كان من عواقب أليمة وخطيرة معروفة. ثم تعاقبت الفتن إثر ذلك يأخذ بعضها برقاب بعض، فكانت واحدة من أكثرها فداحة وخطراً. تركت أثرها على دنيا الإسلام، وما برحت حتى اليوم، ألا وهي فتنة مقتل سيدنا الحسين (أبو الشهداء)، ومقاتل الطالبيّين التي ينفطر لها قلب كل مسلم، كلما قرأ عنها، وعن وقائعها الأليمة على آل البيت. وليس المقام هنا متيحاً لنا الخوض في غمار هذا الحديث. ولقد جئنا بنزر يسير منه، شاهداً على صدق نبوَّة الرسول عليه السلام. وإنا لنقرأ في الأحداث والوقائع وكأنه يعيش اليوم بيننا، ويصف حالنا، كما لو كان يشاهدها مشاهدة العيان. ويكفي أن نعود لقراءة حديثه الشريف: قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً بعض صحابته:
((توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعة الطعام. قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم. وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهَنْ. فقال قائل: وما الوهَنْ يارسول الله؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت.))(*)
ألا يبدو حقاً من هذا الحديث وكأن الرسول عليه السلام يعيش اليوم بين ظهرانينا. يصف الحال، كما هو واقعنا تماماً؟ هذه الأمم المتداعية علينا – دول الغرب واليهود – يجاهرون بالعداء. بل وينقضُّون على بلاد المسلمين، بحيث لا يكاد يسلم منها بلد. والعداء اليوم موجَّه لنا وحدنا دون غيرنا، في حروب غير مبررة، واعتداءات لا تتوقف في مكان إلا لتظهر في مكان آخر. لا باعث عليها سوى عدائهم للإسلام والمسلمين. وهم يتداعَوْن فعلاً ويتجمعون من كل مكان كما يتداعى الأكلة على وليمة. يختلقون الأسباب والمبررات والذرائع الواهية التي لا تقنع أحداً، تغطية وستراً لما في دواخلهم، فما يعلنونه هو (ما يقولونه بأفواههم) والحقيقة أن (ما تخفي صدورهم أكبر). هذا كلام الله أيضاً يصف الحالة ذاتها، وموقفهم منها، وما هو عليه الحال تماماً، وكما سيقفونه على الدوام، إذ هم الأعداء الألدَّاء منذ فجر الإسلام.
ألم يعلنوا جهاراً نهاراً – بعد زوال الاتحاد السوفياتي – أن العدو هو الإسلام كأيديولوجية، والمسلمون كأمة؟ ألم يجهر أحد رؤسائهم، بل رئيس الدولة الأهم والأكبر فيهم أنها (حرب صليبية)؟ وليس مهمّاً محاولات الاستدراك لما أسموه (زلَّة لسان) يومئذ. فاللسان حين يزلُّ فعلاً إنما يبدي ما هو مكبوت، وما يحرص صاحبه على إخفائه. زلَّة اللسان لا تأتي من فراغ في مثل هذه القضايا. وهم يستعملون تعابير معاصرة مضلِّلة ومصطلحات تمويهية تكشف عن عدائهم الدائم، كمقولة: (صراع الحضارات) التي لا يعنون بها غير (حضارة الإسلام موضوعاً للصراع مع حضارتهم حسب رؤيتهم واعتقادهم). أما نحن فكما وصفنا رسول الله أيضاً. فنحن اليوم (كثير) حقّاً. نحن ربع سكان المعمورة. مليار ونصف المليار تعداد الأمة الإسلامية. عدد هائل لأمة الإسلام، يدعو إلى المهابة – على الأقل – والردع لمن تسوِّل له نفسه الاعتداء عليها. أو هذا ما هو مفروض أن يكون عليه الحال. ولكن هذا العدد (منزوع المهابة فليس هو أكثر من غثاء (كغثاء السيل) فعلاً. لا يخيف أحداً، ولا يَرهَبْه أحد. ولا يضفي على أهله هيبة يرعاها ويخشاها من أعداء الأمة أحد.
مردّ ذلك هو تتمة النبوءة الصادقة: (حب الدنيا وكراهية الموت). عدا أولئك ممن عصم ربك من المجاهدين في سبيله هنا وهناك، يستشهدون دفاعاً عن أمتهم ورسالتها. لكنهم استثناء على أية حال. حبُّ الدنيا والإقبال عليها.. السعي وراء المال.. الجري وراء الملذات والمواقع والمناصب.. التكالب على التافه من الأمور وعارضها ... سيادة عادات الاستهلاك والترف والرفاه بغير حدود ... وإلى حدّ السفه، تعمُّ كل مكان في بلاد المسلمين، بحيث أمسوا يخشون الموت حقّاً كيلا يحرموا مما هم فيه، مما يحسبونه خيراً لهم وما هو سوى الشر الوبيل في أسوأ صوره وأكثرها انحطاطاً. في سبيل ذلك هم يضحُّون بالقيمَ والمثُل والمبادئ والتعاليم التي جاءهم بها دينهم الحنيف.
ونعود إلى السؤال الذي لا يفتأ يكرر نفسه، ولكن لابد من العودة إليه من حين لحين، ما دام هو موضوع الكتاب:
ترى لو كان رسول الله معنا اليوم هل كان له أن يصفنا بغير ما ورد في حديثه هذا؟ ألا يبدو الحديث وكأنه صدر عنه خصيصاً ليصف الوضع الراهن القائم للمسلمين في عالم اليوم؟ أي إعجاز في القول بحيث تغني بضعة سطور هي نص الحديث – عن سفر ضخم يدبّجه محلل سياسي – اجتماعي – أديب..؟ بل إن عشرات المؤلفات صدرت وتصدر من حين لآخر لو أنك أجملتها لما وجدتها في النهاية تقول غير هذا.
[/align]