عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 01 : 08 PM   رقم المشاركة : [16]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثاني عشر
القرآن والعلم الحديث
نظريات ومنجزات



[align=justify]
في أصل الحياة
في كثير من بلدان العالم أصبح هناك اختصاصيون في شتى فروع العلم وضروب المعرفة، يبحث واحدهم في جانب واحد، أو أكثر قليلاً ،من آلاف المواضيع من ميادين البحث والدراسة، في سائر أوجه النشاط الإنساني، ومسائل الكون والطبيعة وفروع العلم. غير أن أحداً من الناس لا يستطيع استقصاء بحث ما حتى نهاياته بحيث يشمل سائر تفاصيله وجزئياته، ناهيك عن أن يحيط علماً بسائر قضايا الكون وخفاياه، وأسرار الوجود، ومظاهر الطبيعة في كوكبنا الأرضي: كيفية تكوينها، نشأتها ومآلها، أسباب الحياة لسائر الكائنات على ظهر الأرض، والعوامل المؤهلة لبقائها وديمومتها ضمن منظومة من السنن والقوانين الأزلية التي لا يد للإنسان فيها. الإحاطة بكل ذلك ليست غير ضربٍ من المحال. ولو كان ذلك في مقدور أحد ــ فرداً كان أو جماعة ــ لأغنانا عن الألوف المؤلفة من الجامعات ومعاهد البحث ومراكز الدراسة المنبثة في سائر أرجاء المعمورة. غير أن هذا كله توفَّر عليه كتاب الله، مجملاً حيناً، ومفصلاً حيناً دون أن يعتريه ما يصيب الجهد البشري، من قصور أو عجز أو احتمال الخطأ، وهي من الصفات الملازمة للإنسان في مضماري العلم والمعرفة بحكم تكوينه ومحدودية ملكاته وقدراته.
سنعرض هنا جوانب مما سلفت الإشارة إليه، هي أقرب إلى رؤوس المواضيع، منها إلى الإفاضة والتفصيل فيها.
لقد جاءت آيات القرآن مجملة في صياغتها على الأغلب، لكي يفهم منها أهل كل عصر معنى يتناسب مع ما توافر لهم فيه من إلمام معرفي. وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع اتساع دوائر المعرفة الإنسانية.
يقول تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (الأنعام:104)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد:24)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان:6)
ولنأخذ بداية واحدة من هذه المسائل الكونية، ولتكن (الماء). يقول تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا.. (فاطر:27)
ويقول سبحانه:
.. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء:30)
لقد أثبت العلم مؤخراً أن أصل الحياة حيثما تكون مائي. وأن الماء هو العنصر الأول المكوِّن لكل خليَّة حية. فلا حياة ممكنة من دون الماء. يتفق هذا مع معطيات العلم الحديثة. أول سؤال يطرح اليوم حول احتمال وجود حياة على سطح كوكب ما في مجموعتنا الشمسية أو غيرها- هو:
هل يحتوي هذا الكوكب على الماء..؟
وكلمة (ماء) تعني المياه بأنواعها، العذب منها والمالح، ماء المحيطات، وماء الأنهار، وماء السماء.
وهذه آيات أخرى تؤكد هذا المعنى:
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (قّ:9-11)
.. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (طـه:53)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النور:45)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (لنجم:45-46)
يقول موريس بوكاي:
(سواء كان المقصود هو أصل الحياة عموماً أو العنصر الذي يجعل النباتات تولد في التربة، أو كان المقصود هو بذرة الحيوان فإن كل عبارات القرآن تتفق تماماً مع المعطيات العلمية الحديثة، ولا مكان مطلقاً في نص القرآن لأي خرافة من الخرافات التي كانت منتشرة في عصر تنزيل القرآن)( ).
آيات أخرى عديدة تعرِّفنا بدور الرياح في تلقيح النبات وإخصابه، الأمر الذي لم يعرف إلا في وقت متأخر من ناحية علمية. وغالباً ما تربط هذه الآيات بين عنصري الماء والرياح معاً، بحيث يُحدِثُ تزاوجهما ظاهرة المطر.
وهذه نماذج منها في قوله تعالى:
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ. فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (المؤمنون:18-19)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور:43)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (لأعراف:57)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (الفرقان:48-49)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (الزمر:21)
تختلف هذه الآية عن سابقاتها في أنها تحدد مصدر الينابيع في الأرض. كما أنها تبين مراحل تطور المزروعات، مختلفة الألوان، زاهية يانعة في البداية، إلى أن تصبح هشيماً وحطاماً في نهاية تلك المراحل. وإن هذه الظاهرة ينبغي أن تكون مصدر تأمل للإنسان ليعزز إيمانه ويثري معلوماته. ففي مثل هذه الآية يتبين للمرء أن الإسلام يحثنا دائماً على التعلُّم وبحث الظواهر الطبيعية والكونية، إذ نرى كثيراً من مثل هذه الآيات تبدأ بتساؤل ((ألم تر)). ونرى أن هذا السؤال أصبح عند الغرب مبدأ للبحث العلمي فيما بعد، لا سيما في القرون الأخيرة، ولكن الغرب- للأسف- هو العامل على إجابة للتساؤل ــ وإن يكن عن غير قصد ــ راهناً ومنذ نحو من أربعة قرون، فيما كان نصيبه الإهمال من جانبنا نحن الذين كان أولى بنا، وأجدى لنا، أن نستجيب للتوجيه القرآني قبل غيرنا.
ولا بأس أن نأتي بآية لو تأملناها مليّاً لاعترتنا الرهبة لمجرد تصوُّر وقوع ما تحذِّر منه، الأمر الذي قلما يتنبه إليه الإنسان، والتي ترينا كم هو الماء ثمين، بل وربما أثمن ما في الأرض على الإطلاق- مع الهواء- وكيف أن الحياة نفسها وبكافة صورها سوف تتوقف، ثم تنعدم لو خلا كوكبنا يوماً من الماء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (الملك:30)
هل هناك ما هو أكثر رعباً وأفدح خَطْباً بالإنسان لو حدث ذلك؟
العالم (ر. آمينيراس) في مقاله (الهيدرولوجيا) بدائرة معارف (أوينغرساليس) يصف المراحل الرئيسية في علم المياه مستشهداً بأعمال الريّ القديمة الرائعة- تعبيره هو- التي أنجزت في الشرق الأوسط. كما يلاحظ أن المعرفة العملية قد سادت كل هذه الإنجازات على حين كانت الأفكار في الغرب صادرة عن مفاهيم مغلوطة. ثم يردف قائلاً: (ويجب أن ننتظر حتى عصر النهضة – ما بين 1400- 1600 تقريباً- حتى تخلي المفاهيم الفلسفية الصرف المكان لأبحاث تعتمد الملاحظة الموضوعية للظاهرات الهيدرولوجية.
فقد ثار ليونارد دافنشي (1452 – 1519) على دعوى أرسطو. ويعطي تفسيراً واضحاً عن دور الماء، وخاصة عن تموين الأمطار للينابيع)( ).
ويعلق موريس بوكاي على ذلك بقوله:
(أليست هذه بالتحديد هي الإشارة التي نجدها في الآية (21) من سورة الزمر الذي تُذكر اتجاه مياه الأمطار نحو الينابيع في الأرض، والتي سلفت الإشارة إليها. إن المطر والبرق والبرد موضوعات الآية (43) من سورة النور، وكذلك الآيات من سورة الواقعة من (68- 70) وتؤكد ذلك:
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (الواقعة:68-70)
الإشارة إلى أن الله، لو شاء، أن يجعل الماء بطبيعته مالحاً، شديد الملوحة، لا يصلح للشرب، هو التعبير عن القدرة الإلهية. وطريقة في التعبير عن هذه المقدرة نفسها: تحدي الإنسان أن يُنزل الماء من السحاب)( ).
من الواضح أن الإنسان عاجز عن التحكم في المطر والرياح، ومازال التحكم في مسائل كالمطر والطقس حتى اليوم حلماً على الأغلب لن يتحقق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الآيات حين تعرض لهذه القضايا- التي يتفق العلم معها- إنما تأتي لتعريف الإنسان بالله وفضله عليه. ومن ثم وجوب عبادته له، وانصياعه لأوامره ونواهيه. ولكي يكون مسلكه نافعاً لبني جنسه ولنفسه، يذكِّره الله بهذه النعم، التي لولاها لما كان له وجود على الأرض. ولكي يرى بنفسه مقدار عجزه عن الاستغناء عما أغدق الله عليه من فضل، إذ هيّأ أسباب الحياة والمقام على ظهر الأرض للخلائق جميعاً، وعلى رأسها الإنسان الذي غالباً ما تراه جاحداً ومنكراً، أو جاهلاً غير مدرك. من ثم اقتضت حكمة الله ورحمته، أن يبعث إليه بالرسل في مراحل شتى من زمن وجوده عليها. ومن الطريف أن المخلوقات الأخرى ــ بما فيها الحيوان الأعجم والنبات ــ لم تكن بحاجة لمن ينبهها إلى هذا، بل هي اهتدت إليه بالفطرة.
وتتحدث الآية التالية في موضوع اللقاح والتلقيح في النبات، وضرورته التي لا غنى عنها (مبدأ الزوجية). كما هو ضرورة في عالم الحيوان عن طريق التناسل. يقول سبحانه:
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (الحجر:22)
أنَّى لبشر، أيّاً كانت قدراته الخاصة أن يأتي بمعلومات جامعة شاملة مؤكدة كالتي وردت في الآيات الكريمة. وإذا كان العالم بأسره لم يعرف هذه الحقائق أو تفسير هذه الظواهر قبل عصر النهضة، في أوروبا، فإن محمداً عليه السلام، جاء بها ليسبق قروناً عديدة ما توصلت إليه الأبحاث والمنجزات العلمية مسألة تلاقح النبات لم تعرف علميّاً إلا حديثاً.
غزارة المعلومات هذه التي جاء بها القرآن، وانطباقها على الوقائع والمكتشفات ألا تثير الدهشة، وتدعو للانبهار. ولكن أين هي الغرابة والقائل هو الله سبحانه:
.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام:38)
.. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (الأنعام:80)
ولكي يحفز الإنسان على التقصي والبحث في آلاء الله وملكوته، وعلى خوض غمار العلوم وارتياد آفاق المعرفة التي لا تعرف حدوداً، يقول تعالى لنبيِّه، ولنا بطبيعة الحال، حاثّاً على طلب المزيد من العلم:
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (طـه:114)

* * *
من الحقائق العلمية الحديثة
في الآية التالية ما يثير الدهشة لظاهرة طبيعية كانت خافية على الأقدمين المعاصرين لنزولها. فلم تبلغ التفاسير، من ثم يومئذ، ما رمت إليه. بيد أنه أصبح في وسعنا اليوم تفسيرها وفهمها على نحو جليّ، إذ نحن نعيشها واقعاً ملموساً مجرَّباً الآية:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (الأنعام:125)
لعله سبق لك أن سافرت بالطائرة. لا بد أنك عانيت عندئذ شيئاً من الضيق في صدرك، وأن الضيق يشتد كلما ارتفعت الطائرة أكثر. ذلك على الرغم من أن صانعي الطائرة- لمعرفتهم بالظاهرة بالعلم والتجربة معاً- زُوِّدت بأجهزة تعمل على تعديل (الضغط الجوي) بما تتطلبه الحالة داخلها. ولولا ذلك لما استطاع أحد ارتياد الفضاء والطيران، وتحمل الضغط الجوي حين يبلغ مداه، دون أن تتفجر الشرايين في صدره، وسائر أنحاء جسده.
تعمد الآية إلى التشبيه بين حالتين: حالة من يضلل الله، وحالة من يصّعَّد في السماء ارتفاعاً، في وقت لم تكن ظاهرة الضيق بسبب (الضغط الجوي)(*) قد عرفت. ومن البديهي أن أحداً لم يصعد إلى الفضاء في ذلك الزمن لانعدام الوسيلة، لكي يشعر بالضيق.
وتستخدم الآية تحديداً تعبير ((يصَّعَّد)). وهي دقيقة للغاية في وصف الحالة وإلى حدٍّ مدهش. لكأن الآية تخاطب إنسان زماننا. والتصعيد كما تشير إليه تدريجي، وهو ما يحدث تماماً في حالات الصعود إلى الفضاء. لم يأت التعبير اعتباطاً إذاً. وأي كلمة غيرها لا يمكن أن تعطي معناها على هذه الصورة الرائعة. منجزات التقدم العلمي في هذا العصر، وحدها، كشفت عن هذه الحقيقة، فعرفنا من ثم، المعنى الذي رمت إليه الآية الكريمة.
الحقيقة العلمية تقول إن الإنسان عند صعوده في الفضاء، يضيق صدره بسبب تخلخل الهواء وقلة الأوكسجين وانخفاض الضغط الجوي الخارجي عن الضغط الداخلي لجسم الإنسان الذي يظل كما هو. فيتخل التوازن بين الضغطين. والضغط الخارجي للهواء يتناقص تدريجياً كلما ارتفع الإنسان وبمقدار ارتفاعه. من هنا جاء التعبير الدقيق تماماً بكلمة (يصعَّد).
ولقد ظن معاصرو التنزيل عند سماعهم هذه الآية الكريمة أن القرآن إنما قصد (الصعود) مجازاً لا حقيقة. وفسروا الآية حسب هذا الفهم اعتقاداً منهم بأن صعود الإنسان إلى الفضاء ضرب من المستحيل.
لم يكن في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أحد يدرك هذه الحقيقة، ولم يكن هناك ما يضطرُّه إلى الخوض فيها أيضاً، ولكن لأن الله تعالى يعلم أن الإنسان سوف يصل إلى هذه الأوضاع في يوم من الأيام، أنزلها في كتابه على رسوله. وإلا فكيف عرف أن الإنسان عندما يرتفع سوف يضيق صدره ما لم يكن ذلك وحي من السماء؟ أليس هذا إعجازاً خارقاً؟ ولكن الله ينبؤنا بهذا قبل المرور بتجربته في قادم الأيام بقوله تعالى:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (النمل:93)
في هذا الصدد، وتأكيداً على قيمة العلم والعلماء، يروي العلامة الهندي (الدكتور عناية الله خان) حكاية له مع الفلكي (الدكتور سير جيمس جينز)، ملخَّصها أن هذا الأخير كان يحاضر في علوم الفلك. وكان يبدو عليه التأثر بظواهر الكون. حدثه ذات مرة بقوله: (عندما ألقي نظرة على روائع الخلق يبدأ وجودي بالارتعاش من الجلال الإلهي..) فأستأذنه الدكتور عناية الله بأن يقرأ عليه آية من كتابه المقدس (القرآن): ثم قرأ له:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر:27-28)
هتف السير جيمس: ماذا قلت؟ هل قلت إنما يخشى الله من عباده العلماء؟ كم هذا مدهش.. وعجيب حقاً.. وغريب جداً. إنه الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة. ومن أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله. ثم يستطرد قائلاً (لقد كان محمد أميّاً. ولا يمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه، والله هو الذي أخبره به.. هذا مدهش وغريب جدّاً)( ).
لا نعني بما أوردناه أننا ننتظر شهادة (مستر جيمس) في القرآن حتى نؤمن به. ولكننا نريد أن نقول إن هذه حادثة أو هي موقف جاءت به المصادفة وحدها، وليست عن طريق السعي من قبل مسلمين للتعريف بالإسلام، مما يدلنا على مدى تقصيرنا في عصرنا الحالي، في حق إسلامنا وحق أمتنا الإسلامية. بل إننا تركنا الساحة العالمية لأعداء الإسلام كي يصولوا ويجولوا فيه عاملين على تشويه صورته والإساءة إليه وإلى أهله. ويمكننا القول كذلك أننا لو أحسنَّا عرض الإسلام، ولو أننا حملناه إلى الغرب بأسلوب علمي مدروس، مبيِّنين لهم حقيقة مضامينه، وما ينطوي عليه، واتفاق معطيات العلم مع ما جاء به في حينه لاختلفت النظرة إلى المسلمين في العالمين عما هي عليه الآن. والغريب أننا ــ كما أشرنا من قبل ــ نفشل في عرض روائع ديننا على الناس في حين ينجح أعداؤه في تشويه صورته المشرقة والتعتيم على نوره.
أما مواقف الدفاع التي يلجأ إليها مفكرون من العرب والمسلمين، بدافع الغيرة غالباً، فإنها قد تسيء وتضر أكثر مما تجدي، ذلك أنهم بهذا إنما يقرون بأن الإسلام في موقف المتهم، وحريٌّ بأصحابه الدفاع عنه. على هؤلاء أن يرفضوا مجرد فكرة وضع الإسلام في قفص الاتهام. بدلاً من ذلك ينبغي العمل على عرض مضامينه وشرح تفاسير حديثة لمحتوياته، وتبيان حقيقته، التي لو عرفها غير المسلمين، لتغيرت مواقفهم منه إلى النقيض مما هي عليه الآن. وفي يقيني أن هذا يوشك أن يكون فرض عين على كل مثقف ومفكر وعالم من المسلمين لا فرض كفاية. فهذه صورة من صور الجهاد الحق.
ومن ظواهر الطبيعة التي وردت في القرآن ما يتحدث عن ا لكهرباء الجوية. ولم يكن محمد وقومه في بطاح مكة يعرفون شيئاً من أمرها. كقوله تعالى:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (الرعد:12-13)
وآيات أخرى في السورة (الرعد) منها الآية 43 التي ورد ذكرها من قبل، تصف البرق والسحاب، وتعرِّف بالعلاقة بين تشكل السحب والبرَد، ووقوع الصواعق والكهرباء الكامنة في السحب.
لقد عكف العلماء طويلاً على دراسة هذه ا لظاهرة، وتوصلوا إلى حقائق مذهلة، نستنتج منها:
أولا أن ظاهرة تكوُّن السحب وما يصاحبها ويرافقها من عمليات- موضوع الآيات آنفة الذكر- هي عمليات معقَّدة للغاية. (لا سبيل إلى شرحها والدخول في تفاصيلها هاهنا).
ثانياً أن مصدر هذه الآيات هو الله الذي يجادلون فيه، كما يجادلون في المصدر، في حين أنها تصف ظاهرة في الطبيعة لم يكشف الغطاء عن حقيقتها وكنهها وآليتها إلا العلم التجريبي والبحثي اللاحق لنزولها بزمن طويل.
وإن القرآن ليتحدث عن أنواع من السحب مختلفة في طبيعة تكوينها، كما في أثرها وتأثيرها في الأرض والمخلوقات من إنسان وحيوان ونبات ومناخ وهي أمور توصل العلم إلى معرفتها في عصرنا فقط. كقوله تعالى في نوع منها:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (الروم:48)
وهذا نوع آخر من السحاب في قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (الرعد:12)
وهذا نوع ثالث هو السحب الركامية في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور:43)
السماء في هذه الآيات تعني ظاهر الأمر، فما دام السحاب فوقنا أي نحو السماء فلفت النظر إليه بهذا اللفظ هو تحديد اللهجة التي يأتينا منها. وفي القاموس تعريف يقول (كل ما علاك هو سماك).
ولكي نفي هذا الجانب من البحث بعض حقه سنعرض إلى آيات تتعلق بطبيعة النبات، من زرع وشجر، وحاجة الإنسان إليها، كضرورة حياتية لتأمين غذائه وكسائه، ومآرب أخرى لا غنى له عنها أبداً. ويقتضي التنويه، مرة أخرى بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن بحاجة- لكي يبسط زعامته على القبائل في شبه الجزيرة العربية، بعد أن قرر أن السبيل الأفضل لذلك هو إدعاء النبوة، الأمر الذي ذهب إليه المرجفون- نقول لم يكن بحاجة لأن يخوض أيضاً في قضايا النبات والغذاء، بعد أن خاض في أمور الفلك والخلق والكون إذ إن أيّاً من هذه وتلك ليست من المقومات الضرورية لباحث عن زعامة دنيوية.
ــ ببساطة، ما جدوى ذلك؟
وأهم من هذا، أو ما لا يقل عنه أهمية:
ــ كيف تسنت له القدرة على الخوض فيها بمعرفة واقتدار؟
ــ كيف اتفق أن تثبت الأيام على مر الزمن منذ التنزيل، وحتى أيامنا هذه، صدق كل الذي جاء به، دونما استثناء وفي مسائل علمية بحتة؟
كما أثبتتها جميعاً وأكدتها الأبحاث العلمية، التي ما برحت عاكفة على الدرس والبحث والتقصي في سائر العلوم على مدى قرون أخصّها القرن المنصرم.
ــ كيف حدث هذا على الرغم من كونها المسائل الأساسية ذات الأهمية البالغة في الحياة البشرية، الفردية والمجتمعية. لا بل هي قضايا كونية، ومنها ما هو عماد الحياة نفسها؟
وكيف اتفق أن أمكنه الإتيان بآيات تعالج كلاً من هذه الشؤون في سطور قليلة، استوعبت فيما احتوته ما يضع فيه العلماء، من بعد، أسفاراً تملأ رفوف المكتبات، تغص بالبحث وتزدحم بالتحليل، ثم هي لا تخرج في النهاية بغير ما جاء به محمد في المضمون وإن هم دخلوا في تفصيلاتها ومجالات استخدامها للإفادة منها عملياً. كما أنها لم تأت ــ في الوقت نفسه ــ بما ينقضه أو يناقضه؟ وإذا كان ذلك هو شأن المضمون والمحتوى فيما بلغ من ذرى، فقد كان ذلك أيضاً شأن الأسلوب في العرض والتقديم. كان آية في روعة البيان، مع أننا نعرف أن البحث في قضايا علمية كهذه يتسم عادة بالجفاف والتجريد، ويظل قصيَّاً وعصيّاً على لغة الإبداع البياني وجمالياته البلاغية. لقد جمعت الآية بين دقة المعلومة وبلاغة القول وسحره.
ولنأخذ عدداً من الآيات في هذا السياق:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الرعد:4)
وبهذه المناسبة سوف أورد خاطرة كثيراً ما شغلتني:
لطالما حيرتنا حقّاً هذه الظاهرة الواردة في الآية المذكورة، على الطبيعة وبالمشاهدة. أنظر إلى مجموعة الأشجار في حقل أو بستان. كل منها تحمل اسم نوعها، وتبدو للوهلة الأولى متقاربة الشبه. أغصان وأوراق وجذوع وأزهار للأشجار جميعاً.. صفة مشتركة بينها. ولكنك سرعان ما تلحظ التغير الهائل عند الإثمار، على الرغم من أن هذه الأشجار جميعاً منغرسة في التربة ذاتها، تحيط بها العوامل البيئية ذاتها، كما أنها تسقى بماء واحد. ولكنك سوف تراها في النهاية تنتج أنواعاً مختلفة تماماً. كل منها، في موسمها، تنتج نوعها الذي لا تدري كيف ومن ذا الذي يحدد لها وظيفتها بحيث تعطيك ــ وكأنها مرغمة ــ الصنف ذاته تحديداً لا تحيد عنه أبداً. أكثر من ذلك ترى في النوع الواحد ألواناً مختلفة، سواء في الطعم أو الشكل أو الحجم. تلحظه في كافة الأنواع من الفواكه إلى الخضار إلى الحبوب. تلك البذرة الصغيرة لأيٍّ منها، تحمل الصفات الموروثة والمورِّثة – الجينات- لكي تعطيك، إذا ما أينع الزرع أو الشجر، الصفات ذاتها التي لا تخرج عنها أبداً.. كيف؟ مسألة محيِّرة تماماً. ومن ثم جاءت الآيات الكثيرة في التنبيه إلى هذه الحقائق تأكيداً على قدرة الله وبديع صنعه في خلقه.


* * *

ظواهر الطبيعة
.. وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (الحج:5)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأنعام:99)
يفصِّل العلم في هذه المسألة، فيبيِّن أن الثمرة نتاج عملية تناسل النبات. والمرحلة التي تسبق الثمرة هي مرحلة الزهرة، بأعضائها الذكورية (الأبر)، وأعضائها الأنثوية (البويضات). وبعد نقل اللقاح- غالباً عن طريق الرياح أو تنقل الحشرات كالنحل والفراش وغيرها- تعطي هذه الثمار، التي تعطي بدورها الحبوب بعد النضج من أجل الزرع وبدء الدورة من جديد. إن كل ثمرة تتضمن وجود أعضاء ذكورة، وأعضاء أنوثة، وهو ما ذهبت إليه الآية.
وإذا كانت تتكرر كثيراً الآيات، حول عنصري الزوجية في النبات، فإنها تسجل مفهوم التزاوج في إطار أكثر عمومية بحيث تشمل الكائنات الحية كافة:
يقول تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (يّـس36)
ويقول تعالى:
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات:49)
.. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. (الرعد:3)
هنا تأكيد على مبدأ الزوجية، الذكورة والأنوثة.. السالب والموجب في سائر الكائنات والأشياء، كمبدأ كوني، وقد أثبت العلم هذه الحقيقة.. حتى الذرة نفسها تخضع للمبدأ ذاته. إذ تتكون من الإلكترونات والنيوترونات وكذلك شأن الكهرباء.
أما قوله وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ في الآية أعلاه (يس:36) فهي الشاملة، وتشير إلى قصور علمهم في ذلك الحين عن إدراك الكثير مما يحيط بهم من عناصر الطبيعة وآفاق الكون وأسراره. بل وأنفسهم ذاتها.. أي الإنسان بكل ما انطوى عليه جسداً وروحاً. وتعبير (مما لا يعلمون) بما يكتنفه من غموض بالنسبة لأناس ذلك العصر، وربما لما بعده بزمن، وجهلهم بحقائق كثيرة حتى ذلك الحين، إنما جاء من قبيل تسجيل التحفظ والحيطة لما سوف تستجد معرفته فيما بعد، وهو ما حدث بالفعل. فوظيفة التزاوج أو الزوجية قائمة فيما يخص العوالم المتناهية الصغر، كما في تلك المتناهية الكبر، في عالم الأحياء، كما في عالم الجمادات. ولنلاحظ مرة أخرى أننا لا نرى في القرآن تضاداً أو تناقضاً مع العلم على أي صعيد. كما في سائر المسائل والشؤون التي أخضعها العلم لأبحاثه ودراساته.
وسأنقل هنا ملخَّصاً لرأي علمي مستفيض في قضايا الغذاء، وردت في كتاب (الإسلام يتحدى للباحث وحيد الدين خان) تلخيصاً، قدر الإمكان لصفحات كثيرة في المسألة.
هذه الآية (وكذلك الآية 49 من سورة الذاريات) تشمل كل ما هو على ظهر كوكب الأرض. فالنبات هو قوام الحياة للكائنات جميعاً، سواء كان في شكل غذاء للإنسان والحيوان، أو كان دوره في تشكل الأوكسجين والكربون للتنفس لسائر الكائنات الحيّة. وأما البشر أنفسهم فمعروف أنهم الذكر والأنثى. ثم تأتي المواد والعناصر الأخرى التي تتكون منها مادة الأرض.
إن قائمة الأغذية التي يقررها لنا القرآن الكريم تحرِّم (الدم). وكان الإنسان في ذلك العصر، وبعده بزمن طويل، غافلاً عن أهمية هذا التحريم وموجباته وقد دلت التحليلات أن الدم يحتوي على كمية كبيرة من حمض البوليك (Acid Uric). وهو مادة سامة ضارة بالصحة لو استعملت غذاء. وهذا هو السر في الطريقة الخاصة التي أمر بها القرآن في ذبح الحيوانات. وهي قطع الوريد الرئيسي في العنق فقط، حتى يمكن استمرار علاقة المخ بالقلب إلى أن يموت الحيوان، تفادياً للصدمة العنيفة فيما لو قتل الحيوان بطريقة أخرى، إذ عندها تتجمد الدماء في العروق، وتسري إلى أجزاء الجسم الذي سوف يتسمم عند سريان حمض البوليك في أنحائه. وقد حرَّم القرآن لحم الخنزير، ولم يعرف الإنسان السَّر في ذلك التحريم يومئذ، ولوقت طويل بعد ذلك. إلا أنه بات معروفاً اليوم أن لحم الخنزير يسبِّبُ أمراضاً كثيرة. إذ إن كمية مادة الحمض الكبيرة التي يحتويها دم الخنزير تصبح جزءاً من لحمه. ولذلك يشكو الخنزير من آلام المفاصل. والذين يأكلونه بكثرة يصابون بالروماتيزم.
تقول الآية في هذا الصدد:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. (المائدة:3)
لم تعرف هذه الحقائق إلا متأخرة، وعلى مراحل في القرن العشرين. وكما عرَّفنا القرآن بمضار أصناف من الأغذية، ذكر لنا منافع أصناف أخرى. منها العسل، ومنها اللبن. وقد جاءت سورة بكاملها عن النحل، من آياتها:
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:68-69)
إن سلوك جماعات النحل، ونظمه وقدراته الفذَّة في بناء بيوته (خلاياه) من الشمع، في الجبال وعلى الأشجار وغيرها من الأدوات الحديثة، وجمعه الرحيق من الأزهار، ثم إفراز العسل، فضلاً عن نظامه الاجتماعي البديع والمدهش في آن معاً، ناهيك عن هندسة البناء المذهلة في خلاياه وأقراصه متناهية الدقة والجمال. كل ذلك بوحيٍ من الله كما في الآية (وأوحى ربُّك إلى النحل..). وكل ذلك أيضاً كان من أسباب حفز العديد من العلماء على القيام بدراساتٍ متخصصة في شأن النحل. ومن هؤلاء من حاز على جائزة نوبل على دراساته أمثال: فون فريش، ولورنزن، وتبنرجن.
أما اللبن، كعنصر غذائي هام للإنسان بأنواعه ومشتقاته جميعاً، فقد قام العلماء بدراسة مكوِّناته، في العصر الحديث. ولم يجد العلماء في دراساتهم ما يخرج عما جاء في القرآن الكريم. واللبن هنا هو الحليب:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ (النحل:66)
كيفية تكوُّن اللبن، هذه العملية المعقدة - في رأي العلماء والباحثين - لا سيما تلك الآلية المحِّيرة، من مروره بين الفرث والدم في جسم الحيوان المعقد في تركيبه أيضاً، دون أن يتعرض للتلوث من هذين العنصرين المخالفين في تركيبتهما تماماً لطبيعة اللبن الصافية النقية، ليخرج بعد ذلك صافياً ناصعاً طهوراً، كما نعرفه، سائغاً لذيذ الطعم. وليشكل بمشتقاته العديدة الوفيرة عنصراً غذائياً من أهم مقومات الحياة للبشر، التي تدخل، بطريقة أو بأخرى عن طريق معالجتها، في الكثير من ألوان الطعام، التي غدا إنسان العصر يبتكر منها ما قد يدخل في أبواب (الفنون) الغذائية، من طهاة ومتخصصين من رجال ونساء بحيث يستمتعون بلذة طعمها ويزيِّنون بها موائد الحفلات والمناسبات.
أليس في كل ذلك ما يدعو إلى الدهشة والانبهار أمام عجيب صنع الله، والخشوع أمام عظمته وقدرته، فيما هيأ للإنسان على ظهر الأرض من أسباب الحياة والبقاء، والاستمتاع أيضاً.
ويتفق أن تأتي معطيات العلم، ونتائج الدراسات والأبحاث المستفيضة، مطابقة لما ورد في القرآن في هذه المسألة، كما في غيرها.
فيما نعرف جميعاً- ليس العرب ولا المسلمون وحدهم وإنما العالم برمته ومن قبيل تحصيل الحاصل- أن محمداً لم يقم بأبحاث (علمية). حتى هذا المصطلح لم يكن متداولاً يومئذ.
كما أنه لم يذهب إلى البحار والمحيطات والأنهار ليتذوق ماءها، ليعرف من ثم أن المالح لا يختلط بالعذب. وهو كذلك، لم ير ولا رأى غيره من البشر عياناً بأن الجبال تمر مرَّ السحاب، وأن الأرض تدور في فلك. وكذلك الشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية. وهو لم يكن يدري- أو ربما كان يدري- أن العلم سوف يمخر عباب الفضاء بالسفن الفضائية والصواريخ، وأن هذه سوف تنفلت بطاقات الدفع والقوة التي تملكها من أسر الجاذبية الأرضية، كي (تنفذ) من أقطار السموات، أي خارج أحزمة اليونسفير، والأتوسفير، وطبقة الأوزون، بعيداً إلى المريخ والمشتري ونبتون، حين جاء تحدي البشر بأن ينفذوا من أقطار السموات والأرض إن هم استطاعوا، مؤكِّداً لهم أنهم يستطيعون ذلك بالقوة (بسلطان).
من قوله تعالى:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33).
لم يكن محمد عالماً جيولوجيّاً أو فلكياً أو فضائياً حين بلَّغنا عن أسرار الطبيعة هذه.. الجبال والمياه، وطبقات الأرض، والبراكين، وما في باطن الأرض من معادن وثروات. ولا هو كان طبيعيّاً ومنطقيّاً أن يحدِّث عن الأرحام والأجنَّة ومراحل التكوين، كل ذلك وغيره مما أخبرنا به، ونقله إلينا قبل نيف وأربعة عشر قرناً.
ثم يأتي العلم أخيراً ليقول كلمته: إن كل ما جاء به محمد صحيح وصادق، وأنه كما كان (الأمين) في قومه خلقاً ومسلكاً، قبل بعثه نبياً ورسولاً، كان (الأمين) في نقل الرسالة، الكاملة الشاملة الهادية، إلى البشر أجمعين.


* * *

الإنسان الكائن الفريد
ثم نأتي إلى الإنسان الذي أتى عليه حين من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. الآيات جميعها، القرآن من أول حرف حتى أخر آية فيه جاءت تخاطب الإنسان. هو وجهتها ومرماها لكي تأخذ بيده- إن شاء الله هدايته- نحو خيره في الدنيا وسعادته في الآخرة، يوم يلقى وجه ربه.
هذا الإنسان الذي خلق ضعيفاً كما يصفه القرآن الكريم، ليس عند بداية خلقه أكثر من نطفة تُمنى، ولا هو أكثر من سلالة من ماء مهين، قبل أن يسوِّيَه الله وينفخ فيه من روحه، لن يلبث أن نراه عندما يصبح رجلاً يخوض غمار الحياة وحتى نهاية عمره، كائناً يتجبر، ويمارس الظلم والعدوان كلما تهيأت له الأسباب، - إلاَّ من رحم ربك- على الرغم من أنه يعلم أن له عمراً محدوداً، وأنه لا يملك من أمره شيئاً. فهو قد جيء به إلى هذا العالم دون معرفة منه أو رغبة أو إرادة، أو توقيت لحياته ومماته. لا يختار أبويه، وقومه، وموطنه، ولا عصره ولا مكانه في الأرض، أو مكانته بين الناس، ولا جنسيته، ولا تكوين ذاته، كلون بشرته وعينيه، وطوله، وملامحه، وسماته، يجد نفسه هكذا كما هو قد وجد في ذات مكان وزمان، وانتهى الأمر. ذلك كله قضاء جرى عليه، لا دور له فيه ولا قدرة له عليه. عجزه إزاء ذلك كله مطلق. ثم إن هذه جميعاً عوامل تسهم في الصورة التي سوف تكون عليها حياته الدنيوية.. وربما الأخروية في نهاية المطاف. وإن كان في رحلته الدنيوية هذه قد ملك العقل والحواس، هبة من الله ومنحة، لكي يُسأل في أخراه ويحق عليه الحساب، ومن ثم الثواب أو العقاب.
يعرض القرآن لسائر هذه القضايا دون أن يغفل أيَّاً منها، عرضاً شافياً وافياً. وكثيراً ما تأتي الآيات في صيغة التعليم والتوجيه، وفي حالات يقتضيها المقام، التنديد والتعريض، أو الإنذار والتحذير، والعرض لصور الحياة الآخرة، وما ينتظر كل إنسان هناك يوم يلقى ربَّه فرداً:
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (عبس:34-37)
هذا كله جاءنا به محمد بن عبد الله، فأنَّى له هذه القدرة التي تتجاوز إمكانات الإنسان عادة؟ ومن أيِّ نبعٍ ثرٍّ استقى العلم والمعلومات، والتحليل والتعليل، والحكم والمواعظ، والقَصَص والروي ما لم يكن من لدنه تعالى.
الغاية والمبتغى من وراء ذلك أن يتخذ الإنسان من مسألة خلقه تحديداً ما يطامن من سلوكه ونهجه في الحياة، وما يقوده في سبيل الهدى والرشاد، وليس المكابرة والعناد. ولننظر في هذه الآيات في شأن الإنسان:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (الانفطار:6-8)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (القيامة:36-40)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (النحل:4)
لا تني الآيات المبثوثة في ثنايا السور عن وصف الإنسان في سائر أطوار حياته منذ الولادة والطفولة، حتى بلوغه سن الرشد، وبعد ذلك حتى مماته. والآيات تعرِّف الإنسان تعريفاً واقعياً محدِّداً لتكوينه وجبلَّته، شارحة أسراره وخفاياه وما ينطوي عليه في دخيلته من نوازع الخير والشر. ولم يحدث منذ نزلت هذه الآيات على رسول الله أن رأت البشرية تغيُّراً طرأ على تكوين الإنسان الفيزيائي ينقض ما ذهبت إليه في تعريفه ووصفه أو زادت عليه شيئاً. والحديث هنا عن الصفات والمقوِّمات الأساسية للكائن البشري- الفصيلة الإنسانية. وهو ما ينفي ويردُّ مسبقاً على ما جاء به (دارون) في نظريته (أصل الأشياء) التي أثبت بطلانها بحاثة معروفون بعد أن سادت بعض الوقت وأوشك أن يقتنع بها كثيرون في غير قليل من الإعجاب. وهو ــ بالمناسبة ــ من يهود. ثم نعود إلى ما كنا بصدده بعد هذا الاستطراد فنقول إن هذا لا ينفي – بطبيعة الحال- الاختلاف في الصفات الفردية بين إنسان وإنسان. فالإنسان كفرد حالة خاصة قائمة بذاتها، فما من إنسان يشبه إنساناً في المطلق، لا شكلاً ولا موضوعاً. وهذه معجزة أخرى محيِّرة. يتشابه البشر فيما يملكون من خصائص عامة، من حواس وأعضاء. لهم جميعاً وجوه وأرجل وأيدي وحواس خمس، غير أنه ما من إنسان – في الوقت نفسه - يتطابق مع إنسان آخر على وجه الأرض. لم يحدث هذا في الماضي وحتى اليوم، برغم المليارات التي لا يحصيها عدد من البشر الذين وجدوا على الأرض. أليس هذا وجهاً آخر من وجوه الإعجاز الإلهي في الخلق؟
وقل مثل ذلك في مشاعر البشر وأحاسيسهم ودخائل نفوسهم وأمزجتهم، وأخيلتهم، وشطحات أرواحهم. إذن العناصر العامة واحدة، لكن الخصائص الفردية مختلفة ومتفردة. ما من وجه يشبه وجهاً بتطابق تام. ولا أعين تشبه أعيناً.. وهكذا في سائر الأعضاء.
والبصمات المختلفة لكل فرد عن غيره تأكدت علميّاً. ومؤخَّراً تبين أن للأعين بصمات، وللجلد بصمات، لا يشبه أيٌّ منها أيّاً منها. يأتي واحدنا إلى هذا العالم ثم يمضي لا يتكرَّر أبداً. كان واحداً، ومضى واحداً بلا شبيه من قبل ومن بعد. وإذا ما تشابهت أو اشتبهت على البعض مظاهر تشابه أو تقارب بين كائنين بشريين فما ذلك سوى وهم رؤية خادع، ويبقى جوهر المسألة الذي هو أن كل حالة هي تلك الحالة بعينها، وحيدة فريدة.
في هذا الشأن، أي في الصفات البشرية العامة، أي التي هي من خصائص الإنسان عامة نقرأ:
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (العلق:6-7)
إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (العاديات:6-8)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ. أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(البلد4-5)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (الفجر:19-20)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (القيامة:20-21)
يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (الانشقاق:6)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (التكاثر:1-4)
إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (المعارج:19-21)
وسورة عنوانها (الإنسان) تبدأ بقوله تعالى:
هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان:1-3)
هذه الآيات جميعاً تصف الإنسان عامة. وأما الحالة الفردية فيأتي التأكيد عليها في آيات أخرى كثيرة منها:
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (مريم:95)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً. وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (مريم:77-80)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (الأنعام:94)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (يونس:54)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (الزمر:70)
هذه الآيات، وآية مثل كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (المدثر:38) في ماهية الفردية للإنسان تحدد لكل نفس مصيرها حسب كسبها. والكسب هنا يختلف عند كل نفس عن الأخرى. الكسب هو محصلة مجموع المواصفات والصفات المكونة لهذا الإنسان، بما في ذلك وجوده في زمان ومكان معينين من الحياة البشرية على الأرض، ناهيك عما تجني يداه حسب كينونته وكيانه شكلاً ومضموناً. هذا كله يسهم، بل يشكل قدَره ويحدد مصيرَه في الدارين. إذن هو (رهن) هذه العوامل والعناصر مجتمعة. وقدر كل إنسان (فرد) مختلف عن قدر أي إنسان (فرد) آخر باختلاف العوامل آنفة الذكر. الكسب هنا، منه ما هو قدري رباني، ومنه ما هومكتسب بالعقل والممارسة والاجتهاد، وكل منهما متمم للآخر.
وحسناً أن (سيجموند فرويد) و (كارل يونج) و (أدلر) وتلامذتهم جاءوا في هذا الزمان، عقب قرون عديدة من تنزُّل الوحي على محمد عليه السلام، لكي يوغلوا في مجاهل النفس البشرية بحثاً وتنقيباً، ومع ذلك لم يبلغ أيٌّ منهم مطمحه في كشف خبايا النفس وأسرارها الخفية. لقد غاصوا إلى الأعماق – أو هم ظنوا كذلك- من ذلك البحر اللجي المتلاطمة أمواجه، بيد أنهم لم يخرجوا باللآلئ . كان حليفهم الإخفاق في الكثير مما ذهبوا إليه. ولم تمكِّن هؤلاء أبحاثهم من التوصل إلى نتائج حاسمة. لأن هذا النوع من العلم لا يخضع للتجربة المخبرية، شأن العلوم الأخرى في الفيزياء، والكيمياء، والطب، وما إليها، تمشيّاً مع القاعدة العلمية المعروفة لدى الغرب، والقائلة بوجوب تسجيل النتائج الفعلية المرئية المتحصلة عياناً، عن طريق التجربة المخبرية هذه، وإلا فلا اعتراف بها إلا في حدود ضيِّقة تبقيها ضمن دائرة الشك واحتمالات الظنون.
كلا لم يبلغ هؤلاء من تعريف النفس والإنسان بعض ما بلغته آيات الكتاب القصيرة المكثفة في النص، الشاسعة الأبعاد، في المعنى والمضمون، والتي تغني عن أسفار وضعوها في هذا العلم، (علم النفس) (Psychology). وتفرعاته العديدة، تحت عناوين أكثر عدداً، لأجل الإبهار والإثارة والتظاهر بالعلم المحيط والمعرفة المطلقة. وقد ظهرت أبحاث كثيرة فيما بعد أثبتت خطل الرأي، وسوء الاستنتاج والمحصِّلة لدى فرويد وصحبه..!
وإذا كان لا مفر من الاستشهاد بمقولة لعالم غربي – كما عودنا كتَّابنا ومفكرونا- فإننا سوف نستشهد بعدد يسير منهم. مثل هذه الشهادات قد تأتي محايدة وموضوعية من قبل عالم نزيه أو مستشرق مغرض.
ولكن يظل هناك دائماً منصفون يتسمون بالنزاهة والموضوعية، رغم أنهم لم يدخلوا الإسلام، وبعض منهم دخل فيه عندما تبين له الحق، إما عن طريق العلم، أو عن طريق الاقتناع بالعقل والمنطق. من بين هؤلاء وهؤلاء: الألمانية د. زيغريد هونكه، والمستشرق ليوبو لدفايس النمساوي، والعالم الفرنسي د. روجيه جارودي، والدكتور الطبيب موريس بوكاي الفرنسي. يقول هذا الأخير:
(وكما قلنا فلا بد من مقارنة كل من هذه المقولات القرآنية بالمعلومات التي ثبتت في العصر الحديث. إن توافق المقولات القرآنية مع المعلومات الحديثة يتضح جلياً. ولكن من المهم مقابلتها بالمعتقدات التي كانت سائدة في عصر تنزيل القرآن. وليس هناك أدنى شك في أن أولئك المعاصرين لم يعرفوا في ذلك العصر تفسير هذا الوحي مثلما ندركه اليوم. ذلك أن معطيات المعرفة الحديثة تعيننا على تفسيره. الواقع أن المتخصصين لم يكتسبوا معرفة واضحة إلى حد ما في هذه المسائل إلا خلال القرن التاسع عشر (في القرن العشرين تأكدت بدقة أكثر ونهائية). وقد ساعد اختراع المجهر والأجهزة الحديثة على ذلك.
عرف الناس القرآن بما يربو على ألف عام من قبل هذا العصر الذي كانت المعتقدات الوهمية تسوده. إن مقولات القرآن عن التناسل البشري تعبر عن حقائق أولى أنفقت مئات من السنين لمعرفتها)( ).
وحسبنا أن نذكر عناوين أبحاث لزيغريد هونكه وردت في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب)، وهي تتحدث عن الحضارة العربية:
• مستشفيات مثالية وأطباء لم ير لهم العالم مثيلاً
• أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً (الرازي)
• ابن النفيس والدورة الدموية
• نصب تذكاري للعبقرية العربية
• المعجزة التي حققتها العرب
• هدايا العرب للغرب
• أبو القاسم الزهراوي من أهم جراحي العرب وأعظمهم فضلاً
وتقول:
(لقد نقل العرب للأطباء الغربيين صور الأدوات الجراحية العربية).
أما الفيلسوف الألماني جوته فيقول في الديوان الشرقي الغربي:
(وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو. كما نجح في هذا محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد).
هذه هي الحضارة التي نشرها الإسلام الذي جاء به النبي الأمي محمد عليه السلام، لتظل نبراساً لهداية البشرية، وليشهد بذلك الدارسون من غير المسلمين في القرون اللاحقة للتنزيل.
وما دمنا بصدد الحديث عن هذا المخلوق (الإنسان) فلابد لنا من الإشارة، قبل الانتقال إلى حديث آخر، إلى أن كيفية خلقه وتكوينه عرض لها القرآن الكريم، ثم جاءت الأبحاث العلمية المعاصرة لتؤكد كل كلمة وحرف نطق بها القرآن، بحيث تطابق معطيات هذه الأبحاث ما ورد في كتاب الله. يقول تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون:12-14)
في تصوير المراحل المتتالية للخلق، لم يتوصل علم الأجنة في عصرنا هذا إلى غير ما ورد في القرآن الكريم.
أليست هذه حجة دامغة بالغة على أن هذا هو كلام الله، والله أصدق القائلين..؟
* * *

السبق إلى حقائق فلكية
لم يكن محمد بن عبد الله عالماً فلكيّاً أو فيزيائياً أو رياضياً ـ كما سبق لنا القول ـ. وهو نفسه لم يدَّع ذلك. وهو قد جاء إلى هذا العالم قبل مجيء اسحاق نيوتن، وكوبر نيكوس، وجاليليو، وفاسكودي جاما بنحو من عشرة قرون. وقبل البرت أينشتاين بثلاثة عشر قرناً. وقبل زماننا بنحو ذلك. وهو الذي أخبرنا – مع هذا- بما جاء به من قرآن بحقائق ومعلومات كونيَّة وفلكية وأرضية وبشرية ما أثبت العلم صحتها. حدث هذا في وقت لم يكن أحد في العالم كله يومئذ يعرف شيئاً عن هذه القضايا التي كانت طيَّ الغيب. وقد لبثت البشرية، على مدى قرون، وفي كل حقبة من الزمن تتكشف علوم جديدة في ناحية أو أخرى من نواحي الحياة، وفروع العلم والمعرفة. ولعل القرن الأخير كان الأكثر تسارعاً في ميادين العلم التي وصل إليها بفروعه المختلفة.
ولسوف تعتريك الدهشة حين ترى ذلك الذي كشف عنه العلم قد ورد، من قبل، في القرآن لاسيما وقد ملك المختصون بهذه الشؤون، من العلماء، ما لم يملكه محمد من وسائل البحث والاستكشاف وأدواتها: من التلسكوب إلى المجهر والمختبر والأقمار الصناعية ومجسَّات الفضاء والأجهزة الإلكترونية والحاسوب وغيرها مما لا سبيل إلى حصره. وكلما تحققت هذه الأجهزة من نظرية أو كشف ما التفتنا إلى الوراء لنجد أن القرآن قد جاء على ذكرها في الكليات وليس في التفاصيل باعتباره ليس كتاباً علميّاً صرفاً.
من نافلة القول أن نشير ــ مرة أخرى ــ إلى أن محمداً لم يكن مضطراً إلى الخوض في مثل هذه القضايا المعقدة الحافلة بالأسرار والخفايا لو كان الأمر له. لم يكن من الضرورات الحتمية لرسالته الإحاطة بقضايا لها هذه الصفات المعقدة، والتصدي لما لم يعرف بعد من حقائق كونية. نقول أنه لم يكن حتماً عليه التعرُّض لها، وفي ذلك ما فيه من احتمالات ومخاطر لولا أنها وحي من الله. ولأنها كذلك جاءت الأيام على مدى قرون تثبت صدقها، وحتَّمت وقوعها وظهورها في وقتها.
لم يبق أمامنا، والحالة هذه، سوى الإقرار بأن ما جاء به محمد لم يكن من عنده. وأن ما جاء به كان فوق قدرات البشر، وخارج نطاق ملكاتهم وإمكاناتهم، إذ هو من أنباء الغيب التي لن ينكشف الغطاء عنها إلا عبر قرون قادمة بعد التنزيل.
يقول د. موريس بوكاي:
(إن القرآن يدعو إلى المواظبة على الاشتغال بالعلم. إنه يحتوي على تأملات عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية، وبتفاصيل توضيحية تتفق تماماً مع معطيات العلم الحديث. وليس هناك ما يعادل ذلك في التوراة والإنجيل)( ).
يحفل القرآن الكريم بالآيات الكثيرة التي تتحدث في أسرار الكون، كخلق السموات والأرض والكواكب والنجوم، وهي أمور قلما تطرق إليها الدارسون في ذلك الزمان دون الوقوع في أخطاء التفسير والاستنتاج. فلقد كانوا يعتبرونها ألغازاً تتصل بالفلسفة والمغيَّبات أكثر منها بالعلم. ذلك أن الوصول إلى إدراك كنهها كان فوق إمكاناتهم البشرية المتاحة من الناحية العلمية ومعطيات العصر.
القرآن وحده كان بدعاً في ذلك غير مسبوق. صحيح أن التوراة عرضت لمسائل كونية، في سفر التكوين. ولكن ما ورد فيها لم يكن سوى خيالات وأساطير لا نصيب لها من المصداقية حسب ما كشفها وفنَّدها الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في كتابه (العلم في الكتب المقدسة)( ).
ولم يحدث أن جاء العلم أو العلماء بما يخالف أو يناقض ما ورد في القرآن منذ عصر النهضة في أوروبا بعد القرن الخامس عشر الميلادي، ولو لمرة واحدة. أليس هذا مما يدعو إلى الدهشة لو كان واضعه من البشر في وقت لم تكن البشرية قد بلغت من النضج والتطور ومستوى العلم ما يؤهلها لذلك؟
كانت أوروبا طوال الوقت- بما فيه وقت نزول القرآن- وحتى عصر النهضة، المشار إليه، تحظر التطرق إلى مثل هذه القضايا، وتعتبرها تجديفاً وهرطقة، يستحق المقدم عليها الحرق حيّاً بأمر من محاكم التفتيش، التي كانت سائدة آنئذ. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة.
لقد جاء محمد عليه السلام- قبل ذلك بنحو عشرة قرون- يحثُّ الإنسان على التأمل في ملكوت الله. والبحث والدراسة والتقصي في مسائل الخلق. بل في خلق الإنسان نفسه، وهو في حدِّ ذاته أعجوبة الأعاجيب:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران:190-191)
أليست هذه دعوة صريحة للتفكُّر في خلق السموات والأرض والظواهر الكونية كاختلاف الليل والنهار وما تدلُّ عليه هذه الحركة، كما في خلق الإنسان نفسه وتكوينه، وما منحه الله من ملكات.
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الرعد:3)
مسائل مثل ((مدّ الأرض)) والرواسي والأنهار، أليست قضايا تثير التفكير؟ أما (مسألة الزوجين) فقد عرَّفها العلماء على أنها السالب والموجب. وهذه سنة الله في الخلق جميعاً. السالب الأنثى، والموجب الذكر، بالنسبة للحيوانات وسائر الأحياء. وهي كذلك بالنسبة لغيرها من عناصر ومواد تدخل في بنية الكون، ولقاح الثمر والنبات. والذرة بالكتروناتها ونيوتروناتها.
وقد عرضنا لهذه المسألة في صفحات سبقت.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور:43)
تتحدث الآيات - التي ما كان لبشر أن يأتي بمثلها- إضافة إلى الآيات السابقة من آل عمران، عن الفلك والمطر وتصريف الرياح، وعن السحاب ومواقعه بين السماء والأرض. وإحياء المطر للأرض بعد موتها، وما بثَّ فوقها من دواب متعددة الأنواع والفئات. في كل أولئك دعوة للنظر والتأمل.
بيد أن آيات أخرى كثيرة مبثوثة في ثنايا سور القرآن، تدخل أكثر في الجزئيات والتفاصيل في شأن العلم والتعلُّم والكشف عن الحقائق الكونية. كالآيات التالية:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء:30)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت:11)
يعرض القرآن في هاتين الآيتين ــ كما في غيرهما في مواضع أخرى من كتاب الله ــ للظاهرات التي تبحث في عملية تشكُّل الكون. وقد جاءت العلوم الحديثة في القرن العشرين بنظرية تقول إن الكون كان في الأصل كتلة غازية (والدخان)) في الآية قوام غازي تتعلق به جزئيات دقيقة من مواد صلبة أو سائلة، تفضي بعد تكاثرها، ثم ثقل وزنها النوعي إلى عملية ((فتق)) أي انفصال وتكوُّن النجوم والكواكب جرَّاء ذلك. وهذه نظرية توصَّل العلم إليها حديثاً فقط.
ويقول تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (نوح:15-16)
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً. وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً) (النبأ:12-13)
ونحن نعرف اليوم أن الشمس جرم ملتهبٌ تضطرم فيه نيران هائلة، ناجمة عن التحام (اندماج) ذرات الهيدروجين فيها، فتقذف حممها في الفضاء التي من شأنها أن تنير الكواكب الدائرة في فلكها ومنها الأرض. وما نور القمر (الذي ليس بنار كالشمس) غير انعكاس لضوء الشمس على الأرض، والقمر يبدو عندئذ منيراً يمنحنا الضياء. من ثم كان وصف الشمس بالسراج (المشتعل) والقمر بالنور (المضيء) وهذه حقيقة علمية أخرى. وبهذه الطريقة تضيء الشمس نهاراتنا ويجمِّل القمر ليالي البشر على الأرض فضلاً عن دوره وأثره على حياتنا، كالمد والجزر، وحساب الشهور والسنين.
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (الأنبياء:32)
ألا تقول لنا الآية أن هناك (سقفاً) يحفظ الأرض في السماء؟ لم يكن أحد يعرف شيئاً عن ذلك. وقد ذهب المفسرون في شأنها مذاهب شتى، شأنها في ذلك شأن آيات كثيرة، لم يكن التطور العلمي يومئذٍ يتيح لهم إمكان الوصول إلى مضمونها الحقيقي. أما الآن فقد أصبحنا نعرف أن الإشارة هنا قد تعني طبقة الأوزون الحافظة للأرض من الأشعة الكونية، القاتلة للأحياء والحياة لو لم تكن هذه الطبقة موجودة، فهي سقف محكم فعلاً. والعلم اليوم يصف هذه الطبقة بـ (السقف) وحين خرق هذا السقف وحدثت فيه فجوة لأسباب معروفة تسببت في إشكالات بيئية هي الآن محل دراسة، بل نزاع بين الدول حول كيفية علاجها.


* * *

أهناك كواكب مأهولة؟
ونعرض لآيات تتحدث عن حياة موجودة في أرجاء الكون الشاسع. أما عن ماهيتها وكنهها فعلم ذلك عند الله، لكنها لابد أن تكون عاقلة، كما تشير الآيات:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (الطلاق:12)
تشير هذه الآية إلى وجود كواكب أخرى تشبه الأرض في تكوينها، على نحو أو آخر وإلا فلمن يتنزل الأمر إذا كن خاليات من الكائنات العاقلة؟. وجود مثل هذه الكواكب تقول به نظريات علمية حديثة لم يمض على ظهورها أكثر من ربع قرن.
إن لفظة (بينهن) في الآية تعمم وبصيغة الجمع. أي أن هناك أراض لا أرضاً واحدة. ونفهم من الآية كذلك أن الله (ينزل الأمر بين هذه الأراضي السبع والسموات السبع. و(التنزيل) من ثم لابدّ أنه موجه إلى مخلوقات تعقل.
ولننظر في هذه الآيات أيضاً:
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (طـه:6)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (قّ:38)( ).
وتجدر الإشارة إلى أن أيام الله هي غير الأيام التي نعرفها، وأيام أرضنا واحدة منها. وسنأتي على هذه المسألة فيما بعد. ولكننا نقول هنا أن الأيام المعنية هي مراحل التطور في الكون. هناك ستة مراحل للخلق. كما أن هناك تداخل في مراحل خلق السماوات مع خلق الأرض.
هناك إذن تعدُّد السموات وتعدُّد الكواكب التي تشبه الأرض، فضلاً عن تعدد النجوم والمجرات. كما أن هناك خلق وسيط بين السماوات والأرضين.
أما مسألة اختلاف الأيام الكونية فقد وردت في عدد من الآيات كنماذج عما هو موجود وقائم في الكون.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (السجدة:5)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (المعارج:1-4)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (الحج:47)
تختلف الأيام الكونية إذن باختلاف مواقع الأجرام السماوية، يدخل في ذلك الأبعاد الممتدة بينها والكتل لكل منها، والتابعية للدورة الفلكية لكل منها، على غرار أيامنا الأرضية من حيث المبدأ.
الشمس وتوابعها من الكواكب لا تمثل إلا حيّزاً صغيراً جداً من مساحة المجرة التي تتبعها مجموعتنا الشمسية، ومنها أرضنا واسمها، (طريق التبانة). وهذه تحوي عدداً هائلاً من النجوم المشابهة لشمسنا. وهذه المجرة على فداحة مساحتها لا تمثل إلا جزءاً »محدوداً« من الكون، الذي يحتوي عدداً لا يحصى من المجرات. ولا يعلم عددها غير الله. إن الضوء وهو وحدة القياس للمسافات الكونية بين النجوم والأجرام السماوية وسرعته 300 كم في الثانية يحتاج إلى 90 ألف سنة ضوئية لكي يصل ما بين طرفي مجموعة النجوم التي تتكون منها مجرتنا وحدها. هذه الأرقام بحسب علماء الفلك المعاصرين وما يملكون من مراصد فلكية.
يقول موريس بوكاي:
(لقد وصل علماء الفلك إلى درجة عالية من المعرفة عن التطور العام لتكوُّن النظام الشمسي، يمكن تلخيصه فيما يلي: تتكثف المادة الغازية وتنكمش في حالة دوران، ثم انفصال إلى أجزاء، ثم وضع الشمس والكواكب ــ ومنها الأرض ــ في أماكنها. إن معطيات العلم عن السديم الأوَّلي وطريقة انقسامه إلى كمية لا حصر لها من النجوم المجتمعة في مجرات لا يسمح بأقل شك في شرعية المفهوم القائل بتعدد العوالم)( ).
ويرى العديد من العلماء أيضاً أنه لا بد وأن تكون هناك كواكب مشابهة، على نحو أو آخر، للأرض، إذ لا يعقل أن هذا الكون الشاسع المساحات والمسافات، وفيه المليارات بلا عدد من الأجرام لا حياة فيه إلا في الأرض. والمدهش أن في القرآن إشارات واضحة لهذا الاحتمال، كما مر معنا. وأمامنا في كتاب الله ما يرجح ــ إن لم نقل يؤكد ــ هذا الاستنتاج كهذه الآيات:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (يونس:55)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. (الإسراء:55)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ.. (يونس:66)
لفظة (مَنْ) لا تستعمل لغير العاقل. والآية الأولى تحوي لفظة (مَنْ) مرتين. واحدة عند ذكر السموات، وواحدة عند ذكر الأرض. وإذا قال أحدهم أن المقصود هو الملائكة في السموات فإن آية أخرى تنفي تلك الفرضية هي:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (النحل:49-50)
في هاتين الآيتين تأكيد قاطع على وجود خلائق غيرنا في الكون. فالدابة، كما هو معروف لغة، كل ما يدبُّ على الأرض مشياً أو سعياً. ولما كانت الآية تُرجع وصف الدابة إلى تواجد في السموات، كما في الأرض سواء بسواء، فإن مثل هذا الوجود يبدو طبيعياً وممكناً. ثم يأتي بعد ذلك ذكر الملائكة منفصلاً، مضافاً بواو العطف، تضميناً بعبادتهم وسجودهم، ون استكبار. وهذا الفصل بين من ذكرت الآية ممن يسبحون الله في السموات والأرض وبين الملائكة دفعاً للالتباس في الفهم والاستنتاج.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (الرعد:15)
فكلمة (كرهاً) تنفي تماماً أن تكون (مَنْ) العائدة للسموات تعني الملائكة إذ تذكر الآية (49) في سورة النحل الواردة أعلاه أنهم (لا يستكبرون). ومن ثم فهم مشمولون بالتعبير (طوعاً) في الآية (15) من سورة الرعد.
وهذه آيات تقول:
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (الإسراء:44)
لا نفقه تسبيحهم بمعنى أننا لا نسمعه ولا ندركه لأننا لم نؤت القدرة على ذلك بسبب القصور في ملكاتنا وحواسنا. نحن لسنا مؤهلين في الأصل لمثل ذلك.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (مريم:93-95)
(مَنْ) في هذه الآيات تشير إلى كائنات في السموات كما في الأرض على صورة يعلمها الله وحده. والسياق لا يوحي بأن الملائكة هم المقصودون. فالإحصاء والعدّ الفردي يعني قطعاً كائنات أخرى - ربما عاقلة - غير الملائكة. ذلك أن إجراءات كهذه التي ذكرتها الآية تسري على مخلوقات مثلنا (على نحو أو آخر في شبه قريب أو بعيد) لها صفات ومواصفات غير تلك التي للملائكة. أما الملائكة فلابد أن لهم أوضاعاً وحسابات ومقاييس تسري عليهم وحدهم من دوننا نحن وأولئك الذين تشير الآيات لوجودهم في أماكن من الكون.
وهذه آيات أخرى في الشأن نفسه، دلالة على أهميته وتأكيداً على حقيقته.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (الأنبياء:20)
بعد أن تذكر الآية لفظ (مَنْ) في السموات والأرض تردف بالقول (مَنْ عنده)، وهم الملائكة تحديداً. أي أن الكائنات العاقلة التي في السموات والأرض- فضلاً عن الملائكة- لا تستكبر عن عبادة الله. وهذه الكائنات هي غير الملائكة وليست لها صفاتهم.
أدلة قاطعة لا إبهام فيها، ولا شبهة عليها، دليلاً على وجود حياة وأحياء في أماكن من الكون، تتنزَّل الملائكة بينها جميعاً. دون أن تستثني الآية أرضاً منها أو سماء. ولعل العدد هنا (أراضٍٍ سبع) كناية عن التعدد، وليس شرطاً أن يكون تحديداً للعدد بالرقم نفسه، والله أعلم.
أما العلوم الحديثة فتؤكد ذلك على ألسنة، وبأقلام الكثير من العلماء.
يقول ب. جيران (P. Guerin) العالم الفلكي:
(كما هو واضح فالنظم الكوكبية منتشرة في الكون بكثرة شديدة وليس النظام الشمسي والأرض فريدين. ويستتبع ذلك أن الحياة، مثل الكواكب التي تؤويها، منتشرة في كل الكون، في كل مكان وجدت فيه ا لظروف الفيزيقية- الكيميائية اللازمة لتفتحها وتطورها).
وفي الآية التالية دليل قاطع آخر على وجود مخلوقات عاقلة في كواكب أخرى، في أرجاء الكون، بحيث لا تدع مجالاً للشك بحال من الأحوال:
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (الشورى:29)
الدابة مخلوق (يدبُّ) على الأرض – كما أسلفنا- وهي ليست من جنس الملائكة حتماً. والآية تقول أنها موجودة في السموات أي في أماكن أخرى في الكون، كما في الأرض. الآية تضم (الأرض) إلى (السماوات) ثم تنص على (ما بثَّ) (فيهما) من دابة والمثنى هنا يعود للسموات والأرض معاً كما هو واضح.
وكلمة »دابة« لا تعني إلا كائنات حية يشكل الماء العنصر الرئيسي في تركيبها العضوي لقوله تعالى في تعريف دقيق للغاية للدابة المقصودة:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النور:45)
والمعاجم تفسر معنى السماء بالقول (كل ما أظلَّك وعلاك فهو سماك). ثم تؤكد لنا الآية بان الله قادر على جمع هؤلاء بأولئك، أي (مَنْ) في السموات مع (مَنْ) في الأرض إذا شاء. بمعنى أن المسالة تتوقف على مشيئته. فهل هناك من دلالة أكثر توكيداً..؟ لا سيما وأن الجمع بين مخلوقات مثلنا لها صفاتنا الفيزيقية غير وارد مع ملائكة هي من جنس آخر وطبيعة أخرى. المرئي لا يجتمع بغير المرئي لاختلاف التكوين. ناهيك عن كنه الملائكة المختلف تماماً عن تكويننا المادي وأجسادنا الفيزيقية.
وفي كتاب اله آيات أخرى قد نفهم منها ما يؤكد هذه الحقيقة، منها قوله تعالى في معرض ذكره لتكريم بني آدم:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الاسراء:70)
إذن فضل الله جلا وعلا الإنسان على (كثير) ممن خلق. ,إذن هناك خلق كثير وتفضيل الإنسان هنا ليس على إطلاقه. صحيح أن هناك آيات تعني تفضيل الإنسان وتكريمه على سائر الخلق في الأرض. ولكننا ندرك من هذه الآية أن هناك مخلوقات أخرى متعددة. الملائكة هم خلق مفضل على الإنسان، ولكن ظاهر الآية يوحي بل يصرح بتعدد، بمعنى ان هناك خلق غير الملائكة لم يفضل الإنسان عليهم، وهذا الخلق ربما كان موجوداً في كواكب وأماكن أخرى من الكون. وقد فضل الله الإنسان على كثير منهم، ولكن من هذا الكثير من هو مفضل عند الله على الإنسان لأسباب لا نعلمها، وعلمها عند بارئ الخلق وحده.
لقد دأب العلماء على البحث والتقصي في هذا الشأن منذ زمن. والأبحاث العلمية الأخيرة أوشكت أن تثبت وجود حياة في كواكب غير كوكبنا الأرضي. ونحن لا نرى بأساً في أن ننقل هنا بعض ما جاء في صحيفة (الوطن العربي)، ـ في هذا الصدد ـ نقلاً عن صحف وتقارير أجنبية، تحت عنوان (كائن حيّ من الفضاء يزور تركيا- والعلماء يتساءلون هل يوجد أحد هناك؟) ما سننقله عن تلك المجلة طويل نسبيّاً، إلا أننا ـ توخيّاً للدقة العلمية والتماساً للحقيقة الكونية ـ نستميح القارئ عذراً عن ذلك. تقول ا لمجلة:
(أنْباء هبوط كائن فضائي على متن طبق طائر في إحدى القرى التركية سيطرت على اهتمامات الصحف وشبكات التلفزيون العالمية. وهذه تقول إن رجلاً تركياً وسيدتين شاهدوا معاً طبقاً طائراً يهبط في منطقتهم الزراعية، ويخرج منه كائن قصير القامة يرتدي ملابس رمادية اللون وحذاء أحمر، وتنبعث من بطنه شعلة كحزمة من الأشعة الفضية. حاولوا التحدث إليه فلم يرد عليهم. وقبل ذلك بأسبوعين قالت وكالة (انترفاكس) الروسية أن السلطات اضطرت إلى إغلاق أحد المطارات في سيبيريا بسبب وجود طبق طائر فوق المدرج الرئيسي للمطار. العلماء يعتقدون الآن أن هناك كائنات حية تزورنا أحياناً، ربما للتعرف علينا وعلى ما نفعله في كوكبنا. وأنه ربما هناك العديد من الكواكب توجد عليها مخلوقات لا نعرف عنها شيئاً، خلقها الله بأشكال وطبائع تتلاءم مع مناخ الكوكب الذي يعيشون عليه.
(والسؤال هنا- والحديث مازال للصحيفة- هل فعلاً توجد مخلوقات أخرى في الكواكب السابحة في الفضاء أم نحن وحدنا أصحاب العلم و الحضارة؟ بجوار التكنولوجيا المتقدمة والمتمثلة في التلسكوبات العملاقة هناك أيضاً المركبات التي تجوب الفضاء، والتي وصلت إلى مدارات المشتري وزحل والزهرة والمريخ (مارينز وفايكنج)، وهبط بعضها بالفعل فوق هذه الكواكب، وأرسلت إلينا صوراً ومعلومات لم نكن نحلم بها يوماً. الفلكيان (د. جافري مارس وبوك باتلر) من جامعة سان فرانسيسكو اكتشفا مؤخراً كوكبين جديدين لم نكن نعرف عنهما شيئاً، لا يدوران حول الشمس التي نعرفها، ولكن حول شموس أخرى في مجموعات شمسية خارج نطاق مجرتنا. يقولان: يبدو أننا لسنا وحدنا في هذا الكون الفسيح، بل توجد حياة أخرى من نوع مختلف على كواكب أخرى، ولكننا لا نعرفها حتى الآن.
وبعد شرح مستفيض لا نرى المجال متيحاً لنا عرضه يقولان:
(يجب أن نعلم أن هذين الكوكبين يدوران حول نجوم مثل الشمس التي تدور حولها الأرض. كما أن كليهما له درجة حرارة معتدلة بما يكفي لوجود الماء. ويقول سائر علماء البيولوجيا أن الماء هو شرط أساسي سابق لنشوء الحياة ثم استمرارها( ).
يقول العالم الأمريكي (هيوبرت ريفز) أن الأرض والشمس والقمر بالنسبة للكون تبدو جميعها وكأنها حبة رمل على شاطئ المحيط. ويقول العلماء إن هناك دلائل علمية تشير إلى وجود حياة فوق سطح القمر (أوروبا) التابع لكوكب المشتري في مجموعتنا الشمسية. ويعود هذا إلى إمكانية وجود مناخ وتربة ملائمة كما هو موجود على سطح الأرض. ولديهم اعتقاد راسخ بأن هناك حياة خارج الأرض لأنه لا يعقل أن يضم الكون ملايين الملايين من النجوم والكواكب التابعة لها من أجل الإنسان وحده. وأن من يعتقد ذلك هو في منتهى الأنانية والغرور. ولقد تم إنشاء مركز علمي على المحيط الهادي بولاية كاليفورنيا، يجلس فيه علماء على مدار الساعة يترقبون أية إشارة قادمة من الفضاء الخارجي، أو من كواكب بعيدة عن كوكبنا. ولكن تبقى المشكلة الحقيقية في سؤال هام: هل هذه المخلوقات قادرة على الاتصال بنا بنفس وسائل الاتصال ونفس الذبذبات أم أن لها طرقاً أخرى للاتصال لا نستطيع حتى الآن استيعابها، وفهم مكوناتها، وبالتالي لا نستطيع التواصل معها؟ تركز الأبحاث الآن على قمر المشتري (أوروبا) وقمر (نيتان) الذي يدور حول كوكب زحل المغلف بالسحب الكثيفة. كما يركز العلماء على بناء تلسكوبات عملاقة لرؤية أعماق الفضاء الشاسع، ومحاولة رصد ما يدور داخل مجرة (التبانة) التي تعتبر الأرض حبة رمل على شاطئها، كما سلف. وكذلك الكشف عما يحيط بنا من مجرات أخرى بعيدة، لأن العلماء أصبحوا واثقين من أن هذا الكون لم يخلق لخدمة غرور الإنسان وحده)( ).
ويمكننا أن نضيف أنه قد سبق لكثيرين، في أماكن كثيرة من بلدان العالم، أن شاهدوا صحوناً طائرة، أو أجساماً فضائية رأوها رأي العين، وأسهب بعضهم في وصفها، وذلك منذ أواسط القرن الماضي.


* * *

تمدد الكون وحركة الأجرام
جانب آخر لا يقل أهمية عما سلف عرض له القرآن الكريم. ذلك أن العلم قد أثبت اليوم بأن المجرات تتسع، وأن الكون يتمدد- كما البالون- باستمرار، وبسرعات هائلة فوق أي قدرة على التصور. وقد رصدت المراصد، ومنها (هابل) في أمريكا سرعات ابتعاد المجرات بعضها عن بعض، بحيث أن الضوء الذي صدر عنها قبل عدد من السنين الضوئية قبل الآن، وصلنا الآن فقط. وفي هذا الشأن تسجل الآية سبقاً معجزاً عمره ما تعلم من القرون.
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذريات:47)
ما هي ضرورة القول (إنا لموسعون) إذا لم يكن المعنى هو تمدد الكون أي توسعه؟ بل إن وصف العملية بالتوسع أكثر دقة من وصفه بالتمدد ــ التعبير المعاصر. والآية تتحدث عن حاضر النزول والمستقبل وليس بصيغة الماضي، مما يفيد بأن التوسع مستمر على إطلاقه في المضارع.
يؤكد علماء الفلك أن توسُّع الكون هو أعظم ظاهرة اكتشفها العلم الحديث، وأكثرها إدهاشاً للعلماء ووقوفهم حيارى أمامها.
(حينما رأى الفلكيون في الثلث الأول من القرن العشرين ضوء النجوم ينحاز إلى الطيف الأحمر تساءلوا: هل هذا يعني أن النجوم تتباعد عنا؟ ودار جدل طويل خلال النصف الأول من القرن المنصرم حتى ثبت للعلماء أن الكون الذي نحيا فيه دائم الاتساع. وذكروا بأن من صفاته الحالية أنه كون مستمر في الاتساع. ولذلك تتباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض بسرعات تقترب من سرعة الضوء( ).
حتى عجزنا وقصور مداركنا وحواسنا عن استيعاب أبعاد الكون وآماده ومكوناته يشير إليها القرآن في مواضع كثيرة. كقوله تعالى:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ(الملك:3-4)
وقوله تعالى:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف:51)
ثم تمضي الآيات إلى الكشف عن ظواهر كونية- فلكية أخرى، خاصة بمداري الشمس والقمر وحركة الأرض. فالآيات تعلِمُنا بوجود مدار لكل من الشمس والقمر والأرض، وتنقُّل كل منها في الفضاء، بحركة خاصة به ومدار له محدَّد.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (الأنبياء:33)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يّـس:40)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (الحج:61)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (الزمر:5)
وآيات أخرى كثيرة تشير إلى حركة الأجرام السماوية وإلى مداراتها كل منها حسب موقعها.
تكوير كل من الليل والنهار على الآخر هو الوصف الدقيق للحالة الكونية- الفلكية لطبيعة الحركة بين الأرض والشمس، كما هو واقعها تماماً، وتداخل كل منهما مع الآخر نتيجة لتلك الحركة وكروية الأرض. وهذه حالة مثيرة للخيال. إذ يفهم منها أنه في كل لحظة من ساعات اليوم الأربع والعشرين تغيب الشمس عن مكان لتشرق فيما يحاذيه تماماً بسبب التكوير، وعلى مدار الوقت الأزلي. وقد شاهد هذه الظاهرة الفلكية رواد الفضاء أجمعون. إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، في تداخل متصل، وصف يحدد كروية الأرض ودورانها حول نفسها تماماً. أمور لم تكن معروفة على الإطلاق يوم تنزل القرآن على رسول الله.
المفسرون القدامى لم يفطنوا إلى هذه الحقيقية بطبيعة الحال وطبيعة العصر.
يقول موريس بوكاي:
(في إحدى الآيات، وعلى ضوء المعارف الحديثة نجد مستحيلاً أن يكون المقصود بها إلا الأجرام السماوية التي نعرف أنها كواكب. إذ تقول الآية 6 من سورة الصافات (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب). ترى أيشير تعبير القرآن (السماء الدنيا) إلى النظام الشمسي؟ المعروف أنه ليس هناك بين العناصر السماوية الأكثر قرباً منا عناصر أخرى دائمة سوى الكواكب.
والشمس هي النجم الوحيد في ذلك النظام الذي يحمل اسمها. وعلى ذلك فإن التفسير المعطى يكون صحيحاً. كما يبدو أيضاً أن القرآن يذكر وجود الكواكب على حسب التعريف الحديث)( ).
ويضيف بوكاي في مكان آخر بعد مقارنات يعقدها عن حركتي الشمس والقمر وسباحتهما في الفضاء:
(ويظهر أن هناك فرقاً كلاميّاً دقيقاً يشير فيه القرآن إلى الحركات الخاصة لكل من الشمس والقمر. ولقد أكد العلم الحديث حركات هذين الجرمين السماويين، ولا يمكن تصور أن رجلاً في القرن السابع الميلادي قد استطاع تخيُّل هذا مهما يكن عالماً في عصره، وليس ذلك حال محمد صلى الله عليه وسلم.. من وجهة النظر العلمية والعلمية فقط نجد في القرآن ذكر عديد من الموضوعات المتعلقة بالمعارف الحديثة دون أن تكون به أي دعوى مناقضة لما أثبته العلم في عصرنا) ( ).


* * *

كروية الأرض
يقول تعالى:
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (الحجر:19)
المدّ معناه البسط. ولكن أي بسط. لم تحدد الآية أرضاً بعينها. بل تركت كلمة الأرض على إطلاقها. بمعنى أنك حيثما تكون من الأرض فهي أمامك منبسطة. وهذا لا يحدث إلاّ أن تكون الأرض كروية. فلو كانت غير ذلك (مثلثة أو مربعة مثلاً) فإنك ستصل عندئذٍ إلى حافة، ثم الفضاء بعد ذلك، فهل هذا هو الحال، أو ما يمكن تصوره عقلاً؟ فهم بعضهم أو هو استنتج من قوله تعالى (والأرض مددناها) أي أنها منبسطة وغير كروية مما يناقض الواقع علماً وتجربة. أما الذين فهموا النص قرأوا فيه إعجازاً حين جمع بين ظاهر الأمر (انبساط الأرض) والحقيقة الكونية (كرويتها). وكان القرآن بهذا أول كتاب يذكر أن الأرض كروية. بمعنى أن ظاهر الأمر لنا هو انبساطها وامتدادها كما نراها ونحن نعيش على ظهرها في حين أنها كجرم كوكبي ليست كذلك، بل هي كروية الشكل.
أما في مسألة دوارنها حول نفسها فتقول آية أخرى (من بين آيات كثيرة):
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (الزمر:5)
الليل والنهار خلقا على هيئة التكوير فيما يتعلق بكوكب الأرض. من ثم لابد وأن يكون نصف الكرة مظلماً ونصفها الآخر مضيئاً بالتتابع المتواصل، بدليل آية تقول في شأن حركة الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس:
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل:88)
وفي قوله ((تحسبها جامدة)) أي أنه يخيل إليك أنها جامدة واقفة في مكانها لا تتحرك، في حين أن الواقع غير ذلك. لقد خفي عن أبصارنا رؤية حركة الجبال لأنها تتحرك مع كتلة الأرض فتبدو من موقعنا منها جامدة. الجبل يتحرك مع الأرض ولا يتحرك من مكانه لأن الجبال (رواسي) و(أوتاد) لحفظ توازن الأرض كيلا (تميد) بمن عليها. يقول تعالى:
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل:15)
ويقول:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (النبأ:6-7)
وهذه آيات واضحة الدلالة تضيف إلى فهمنا ما لا يدع سبيلاً إلى غير الإيمان والاقتناع بأن هذه هي حقاً كلمات الله التي أنبأتنا بكل هذا قبل عصر العلم والاكتشافات العلمية بقرون طويلة، وقبل أن يخطر ببال أحد من معاصري نزول القرآن بأن العلم سوف يأتي بهذه الحقائق المصدقة لما بين يدي كتاب الله. وهذا هو الإعجاز عينه، وهو الدليل نفسه على أن هذا القرآن تنزل على محمد عليه السلام وأن آياته تتكشف للبشر واحدة إثر أخرى على مر الزمن. وهذا الإعجاز، في حدِّ ذاته، ما بعده إعجاز.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يّـس:37-40)
حول هذه الآيات يقول موريس بوكاي:
(إن الشمس تضيء بشكل دائم ــ فيما عدا فترات الخسوف ــ نصف الكرة الأرضية التي تقع أمامها، على حين يظل النصف الآخر مظلماً. وقد رأى روَّاد الفضاء هذا وصوروه من مركباتهم الفضائية من بعد بعيد عن الأرض.. من على القمر مثلاً. وبدوران الأرض حول نفسها على حين تظل الإضاءة ثابتة، فإن المنطقة المضاءة منها – وهي على شكل نصف كروي- تؤدي في أربع وعشرين ساعة دورتها حول الأرض، على حين يتم النصف الآخر المظلم في نفس الوقت نصف الرحلة. والقرآن يصف بشكل كامل هذه الدورة التي لا تكف أبداً للنهار والليل. وهي اليوم يسيرة على الإدراك الإنساني. هذه العملية الدائمة في التكوُّر مع الولوج المستمر لقطاع في آخر، يعبر القرآن عنها، وكأن اكتشاف استدارة الأرض كان قد تم في عصر تنزيل القرآن، وبالطبع لم يكن هذا قد حدث بعد)( ).
كما إن القرآن يصف تعدُّد المشارق والمغارب في سياق دعوته. الإنسان للإيمان بما يكشف له من أسرار الكون وخفاياه، إذ تقول الآيات:
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (المعارج:40)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (الرحمن:17)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة:115)
الشمس تشرق من مواضع مختلفة وتغرب في مواضع مختلفة. إن العلامات التي تتخذ على كل من الأفقين تحدد نقاطاً قصوى تشير إلى مشرقين ومغربين توجد بينهما نقاط على مدار السنة. وهذا الذي ورد في القرآن نقله إلينا محمد عليه السلام هو ما يتطابق مع المفاهيم العلمية الحديثة.
أما عن تعدد المشارق والمغارب ــ بصيغة الجمع ــ فهو تَغيُّر مواقع الشروق والغروب على مدار السنة حسب حركة الشمس وعليها بنوا خطوط الطول والعرض. ونحن نلاحظ هذه الفوارق في ذلك التغيير واختلافها بين الشتاء والصيف وما بينهما، وفي طول ساعات الليل والنهار، تطول حيناً وتقصر حيناً بما يعني أنه ليس للشمس مشرق واحد ومغرب واحد وإلا تعادل طول الليل مع طول النهار لو كان المشرق واحداً يقابله مغرب واحد مادام موقع الشروق وموقع الغروب ثابتاً لا يتغير. حقائق وحسابات سجلها العلم حديثاً (الانقلاب الربيعي والانقلاب الخريفي نموذج معروف عن هذا مؤكداً تعدد المشارق والمغارب).
كما أنها تعني أيضاً مشارق ومغارب كواكب أخرى غير أرضنا، فهي جميعاً لها مشارق ومغارب بطبيعة الحال، إذ ليس الأمر مقتصراً على أرضنا وحدها أو على مجموعتنا الشمسية وحدها.
ومن الظواهر الكونية العجيبة، ذات الدلالة على كروية الأرض، وهي في الوقت عينه، واحدة من آيات الله التي تتجلى فيها عظمة قدرته، تلك هي ظاهرة الظل والآيات التي أشارت إليها، داعية البشر إلى النظر فيها مبتدئة ــ كما في آيات كثيرة ــ الدعوة بالتساؤل ((ألم تر)). يقول تعالى في شأن الظل:
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (الفرقان:45)
قد يتساءل بعضهم: وماذا يعني (مدّ الظل) ولماذا يضرب الله به مثلاً.. إذ تبدو لهم هذه المسألة لا خطر لها أو أعمية جديرة بالذكر. ولكن الله سبحانه لا يضرب أمثالاً هامة وأخرى أقل أهمية. كل مثل يضربه لنا له من الخطورة والأهمية ما لو أمعنا فيه النظر لأدركنا أبعاده وآماده، التي قد تصل إلى كينونتنا ذاتها وإلى وجودنا على ظهر الأرض، ومعنا سائر الكائنات والمخلوقات. هذه الآية لو نظرنا فيها مليّاً كما تطلب منا بالتساؤل (ألم تر) لأدركنا الأبعاد الخطيرة المنطوية عليها. وقد يتساءل المرء أحياناً كيف يمكن أن تكون هناك شمس تشرق ثم ترتفع في كبد السماء ثم تمضي حثيثاً إلى أن تغرب ولا تكون هناك ظلال تخلفها سواء للإنسان أو الأشجار أو المباني، ومواقعهم منها في هذا الوقت أو ذاك من ساعات النهار.
طلعت علينا الأنباء العلمية منذ وقت ليس ببعيد تقول بأن كوكب عطارد وهو أحد كواكب مجموعتنا الشمسية، يعطي الشمس وجهاً واحداً دائماً، ومن ثم فإن نهاره سرمدي على هذا الوجه وليله سرمدي على الوجه الآخر. وكذلك القمر (قمر الأرض). ومن ثم لا تكون هناك ظلال ولا تكون هناك حياة أصلاً لكائنات. فلو حدث هذا للأرض لما وجدنا على ظهرها، ولا وجدت سائر المخلوقات والكائنات قط. وذكر الشمس هنا للدلالة على أنها دليل الظل وهي مسبِّبته عن طريق حركتها (الظاهرية) في يومنا، وتعاقب الليل والنهار بما يمكننا من العيش على الأرض. وفي مكان آخر من كتاب الله نقرأ آيات أخرى تؤكد هذا المعنى، وكأنها تقول لنا إن هذا كان يمكن أن يحدث، وأن تكون الأرض كعطارد والقمر، وربما كثير غيرها في كون الله الواسع الآماد والأبعاد، وكان من فضله ونعمته علينا أن أعطانا ما نحن عليه في نظامه الكوني وقدره للأرض وأي نظام أراد لها. تقول الآيات (وقد سبق أن أوردناها في مكان ومقام آخر من الكتاب حيث تطرقنا إلى ظاهرة تعاقب الليل والنهار:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص:71-73)
أرأيت إلى خطر آية الظل وعظيم شأنها التي قد لا تبدو أهميتها كذلك للوهلة الأولى لمن لا يتدبر ولا يتفكر؟
والآيات هذه التي أدرجناها تعرض براهين للإنسان على وحدانية الخالق من خلال عرض الأمثال والنماذج التي تقطع الشك باليقين.
ترى من أدرى محمداً بهذا كله؟ أيكون هذا من عنده؟ أليس مثل هذا الظن من خطل الرأي وعمى البصيرة؟


* * *

أقطار السموات
عندما جاء (ج هـ ويلز) الكاتب البريطاني، بتخيلات عن الفضاء في أوائل القرن الماضي (ومثله جول فيرن)، دهش الناس، ولاسيما عندما تحققت بعض تخيلاتهما التي اصطلح، فيما بعد، على تسميتها (بالخيال العلمي). ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم جاءنا بآيات، من قبل ذلك، تخبرنا عن غزو الإنسان للفضاء، في المستقبل.
يقول تعالى منبئاً إيانا بأمرٍ سيحدث في قادم الأيام، وقد تحقق بالفعل بعد أربعة عشر قرناً:
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (الانشقاق:16-20)
ترى هل هناك ما هو أكثر وضوحاً وأشد تأكيداً من هذا الوعد: (لتركبن طبقاً عن طبق) في صيغته المستقبلية؟ وإلا فما معنى التأكيد بالقسم على حتمية وقوع هذا في عصر لم يكن أهله يعرفون شيئاً عن الأطباق و(الأطباق الطائرة)؟ أليست الأقمار الصناعية والسفن الفضائية حين تنطلق إلى الفضاء إنما تنطلق على مراحل تُخلِّفُ كل واحدة منها وراءها طبقاً (صاروخاً) ينفصل عنها للتخفيف من حمولتها، ولتزيد من قوة دفعها وانطلاقها؟
والمدهش أن الآيات التي سبقتها تتحدث عن (الشفق)، والليل (وما وسق) والقمر (إذا اتّسق). إذن هي تتحدث عن الفضاء وما سوف يستجد مستقبلاً في شأنه.
وهذه الآية التي نعيد ذكرها هنا حول التصريح للإنسان بالنفاذ إلى الفضاء (أقطار السموات والأرض) عندما تمكنه الظروف من ذلك، عن طريق العلم ووسائله وآلياته التي سوف يتوصل إلى ابتكارها. وهو ما حدث في زماننا هذا. تقول الآية الكريمة:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33)
واستطاع الإنسان بالفعل النفاذ إلى أقطار من السموات قريبة نسبيّاً، عندما تمكَّن من الانفكاك من الجاذبية الأرضية.. دار الإنسان حول الكرة الأرضية لأول مرة في أواخر الخمسينات. وكان الرائد الأول روسياً هو (يوري غاغارين). كما سبقت الإشارة إلى هذا السلطان الذي امتلكه الإنسان للنفاذ من أقطار الأرض هو قوة الصاروخ، وعلوم التكنولوجيا الحديثة. كما استطاع الإنسان الصعود إلى القمر والنزول على سطحه عام 1967 (نيل آرمسترونج – وزميله) وقد تزايدت أعداد رواد الفضاء من مختلف الجنسيات منذ ذلك الحين. والمحاولات للنزول على سطح كواكب أخرى ما زالت جارية. أما السفن الفضائية ــ غير المأهولة ــ فقد نزل منها عدد محدود على كواكب كالمريخ والزهرة، في حين اقتصر بعضها على الدوران حولها وعلى مقربة منها، كالمشتري ونبتون.
وتقول آية أخرى في السياق ذاته أو قريباً منه:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت:53)
يعدنا الله سبحانه في هذه الآية بأن الإنسان سوف يحقق إنجازات علمية، وأن الناس سوف يرونها في وقتها، لكي تكون شاهداً على صدق ما جاء به محمد عليه السلام:
من هذه الآيات أيضاًَ واضحة الدلالة مؤكدة على هذا المعنى، أي إنباء القرآن بما سوف يحدث مستقبلاً قوله تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (صّ:87-88)
لكم هو مدهش هذا التعبير إشارة إلى أنباء العلم التي ستجيء بعد حين من زمن التنزيل. وكما هو واضح أن الخطاء موجه بصيغة الجمع للمضارع ــ المستقبل ــ إلى الرسول والناس في زمانه.
ولأن العلم لم يكن قد توصل بعد إلى تحقيق هذه الإنجازات، جاءت الآية من سورة (فصلت 53) بصيغة المستقبل نبوءة (سنريهم). وهي تخاطب ناس ذلك الزمان الذين لم يكن يخطر لهم على بال أو ما يملكون من خيال، ما سوف يتمخض عنه المستقبل الآتي في القرون التي ما برحت طيَّ الغيب. كذلك شأن (ولتعلمنَّ) نبأه (بعد حين) (من سورة ص)، أي بعد زمن من الآن. كما تحدثت الآيات عن (الآفاق) وليس عن أفق واحد. عن آفاق سيرتادها الإنسان. والآيات هنا بمعنى العلامات والحقائق والظاهرات الكونية والإنسانية.
كيف عرف محمد عليه السلام أن ذلك سوف يحدث في المستقبل البعيد البعيد؟ وأن الناس يومئذ سوف يعرفون الكثير- كما تقول الآيات- عن أنفسهم التي هي في حد ذاتها لغز وأي لغز. لسوف يعرفون- مع ذلك- خفايا النفس، أو شيئاً من هذه الخفايا والمكنونات، على الأصح. كما سيعرفون أسرار الجسد الإنساني، أو بعضها أيضاً. ما توصلت إليه الأبحاث العلمية مؤخراً في الشؤون الطبية والبيولوجية والفيزيائية وغيرها كالجينات، والكروموزومات، والحمض النووي، وعمل الخلايا وتكوينها، وخصائص الدم ومكوناته، وخلايا الدماغ، والأعصاب، ذلك كله لكي يتبين للناس أن الله هو الحق، وهو الشاهد على كل ذلك العليم به. وهنا نلاحظ أن هناك مزجاً، أو لنقل ربطاً، بين ما هو فلكي كوني وما هو إنساني:
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر:14-15)
تخبرنا الآيتان عن الدهشة التي سوف تلم بمن سيرتادون الفضاء – وهو ما حدث بالفعل لكافة رواده- لما يبدو لهم من ظواهر ومشاهد كونية غريبة تأخذ بالألباب كفعل السحر. وهل هناك تعبير أكثر وضوحاً مما تشير إليه الآية (فتح باب من السماء)- أي الفضاء يعرجون فيه، أي يصعَّدون إليه تدريجاً. وهذا يشير أيضاً إلى ممارسة واقعية بالجسد وليست خيالية أو روحية.
ولقد ثبت عن طريق الرواد والسفن الفضائية، أنه على مبعدة مائتي كيلو متر في الفضاء يكون نور الشمس على الأرض ساطعاً كما نعرفه. أما الذين تجاوزوا هذا البعد فإنهم يدخلون في ظلام كوني، وتظهر لهم الشمس قرصاً منيراً وسط تلك الظلمة الفاحمة، حتى لو كان الوقت نهاراً على الجانب المواجه لهم من الأرض. ولقد قال أحد الرواد الذين تجاوزوا (المائتي كيلو متر) هذه تعبيراً عن دهشته لتلك الحالة الفريدة، هذه الجملة بالنص كما نقلت عنه:
قال : (كأني فقدت بصري لحظةً عندئذٍ واعتراني شيء من السحر)(*)
وكما نرى أن الجملة التي صدرت عن الرجل تنطبق تماماً على وصف الآية الكريمة للحالة الظاهرة، بل تكاد أن تكون الكلمات ذاتها. وهو لم يكن عربياً ولا مسلماً. كان روسياً، وليس لديه أيّ معرفة بالقرآن ولا بأصحابه. والعروج في السماء هو الصعود التدريجي. وفتح أبواب السماء هو الخروج من الجاذبية الأرضية، ومن سقف الأوزون الذي تصفه الآية (السقف المحفوظ)، والولوج إلى عالم الفضاء الفسيح الغامض بالنسبة لنا كبشر.
ونحن عندما نقابل النص القرآني بالمعطيات العلمية الحديثة كيف لا تعرونا الدهشة، فلا ننبهر بتلك التحديات، التي لا يمكن افتراض صدورها عن فكر إنساني صرف عاش قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.
يقول وحيد الدين خان( ):
(رغم نزول القرآن قبل قرون كثيرة من عصر العلوم الحديثة، لم يتمكن أحد من إثبات أو اكتشاف أية أخطاء علمية فيه. ولو أنه كان كلاماً بشرياً لكان هذا ضرباً من المستحيل. لم يطرأ على مقال القرآن أي تغير رغم انقضاء قرون وعصور طويلة. وهذا في نفسه دليل على أن منبعه عقل جبار يحيط بالأزل وبالأبد علماً. وهو يعلم سائر الحقائق في صورها النهائية من جهة، والحقيقية من جهة ثانية، ولا يخضع علمه ومعرفته لحواجز الزمان والمكان والأحوال. ولو كان هذا الكلام صادراً عن بشر محدودي النظر والعلم، لكان الزمان قد أبطله منذ عصور عديدة، كما يحدث لكل كلام إنساني في مستقبله).
وآيات تعرض لمسائل لم تعرف إلا حديثاً – نسبياً- كالجاذبية التي اكتشفها (إسحاق نيوتن). وكيف كان ذلك؟
كان الرجل يجلس تحت شجرة تفاح، سقطت إحدى حباتها مصادفة أمامه. شرع يفكر في سبب سقوط التفاحة، هكذا من تلقاء نفسها- كما يبدو ظاهرياً- وليس بسبب ريح هبت في تلك اللحظة. إلى أن توصل بعد تجارب عمد إليها، أوصلته نتائجها إلى حقيقة قانون (الجاذبية الأرضية). وسمي ذلك، في حينه، اكتشافاً علمياً عظيماً.
الجاذبية- كما بات معروفاً- هي التي تعمل على بقاء الأجرام السماوية- من كواكب ونجوم ومجرات- في مواقعها دائرة في أفلاكها. وهي عماد الانتظام لتلك المدارات قاطبة. ولئن كانت الآيات لا تسمي الأشياء بأسمائها دائماً، والتي أصبحنا على معرفة بها، وذلك لأسباب بلاغية يقتضيها المستوى اللغوي البلاغي في القرآن، فتعمد من ثم، إلى التشبيه، والترميز، والإشارة، والكناية والمجاز وغيرها من أساليب القول والبيان، فهي تترك لنا التفسير والبحث عن المعنى، حفزاً لعقولنا على العمل والتدبر، سعياً للوصول إلى المقصد. من هنا يمكننا القول بأن القرآن علَّمنا وعرَّفنا على الرمز قبل أن يعرفه الرمزيون في الأدب، ودلالات الألفاظ على المعنى، قبل أن يعرفها البنيويون واللسانيون بزمن طويل.
تقول آيات كريمة في هذا الشأن:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (الرعد:2)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (فاطر:41)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم. ٍهَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (لقمان:10-11)
تحدٍّ آخر مفحم.. (هذا خلق الله).. (فأروني ماذا خلق الذين من دونه). ويسائل المرء نفسه:
إذا كانت السماء مرفوعة بغير عمد كما نراها، فما الذي يمسكها إذن إن لم تكن الجاذبية؟ لاسيما وأن الأفلاك (تجري) تدور في مداراتها فتتولد الجاذبية من حركتها. أما الرواسي التي هي الجبال- كما في آيات كثيرة- فوظيفتها استقرار الأرض ومنعها من أن تميد بمن عليها، إذ هي تجري أيضاً ولا تمسكها إلا قوة الجاذبية، بقدرته تعالى وحسب سننه ونواميسه ومشيئته. فالأرض تدور في فلكها بفعل الجاذبية حول الشمس. كما أن القمر تمسكه جاذبية الأرض التي يدور في فلكه حولها. تسري هذه القاعدة الكونية على سائر الأفلاك، بطبيعة الحال، بوصفها من سنن الله في الكون.
والآيات في ظاهرة إرساء الأرض بالجبال كثيرة (عشر آيات). ولم تعرف هذه الحقيقة علمياً أيضاً إلا منذ ثلاثة عقود. والجبال تتحرك مع دوران الأرض حول محورها، وتتحرك معها قيعان البحار والمحيطات والجبال تثبت بامتداداتها العميقة كتل القارات، ومن ثم تستقر الأرض ولا تميد. والظاهر من الجبل فوق سطح الأرض يمثل ثلث كتلة الجبل فقط، والثلثان الآخران في الأعماق. فهي إذن أشبه بالأوتاد كما تصفها الآيات القرآنية تماماً. يقول تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (النبأ:6-7)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (النازعـات:31-32)


* * *

بدايات الكون ونهاياته
وإذا كانت هناك آيات تصف بداية الخلق والكون والكائنات فهناك آيات تصف النهايات لهذه جميعاً. عن البدايات يقول تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (نوح:15)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر:49)
أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (مريم:67)
الكون حادث بمعنى مخلوق. ولكن متى خلق الله الكون، علم ذلك عنده وحده. للكون إذن بداية. ووجود الخالق لاريب فيه، لأن ما من شيء وجد من تلقاء نفسه. والمنطق الجدلي يفترض: مادام هناك مخلوق فللمخلوق خالق، كما أن للمصنوع صانع وللنظام منظِّم واضع له؟
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الحديد:3)
ثم يأتي بعد ذلك مباشرة، أي بعد إثبات وجوده الأزلي السابق لوجود الكون يأتي بعد ذلك قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد:4)
ويقول تعالى:
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (الأنعام:101-102)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (طـه:55)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت:20)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ. الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (الملك:2-3)
الآيات في شأن الخلق كثيرة جداً، نجدها في ثنايا كتاب الله، في كثير من السور. وقد سبق لنا أن أوردنا بعضاً منها في الفصول السابقة حيثما اقتضت المناسبة في البحث. وهي حيناً تتحدث عن خلق الكون (السموات والأرض وكل ما في الكون)، وحيناً في خلق الإنسان والكائنات الحية عموماً، فضلاً عن حاجاتها ومقومات بقائها.
ولما كانت للكون بداية، فلابدَّ من أن للكون نهاية.
أما عن النهاية فالآيات كثيرة جداً أيضاً، منها قوله تعالى:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إبراهيم:48)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (النمل:87)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء:104)
أجمع العلماء على أن هذا ممكن بعد اكتشافهم ما أسموه (الثقوب السوداء) التي قد تبتلع الكرة الأرضية، التي تصبح لحظتئذٍ في حجم كرة القدم لشدة كثافتها. هذه صورة تبدو فوق مداركنا. ولكن دراساتهم تقول أن هذه أصبحت حقيقة ثابتة علمياً.
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(القيامة:7-9)
وهذه الآية تصور تهاوي الأجرام واصطدامها بفعل انجذاب الأصغر للأكبر كما يحدث للقمر الذي سيصطدم بالشمس فيتلاشى.
هذا الكون إذن إلى اندثار بكواكبه ونجومه ومجراته وسائر أجرامه:
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (الانفطار:1-4)
تنشق السماء، وتتناثر الكواكب وتتفجر البحار بالبراكين وتبعثر القبور. السورة نفسها تحمل عنوان (الانفطار) ذي المدلول الواضح الرهيب.
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (التكوير:1-6)
صور رهيبة تجسد النهاية المرتقبة للأرض، ولغيرها من أفلاك في نهاية المطاف. وتكون هذه النهاية عودة إلى البدء لما كان عليه الكون قبل التشكل التالي لتلك البداية مصداقاً لقوله تعالى:
.. كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الانبياء:104)
ويقول تعالى:
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (قّ:15)
نظرية علمية حديثة تقول بأن الاندماج لعناصر النجوم يحدث لكثير منها، فيصغر حجمها إلى حدٍّ يفوق تصوراتنا، ولا تتسع له ملكة التخيل عندنا وهذه ــ كما سلفت الإشارة ــ تسمى (الثقوب السوداء). وهذه الثقوب السوداء أشارت إليها الآيتان: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (التكوير:15-16). النجوم والكواكب سوف تتجاذب وتتقارب بعد أن يبلغ اتساع الكون مدى يشاؤه الله، لتعود الأجرام كلها كتلة واحدة، تماماً كما كان عليه حالها عند البداية، حين كانت كتلة واحدة انفجرت فيما يعرف اصطلاحاً بالانفجار العظيم (Big Bang). أي أنها كانت رتقاً (كما تقول الآية) قبل أن تتفتق (كما تقول الآية أيضاً) وتتناثر وتتوزع في أرجاء الكون.
وهذه آيات أخرى في السياق والظاهرة معاً نضيفها إلى ما سبق ذكره لمزيد من البيان.
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً. لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً (طـه:105-107)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (الدخان:10-11)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً. وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (الواقعة:4-6)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً. وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (النبأ:17-20)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ.  (الحاقة:13-16)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (القمر:50)
يتحدث العلم اليوم عن جزء من مليون من الثانية.
فلمح البصر إذن حقيقة كونية خاضعة لأمر الله. هي سرعة متناهية في الصغر، شاء الله أن يقربها لمداركنا حين وصفها بلمح البصر.
وإذا كان علماء الفلك قد أثبتوا في النصف الأول من القرن العشرين مسألة توسع الكون- كما سلفت الإشارة إلى ذلك- بيد أنهم أضافوا أن هذا التوسع لا يستمر إلى مالا نهاية، وإنما سيأتي وقت تتناقص فيه عملية الطرد إلى الخارج، والتي نتجت في الأصل عن الانفجار العظيم. وسيؤدي ذلك إلى تناقص قوة الجاذبية. وعندها يبدأ الكون في الانكماش والالتحام على ذاته، حتى تتكدس كل مادة الكون وسائر طاقته. كما يتلاشى كل من الزمان والمكان في جرم متناهٍ في الصغر حتى يكاد أن يقترب من الصفر أو العدم، شبيه تماماً بالجرم الابتدائي الأول الذي انفجر فخلق منه الكون. يسمون تلك العملية (بالانسحاق الشديد). وهنا نعود إلى الآية الكريمة التي أوردنا من سورة (الأنبياء 104). ولا يحدث هذا اضطراراً، أو كضرورة حتمية تحدث من تلقاء نفسها بحكم تلك الضرورة، وإنما يحدث بتدبير من مبدع الكون سبحانه.
فأي إعجاز هذا الذي سبق القرآن إليه عصر هذه الكشوف العلمية جميعاً بأربع عشرة قرناً؟
تلخص الأمر كله – لكي يعرف الإنسان أي مصير ينتظر البشرية ومعها الكائنات والأكوان جميعاً- الآيتان:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ (الرحمن:26-27)
مشاهد النهاية هذه مثيرة لتصورات مرعبة، لا يملك الإنسان أمامها سوى الوقوف خاشعاً، مسلِّماً لمشيئة الله وقضائه وقدره.
فمن أدرى محمداً عليه السلام بهذا كله في ذلك الزمن البعيد غير بارئ الكون؟


* * *

حداثة الكون والخلق
شواهد طبيعية كثيرة تثبت أن الكون لم يكن موجوداً منذ الأزل. كما تثبت الدراسات أن له عمراً محدوداً، فعلم الفلك يقرر أن الكون الذي يتسع بالتمدد الدائم – كما أسلفنا- وأن مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة فلكية تفوق الخيال. والعلماء متفقون ومجمعون على أن للكون نهاية. ولكن متى؟ هذا ما لم يتسنَّ لهم الوصول إليه. بعضهم جاء بنظريات، غير أن أحداً لم يزعم أن لديه علم ذلك على وجه اليقين. يقول جلَّ من قائل:
يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (لأعراف:187)
يقول تعالى تأكيداً على ذلك:
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (الأنعام:134)
ومن أدرى محمداً- غير ربه- بعظمة مواقع النجوم وخطر شأنها في ذلك العصر، وهو يروي ما يتنزل به عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (الواقعة:75-78)
يقول عالم فلك أمريكي في تحقيق علمي حديث:
((وهكذا أثبتت البحوث العلمية- دون قصد- أن لهذا الكون بدايةـ فأثبتت تلقائياً وجود الإله، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته (من تلقاء نفسه). لابد أن يحتاج إلى المحرك الأول. الخالق الإله))( ).
هذا بحث لا ينتهي عند نقطة محددة، فالعلم يكتشف كل يوم جديداً.. وآيات الله لا تنفد أبداً، حتى لو كان البحر، وسبعة أبحر من مثله مداداً. ويخاطب الباري عز وجل، الجاحدين والمنكرين، بقوله:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان:4-6)
الله وحده يعلم السر في السموات والأرض، وسيظلّ الأمر كذلك، مهما حاول البشر في أبحاثهم ودراساتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يقول كثير من العلماء إن ما توصل إليه العلم حتى الآن ــ على أهميته البالغة ــ ليس أكثر من نقطة في بحر ما.
آيات كثيرة جداً تتحدث عن هذه الحداثة، عندما تنص على خلق السموات والأرض، وسائر ما تحوي من عناصر وكائنات وخلائق، تعمم حيناً وتخصص حيناً، لكي يقتنع الإنسان بالرؤية العيانية، مستخدماً حواسه، وبالإدراك الفكري والمنطقي، مستعيناً على ذلك بما وهبه الله من عقل. بمعنى أن الخلق هو (استحداث) شيء غير موجود في الأصل. يقول تعالى في آية واحدة جامعة مانعة، من بين آيات تحفل بها صفحات كتابه العزيز:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (لأعراف:54)
ويقول تعالى في آيات أخرى:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (السجدة:7)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف:51)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (إبراهيم:20)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(البقرة:164)
آية واحدة في سطور قليلة حوت من المعاني ما لا تتسع له مجلدات لو أرادت الحديث عن كل واحدةٍ من موضوعاتها. لقد بدأت بمسألة الخلق، ثم مضت تحكي عما استتبع ذلك من تطورات وظاهرات كونية، وأخرى حياتية تخص الإنسان وسبل عيشه على الأرض، وما هيأ الله له ولغيره ممن خلق على ظهرها من أسباب الحياة. وسائر ما ذهبت إليه الآية مُحدَث من قبل الله من غير سبق. وغاية الآية من وراء ذلك أن يتفكَّر البشر من ذوي العقول في آيات الله الكونية ومعجزات خلقه، لكي تكون عبادتهم لله عن وعي ويقين تلك العبادة التي خلقهم من أجلها:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذريات:56)
ويخاطب الله رسوله قائلاً جلّ من قائل في شأن التنزيل:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:102)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (الكهف:1)

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس