عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 50 : 07 PM   رقم المشاركة : [15]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الحادي عشر
سنة الله في الكون
السلوك البشري



[align=justify]
السنن لا تتخلف
لم يغفل القرآن شيئاً من واقع الكون والحياة والإنسان دون الخوض فيه. من ثم فقد جاءت آياته محذّرة ومنذرة ومبيِّنة لكل ما فيه إنارة الطريق لهذا الإنسان في مسعاه الدنيوي ومصيره الأخروي على حد سواء، ضارباً الأمثلة، عارضاً الصور، شارحاً معللاً، ومفسراً ومعلِّماً، حتى أن ما من شأن يهم الإنسان في الدارين لم يتطرق إليه. هذه الشمولية التي وسعت كل شيء، ما كان لها أن تصدر عن فرد بمفرده، أو عن جماعة من البشر مجتمعين، وأن يضمن لها ذلك الفرد، أو تلك الجماعة، صحَّتها وصدقها على المدى الزمني القادم، فلا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها. فالرؤية البشرية، بسبب محدوديتها، لابد أن يعتريها القصور والخطأ والمحدودية. وإن هي صلحت في زمن ما، فسوف يتبين خطؤها أو ضحالتها أو قصورها في زمن لاحق. وإن هي صلحت لجماعة من البشر فإنها قد لا تصلح لسواهم . ومع ذلك تظل مسألة نجاحها نسبية في كافة الأحوال. ولابد أن تبقى موضع خلاف أو نقد أو عدم اتفاق أو معارضة، حسب مقتضى الظروف والأحوال القائمة عند ظهورها أو بعد ذلك. ولكن المستقبل كفيل دائماً بأن يكشف العيوب والمثالب وجوانب القصور. بمعنى أنه ما من نظرية إصلاحية أو مبدأ وضعي يمكن أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان. وأوضح مثال على ذلك ما شهدناه في عصرنا هذا، نظريتا الشيوعية والرأسمالية. الأولى سقطت ذلك السقوط الذريع الذي نعرف، والأخرى ليست عما آل إليه حال أختها ببعيدة. كلتا النظريتين لم تحققا للإنسان والإنسانية سوى المزيد من التعاسة والشقاء، بسبب من توجهاتهما المادية الصرفة، بعيداً عن منهج إلهي أو حتى إنساني. واليوم يتبين أن القرآن جاء للبشرية بكل ما يوفر لها سعادة الدنيا والآخرة. ولا غروَ في هذا فمصدره خالق الكون والحياة والإنسان، العالِم بما تنطوي عليه هذه الأقانيم جميعاً ، العارف لما يصلح لها وتصلح به، لأنه هو المطَّلع على الزمان، والمكان، والنفس البشرية في أحوالها جميعاً. وسنعرض في هذا الفصل عدداً من الآيات – وهي قليل من كثير – التي تصور الحالة البشرية، وآيات أخرى تنطوي على التحذير، أو لنقل على المحاذير والنذر الكونية التي يجب على الإنسان أن يمعن النظر فيها، لكي تكون معيناً له على تبيُّن منفعته وما يُصلح من شأنه، ويدخل في تقرير مصيره. من ذلك ما يصوِّره القرآن، كحالات متأصلة في البشر، كانت على مر العصور، ولم تزل أشبه بالظاهرة الكونية، وكأنها من سنن الخلق التي لا يعتريها التغيير، ولا تؤثر فيها الفلسفات المتعاقبة، ولا النظريات المتعددة، التي باءت بالإخفاق جميعاً. وبقيت سنة الله في خلقه سرمدية. لا تبديل لها، من هذه الظواهر تفاوت الناس في درجاتهم الوظيفية والاقتنائية ومستويات حياتهم واختلاف مواقعهم. كقوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنعام:165)
ولئن كان دعاة المثالية لأفلاطونية واليوتوبيا، بعيداً عن الواقعية المعاشة والملموسة، لا يحبون أن يكون الناس درجات، ثم يدعون إلى غير ذلك ولكنهم فشلوا دائماً. ونحن معهم نتمنى لو تساوى الناس في المصائر والحظوظ، ولكن ذلك ضرب من المحال لأن الله أراد غير ذلك تماماً لواقع البشر منذ وجدوا على ظهر هذه الأرض. هل تغير شيْ من هذا؟ أم أن الفوارق وتفاوت الدرجات بينهم ازدادت شدة وحدة. كما اتسعت الهوَّة، وكبرت الفجوة فبلغنا في هذا العصر بوناً شاسعاً، من الفرقة والخصومة، والضلال، والظلم، ربما يصعب إصلاحه، أو حتى على تضييق مداه.

ظواهر كونية مخيفة
من آيات التحذير والتنبيه للإنسان .. وربما الإنذار في صيغ منها:
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (لأعراف:98-99)
أهل القرى كناية عن البشر في التعبير القرآني.. ومكر الله هو غضبه وتدبيره. فهل يأمن الناس أن يقع بهم زلزال، أو يلم بهم طوفان، أو يثور عليهم بركان، أو يكتسحهم إعصار، أو أن تقوم حرب يشنَّها بشر هم أشد وأقسى وأعتى مما تأتي به الزلازل والأعاصير؟ وهل ذلك كله إلا من بأس الله، الذي قديداهم الناس وهم في غفلة من أمرهم، لاهين منشغلين بالصغائر والكبائر، أو بالخلافات والعداوات التي لا ضرورة لها لو كانوا يعقلون؟ أليس هذا هو الواقع القائم الآن وكان قائماً على الدوام؟ ومن ذا يستطيع أن يقي الناس أيّاً من أسباب الدمار آنفة الذكر؟ أوَ لسْنا نشهد أحداثاً من قبيل هذه وتلك في كل يوم، في هذا المكان أو ذاك من الأرض؟ وهل يدري أحد متى يمكن أن تحلَّ واحدة من هذه الكوارث المدمرة، سواء من حيث التوقيت أو الموقع، أو الكيفية، التي تتم بها، أو الآثار التي تنجم عنها. ناهيك عن أن يكون في مقدور أحد الحيلولة دون وقوعها، برغم منجزات العلم وقدرات التكنولوجيا المعاصرة؟ وكما كانت هذه النوازل تقع في قديم الزمان؟ ما انفكت عن ذلك اليوم. ولا يقي الإنسان شرورها غير الله حين يشاء... علوم البشر كافة لم تغيّر في طبيعتها شيئاً أبداً. الشيء الوحيد الذي يملكون بعض القدرة عليه هو: تقدير الأضرار، وحساب آثار الدمار بعد أن يقع... وليس غير..! وفي هذا السياق يقول تعالى:
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (الإسراء:68-69)
وفي سياق غير بعيد عنه يتعلق بسنن الله الأزلية في الكون والتي ليس لأحد قدرة على إحداث تغيير فيها أو تعطيلها سواه، حين يشاء:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص:71-73)
لو تخيلنا حدوث هذا: نهار متواصل تلبث الشمس فيه ساطعة طول الوقت. فما الذي سيحدث؟ سوف تحترق الأرض بمن فيها وما عليها في وقت وجيز. وسوف تختلط المواقيت والتواريخ والمواعيد لكل شيء، وليس للإنسان وحده. وأما إذا جعل الله الليل قائماً سرمداً فسوف يحل البرد ويغمر الصقيع أرجاء الأرض كلها. وسوف تختفي الطاقة وكل ما ينجم عنها. وفي الحالتين سوف تستحيل الحياة بفقدان مقوِّمَيْها الأساسيين، هذين الغائبين عن البال نظراً لاعتيادهما، ولأن ذلك لم يخطر ببال أيضاً وبحكم الألفة، حتى ليبدو وكأن لنا عهداً مع جهة ما بألا يحدث. وقد نضيف بأن الشمس لو اقتربت عما هي عليه قليلاً، أو أنها ابتعدت قليلاً لحصلت النتيجة ذاتها. الدمار ونهاية الحياة. فمن ذا الذي وضعها في مكانها هذا بعد أن أجرى حساباً دقيقاً محكماً كيما تستقر الأمور على النحو الذي نألف، وتجري الحياة في مسارها الذي نعرف؟ من ذا الذي صنع الكون على هذا النحو لكي يكون صالحاً للحياة؟ أهي المصادفات كما يحلو لبعض أدعياء المعرفة؟ ومن ذا الذي يجبر الشمس على الشروق في أوانها؟ أليس دوران الأرض على محورها، بتدبير من لدن بارئ الخلق، هو سبب تعاقب الليل والنهار، طبقاً للعلم الحديث؟ تفسِّر هذا وتقرره الآية من كتاب الله:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (لأعراف:54).
وقوله تعالى:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (الزمر:5)
وقد تحسن الإشارة هنا إلى قوله تعالى:
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (الرحمن:5)
وليس المعنى هنا الحساب الزمني بالسنة القمرية والسنة الشمسية وحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. وإنما المقصود هو أن للشمس كما للقمر نظاماً ربّانياً محسوباً بدقة لا يستطيع البشر إدراكه بحساباتهم إلا مقاربة، في جوانب أخرى من المسألة منها الحجم (الكتلة) والبعد والحرارة، وما هو مقدر ومحسوب أن يصلنا من أشعة الشمس وضوء القمر. وهذه كلها عوامل مؤثرة في وعلى الأرض ومن عليها. إلى درجات تتعلق بالوجود ذاته على ظهر هذا الكوكب.
يكفي أن نعلم بأن ما يصلنا من حرارة الشمس ليس أكثر من (جزء من 2 مليون جزء) ومع ذلك نرى ما يقع لنا في أيام الصيف من عناء، وما يصدر عنا من التشكي بسبب من شدة الهجير. حرارة الشمس في داخلها تبلغ عشرين مليون درجة مئوية فيما حرارة سطحها نحو ستة آلاف درجة. ناهيك عما يضطرم في داخلها وعلى سطحها من أعاصير وعواصف من النار والزوابع الكهربائية ــ المغناطيسية. تفاعلات نووية وهيدروجينية تنشأ عنها طاقة هائلة لا يمكن لنا أن نتصورها بقدراتنا العقلية المحدودة.
وإذا ما جاءت اليوم معطيات العلوم لتتطابق مع ما جاء في كتاب الله قبل أربعة عشر قرناً فهل يبقى مكان لمشكِّك أو مستريب يسعه غير الإقرار بأن مصدر هذا الكتاب هو خالق الكون سبحانه؟


* * *

فتنة الأزواج والأولاد وتكريم الإنسان
وآيات في سياق أخر حول قواعد كونية ثابتة ذات علاقة بالسلوك البشري والعلاقات الإنسانية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (التغابن:14-18)
الأولاد والأزواج (رجالاً ونساءً) كثيراً ما يكونون أعداء فيما بينهم. بل إن منهم من يجلب الأذى لذويه بمن فيهم الأبوين. ومنهم من يتسبب في أن يلحق بأبويه غضب الله جراء سيآتٍ وذنوب يقترفونها، ولا يحول الآباء دون وقوع أبنائهم فيها. فيما هم قادرون على ذلك، لكنهم لا يفعلون، إما مسايرة، أو إهمالاً في شؤون تربيتهم. وكم عرفنا في الوقائع المشاهدة في المحاكم والمجتمعات من عقوق أبناء لآبائهم، وما يجرُّونه عليهم من متاعب كانوا في غنى عنها لولاهم. بل ما أكثر من يتمنون لو أنهم لم ينجبوا أبناءهم هؤلاء أصلاً. أما الحالة بالنسبة للزوجات والأزواج فقد تكون أدهى وأمر، وليس في وسعنا الإفاضة فيها هنا لضيق المقام أولاً، ولأن معظمنا يعرف طرفاً منها أو الكثير عنها ثانياً. والآية تشير إلى أن الأولاد فتنة، فضلاً عن كونهم مصدر عداء وأذى أحياناً. وإن الأموال لكذلك. فالأموال قد تفضي بصاحبها إلى سوء المصير في الدنيا والآخرة. فالغنى يورث البطر أحياناً، ويغري بالسعي وراء الملذات مادام صاحبها قادراً على دفع الثمن. وإذا ما أنفق المال في غير سبيله الصحيحة كان وبالاً على صاحبه، فهو من ثم عدوٌّ له، بدلاً من أن يكون صديقاً نافعاً، يعينه على تكاليف الحياة وأعبائها، واكتساب الثواب والحسنات، إذا ما هو أنفقه في الصدقات وأعمال البر. ومن المشاهد في الحياة أنك ترى إنساناً حسن السيرة، على استقامة وهدى ولكن ما إنْ يغتني، بطريقة أو بأخرى، حتى ينقلب إلى إنسان آخر لا تعرفه. أوَ لا يكون ذلك المال أعدى أعدائه إذن في هذه الحال، حين يصرفه عن عمل الخير، وينزع به إلى مواطن الفتنة والإثم والمغريات المحرمة؟
ويصبح المال ــ عند إساءة استخدامه ــ عدواً للإنسان في جوانب أخرى تمكن الإشارة إلى شيء منها.
قد يُطمع ما يملك المرء من مال الكثيرين، ممن حوله، مما قد يعرِّضه لاحتمالات شتى منها السرقة ومنها الرشوة، ومنها رغبته ــ التي يسعِّرها المال ــ في الافتئات على العباد، أو اكتساب منافع ومزايا لا حق له فيها، وعلى حساب حقوق آخرين في مجتمعه. وهي أمور نلمسها ونراها كل يوم.
ليست هذه دعوة، بطبيعة الحال، إلى تجنب اقتناء المال وإنما هي تنبيه وتحذير للإنسان كي يتلافى ويتفادى احتمالات سلبية قد يتعرض لها إذا هو لم يتصرف في ماله على نحو سليم، ناهيك عن أن يكون مصدر المال غير مشروع.
وفي الجانب الديني كذلك. على المسلم أن يدفع زكاة ماله، فإذا هو لم يفعل كان جانب من هذا المال في عداد الأعداء بالنسبة لصاحبه. وإذا لم يؤتِ صاحب المال قرباه والمستحقين من الفقراء، تبرعاً أو صدقة فإن ذلك سوف يعرضه لسخط هؤلاء ونقمتهم، أي أنه سوف يكون مجلبة عداء له، بسبب من حرصه على اكتنازه والاستئثار به.
يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة:34-35)
ولتنظر في هذه الآيات مليّاً أيضاً:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً. فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (الطلاق:8-10)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (الملك:15-17)
ألا تثير هذه الآيات الروع في نفوسنا؟ من يضمن للبشر جميعاً – أيّاً كانت القوى والتقنيات التي يملكونها – ألاَّ يقع لهم شيء مما يتوعد الله به الضَّالين والظالمين من عباده، لأن هذا السخط غالباً ما يحلُّ بهؤلاء. وقد يصيب بأذاه من هم حوله وهم أبرياء. ففي قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (لأنفال:25) ما يؤكد هذه الحقيقة.
في منحى مختلف ينبؤنا القرآن عن إنفاق المال في وجوه مستحبة إيجابية، وعن عفة النفس نحو ما في أيدي الآخرين منه كقوله تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (البقرة:261-264)
لا ضير إذن في إبداء الصدقات، ولكن من غير منٍّ أو إيذاء للمشاعر لمن تقدم إليهم. بيد أن إخفاءها يبقى هو الأفضل. كما أننا في (الآية الثانية) نلاحظ وصفاً لفقراء في المجتمع، قد يمنعهم الخجل أو تحول كرامتهم دون اللجوء إلى المطالبة. من ثم سوف يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء مكتفين، ماداموا محجمين عن إبداء الحاجة إلى العون.
إلى هذا الحدّ يحرص القرآن على (السلوك الحضاري) بين الناس في تعاملهم. وهو يفوق، بما لا يقاس، ما يدَّعى خصومه من (حضارة). إذ هم حين يمنحون قرضاً أو يقدمون مساعدة لدولة أو لشعب ما، لا يفعلون ذلك إلا بشروط ــ سياسية غالباً ــ مجحفة مفروضة هي الثمن المقابل. وهم لا يتورعون عن الإعلان على الملأ بوسائل إعلامهم عن ذلك، مما قد يدفع بصاحب الحاجة إلى رفض المعونة أو القرض مادام المقابل هو الإذلال، وربما الاستعباد( )، وقبل ذلك أو معه إدامة حاجته إليهم، لكي يخضع في النهاية إلى إملاء اتهم السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية. وقد عرف العالم نماذج كثيرة من هذا القبيل، وما برحت هذه الممارسات قائمة حتى الساعة. بل لعلها أصبحت السياسة الوحيدة المعتمدة بين الدول الغنية والدول الفقيرة. أما فيما يتعلق بالأفراد في مجتمعاتهم نفسها، فما من أحد يقدم عوناً لأحد، حتى لو رأى أحدهم جاره – مثلاً – يقضي نحبه جوعاً وفاقة.
فما بالنا نرى محمداً عليه السلام يسمو (حضارياً) إلى ذلك المستوى الذي عرفنا؟ وهو يدعو الناس كافة إلى الارتقاء في سلوكهم ومعتقدهم لصالح الإنسان، فرداً ومجتمعاً، دون أن يتيه عليهم، أو يدَّعي الفضل. بل إنه حين سها- على سبيل المثال- عن الاهتمام بابن أم مكتوم لم يتردد في إعلان الآيات التي جاءت تعاتبه وتأخذ عليه ذلك الموقف، مع أنه عليه السلام لم يقدم على ما يجرح ابن أم مكتوم في كرامته. فهو لم يتعمد تجاهله استصغاراً لشأنه، وإنما لظنِّه أن الاهتمام بمن كانوا لديه من علية القوم في قريش كان أولى وأجدى للدعوة. أي أن المسألة (ترتيب أولويات) لصالح الدعوة نفسها. إذ رأى أن تأجيل الحديث إلى ابن مكتوم لن يكون فيه ضرر يصيب الرجل. لم يُسبَق محمد إلى مثل هذا من قبل. أما قومه فقد كانوا على العكس تماماً: غلاظ الطباع، قساة القلوب، خشني السلوك، وأبعد ما يكونون عن مسلكه الحضاري الذي لا يضاهى.
ليس في وسعنا المضي في عرض الشواهد والبينات على مصدر القرآن إلى ما لا نهاية، سواء من آياته أو من شواهد أخرى، في حياة الرسول وزمنه أو الأزمنة اللاحقة حتى وقتنا الراهن. ليس في إمكاننا الإفاضة، بله الإحاطة إلا بالنزر اليسير مما احتواه الكتاب الكريم.
أوَ ليس عجزنا هذا، في القديم وحتى اليوم، في حدِّ ذاته أسطع برهان، وأنصع دليل على عظمة كتاب الله وأمانة رسوله؟ لا سيما إذا ما ذهبنا إلى مقارنة عصره بعصرنا، آخذين في الاعتبار فارق الإمكانات، ودرجة التقدم الإنساني في كلٍّ من العصرين، وفي مضمار العلم على وجه الخصوص.
أو ليس في هذا ما يقطع باليقين بأنه لم يكن لمحمد من الأمر شيء في مسألة القرآن، سوى تكليفه بحمله رسالة هدى ورحمة للعالمين؟


* * *

خرق السنن والعادات الإسراء والمعراج والعلم
كانت واقعة الإسراء والمعراج برسول الله عليه الصلاة والسلام (عام 621م) مثار جدل واختلاف منذ نيف وأربعة عشر قرناً، وما برحت كذلك حتى يومنا. وقد تنوعت وجوه الخلاف وأسبابه، وهي في جملتها ــ إذا استبعدنا غير المصدقين والمنكرين ــ تدور حول ماهية الإسراء، والمعراج. هل كانت بالروح فقط ــ كالرؤيا مثلاً ــ أم كانت بالروح والجسد. ولكل من أصحاب وجهتي النظر حججه وحيثياته لتدعيم وجهة نظره.
في معجزة الإسراء يقول الله تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء:1)
وفي معجزة المعراج يقول تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (لنجم:1-18)
هذه الآيات واضحة الدلالة، لا تحتمل التأويل بعيداً عما نصَّت عليه. تصف الآيات مشهداً تراه العين وتلمسه الحواس. كما إنها تعيِّن المكان (المسجد الحرام والمسجد الأقصى)، كما تشير إلى الآفاق الكونية والمغيبات التي رآها الرسول رأي العين في حين يعجز الخيال الإنساني عن ارتيادها.
العلم الحديث (ومنه علم الروح) لا ينفي إمكان حدوث الإسراء والمعراج بالروح والجسد، وإن كان لا يستطيع تعليل الظاهرة الخارقة على نحو قاطع. يعترف العلم بأن هناك ظواهر تحدث في الكون، وأن هناك أسراراً فيما وراء الطبيعة (الميتافيزيق) يقف أمامها حائراً، بل عاجزاً عن إدراك كنهها وكيفية وقوعها. يتخذ العلم في هذه الحالات موقف الحياد، فلا ينفي أو يثبت، لأن وسائله للنفي أو الإثبات تكاد أن تكون إما متعادلة وإما منعدمة.
كان الناس عامة، في عهد الرسول عليه السلام ــ وإلى زمن طويل بعده ــ على قدر من البداءة من الناحية العلمية تجعل من العسير عليهم أن يدركوا بعقولهم وحدها، احتمال حدوث ظاهرة عجيبة خارقة لنواميس الطبيعة وسنن الكون وقوانينها الثابتة كما عرفوها في زمانهم.
ونحن لا نجد هنالك من الأسباب المقنعة ما يدعو إلى إنكار قصة الإسراء والمعراج. الذين ينكرونها يعجزون تماماً عن الإتيان بدليل على بطلانها، اللهم إلا أن يكون الدليل هو أن عقولهم عجزت عن فهمها، كما أسلفنا، وأن خيالهم قصر عن تصورها. هذا القصور طبيعي في الإنسان. ولكن هل معنى ذلك أن كل ما لا تسمو إليه المدارك، ولا تستوعبه الأفهام مستحيل الوقوع أو الوجود؟ لو أخذ الناس بهذا المنطق لأنكروا الرسالات والعقائد وما وراءها إذ إن ذلك من الغيبيات. لكن هؤلاء ينسون أن هذا من صنع الله القادر على كل شيء، ولا حدود لقدرته وسلطانه، وأنه هو واضع السنن، وهو من ثم القادر على خرقها وإبطال مفعولها حين يشاء.
أضف إلى ذلك أن الحسابات الفلكية الكونية غالباً ما تقع خارج نطاق حساباتنا ومداركنا. وقد سبق أن أوردنا آيات كريمة في مسائل الزمن الكوني والسرعات الفلكية المتفاوتة بين جرم وآخر. فأيام الله التي يبلغ الواحد منها ألف سنة مما نعد، ومنها ما يعدل خمسين ألف سنة. وهناك غير ذلك مما لا نعلم بالتأكيد. فأي غرابة إذن بأن يُسرى برسول الله عليه السلام جسداً وروحاً إلى المسجد الأقصى من المسجد الحرام في مكة. أو يعرج إلى السموات العلى حتى يكون (قاب قوسين أو أدني) من (سدرة المنتهى) إذا ما شاء الله ذلك؟
الروح الأمين يعرج إلى السماء بالسرعات آنفة الذكر، وروح الكائن البشري، حين تغادر أجسادنا ــ أثناء النوم أو عقب الوفاة ــ تنطلق إلى حيث يشاء لها الله من آفاق بسرعات لا يعلم حقيقتها أحد غيره.
ونحن في عصرنا الراهن نعرف عن طريق العلم الكثير مما كان يصنَّف فيما مضى ضمن العجائب والغرائب. نعرف الآن عن سرعات فيزيائية مختلفة كسرعة الصوت، والسرعة التي تتخطى حاجز الصوت (كطائرة الكونكورد) على سبيل المثال، وسرعات السفن الفضائية. كما نعرف سرعة الضوء التي تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، بحيث لا يصلنا ضوء الشمس إلا بعد ثماني دقائق من صدوره عنها. أي أن الشمس التي نراها في هذه اللحظة ليست سوى الشمس التي كانت هنا حيث نراها (بالوهم) قبل ثماني دقائق. بمعنى أنها غادرت نقطة الرؤية هذه منذ ثماني دقائق.
ليس بخافٍ على أحد، فيما نرى، الاختلاف في أيام الكواكب والنجوم في سائر الأجرام السماوية. إن مجموعتنا الشمسية ذاتها تختلف السرعات الكوكبية فيها بين كوكب وآخر، حسب بعدها عن الشمس، فيوم الأرض غير يوم المشتري ويوم أورانوس أو نبتون أو المريخ، يختلف واحدها عن الآخر. كذلك تختلف أيام أقمارها الدائرة في أفلاكها، فلكل قمر سرعته وزمن دورته التي تشكل يومه أو عامه حسب بعده عن كوكبه من جهة، وبعدهما معاً عن مركز الشمس. مع علمنا أيضاً بأن لبعض الكواكب أكثر من قمر، فهناك أقمار المشتري وقمري المريخ وحلقات زحل وغير ذلك مما ليس هنا مكان تفصيله.
من الخوارق المعجزة المشابهة في مسألة الرفع والانتقال بالروح والجسد، رفع سيدنا عيسى عليه السلام عن أرضنا إلى رحاب الله سبحانه. يقول تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (آل عمران:55)
ويقول تعالى:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء:157-158)
هذه الآيات واضحة الدلالة على أن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام رفع إلى السماء جسداً وروحاً ولم يعد. ويرى مسيحيون ومسلمون أنه عائد آخر الزمان ليشيع في الأرض المحبة والسلام.
معجزة الإسراء والمعراج إذن لم تكن الوحيدة في تاريخ البشر. المسيحية والإسلام متفقان على وقوع المعجزة، تؤكد كل منهما وقوعها لنبيِّها على اختلاف في الحالة والظرف والمعطيات، كما شاء لها الله أن تكون. ولسنا هنا بصدد عرض لموقف كل منهما أو تفسيره للظاهرة بقدر ما نحن في صدد تبيان حقيقة كونية، هي إمكان وقوع المعجزة بقدرة الله العلي القدير، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
هذه الحقيقة تستبعد احتمال أن يكون الإسراء مجرد رؤيا. إذ لو أنها كانت كذلك لما كان لها أن تأخذ هذا الحيِّز العريض من الجدل، والأخذ والرد في شأنها وفي ماهيتها. بل ما كان للرسول أن يتحدث عنها كمعجزة وقعت له وأكرمه الله بها لغاية يعلمها، ولها دورها في التمكين للرسالة. هذا فضلاً عن القرآن الذي نزل بشأنها تصرِّح آياته بخطورة المسألة وأهميتها، إذ تبدأ آية الإسراء ممجدة اسم الجلالة، وعظمة قدرة الله بالقول سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، ثم تحدد الزمان في قوله ليلاً وتحدد المكان في قوله مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، ثم الغاية من الرحلة وهي قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. أما في شأن المعراج فسورة النجم تصور وقائع محسوسة مرئية بالعين، مستنكرة إنكار الرؤية العيانية التي أتيحت للرسول عليه السلام، إذ تقول بعد وصف واضح بيِّن مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. ثم يأتي تحديد شديد الوضوح في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.
أيعقل أن يكون هذا الخطاب الصريح المحدد في نصوص الآيات القصيرة السريعة، الجازمة المثيرة للرهبة، أيعقل أن يتعلق هذا (برؤيا)، مجرد رؤيا قد تعرض لكثير من البشر دون أن تثير استغراباً أو أن تكون مدعاة للعجب؟ (الرؤيا) في حد ذاتها اعتاد الناس عليها وإن تكن في حالات خاصة، ولكن الله أراد أن يرينا معجزة حقيقية خارقة لما اعتاده الناس، وإلا فأين وجه الإعجاز في المسألة؟
ولمزيد من التوضيح قد يحسن أن نتحدث عن خوارق خاصة بالزمن. منها قصة أهل الكهف ومكوثهم ثلاثمائة وتسع من السنين في كهفهم، وعند صحوهم حسبوا أنهم لم يلبثوا فيه أكثر من يوم أو بعض يوم( ).
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (الكهف:19)
هذه التوصيات لموفدهم كي يحضر لهم طعاماً كانت بسبب من تصورهم أنهم مازالوا يعيشون في عهد الطاغية الذي دفعهم إلى الاختفاء عن الأعين في ذلك الكهف.
ومنها قصة (عزير) الذي أماته الله مائة عام ثم أحياه بعدها ليجد طعامه لم يتغير طعمه ولم يفسد. وعزير يحسب أيضاً أنه قضى يوماً أو بعضه نائماً وليس أكثر. يقول تعالى في شأنه:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:259)
وهناك من الخوارق معجزات كرَّم الله بها رسله، وهي كثيرة منها:
إحياء سيدنا عيسى عليه السلام للموتى بإذن ربه. وإبراء المرضى، وغير ذلك من معجزات أجراها الله على يديه.
يقول تعالى فيه عليه السلام:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ. وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران:48-49)
ومنها ما وقع لسيدنا إبراهيم في مواقف كثيرة، كإحياء الطير بعد أن قطعه إلى أربعة أجزاء وضع كلاً منها على جبل ثم دعاهن إليه فعاد طيراً حياً كاملاً بإذن الله.
ومنها ما كان يقع لسيدنا سليمان من تسخير للجن، ونقل لعرش بلقيس في اقرب من لمح البصر، وغير ذلك من خوارق ومعجزات ذكرها القرآن الكريم وتحدث بها رسول الله عليه السلام.
الأمر الذي لاشك فيه إذن أن العقل وحده لا يمكن أن يكون حكَماً في سائر المسائل البشرية والكونية، فهو غير مؤهل لذلك. العقل لا يدرك بقدراته النسبية المحدودة من حقائق الكون الهائل المذهل إلا النزْر اليسير، مصداقاً لقوله تعالى:
.. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (الإسراء:85)
وقوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (آل عمران:66)
وقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النحل:74)
ليس هذا القصور في العقل البشري، وفي أجهزة الإنسان الحسية بالذي ينفي المعجزات والمغيبات والحقائق الكونية الخافية عن الإنسان. وعلى الرغم من أن الإنسان حقق إنجازات كثيرة عن طريق العلم والتجربة والممارسة، إلا أن هناك حقائق كثيرة وأسراراً أكثر ما برحت طيَّ الخفاء، قد يكشف العلم عن بعضها، ولكنه بالقطع لن يتوصل في أي وقت من الإلمام بأكثر مما هيأه الله له، وما شاء الله له الاطلاع عليه. ستظل هناك خفايا وحقائق وأسراراً لن يُتوصل إليها أبداً، فخلق الله ومجالات قدرته ورحابة كونه أوسع وأعظم وأكبر من أن يحيط بها علم كائن من بني الإنسان.
أما رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فما كان له أن يؤلف قصة كالإسراء والمعراج، بل ما كان لها أن تخطر له على بال، فهي ــ وما شاكلها ــ ليست من متطلبات الزعامة ومقوماتها بالضرورة فيما عرفنا من تاريخ الأمم لسببين:
أولاً: أنها كانت خليقة بأن تحدث بلبلة في نفوس الكثيرين. وأن تثير حيرة وتساؤلات لدى الكثير من المؤمنين لصعوبة القدرة على تخيلها، وإمكان وقوعها. ناهيك عن أنه كان من شأنها إثارة شكوك ما كان أغناه عنها. أضف إلى ذلك ما أتاحته من فرصة للخصوم للطعن في مصداقية الرسالة ومصداقيته هو نفسه.
ثانياً: أنَّى لمحمد عليه السلام القدرة على صياغة النص الإلهي المعجز هذا؟ وهل في وسع أحد مضاهاة كلام الله؟
كل ما في الأمر أنه صلوات الله عليه وسلامه وقع له ذلك فأنبأ به من أُرسل إليهم، غير آبه بسائر الاحتمالات.. وفي هذا فصل الخطاب.


* * *

من سنن الله في الكون الحرية و(الديمقراطية)
من سنن الله سبحانه وتعالى في الخلق أن يولد الإنسان نزَّاعاً إلى الحرية بالفطرة. إذ هي جزء لا يتجزَّأ من تكوينه.
يملك الإنسان، منذ ولادته، خصائص لا يملكها غيره من سائر المخلوقات، أهمها أمران يميزانه عنها جميعاً: عقل يفكر ولسان يعبِّر. وقد أعطي الإنسان حرية الاختيار بين منحيين، أو لنقل ثنائيتين: الخير والشر، الصواب والخطأ، الهدى والضلال. في هذه يقول الله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(البلد:8-10)
من هنا جاءت مسؤولية التكليف مادام الإنسان مسؤولاً عن اختياره بمحض إرادته. ولكن الله سبحانه ــ رحمة منه بالإنسان ورعاية له ــ لم يدعه نهباً لنوازع الهوى في نفسه، ونزغات الشيطان المتربِّص به على مدى حياته، يزيِّن له الغواية والضلال. بعث إليه الرسل يحملون كتبه وكلماته الهادية إلى سواء الطريق، لكي يحسن الاختيار، وإلى معرفة ربه ومن ثم عبادته. ولولا ذلك لما وجب عليه الحساب أو حقَّ عليه العقاب.
يقول تعالى تأكيداً لهذه الحقيقة في آيات كثيرة: منها:
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:15)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأنعام:48)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (فاطر:24-25)
الحرية إذن هبة إلهية فطر الإنسان عليها. وهي ليست منحة من إنسان لإنسان آخر. هي حق طبيعي للإنسان يملكه ويدخل في نسيج تكوينه النفسي والعقلي والغريزي معاً. والناس (قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). هي سنة من سنن الله في خلقه.
الحرية والديمقراطية لهما فهم معين لدى الغرب، حسب ثقافته السائدة وتجربته بالممارسة، وإن هي اختلفت في نسقها وتفصيلاتها الفرعية بين بلد وآخر، فهي في أمريكا غيرها في بريطانيا مثلاً. وهذه الديمقراطية الغربية تختلف في مفهومها عن ما يقابلها في الإسلام تحت عنوان الشورى.
الديمقراطية مصطلح يوناني الأصل مؤلف من كلمتين هما (سلطة الشعب). لها فلسفتها الخاصة، وتنبثق منها إجراءات تنظيمية كالانتخاب والاستفتاء، والبرلمان، وما إلى ذلك مما عرفناه في النظم الغربية. يقابلها في الإسلام نظام الشورى في الحكم، والبيعة للحاكم. وهي حق انتخابي (المبايعة) لكل فرد في المجتمع. أما الحاكم فيشترط فيه حيازة مواصفات لابد من توفرها فيه: الأمانة، والعدل، والعلم بالشرع، وحسن الخلق، ونظافة اليد، أمور لا تشترطها (الديمقراطية) الغربية في الحاكم بالضرورة.
لم تدخل الديمقراطية المعاصرة ــ لدى الغرب ــ حيِّز التطبيق الفعلي قبل عصر النهضة والإصلاح الديني، ثم الثورات في بريطانيا بزعامة كرومويل، وفي فرنسا برجالاتها الموالين والمعارضين إلى حين استتبابها: جان جاك روسو ــ العقد الاجتماعي ــ وروبسبير وميرابو ونابليون. أي أنها عرفت على الصعيد التطبيقي ــ بما لها وما عليها في هذا المكان أو ذاك ــ خلال الأربعمائة سنة الأخيرة أو نحوها في القرن السادس عشر، في حين عرف الإسلام مبدأ الشورى هذا قبل أربعة عشر قرناً ونيِّف، وإن أساء بعض المسلمين تطبيقه كنظام فيما بعد. بيد أن الديمقراطية الغربية لم تستقر هناك دون ثورات وحروب ومذابح. بل إن دعاتها أنفسهم كانوا أحياناً ضحايا لها. الثورة الفرنسية ــ على سبيل المثال ــ دفعت إلى المقصلة بما ينوف على ثلاثين ألف إنسان. يكفي أن نذكر من سوء تطبيق الديمقراطية في الغرب أنها أنتجت حربين (عالميتين) في النصف الأول من القرن الماضي ذهب ضحيتهما نحو خمسين مليون إنسان. إذ كان وصول الزعامات إلى مناصب الحكم مثل هتلر في المانيا، وستالين في روسيا، وموسوليني في إيطاليا من الأسباب المباشرة لما لا يحصى من الضحايا والمآسي، ليس فقط ما وقع من إحداهما على الأخرى وإنما في بلد المنشأ ذاته. ضحايا ستالين في عهد حكمه الذي لم ينته إلا بمفارقته الحياة عام 1953، أسفر عن عدة ملايين من الضحايا من الروس والبلدان التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي، في معسكرات السخرة والاعتقال في سيبيريا، حيث كان الناس يموتون جوعاً وبرداً وهواناً. وكذلك الأمر كان في ألمانيا ــ هتلر على أيدي ما عرف بالجستابو. من أقوال هتلر في تبرير أفعاله (الضمير اختراع بشري). ومن أقوال ستالين: (موت شخص مأساة أما موت مليون فمسألة إحصائية). كان يكفي وضع علامة (×) من يسرى ستالين بقلم ليعدم (بيربا) قائمة تتضمن آلافاً من الأفراد، الذين لا ذنب لمعظمهم على الإطلاق، سوى الشبهة في ألا تكون (أفكارهم) مؤيدة لما يجري هناك. حتى لو كانت تلك الأفكار مجرد خواطر، أو شبهة على النوايا التي لا تضمر للنظام شراً والتي لم تكن قادرة عليه بطبيعة الحال. بل ربما كانت (استياء) فقط من الظلم الواقع على أصحابها أو على الشعب.
نقول هذا للذين قد يحلو لهم ــ كما يحدث دائماً ــ التحدث عما كان يقع في بعض أنظمة الحكم في الدولة الإسلامية. ما من أحد يبرئ أولئك. وليس ذلك في حدِّ ذاته يمكن أن يكون اتهاماً للإسلام، فالإسلام نفسه بريء مما اقترفوا، وهم أول من أساء إليه. نقول هذا لكيلا يظن أو يدعي بعض مناوئي الإسلام، حتى من بين أبناء المسلمين المنبهرين بالغرب، لكيلا يظنوا أو يزعموا أن ديمقراطية الغرب كانت (سمناً على عسل) لأصحابها مذ عرفوها.
أما إذا تحدثنا عن (ديمقراطية أمريكا) فلربما احتجنا إلى مجلدات. يكفي أن نذكر بعض رؤسائهم وما لصق بكل منهم من جريمة نكراء في حق البشرية. من نذكر؟ الرئيس هاري ترومان ــ وقنبلتي هيروشيما ونغازاكي. والمائتي ألف قتيل في لحظات صاعقة، إضافة إلى آثارهما التدميرية الشاملة بحيث لم يبق من معالم المدينتين بناء واحد قائم. وما تبع ذلك من دمار للصحة والبيئة مازالت مجموعات من البشر هناك تعاني منها حتى الساعة، ومن بينهم من ولدوا بعد الكارثة بما ورثوه عن والديهم من أمراض وتشوهات أنتجتها الإشعاعات الذرية؟ أم نذكر مَنْ كانوا قبله من الرؤساء ودورهم في إبادة ملايين من سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر)؟ أم نذكر الرئيسين جونسون ونيكسون وملايين الضحايا على أيدي جنودهما بأسلحتهم التدميرية الشاملة في كوريا وفيتنام وكمبوديا؟ أم نذكر ريجان وغواتيمالا ونيكاراغوا؟ أم نذكر جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن، ومئات الألوف من الضحايا في العراق وإيران وأفغانستان وباكستان وو..؟ أم نذكرهم جميعاً، مجتمعين ومتفردين، في مأساة العصر والدهر فلسطين؟ ولماذا نغفل تلاميذهم ــ بل قل موجهيهم النجب ــ من أمثال شارون وبيريز ورابين وديان وسائر قائمة الصهاينة في إسرائيل؟ فضلاً عن مجموعات اللوبي والجماعات الماسونية واللوثرية وغيرها من مسميات هناك تتلاعب بأرواح البشر، وتتباهى بابتكار ضروب من الأسلحة أيها أقدر على الفتك بالإنسان؟
مازال هذا يجري ــ في أكثر من مكان في العالم ــ حتى هذه الساعة، والنوايا المبيتة للمضي في هذا النهج التدميري للإنسان، أكرم خلق الله ما برحت قائمة، بل دائبة على البحث في أي الوسائل أنجع وأقدر على القتل والتدمير، وأي بلد يقع عليه الاختيار.. ولابد أن يكون البلد المختار والشعب المستهدف عندهم إسلامياً كأولوية..! ألم يدمغوا المسلمين كافة بسمة (الإرهاب) تبريراً للجرائم والمذابح التي جرت والتي ستجري بعد..؟؟
وعَوْد إلى موضوعنا في شأن الحرية والديمقراطية، بعد هذا الاستطراد الذي لم يكن منه بد، بالتداعي للمقابلة والمقارنة.
لقد أرسى الإسلام قاعدة الجدل، ومبدأ الحوار في شتى الشؤون بدءاً من العقيدة، مروراً بالقضايا السياسية والاجتماعية والعسكرية، وليس انتهاء بالاقتصادية والمسائل الشائكة الأخرى. مشترطاً الرِّفق وحسن الحوار، على عكس ما يحدث اليوم في كثير من الدول التي تدعي تطبيق الديمقراطية على مواطنيها، حيث نرى القسر والإجبار والفرض بالقوة حيناً، والتزوير وشراء الأصوات بالمال أو بالجاه أو بالنفوذ، أو بوسائل الإغراء الكثيرة حيناً آخر. يصاحب ذلك برامج حزبية صاخبة (كاذبة غالباً) تصرف عليها الملايين، وتسخر وسائل العصر الإعلامية والإعلانية، لا يهدف أصحابها من ورائها سوى تحقيق مصالحهم ومآربهم الشخصية. وما أكثر ما تخرج النتائج مزورة تتعرض للطعن في سلامتها. بل لقد أوصى الإسلام بان يكون الجدل والحوار (بالتي هي أحسن). وقد ضرب القرآن المثل بتصرف الرسول عليه السلام في مثل هذه الأحوال والمسائل:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159)
كما في الآية التالية في مسألة الشورى، فضلاً عما حوته من إرشاد وتوجيه في سورة عنوانها (الشورى):
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الشورى:38)
كان الإسلام إذن أسبق في مفهوم الحرية. كما كانت نظرته أعمّ وأشمل. لقد جاء التعبير عنها كمبدأ إلهي تحت عنوان (كرامة الإنسان) في قوله تعالى:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء:70)
وقد ورد ذكر الإنسان هنا (بني آدم) على إطلاقها، أي عموم بني آدم. فإذا كانت إرادة الله قد شاءت أن يتبوَّأ الإنسان هذا الموضع، وأن تضفي عليه هذا التكريم، فهل يعقل بعد ذلك، ألا تنعم عليه بالحرية، والكرامة النابعتين من الاستقلالية الذاتية؟ وهل يكون التكريم بغير الحفاظ على حرية الفكر والمعتقد، وحرية الرأي والتعبير عنه، وصيانة الحقوق كافة، والحماية اجتماعياً من التعرض للظلم والامتهان؟ وهل هناك حرية أوسع مدى من حرية الاختيار بين الإيمان والإلحاد، وإن كان ذلك مصحوباً في الوقت عينه، بالتنبيه والتوجيه والتحذير من العواقب المترتبة على كل من المنحيين. آيات كثيرة نجدها في كتاب الله تنص على مسألة التخيير هذه كقوله تعالى في هذه الآيات:
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.. (الكهف:29)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان:3)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.. (البقرة:272)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:125)
حرية الاختيار طواعية مبدأ ثابت في الإسلام. في حين أننا رأينا في (ديمقراطية) الغرب (حرية الإجبار)، ومحاكم التفتيش ــ على سبيل المثال ــ ومحاسبتها الإنسان على الرأي والفكر والمعتقد والنية، حيث خيِّر الناس بين اعتناق دين معين خروجاً على معتقدهم الأصلي، وبين التعذيب والقتل والنفي والتهجير، على عكس ما كان عليه موقف المسلمين الذين لم يجبروا أحداً على تغيير معتقده وإلزامه بالدخول في دين الفاتحين يومئذٍ. أسبانيا مثال على ذلك. وقل مثله في سائر الأقطار والأمصار التي وصلوا إليها. لم يعهد عنهم أو فيهم اللجوء إلى مثل ما لجأ إليه الصليبيون الغربيون والتتار في غزواتهم للديار الإسلامية. لقد قتل الصليبيون في القدس وحدها، في مجزرة واحدة نحواً من ستين ألف من المصلين، حسب المراجع التاريخية الموثوقة. نقول (المصلين) وليس (المحاربين). فهل وقعت في التاريخ الإسلامي كله حادثة أو واقعة واحدة من هذا القبيل؟ ولم يتوقف الغرب عن منحاه هذا ومسلكه حتى اليوم وطوال عهد الاستعمار الغربي لبلدان في آسيا وأفريقيا، بل وفي أوروبا نفسها إزاء المسلمين (البلقان مثال ذلك).
يكفي أن هذه الحضارة أنتجت نظامين لا يقل أحدهما سوءاً عن الآخر. لقد ظهرت الرأسمالية والاستعمار بداية، (ثم تلتها الإمبريالية والعولمة) يقابلهما الشيوعية. وكان لكل من هذه الآثار السلبية والتدميرية على البشر في كل مكان على ظهر البسيطة ــ بما في ذلك أصحابها أنفسهم ــ ما تعجز عن وصفه وإحصائه مجلدات ومجلدات.
لقد تصدت هذه الحضارة لكل نزعة دينية أو اتجاه ديني سواء كان الإسلام أو غيره. فالغرب بنزعته العلمانية وفصله الدين عن الدولة والحياة أغفل الجانب الإنساني الأخلاقي تماماً. معتمداً فكرة تقول بأن الله لا دخل له في تفاصيل حياتنا وسائر أعمالنا. ومن هنا انطلق إلى التنكيل بالشعوب المستضعفة. مستبيحاً حقوقها كافة وكرامتها الإنسانية، مستغلاً لثرواتها سارقاً لمقتنياتها ومواردها دون وازع من ضمير أو دين. وأما الجانب الآخر فقد نزع إلى الإلحاد ونكران وجود إله لهذا الكون أصلاً وبذلك كان لا يقل شراسة ووحشية في حق الشعوب أفراداً وجماعات. ولم يكن موقفه الإلحادي معادياً للإسلام وحده، بل تجاه كل نزعة دينية بما فيها المسيحية.
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى اليهود واليهودية. لقد دعا النظامان الشيوعي والرأسمالي ــ قبل هذه الحقبة التي استطاع اليهود اللعب فيها عليهما واستغلالهما إلى حد يشبه السيطرة على توجهاتهما السياسية والاقتصادية واللاأخلاقية ــ ولم يكن لليهود من حياة مستقرة آمنة إلا في ظل الدولة الإسلامية التي عاملتهم كأبنائها المسلمين دون افتئات على حقوقهم وإنسانيتهم.
ولقد قامت الشيوعية بالتنكيل ــ كما أسلفنا ــ بسائر التوجهات الدينية. فأحرقت الكنائس كما أحرقت المساجد. كما نكلت بالرهبان ورجال الإكليروس والقسس تماماً كما فعلت بعلماء المسلمين. وكانت منافي سيبيريا هي المآل لهؤلاء وأولئك. ملايين من المسيحيين والمسلمين ماتوا جوعاً وبرداً وتعذيباً هناك. وكما قتل الملايين في الجزائر وليبيا والصومال وفلسطين والعراق وإيران والهند وغيرها وغيرها على أيدي الاستعمار الغربي، فقد قتل الملايين كذلك في دول أوروبا الشرقية على أيدي الشيوعيين والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي.
مما يؤسف له أنه لم تجر إحصائيات للأعداد الهائلة من الضحايا البشرية، خلال الأربعمائة سنة الماضية على أيدي (المتحضرين). انطلاقاً من فلسفة هذه (الحضارة) العنصرية المتعالية النفعية، الأمر الذي لم يسبقهم إليه أحد من قبل. وحبذا لو قامت جماعات محايدة، بمعنى نظيفة، تملك رؤية عادلة من المؤرخين بهذا العمل، من أجل الحقيقة وحدها على الأقل، فعن أي حضارة يتحدثون؟
ولعل هذا هو ما حدا بمفكر كالدكتور (روجيه جارودي) لأن يقول ما معناه أن أكبر كارثة حاقت بالبشرية كانت يوم توقف المسلمون عند معركة بلاط الشهداء (بواتيه). لو لم يحدث ذلك واندفع الإسلام حتى يشمل أوروبا (العالم القديم) لكانت صورة العالم اليوم أبهى وأفضل، أكثر عدلاً وأسمى حضارة إنسانية. ولكان ممكناً لملايين من البشر ألا تذهب ضحايا الجشع الغربي وأطماعه وجبروته. كانت تلك الهزيمة وبالاً على مستقبل البشرية منذ ذلك التاريخ وما بعده.
فيا أيتها (الديمقراطية) الغربية كم من المظالم والجرائم حلَّت بالبشر تحت اسمك..!؟
معذرة عن هذا الاستطراد الذي هو من قبيل الشيء بالشيء يذكر، أو هو من قبيل التداعي ساقتنا إليه الرغبة في المقارنة بين حضارتين إحداهما تزعم أنها (حضارة) وما هي إلا دعوى باطلة مغرضة حملت الشر والأذى لسائر البشر ــ برغم إنجازاتها في حقل المادة وحدها ــ والأخرى لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، من قبل ومن بعد، برغم ما ساد بعض وجوهها وحقبها من إساءات في التطبيق بسبب من عوامل غالباً ما كانت خارجة عن مضمونها.
لقد أسس الإسلام مدرسة غير مسبوقة للحرية والعدالة والمساواة (معادل الديمقراطية)، تجلت في أسمى صورها فيما بعد، لدى الخلفاء الحكام في صدر الإسلام، قبل أن يحوله الأمويون إلى ملك وراثي أو ما يشبهه.
بعد أن تمَّت البيعة لأبي بكر رضي الله عنه قام يخطب في الناس يقول:
»أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدقُ أمانة، والكذب خيانة. الضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله«.
رجل من العامة يصيح بأعلى صوته، وعلى ملأ من الصحابة في وجه الخليفة »والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بحدِّ سيوفنا«. ويرد أبو بكر على القائل: »الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم اعوجاج الخليفة بحدِّ سيفه«.
ترى هل عرف العالم، فيما مضى وفيما هو راهن في العالم (المتحضر) تحديداً، و(الديمقراطي)، ما يشبه هذا من قريب أو بعيد بين الحاكم والمحكوم. ولو أنه حدث ماذا كان يمكن أن يحلَّ بالرجل؟
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ــ وهو أمير المؤمنين ــ يجيب متسائلاً في المسجد عن سبب طول ثوبه، زيادة عما نال أي فرد من المسلمين من القماش الذي وزِّع عليهم، يطلب إلى ولده عبد الله ــ وعمر فوق المنبر ــ بأن يبيِّن للمتسائل ما غمُض عليه. ويتبيَّن عندئذٍ أن عبد الله تنازل عن نصيبه لأبيه لكي يصنع له ثوباً يناسب طوله.
ونراه في موقف آخر حين تصدت له امرأة من المسلمين في مسألة لم ترضها فتواه فيها، مستشهدة بآية من القرآن الكريم تصويباً لرأيه في تلك المسألة، فيقرُّ لها، معترفاً على مسمع من جمهرة المصلين، مجاهراً بالقول: »لقد أصابت امرأة وأخطأ عمر«.
ولا ننسى للخليفة عمر مقولته الشهيرة لابن عمر بن العاص ووالده ــ وهو والي مصر يومئذٍ ــ حين اعتدى ذاك على مصري قبطي مفاخراً بأنه (ابن الأكرمين) بقوله مؤنِّباً: (متى استعبدتهم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). بل ويطلب إلى المصري أن يقتصَّ أمامه وفي حضرته من (ابن الأكرمين) بمثل ما اعتدى عليه. وبقية القصة معروفة.
بل إن تقوى أصحاب رسول الله تدفعهم إلى توخي الأمانة في تطبيق منهج القرآن على الناس. من ذلك مبدأ العدل، والعدل أهم سمات الحرية والمساواة (الديمقراطية). مثال واحد من ذلك إحدى وصايا الخليفة عمر بن الخطاب لقاضيه أبي موسى الأشعري يقول له فيها:
»ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك من أن تقضي بخلافه غداً فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل«.
هل ترانا بحاجة إلى المقارنة بين هذه الصورة الرائعة وبين ما يجري في عالم اليوم، في معظم أرجاء الأرض.. ودعاوى الحرص على حرية الإنسان وديمقراطية المجتمع..!؟
أما الرسول صلوات الله عليه وسلامه، فقد كان هو القدوة المثلى لمن حوله، توجيهاً وتعليماً من خلال مسلكه إزاء مختلف المواقف. فها نحن نراه في موقفه من اليهودي الدائن يجيء لمطالبته قبل أوان الاستحقاق، لمجرد المماحكة وتعمُّد الإساءة. يغلظ اليهودي في القول لرسول الله. ورسول الله، كدأبه يتحلى بالصبر، ويتعامل مع الموقف بالحكمة واللين. بيد أن ذاك يتمادى في القحة على شخص النبي إلى حدِّ أن أخذ يشده من بردته حتى لتوشك أن تدمي عنقه، مما أثار حفيظة المحيطين به من الصحابة، فهمّوا أن يبطشوا به. لو كان غير محمد عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف لتركهم، ــ بل ربما أوعز إليهم ــ بان يلقنوه درساً، تنفيساً عن غضبه وانتقاماً لشخصه ممن أساء إليه. لكن رسول الله يبادر إلى منع صحابته من إيذاء الرجل، مخاطباً إياهم بقوله: (دعوا الرجل، ما كان أحوجه إلى أن تطلبوا منه اللين في المطالبة وما كان أحوجني لأن تطلبوا إليَّ حسن الأداء). الرسول يقول لهم (تطلبوا إليَّ). والرسول يقول لهم (حسن الأداء) وهو الذي لم يكن قد أساء الأداء أو قصر في السداد مادام موعده لم يحن بعد.
كان من شأن ذلك أن أسلم اليهودي.
هذه وقائع جرت كل منها بين راس الدولة وفرد من (الرعية) حسب تسميات ذلك الزمان. وكان الرد عليها ما شهدنا. ويأبى المتشدقون والمنافقون، وأدعياء الحرص على حقوق الإنسان وحرية الإنسان، الذين ملأوا الدنيا ظلماً وجوراً وفجوراً وفساداً إلا وصف الإسلام ب‍ (التطرف والتخلف) والمسلمين ب‍ (العنف والإرهاب)..!
للحرية كما للشورى في الإسلام حدود لا ينبغي للفرد تجاوزها إلى ما يفضي للإضرار بالغير (فلا ضرر ولا ضرار). هي حرية منضبطة، محكومة بشروط عادلة حفاظاً على سلامة المجتمع والفرد سواء بسواء، وعلى حدود الله في الشريعة.
يعزِّز إحساس الإنسان المسلم بما خصَّه الله من تكريم قوله تعالى:
.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (المنافقون:8)
للمؤمن عزة وكرامة. ولا تكون العزة والكرامة إلا مع الحرية بداهة. يتوطد هذا الفهم لدى الإنسان المسلم ليصبح جزءاً من سلوكه، دونما رقيب عليه إلا نفسه. أي أن الوازع يغدو ذاتياً كما هي الرقابة والحافز، مما يحول دون الافتئات على الآخرين، أو الخروج على تعاليم الشرع. ليس عن طريق القسر الخارجي ومخافة السلطة، فالسلطة لا تملك القدرة على مراقبة كل إنسان كل الوقت لكي تتحكم في سلوكه، لكنها تعتمد على القوانين التي تضعها. القوانين الوضعية ليس لها فاعلية القانون الإلهي إذا ما آمن به الإنسان فأصبح الرقيب (منه ــ عليه) في قرارة نفسه ذاتها، وتغدو من ثم الموجِّه له في سلوكه وممارساته، سواء كان ذلك في شؤون العبادة أو فيما بينه وبين المجتمع. والناس عامة. مثال ذلك حال الصائم إذ يكون وحيداً، مع نفسه دون غيرها لكنه، مع ذلك يمتنع من تلقاء نفسه عن مبطلات الصيام، وهي في متناوله. كذلك شأنه مع الصلاة، كذلك الأمر مع الزكاة، يحتسبها بدقة، دونها دقة محاسبي الضرائب (التي يتهرب الناس عادة من تقديم كشوف صحيحة عنها لأنها ليست شرعاً إلهياً ملزماً)، لكي يؤديها إلى مستحقيها الذين حددهم القرآن في كثير من آياته. منها قوله تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة:177)
ولكيلا يذهب بعضهم إلى حسبان الزكاة منّة وتفضلاً من المزكي يقول تعالى مبيّناً أنه واجب عليه، وحق للآخر المزكَّى له:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذريات:19)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (المعارج:24-25)
أما تحديد مقدار الزكاة فقد بيَّنه الشرع من خلال أحاديث الرسول وعمله في شأنها.
ثم نأتي إلى مسألة أخرى تثير الكثير من الجدل على الدوام هي مسألة الرق. يحدث دائماً من قبل مناوئي الإسلام، الباحثين عن مآخذ وهنات (لن يجدوها فيه واقعاً) ينبري من بينهم من يقول بأن الإسلام لم يمنع الرق، فأين هي الحرية التي تتحدثون عنها؟
مسألة الرق كانت مادة للأخذ والرد والجدل، وما انفكت كذلك، لا لشيء إلا لكي يجد هؤلاء مدخلاً للطعن، حتى لو كان الرد عليهم ميسوراً وإنه لكذلك، من خلال الكيفية التي عالج بها الإسلام مسألة الرق.
الإسلام هو أول من حارب الرق وسعى إلى تصفيته، في وقت كان الرق فيه من الممتلكات الخاصة كأي مال وعقار، غير مستنكر لدى سائر أمم الأرض وشعوبها. بما في ذلك دولتي الفرس والرومان. كان وجود الرقيق أمراً طبيعياً تماماً، إلى أن جاء الإسلام فجعل الخلاص منه بين أولوياته، من أجل قيام مجتمع لا عبودية فيه إلا لله وحده.
كان هذا سبقاً تاريخياً، وقبل أن تتعارف الدول حديثاً، في القرن التاسع عشر، على منع تجارة الرقيق. لكنها في الواقع استبدلت بتجارة الرقيق استرقاق الشعوب. فالرق والعبودية والنخاسة ما برحت قائمة، وإن يكن تحت عناوين أخرى في المجتمعات المعاصرة. يحدث هذا للرجال والنساء والكبار والصغار على حدٍّ سواء. تتبدى مظاهره في صور شتى: في المرأة على خشبات الملاهي العابثة. في عروض الأزياء شبه عارية. في الأغاني الرخيصة التي لا تروج دون نساء شبه عاريات. في مسابقات الجمال. تؤمر المرأة فيها كيف تمشي، وماذا ترتدي، أو لا ترتدي أمام نظّارة يرمقونها بأبصارهم شهوة من قبل الرجال، وحسداً وغيرة واستنكاراً من قبل النساء، ولا تصل واحدتهن ــ غالباً وباعتراف صحف ومجلات متخصصة ــ إلى هذا الموقع ــ على وضاعته ــ قبل أن تدفع من شرفها ثمناً. أما عن امتهان كرامتها في الدعاية والإعلان عن بضائع رخيصة المستوى تافهة المحتوى فحدث ولا حرج. كما تتبدى صور من العبودية للعامل والأنظمة الرأسمالية المجحفة بحقوقه. يتحكم أرباب العمل وأصحاب الشركات في وقته وجهده وسلوكه وحركة جسده حسب المطلوب، ولقاء أجر بخس لا يحصل من ورائه إلا على الحدّ الأدنى من وسيلة العيش لنفسه ولأسرته. في إجبار المجندين ــ باسم الوطنية ــ على الذهاب بعيداً عن أوطانهم حيث يقتلون من اجل تحقيق الأهداف والمصالح الاستعمارية الاحتكارية كتجارة النفط وتجارة السلاح وغيرها بحيث يدفع هؤلاء أرواحهم تحقيقاً لمصالح (ملاَّكيهم) تحت عناوين خادعة وذرائع مضللة مريعة.
أليست هذه بعض مظاهر الرق بعينه؟
ألم تستعبد الدول الاستعمارية ــ الإمبريالية شعوباً احتلت بلادها واستولت على ثرواتها تحت مسمى (التفوق الحضاري)، أو دعوى (الحرية والمساواة والإخاء)؟ وما إليها..؟
في كتاب له في علم الاجتماع، صادر في النصف الثاني من الخمسينيات يقول الأستاذ حافظ الجمالي ما يلي:
»من المؤكد أن الإسلام لم يلغ الرق لا في نصّ واضح ولا في نصّ غامض. ولو هو قد فعل لأضعف نفسه جداً تجاه أعدائه. بل لم يكن من المعقول أن يلغيه أبداً..«.
ورد هذا ضمن مواضيع أخرى أثارها الأستاذ الجمالي في كتابه الموما إليه مما أثار ضجة في الوسط الثقافي يومئذٍ، بين مؤيد ومعارض. من بين ردود كثيرة كان ردنا الذي نعرضه فيما يلي عن (جريدة صوت العرب ــ عدد 518 في كانون الثاني 1956).
(أما أن الإسلام لم يلغ الرق لا في نص واضح ولا في نص غامض ــ على حدِّ تعبير الأستاذ الجمالي ــ فهذا ليس صحيحاً. ذلك أن الإسلام ألغى الرق في نص واضح صريح، بعد أن مهَّد الأجواء لتقبّل ذلك الإلغاء. فنظام الرق كان معروفاً يومئذٍ في كافة أنحاء المعمورة كشيء طبيعي جدّاً، لا ينكره ولا يستهجنه أحد. وكان يعتبر نوعاً من المال، كالأرض والبيت والنقد فجاء الإسلام يعالج هذه المشكلة، التي لم تكن مشكلة في الواقع إلا في نظر الإسلام الذي يأبى أن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، علاجاً جذرياً حاسماً. والعلاج الجذري هو القضاء على مصادر الرقيق التي ينبع منها ــ إن صح هذا التعبير ــ وهذه الطريقة التي اتبعها الإسلام كانت تحتاج بعض الوقت لكي تتم مما جعل بعض الناس يظنون أن الإسلام تغاضى أو حتى أقرَّ العبودية.
أما مصادر الرقيق التي عرفت آنذاك فهي:
(1) التوالد بين الأرقاء:
عالج الإسلام هذا المصدر بوسائل شتى وأساليب متعدِّدة. منها أنه جعل للأَمَة (المرأة الرقيق) التي يبني بهاسيدها من المكانة والمنزلة ما للزوجة الحرة. وينطبق هذا التحرر بالتالي على أبنائها منه. ومنها أمره بتحرير الرقاب كفارة عن الذنوب وعتقهم بالمكاتبة. كما فرض الإسلام معاملة العبد الرقيق كفرد من أفراد الأسرة (يطعم مما تطعم ويلبس مما تلبس).
(2) استرقاق المدين. إذا عجز عن وفاء دينه:
أمر الإسلام بتأجيل مثل هذا الدين. إلى أن يستطيع المدين أداءه. وإن يعفو صاحب الدين فذلك أكرم عند الله وأعظم أجراً. (كان عامل التقوى يومئذٍ من القوة بحيث لا يتردد الناس في الاستجابة لهذه الدعوة ابتغاء مرضاة الله).
(3) أسرى الحرب وهم المصدر الأكبر:
نزلت الآية الكريمة تقول في نصٍّ صريح لا يحتمل التأويل .. فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً.. (محمد:4). أي أن الأسرى بعد الآن إما أن يفتدوا أنفسهم بالمال (كان المسلمون في حاجة إليه يومئذٍ)، وإما أن يُمَّن عليهم فيطلق سراحهم إن لم يستطيعوا الفدية.
»كانوا يفتدون أنفسهم أيضاً مقابل تعليم كل منهم لعشرة من المسلمين القراءة والكتابة«.
(الشق الآخر من موضوع الأستاذ الجمالي في قوله: (الإسلام لو ألغى نظام الرق لكان أضعف نفسه جداً تجاه أعدائه الحريصين على بقاء هذا النظام)، يرد عليه بسؤال: كيف لا يخشى الإسلام عواقب ذلك الضعف حين يجبههم بما هو أهم وأخطر فيقول لهم في آياته (أنتم وما تعبدون حصب جهنم)، (أنتم وآباؤكم في ضلال مبين). لماذا لا يخشى الضعف حين يلغي آلهتهم ويندد بمعتقداتهم، وقد كانوا، بلا شك، أحرص على معتقداتهم وآلهتهم منهم على عبيدهم، فالعقيدة أثمن عند الناس من أي مال، حتى من الحياة ذاتها، وليس الإسلام بالذي يحابي أو يتساهل أو يداهن تملّقاً للجماهير على حساب العقيدة).
(صوت العرب، كانون الثاني 1956)
لمزيد من التأكيد على هذه المسألة، قد يستحسن أن نورد هنا آيات تحث على عتق الرقيق الذي كان قائماً. بل تجعل منه سبباً للتوبة وكفارة عن الذنوب، من بين شروط أخرى تفضي في النهاية إلى إلغائه عملياً، بعد تجفيف منابعه عن طريق (المنِّ) أو (الفداء).
يقول الله تعالى:
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (القصص:3)
هذا شرط ملزم لمن يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، أي يريدون العودة عن مظاهرتهم لنسائهم، وذلك بأن يعمدوا إلى تحرير رقبة أي عبداً رقيقاً. وفي الآية التي تليها ما يشبه الوعد بعقوبة لمن يخالف الشرط آنف الذكر في الآية. كما تنص الآية (177 من سورة البقرة) على تحرير الرقبة أوردناها في مكان آخر.
ويقول تعالى:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة:60)
هي هنا فريضة ضمن فريضة الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام تأكيداً على أهميتها واستحقاقها.
ويقول تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء:92)
تحرير الرقبة يتكرر ضمن شروط ملزمة وضمن تشريع، إضافة إلى اعتباره جزءاً من الإيمان، بحيث من لا يستطيعه مادياً فعليه الصيام لشهرين متتابعين توبة من الله. كم يلقى المرء من عنت عندما يصوم شهرين متتابعين في وقت لا يصوم فيه الآخرون. ولكن لماذا هذا الشرط الصعب؟ أليس من أجل دفعه إلى السعي طاقة جهده، كي يأخذ بالجانب الأسهل، وهو تحرير الرقبة إن كان يملكها، أو أن يشتري العبد ويحرره كفارة عما حدث؟
ويقول تعالى سبحانه:
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة:89)
كما يقول في محكم كتابه:
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (البلد:11-14)
لقد دعا الإسلام إلى تحرير الإنسان من ربقة عبوديته للإنسان الآخر. دعا إلى الأخوَّة الإنسانية، وإلى المساواة بين الناس أمام خالقهم، وإلى تحقيق العدالة بينهم. نورد فيما يلي آيات مما ورد في كتاب الله في هذا الشأن. يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (النساء:135)
إذن لا تمييز ولا استثناء بسبب من قرابة أو غنى أو فقر بما في ذلك النفس أو الوالدين. هي المساواة في أجلى صورها واسمى معانيها.
كما يقول سبحانه في آيتين جامعتين مانعتين، تشكلان دستوراً لو اتُّبع لصلح به الفرد والمجتمع. تتضمن الآيتان الأمر بتأدية الأمانة، والتوصية باليتيم كي يغدو عضواً صالحاً حين يبلغ رشده فيجد حقوقه مصانة ومستقبله مضموناً. وفيهما نص صريح على إيفاء الحقوق حتى في أمور تجارية بحتة مثل الكيل والميزان. حتى القول، مجرد القول يأمر الله بألا يجافي الحقيقة التي هي رائد المسلم، نظراً لما يترتب على الأقوال من عواقب ومن نتائج قد تكون سلبية أو تكون إيجابية حسب مقتضاها والمواقف المختلفة المطلوبة فيها، لصالح الأطراف المعنية جميعاً.
يقول تعالى:
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:152-153)
ليس الصراط المستقيم في الآخرة وحدها ــ كما يذهب إليه ظنُّ البعض ــ وإنما هو في شؤون الناس في دنياهم أيضاً، بمعنى أنه الطريق السوي والنهج السليم في التعاطي بين الناس. وتقوى الله في ذلك هي الأساس.
جاءت هذه المبادئ في الإسلام سابقة زمنياً، أقوى وأصدق مضموناً، أحرص على الإنسان من ذاته، والإنسانية من نفسها. وقد طبّقها رسول الله، عليه السلام، في مجتمعه لكي يكون قدوة لمن يجيئون بعده. كما طبقها الإسلام في البلاد التي فتحها دونما تمييز بين أهلها، على شتى مذاهبهم وأعراقهم وعقائدهم من جهة، وبين هؤلاء والمسلمين أنفسهم من جهة، سواء بسواء. كان ذلك التزاماً بما جاء في كتاب الله.
لا يفرِّق الإسلام بين الناس في هذه القضايا. فهو يلزم أتباعه بإحقاق الحق، عدلاً وإنصافاً ومساواة، حتى لو كانت هناك أطراف لا تلتزم بشيء من ذلك. ليكن ذلك شأنهم. ولكنه لا ينبغي أن يخرج المسلمين عن الالتزام بمبادئ الإسلام.
يقول تعالى في ذلك:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8)
كما يوصي الإسلام أتباعه بالتسامي في التعامل مع غير المسلمين وبرّهم ما داموا لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم. وهذه إشارة ــ كما سنرى في الآيتين التاليتين ــ إلى الذين فعلوا ذلك مع الرسول في بدايات الدعوة، حين أخرجوه من مكة، (أحب بلاد الله إليه كما كان يقول). وها هي تنطبق الحالة إياها في أيامنا هذه في فلسطين، وما فعله في أيامنا هذه أعداء الله والمسلمين من يهود هذا الزمن، ومن ظاهرهم على ذلك من الغربيين، أي من أعانوهم على ذلك. يقول تعالى في هذا الشأن:
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة:8-9)
ولكيلا يذهب الظن بالمسلم إلى أن الناس جميعاً ينبغي أن يكونوا على شاكلته، ويسيرون على نهجه متبعين مبادأه، يبين القرآن له بأن الناس لن يكونوا كذلك، وأن هذا تدبير إلهي وإرادة إلهية بأن يكون الناس (مختلفين ولذلك خلقهم). على المسلم أن يعي هذه الحقيقة، حتى لا يحول فهم خاطئ لديه دون تطبيق المبدأ، فالاختلاف بين الخلق سنة من سنن الله، إذ يقول سبحانه:
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل:93)
ونلاحظ هنا أن الله سبحانه يوجه الخطاب إلى فئتين من البشر. للناس بعامة مسلمين وغير مسلمين خطاب، وللمؤمنين به خاصة خطاب، فهو سبحانه حين يقول يا أيها الناس فإنما يخاطب البشر جميعاً كقوله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
وحين يقول:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (الناس:1-5)
وآيات أخرى كثيرة على هذا النحو فإنما يعني سائر بني الإنسان فهو إلههم جميعاً. أما المؤمنون والمسلمون فيخاطبهم بتسميتهم (مؤمنين) و(مسلمين).
وآيات كثيرة جداً ترد في كتاب الله تخاطب هؤلاء بوصفهم مؤمنين ومسلمين.
أما على صعيد التطبيق العملي لمبادئ الإسلام وشعائره في حياة المسلمين، وبما أن الرسول عليه السلام هو المنوط به توضيح ما أغلق عليهم فهمه من كتاب الله، ولكي يلتزموا بأحكامه جاء قوله تعالى مخاطباً رسوله:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (آل عمران:32)
وبقوله سبحانه:
.. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر:7)
كما إن عمل رسول الله وقوله تشريع أيضاً يلتزم به السملمون، إذ لا ينطق الرسول عن الهوى، وإنما هو وحي يوحى إليه من ربه.
ومن الآيات في هذا الشأن وتأكيداً على الالتزام المطلق بإطاعته عليه السلام قوله تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (النساء:13-14)
هذه هي الحرية في الإسلام. وهذه هي (الديمقراطية) بمضمونها الحق وجوهرها الأصيل. فأين منها ما جرى ماضياً وما يجري راهناً في هذا العالم؟
وإذا ما استخدمنا تعبير الديمقراطية ــ وهو ليس مصطلحاً إسلامياً كما أسلفنا الإشارة ــ فإنما نفعل ذلك تسهيلاً للأمر بما أصبح مفهوماً عن هذا المصطلح في وقتنا الراهن.
وكما سبق أن عرضنا في بداية هذا البحث من أن الحرية هي هبة الله للإنسان وهي عنصر من عناصر تكوينه ومقومات وجوده ينبغي أن تكون لها مكانة القداسة في أي زمان ومكان، إذ يقول تعالى في شأنها:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:30)
وإنها كذلك لسنة من سننه لا تبديل لها ولا حِوَل عنها. أما مغتصبوها ومزيِّفوها فحسابهم عند ربهم، ولدى شعوبهم إذا ما أزفت ساعة الحساب، فالشعوب لا تقيم على الضيم أو الضلال على مدى الزمن.
ما نحسب أحداً في زمن محمد عليه السلام بقادر على اجتراح هذه الحقائق الكونية في محتواها ومبناها. أما محمد رسول الله ونبيُّه صلوات الله عليه وسلامه فقد تلقاها وحياً منزلاً من ربه بارئ الخلق والأرض والسموات وما بينهن.
ألم يكن الإسلام إذن سبَّاقاً في (أولاً) مفهوم الحرية و(الديمقراطية) الشورى و(ثانياً) في نظرته إلى توفرها بالفطرة في الإنسان منذ ولادته، وهي في هذه الحالة منزهة عن الغاية والغرض في غمار نزعات الأنفس والأهواء، وهي بهذا أصفى وأنبل من سائر ما اخترع البشر بعد ذلك. فما جاء به البشر من نظريات وفلسفات غالباً ما كان مغرضاً أو ظالماً لفئات من الناس، هم الأضعف أو الأدنى شأناً من آخرين توصلوا إلى السلطة أو إلى التحكم بالثروات ومفاتيح الاقتصاد، وهذه جميعاً لم تكن يوماً في مصلحة الإنسانية بعامة. ألم يتخذ معظمها الميكافيلية نبراساً مقدساً، فالغاية عندها تبرر الوسيلة في حين ألزم الإسلام أتباعه بأن تكون الوسيلة من جنس الغاية في شرفها ونبلها.
هذه القضايا على خطورتها الفائقة وأهميتها البالغة هل كانت متاحة لرجل في الزمان والمكان، حيث كان الرسول وقومه لو لم تكن تنزيلاً من رب العالمين؟


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس