عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 07 : 08 PM   رقم المشاركة : [17]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثالث عشر
الروح والحياة بعد الموت



[align=justify]
الروح والحياة بعد الموت
لم يتعرض كتاب من قبل، ولا من بعد، لثنائية الحياة والموت بشمولية وإحاطة، لا يعتريها الخطأ، كما تعرّض لها كتاب الله. وكانت هذه من صلب العقيدة في الإسلام. لهذا فإنك ستجدها منبثَّة في أكثر سوره باقتضاب أو بتفصيل. أما في شأن الروح، محور الارتباط بين إقنيمي الحياة والموت، فإن القرآن اقتصر على جواب حاسم وقاطع، معلناً أنها من أمر الله وحده، وأبقى سرَّها خفياً عنا لحكمة أرادها، حين لم يفصح عنها كتابه بأكثر من ذلك. بيد أنه أشار في الوقت نفسه، إلى أن البشر لم يؤتَوْا من العلم إلا قليلاً، مما يجعل من المتعذر عليهم معرفة حقيقتها وإدراك ماهيتها. ربما لأنها أعقد، أو أكبر، أو أهم، أو أقدس من أن تحيط بها مداركهم المحدودة، أو تفقه أمرها عقولهم القاصرة، التي ليس من وظيفتها ولا من طبيعتها القدرة على الخوض في شأنها. وربما لأن الروح عنصر سماوي، وليست ذات طبيعة مادية، فلا ينطبق عليها وصف دنيوي مما نعرف، ولا تقع ضمن حدود مدرَكات الحواس والعقل البشري، وما يملك البشر من مفردات اللغة والكلام والقاموس. هي من ماهية مختلفة، وعقولنا خلقت وبرمجت لإدراك المعارف ذات الصلة بحياتنا في دنيانا. أما ما وراء ذلك، وما قصرت العقول عن إدراكه بحكم محدودية تكوينها فقد جاءت به الرسالات السماوية، تبليغاً وإعلاناً عن وجوده غير المدرَك، عن طريق الرسل والأنبياء من البشر، والرؤى الصالحة والإلهام الصادق.
وقد ذهب نفر من المفكِّرين والمفسِّرين إلى أن الناس، عند نزول القرآن لم يكونوا قد بلغوا من العلم ذلك الشأو الذي يؤهلهم لإدراك خفايا الروح، وغوامض أسرارها. يخلصون من ذلك إلى أنه ليس هناك ما يمنع- عندما يتقدم العلم، وتتسع آفاق المعرفة- أن تبلغ طوراً يؤهلها للتعرف على حقيقتها أو الاقتراب منها. وقد أخذ بهذا الرأي، قياساً على آيات سبق أن أعلنت خفاء أمور في زمن التنزيل، لكنها أشارت إلى أننا سوف نعرف عنها فيما بعد، وأننا سوف نحيط بها علماً في مراحل لاحقة في المستقبل، تبعاً لتطور العلم وتوافر المعلومات والشروط التي تمكِّن من ذلك. كقوله تعالى:
لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (الأنعام:67)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (النمل:93)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (صّ:88)
(هذه الآيات وردت في فصول أخرى في سياق مختلف).
وهذا ما حدث فعلاً فيما بعد، وعلى مراحل من تاريخ البشرية، بعد نزول القرآن، وقطْع الإنسان أشواطاً على دروب المعرفة وآفاق العلم، بحيث أننا قلَّما نجد حقبة مرَّت خلت من كشف جديد ومعرفة جديدة.
وقد جاءت الآيات الكونية بصياغة مجملة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني، يتناسب مع ما توافر لهم عنده من معرفة ومن إلمام بخفايا الكون وأسرار الخلق، والعلوم هي سبيل ذلك. وقد صدق رسول الله في وصفه القرآن الكريم بأنه ((لا تنتهي عجائبه ولا يَخْلقُ على كثرة الرد)).
من المسائل التي عرض لها القرآن ثم جاء العلم اليوم يكشف عن جانب من خفاياها مسألة الروح. كانت الروح ومازالت سرّاً خفيّاً يَشغل العقل والوجدان لكل إنسان وجد على الأرض. يقول الله تعالى في شأنها:
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (الإسراء:85)
تتوفر في الغرب اليوم- ومنذ بدايات القرن الماضي- دراسات مستفيضة في علم الروح. وهناك معاهد في دول أوروبا وفي أمريكا تخصصت في الدراسات الروحية، يطلقون عليها علوم (الباراسيكولوجي Paraphsycolgy).
وقد صدرت كتب كثيرة ودوريات متخصصة، الكثير منها يتفق مع ما ورد في القرآن الكريم. هذا ما تبيَّناه نحن المطَّلعين على آياته. أما هم فلم يقصدوا إلى ذلك، حيث هم لا يعرفون القرآن من جهة، ولأنهم أيضاً غير معنيِّين بإثبات صحة معطيات آياته وتوافق أبحاثهم معها.
من قبيل هذا- على سبيل المثال- قولهم بأن الروح تغادر الجسد في حالتين اثنتين لا غير: حالتي النوم والموت. فالنوم يشبه الموت. وهو ميتة صغرى( ) في الواقع.
يقولون إن هناك جسداً أثيرياً غير مرئي- بطبيعة الحال- في نطاق حياتنا العادية. وهذا الجسد الأثيري مطابق تماماً لجسد الكائن الحي بكل تفاصيله وسائر أعضائه. وأن الروح في حال المغادرة النهائية لهذا الجسد الفيزيقي تنطلق بعيداً عنه. أما في حالة النوم فتبقى مرتبطة بالجسد بما يسمونه في مصطلحاتهم (الحبل الأثيري). وهو حزمة من الأشعة (غير المرئية). تطوف الروح حيث تشاء من عالم الأرض، أو بعيداً عنها في ملكوت الله الواسع. ثم تعود لتحل في الجسد من جديد. وما تراه الروح في تجوالها إما أن يكون حلماً أو يكون رؤيا. وهناك فرق بين الحلم والرؤيا بطبيعة الحال. مسالة (الرؤيا) ليست ضمن ابحاثهم ولكنها تقع ضمن أدبياتنا وموروثنا الإسلامي.
صحيح أن الأحلام حسب تفاسير (سيجموند فرويد) و (كارل يونج) و (أدلر) وغيرهم( ) من علماء النفس هي انعكاس للحالة النفسية للإنسان أو صورة – إلى حد ما وعلى نحو ما- من واقع حياته اليومي. وهي تعبِّر عن مخاوفه وآلامه، وطموحاته وآماله ورغباته المكبوتة. وأنها قد تكون تنفيساً عن هذه الرغبات، أو هي تأتي بحلول وهمية لمشاكله، لتخفيف الضغط النفسي عليه فيما هو نائم وهذا من عمل العقل الباطن. لكن هؤلاء عجزوا عن تقديم تفسيرٍ شافٍ مقنع (للرؤيا) التي غالباً ما تكون تنبؤاً بأمور لم تقع بعد، ولكنها سوف تقع. وهذه لا تتناقض مع غيب الله كما قد يذهب إليه البعض، إذ إن الله يهبها لمن يشاء. هي خرقٌ للعادة التي لا يقدر على خرقها سواه.
وما أكثر ما يرى النائم في رؤياه، ثم يتحقق ما رأى. ولا شك أن كلاً منا مرَّ بهذه التجربة، ولو مرة واحدة في حياته.
وقد تلتقي الروح، فيما هي تجوب آفاق الكون، بأرواحٍ لأناس كانت تعرفهم قبل وفاتهم، لا سيما من الأهل والمقربين. وقد يتبادل بعضهم معها حديثاً، وقد تنبئ بأمور في واقع حياة الملتقي بها. ولسوف يدهشه، فيما بعد، أن يتحقق ما رأى وبحذافيره أحياناً، واقرب إلى الرمز أو الإشارة في أحايين أخرى.
كما أنك قد تجد اثنين ينامان في مكان واحد، أو حتى في فراش واحد، كالزوج والزوجة، ومع ذلك يرى كل منهما حلماً مختلفاً. فلربما رأى أحدهما حلماً مزعجاً ومخيفاً، في حين رأى الآخر حلماً مبهجاً ومريحاً. وما ذلك إلا لأن روح كل منها ذهبت في اتجاه مختلف عندما غادرت الجسد.
من قبيل الرؤيا الصادقة التي تتحقق لصاحبها على الواقع، ما تعرضه سورة يوسف على نحو رائع، فيما وقع له مع أخوته، وفيما رآه عزيز مصر عن البقرات السمان التي تأكل البقرات العجاف، ورؤية رفيقه في السجن، الذي رأى الطير تأكل من فوق رأسه. وكان يوسف قد أوتي من تأويل الأحاديث- الأحلام- ما مكَّنه من تفسير تلك الرؤى جميعاً، وتحققها جميعاً أيضاً. بل إن خططاً وبرامج وضعت يومئذٍ لتفادي كارثة المجاعة، على أساس منها، وذلك حين عيَّنه عزيز مصر أميناً على خزائن الغلال، من أجل تقنين الغذاء في سنوات القحط والجفاف القادمة على أهل مصر، إثر تفسيره رؤيا السنين السبع العجاف والبقرات السبع السمان، إلى آخره. وهكذا تحققت الرؤيا واقعاً مُعاشاً لعدد من السنين لشعب مصر برمته.
هذا ما يحدث في حالة النوم، إذ تعود الروح أخيراً إلى الجسد الفيزيقي لكي يعاود حياته من جديد إلى أن يشاء الله، وإلى أن يحين الأجل المحتوم، وتكون المغادرة النهائية التي لا عودة بعدها.
أما الحالة الثانية، أي مغادرة الروح نهائياً، ودونما عودة، فهي الموت.
هنا ينقطع (الحبل الأثيري) الواصل بين الروح والجسد وتختفي منه علامات الحياة، وتنتقل الروح إلى بارئها. في التراث الإسلامي نجد أن الروح تذهب إلى مكان يسمى البرزخ، وهو ما يفصل ما بين الدنيا ويوم القيامة. وتلبث الروح هناك مع غيرها من الأرواح حيَّة (كروح) إلى يوم البعث والنشور. وأما ما يقوله (علم الروح) الحديث- وهو غربي عموماً وليس مرجعه إسلامياً- بأن الروح ومعها الجسد الأثيري فتذهب إلى أماكن في الكون وتلتقي بأرواح من سبقوها. قد تسعد وقد تشقى حسب ماضيها الدنيوي.
وهذه الروح لا تنقطع تماماً عن الأحياء على الأرض، بل هي تراهم وتعرف عنهم وتهتم بشؤونهم، ولكنها فقط تعجز عن الاتصال بهم كما يتصل الأحياء. إذ إن طبيعة اهتزازاتها الأثيرية تختلف عن الاهتزازات الأثيرية الأرضية، ولا يحدث مثل هذا الاتصال إلا نادراً في الرؤيا التي يراها النائم عند مغادرة جسده الأثيري لجسده الفيزيقي، كما أسلفنا في رأس هذا الموضوع.
لكن هذه قصة أخرى لسنا بصددها الآن.
وهذا الذي عرضنا له هنا لعله ما تقول فيه الآية الكريمة:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر:42)
في هذه الأيام فقط- القرن الماضي- جاءت الدراسات التي سلفت الإشارة إليها، لتقدم – عن غير قصد- المعنى الذي انطوت عليه هذه الآية حسب دراساتهم وتجاربهم. فالروح التي غادرت ثم عادت هي التي ((لم تمت في منامها)) أي أن الحبل الأثيري الواصل بينها وبين جسد صاحبها لم ينقطع. فقد ((أرسلها الله)) بمعنى أعادها إليه و(إلى أجل مسمى)، أي إلى أن يحين الأجل النهائي المحتوم لصاحبها.
وتشبهها في المعنى والمقام ذاته الآية:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (الأنعام:60-61)
وغني عن القول أن الحياة بعد الموت مؤكدة، أي أن الإنسان عند موته تنتقل روحه ولا تفنى، وإنما هي حيَّة باقية، سعيدة أو شقية حسب ما قدمت، وحسب ما قدر الله لها.
وفي علوم (الباراسيكولوجي) التي أصبح لها مؤسسات ترصدها وأكاديميات بحث في الغرب- كما أسلفنا- تبين أن الإنسان عند احتضاره يرى فعلاً أرواحاً- هكذا تقول دراساتهم- على مقربة منه. وهي أقرب إليه من كل ما حوله، حقائق عرفت مؤخراً فقط وإلى عهد قريب.
أما الآيات فتقول في هذا الشأن:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (قّ:19)
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (الواقعة:83-85)
وإذا كان هناك علماء غربيون خاضوا في هذه المسألة وأصدروا العديد من، الكتب والدراسات أمثال: أوليفر لودج واليكس كارليل، وهنري برجسون.. وغيرهم كثير، توصلوا إلى هذا في زمننا الراهن فإن القرآن قد سبق إليها تنزيلاً على رسول الله محمد عليه السلام.
إذا كان هؤلاء قد جاءوا بدراساتهم متأخرين في الزمان، فقد كان لعلماء المسلمين السبق عليهم جميعاً في مسألة الروح، مما يؤكد هنا أيضاً أن ما جاء به الرسول محمد هو من عند الله. فلقد حفل التراث بكمٍّ هائل، في هذا الشأن، من الكتابات والشروح والتفاسير منذ فجر الإسلام. وقلما تجد عالماً من العلماء، ورواة الحديث، والمفسرين والمناطقة وأصحاب المذاهب والمتصوفة، لم يتعرض لهذه المسألة الشائكة الحافلة بالأسرار. نذكر منهم ابن حزم، وابن تيمية، والترمذي، وابن حيان، وابن ماجه، والنسائي، والبخاري، ومسلم، والبيهقي، وأبي داود، وأحمد، وابن قيم الجوزية. وفي مقدمتهم جميعاً أقوال كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم منها( ):
(الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا)).
((الأرواح جنود مجنَّدة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف))
((إن الميت ليسمع قرع نعال المشيعين إذا ولَّوا منصرفين)). (يقصد بعد الدفن).
وسنكتفي هنا إيثاراً للإيجاز بالنقل عن ابن القيِّم تلخيصاً لعدد من الشواهد وردت في كتابه (الروح): يقول( ):
(إن الله سبحانه جعل الدور ثلاثاً، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها.
(وقد أرانا الله سبحانه من ذلك أنموذجاً في الدنيا من حال النائم. فإن ما ينعم به أو يعذَّب في نومه يجري على روحه أصلاً والبدن تبع له. وترى النائم في نومه يضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك.
(وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم.. وهذا روحه في العذاب.. وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر.. فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
يقال للروح عند الموت، وعند البعث، على سبيل البشرى:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (فصلت:30)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر:27-30)
يقول ابن القيم( ): اتفق معظم المفسرين والمجتهدين على أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى. وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها ما يكون محبوساً على باب الجنة. ومنها ما يكون محبوساً في الأرض لم تعلُ روحه إلى الملأ الأعلى..)
تؤكد هذا المعنى، كما تثبت حقيقة (البرزخ) الآيات الكريمة في قوله تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون:99-100)
صورة تبعث القشعريرة في الجسد والنفس، وتثير الخيال فيما ينتظر الإنسان عند لحظة الموت قد تعدل حياته الماضية كلها.
ما أحسب أن محمداً عليه الصلاة والسلام إلا متلقياً لهذا الوحي، ومبلِّغاً أميناً لمن أرسل إليهم. آيتان في سطرين اثنين تعرضان لصورة تشمل الحياة والموت وما بعدهما. في الآية الأولة حال هذا الذي (جاءه الموت) وموقفه الرهيب أمامه يرجو العودة إلى الحياة الدنيا، مردفاً (في بداية الآية الثانية) بالوعد على أن (يعمل صالحاً). ثم نرى في نفس الآية الرد القاطع المفحم (كلا إنها كلمة هو قائلها). ثم يأتي التعليل باستحالة العودة إذ إن هنالك (برزخ) قائم إلى يوم البعث.
هل دار هذا كله في خلد محمد عليه السلام، ثم استطاع أن يوجزه على هذا النحو، ودون أن تعوزه ــ في الوقت نفسه ــ البلاغة المدهشة، في هذا الإيجاز المذهل، صياغة ومحتوى؟
وتحت عنوان:
هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران يورد ابن القيم شروحاً وأقوالاً لآخرين ثم يقول:
(النفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا .. (النحل:111)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (المدثر:38)
(سمِّيت النفس روحاً لحصول الحياة بها. الفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات. يقال فاضت نفسه، وخرجت نفسه، كما يقال خرجت روحه وفارقت.
(الروح التي تتوفى وتقبض روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى:
.. أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ .. (المجادلة:22)
وكذلك الروح التي أيَّد بها روحه المسيح بن مريم في قوله تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ .. (المائدة:110)
والقرآن الكريم يؤكد على استمرار حياة الروح بعد الموت مباشرة، وليس يوم القيامة فقط فيما يذهب إليه بعضهم، الأمر الذي تؤكده الدراسات الحديثة. ولكن هذه الأخيرة ليست موضوعنا`إلا بقدر ما تفيدنا في هذا البحث، وبقدر ما يمكنها أن تقنع من يبحث عن دليل معاصر.
لننظر في هذه الآيات:
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (البقرة:154)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران:169-171)
هم إذن أحياء يأتيهم رزق من الله. وهم سعداء أيضاً يتمَّنوْن لمن خلفهم من الأحياء من أقاربهم وإخوانهم أن يلقوا ذات المصير: الشهادة، ثم الحياة بعد الموت عند بارئهم. ولكيلا يذهب الظن إلى أن هذه صورة معنوية رمزية لما يلقى الشهيد من تكريم رمزي أيضاً، لا بأس من الإشارة إلى أن الحياة بعد الموت حالة يتساوى فيها الجميع. أي أنها تشمل غير الشهداء أيضاً، كما سائر البشر. ولكن مع الفارق بطبيعة الحال. فالأشرار، في الجانب الآخر. الذين سلكوا حياة حافلة بالشرور والآثام لهم حياة من نوع آخر، هي العذاب جزاءً وفاقاً لما جنت أيديهم في الحياة الدنيا.
ولننظر في الآيات التالية في شأن هؤلاء والتي تؤكد على أنهم أحياء أيضاً.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (الأنعام:93-94)
هذا وصف لحال إنسان يواجه الموت عند الاحتضار ثم ما يعْقُب الموت مباشرة. فلمن الخطاب؟ هل يكون لميت لا يسمع ولا يبصر ولا يشعر ولا يدرك؟
تصف الآيات الموقف على شموله واتساعه عند الموت. فالملائكة باسطو أيديهم لتلقي روح المحتضر، منذ رينه بعذاب ينتظره. ثم حديثهم هذا إليه عقب الموت مباشرة ((ولقد جئتمونا فرادى)) و (تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم). فها هو ذا وحيد، لا صديق ولا قريب، ولا ولد ولا أسرة، بل هم أولاء يعنِّفونه، ويذكِّرونه بمن تقطعت بينه وبينهم الأسباب ساعتئذ، ممَّن كان يحسب أنهم شركاء يركن إليهم عند الاقتضاء.. من كان يحسبهم عوناً وسنداً، أين هم الآن في هذا الموقف العصيب؟
وآيات في السياق ذاته:
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (لأنفال:50)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (الصافات:16-19)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (السجدة:11)
مسألة على هذا القدر من الغموض والإبهام والتعقيد ــ أكثر مما هي أي مسألة أخرى ــ كان من شأنها أن شغلت الإنسان منذ وجوده على الأرض. كما ذهب المفكرون والباحثون شتى المذاهب في أمرها. ودُبِّجت الكتب ووضعت التصانيف والتآليف في شأنها على مدى قرون، وما برحت شغلهم الشاغل. وموضوعاً أثيراً للدارسين والفلاسفة والمفكرين. هذه المسألة، على خطر شأنها وجلال أمرها، وغموض كنهها، يأتي بالقول الفصل في أمرها محمد النبي الأمي قبل أربعة عشر قرناً. أيعقل إذن، والحالة هذه أن يكون المصدر غير الوحي الإلهي المنزَّل على رسوله من لدن العليم الخبير بأحوال البشر، أحياءً وأمواتاً؟

معجزة نجاة جسد فرعون
ومن الحوادث التي ذكرها القرآن الدَّالة على بقاء الروح بعد الموت، لسائر البشر على حد سواء، موت فرعون لدى مطاردته النبي موسى عليه السلام:
.. حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (يونس:90-92)
هنا نرى فرعون حين أدركه الغرق، أي عندما حضره الموت، يعلن إيمانه للملائكة المكلَّفين بقبض روحه، ظناً منه أن ذلك الإيمان الطارئ، الناجم عن فزعه في مواجهة الموت، سوف يشفع له وينجيه. ولكن الملائكة تجيبه مستهزئة: الآن فقط، وعند الموت، جئت تزعم الإيمان وتدَّعي الإسلام بعد أن أسرفت في العصيان وعثت في الأرض الفساد؟
الشاهد هنا هو أن روح فرعون باقية بعد الموت لكي يتلقى ما استحق من عذاب وعقاب.
ولا تفوتنا الإشارة إلى ذكر فرعون (الإسلام) كدين عندما أعلن عزمه الإيمان بالله. فالإسلام إذن كان دعوة الأنبياء السابقين، ومنهم موسى عليه السلام، وإلاَّ كيف عرف فرعون أن هذا هو المطلوب. وإذا كان هذا ورد على لسان فرعون، ساعة محنته، فقد سبق أن جاء من قبل على لسان إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء. وعلى ألسنة بنيه كذلك، إسماعيل وإسحق، ومن بعدهم جميعاً يعقوب وذريته حسب وصِّيته لهم: .. فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (البقرة:132).
كما تشير الآيات إلى غفلة الناس عن آيات الله ومعجزاته. وهم لا يعلمون ما حدث لفرعون، ولا يدرون من أمره شيئاً، لولا أن الله سبحانه هو الذي أخبرنا بما جرى. كما أن الناس كانوا غافلين عن مسألة نجاة جسد فرعون زمناً طويلاً جداً لكي يراه الناس في أيامنا هذه. أي بعد نحوٍ من أربعة آلاف سنة، في المتحف المصري بالقاهرة، جسداً سليماً محنَّطاً، تراه بأم عينك. لم يدرك المعاصرون للرسول عليه السلام هذه الحقيقة، ولم يدرك المفسرون ما ذهبت إليه الآية، أي أن جسد فرعون كان موجوداً يومئذٍ ولكنه سوف يظهر في عصر لاحق آية للناس يومئذٍ.
يشهد كاتب هذا النص أنه رأى بأم عينه جثة فرعون المحنطة في المتحف المصري. في زيارة للمتحف القائم في ميدان التحرير بالقاهرة، وبعد جولة في أرجائه توقفت ــ في قسم الموميات ــ أمام تابوت لإحداها على أنها مومياء (فرعون موسى)، إذ كانت مومياء رمسيس الثاني الذي عرف لبعض الوقت على أنه هو ذلك الفرعون. ولكن الدليل المرافق ــ وهو شاب مثقف تابع لدائرة الآثار ــ لفت نظري إلى أن هذه ليست مومياءه. ثم أشار إلى تابوت آخر على أنه هو تابوت فرعون موسى هو الفرعون أمنيتاح.
أمعنت النظر في الجزء البادي من الجثة، الوجه والعنق والرأس وقد بدت واضحة المعالم، كوجه مصري معاصر في سمرته وتقاطيع وجهه. كانت تعتريني في موقفي ذاك مشاعر متباينة، هي مزيج من الرهبة والخشية والدهشة معاً، فيما أتأمل آيات الله التي أنبأت عن موقفي هذا وأمثالي من أبناء هذه الحقبة من الزمن التي نعيش، على أننا نحن (مَنْ خلفه) القادمون ــ باعتبار ذلك الزمن ــ في عصور لاحقة يوم كنا في علم الغيب في ذلك الزمن البعيد. وعندما سألت الدليل بدافع الفضول كيف تأكد لهم أن هذه هي مومياء (فرعون موسى) دون غيرها. لفت نظري إلى بقع وخطوط ذات لون بين الأبيض والرمادي على أنها آثار ملح البحر الذي غرق فيه فرعون، والذي بقي عالقاً بها عند استنقاذها، عندما (نُجِّيَ ببدنه).
أليست هذه معجزة حقيقية مذهلة؟
أوَ ليس هذا دليلاً قاطعاً آخر على المصدر الإلهي للقرآن الكريم الذي تنزل على محمد عليه السلام.



* * *

حياة بعد الموت
(ولَّى أهل مكة الأدبار كاسفاً بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم. أما المسلمون فأقاموا ببدر إلى آخر النهار. ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحضروا لهم قليباً فدفنوهم فيه. وإذ جنَّ الليل جعل محمد يفكر في نصر الله المسلمين على قلة عددهم، وخذلانه المشركين الذين لم يكن لهم من قوة الإيمان عضد تعتز به كثرتهم. جعل يفكر في هذا حتى سمعه بعض أصحابه جوف الليل وهو يقول:
(يا أهل القليب.. يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أميَّة بن خلف، يا أبا جهل ابن هشام..) واستمر يذكر من في القليب واحداً بعد واحد:" يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً..) قال له المسلمون( ): يا رسول الله: أتنادي قوماً جيَّفوا؟ قال عليه السلام: ((والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. إنهم يسمعون ولكن لا ينطقون فلا يستطيعون الإجابة)( ).
أتكون محض مصادفات أن يأتي العلم اليوم في هذا الصدد، بعد أن نما وتطور وتقدم، ليكشف أن محمداً عليه السلام قد سبقه إلى العلم بها بما أوحي إليه..؟
لا مشاحَّة في أنه ما من أحد في عصره، بين الخلائق جميعاً، قد أتى على ذكر لمثل هذه المعلومات، أو عرف شيئاً في شأن الروح والعالم الآخر، ومسألة الحياة بعد الموت على وجه اليقين. فأنَّى لمحمد إذن القدرة على الإحاطة بها من تلقاء نفسه؟ ثم ما الذي يدفعه إلى الخوض في أمر شائك ومعقد كهذا، تفاصيله وحيثياته مجهولة لكافة معاصريه؟ وما هي ضروراته ودواعيه في صدد مسعاه لكي يغدو قائداً للعرب، وزعيماً لما هو أبعد من ديارهم وبلادهم؟ أوَلا يُتوصل إلى الزعامة إلا بالخوض في مثل هذه الشؤون. لعمري إن العكس ينبغي أن يكون الأسلم، والأدعى للحيطة ولتفادي الخصومة، واحتمال الإخفاق. ذلك أن زعيماً دنيوياً لا ينبغي له الانغماس في غمار غيبيات (ميتافيزيقية)، وعوالم خفيَّة، وما إليها، مما سوف يصرفه عن تحقيق مطمحه الدنيوي، ويصرف الناس عنه كذلك ممن لا يرغبون مشايعته حين يذهب بهم إلى متاهات لا عهد لهم بها، ولا ضرورة لها في حياتهم المعيشة القائمة. ولكنه لم يكن في وارد شيء من هذا فما هو إلا رسول مبلِّغ عن ربه، فلم يكن في وسعه أن يكتم ما كُلِّف بإعلانه على الناس. إن لبَّ رسالته هو تبليغ ما أوحي إليه لمن حوله ولسائر البشر. ففي شأن التبليغ يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة:67)
وفي شأن الموت وحياة الروح من بعد وما يسجل على الإنسان في حياته، يقول تعالى:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (الزخرف:80)
ويقول تعالى:
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (الدخان:56)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الجاثـية:26)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجاثـية:29)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجاثـية:28)
(الجمع إلى يوم القيامة) بعد الموت مباشرة يعيدنا إلى مسألة البرزخ التي عرضنا لها فيما سلف نقلاً عن ابن قيم الجوزية في كتابه (الروح).
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (آل عمران:25)
(الآيات في سورة الجاثية من 26 إلى نهاية السورة 37 ذات علاقة بالمسألة هذه)
في التفاسير (أمة) تعني الفرد أيضاً، أي أن ما ينطبق على الفرد ينطبق على الأمة، والعكس صحيح. وكأن الآية تقول إن الجميع في أي أمة سوف يدعى كل منهم إلى كتابه. وهذه من صور البلاغة، المألوفة والمعروفة في كتاب الله وعنه. أما استنساخ العمل، فهو كما أوردنا في مكان آخر، كاستنساخ القول أيضاً، فلا يضيع من عمل الإنسان في حياته الدنيا شيء، عملاً كان أو قولاً، حتى أو نيَّة.
إن ما انطوت عليه آيات الكتاب، وما زخرت به من معانٍ ومضامين ومغازٍ ومرام عميقة الأغوار بعيدة الآماد، لمما يجعل من العسير على المرء الإحاطة بها إحاطة تامة من شتى وجوهها. بيد أننا، تنويهاً وإيجازاً في حدود القدرة المتاحة لجهد متواضع كهذا، سنأتي بشواهد قد تعين على توسيع مساحة الفهم، وأفق الرؤية لبعض آياته، في قرآنه وفي خلقه.
الآيات التي تصور مشاهد يوم القيامة، ومصائر البشر بعد الموت وفي الحياة الآخرة لهي فوق قدرة فرد من البشر، أو سائرهم مجتمعين، تخيُّلها ناهيك عن إدراك كنهها ، أو معرفة حقيقتها، على وجه اليقين، من تلقاء أنفسهم، لاسيما مسألة الحساب والمحاسبة، والكتاب – السجل الذي يحمله الإنسان معه لكي يحاسب بموجبه الأمر الذي حيَّر الألباب والعقول لعجزها عن إدراك كيفيته.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (قّ:19-22)
ولكن العلم الحديث، تحقيقاً للوعد الإلهي للإنسان بأن يريه آياته في الآفاق مستقبلاً، توصل إلى ما يلقي الضوء على جانب من هذه المسألة. وكان ذلك مطابقاً لما ورد في القرآن بشأنها على الأرجح. تقول نتائج أبحاث العلماء أن للإنسان هالة من الأشعة غير المرئية تحيط بجسده إحاطة كاملة، كأنها غلاف لذلك الجسد، تسجل على خيوطها- تسمى كذلك تجاوزاً وتقريباً للفهم- الدقيقة كافة أعمال الإنسان وأقواله في حياته، بل وبما تحدثه به نفسه أيضاً- النوايا- لا تذر صغيرة ولا كبيرة، شاردة ولا واردة إلا وأحصتها عليه. وعند مغادرة الروح الجسد الفيزيقي حاملة معها الجسد الأثيري للإنسان، وهالته هذه، ليحاسب، من ثم على ما قدمت يداه في حياته. والمدهش أن الإنسان في حياته لا يدرك هذا ولا يحس به فيما هو جزء من تكوينه. ومما لا يدركه الإنسان أيضاً أن هناك مجالاً مغناطيسياً لجسده موازٍ للهالة، الأمر الذي لبث الإنسان زمناً طويلاً على جهل مقيم به.
(ونلاحظ هنا أن وصف البصر (بالحدة) عند الوفاة وعقبها مباشرة تؤكد أن الروح حية وأن الموت يصيب الجسد الذي هو مجرد غلاف لها وأعضاءه أدوات لازمة للحياة تحركها الروح التي ما إن تغادر الجسد حتى يتحول سريعاً إلى التلاشي والفناء).
اقتضت حكمة الله أن يظل هذا كله خافياً علينا لا تدركه حواسنا. ومن هذه الحقيقة يمكننا التوصل إلى الاستنتاج بأنه ليس كل ما لا تدركه حواسنا غير موجود، كوجود الله سبحانه (فإن لم نكن نراه فهو يرانا)، ووجود الملائكة والجن وخلائق كثيرة ــ والأرواح كذلك ــ بل إن منها ما هو موجود في حياتنا ويترك آثاره واضحة علينا، ومع ذلك نحن لا نراه وقد لا ندركه كالفيروس والجراثيم والميكروبات هذه التي تصيبنا بشتى أنواع المرض. كذلك الذرات التي هي قوام الموجودات المدركة. كما أننا لا نرى الأثير، مع أننا نلمس آثاره فتبدو لنا كالأحاجي والألغاز لأننا لا نرى الأثير، هذا الذي يحمل لنا الصوت والصورة. وهو غير الأثير الروحي الذي هو أخف وأكثر شفافية، وهو مختص بأمور غير دنيوية كالهالة والجسد الأثيري.
ولكن ماذا تقول الآيات، وهي كثيرة في هذا الصدد. نأتي بعدد منها:
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (قّ:18)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يّـس:65)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:49)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور:24)
وحين يسأل الإنسان أعضاءه مندهشاً، كيف شهدت عليه، يكون جوابها مرعباً ومذهلاً، حتى ليبدو وكأنها ليست أعضاءه التي يملك، وإنما هي كيان قائم بذاته منفصل عنه.
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (فصلت:20-22
ولربما كان فيما نشهده في حياتنا المعاصرة من منجزات العلم أدلة قاطعة على ما ورد في القرآن. ولعل في ذلك ما يقرب الصورة إلى الفهم. لاسيما وأنها أصبحت جزءاً من حياتنا. من ذلك الإذاعة المسموعة كصوت، والتلفزة المسموعة – المرئية، والرادار، (والرموت كونترول)، التحكم عن بعد، والـ (موبايل)، وما إلى ذلك مما يصعب حصره. العامل الوسيط لهذه الأجهزة وانتقال عملها وفعلها إلينا هو الأثير غير المرئي ولا الملموس. فعبر الأثير ينتقل الصوت والصورة والحركة المتحكمة.
يحدث ذلك في جزء لا يكاد يذكر من الثانية، بمقياس سرعة فلكية من الصعب أن نتصورها. ينتقل الصوت أو الصورة من أقصى أطراف الأرض إلى أقصاها في سرعة كلمح البصر- سرعة الأثير 7 دورات كاملة حول الكرة الأرضية في الثانية- ونحن لذلك نسمع صوت المذيع ونشاهد صورته في اللحظة التي ينطق فيها كلمته أو تطلُّ علينا صورته، حيثما كان موقعه على سطح الأرض. من لندن إلى بكين، من واشنطن إلى القاهرة- من أي مكان إلى أي مكان. يحدث هذا لدى كل من فتح جهاز استقباله على الموجة الخاصة بهذه المحطة أو المركز. وتسمع بالوضوح ذاته، وفي اللحظة ذاتها لو استقبلتها ملايين الأجهزة، دون أن يضعف ذلك شيئاً من قوتها وصلاحيتها وضوحاً للسمع والبصر. كما اصبح لدى البشر أجهزة الكمبيوتر التي تسجل 15 مليون عملية في ثوانٍ. إذا كانت هذه الأجهزة – صنع البشر- تملك هذه الإمكانات فكيف بقدرة الخالق. ونستغفر الله عن المقارنة، لكنها مع الفارق الذي لا قياس له بطبيعة الحال. ما ذلك إلا من أجل تقريب الصورة إلى الأذهان. وإذا كانت هذه حال (كمبيوترات) أرضية، فقد تكون هناك (كمبيوترات) كونية، بحيث تبدو قدرات أجهزتنا قزمية بالمقارنة. ويعرف الإنسان الآن أنواعاً من الأشعة، يسمع عنها ولكنه لا يبصرها، بل يلمس آثارها وحسب، في حين لا يدرك كنهها ولا يعرف ماهيتها، وإن هو عرف فعلها. من قبيل ذلك الأشعة تحت الحمراء والأشعة البنفسجية وما فوقها، ورنتجن، وجاما، وباتا، واكس، وغيرها، ناهيك عن الأشعة الكونية الأشد خطراً. وهناك الإشعاع الخاص بكل معدن معروف على حدة، أوضحها وأبرزها أثراً اليورانيوم والراديوم والليثيوم والكاديميوم والكوبالت وغيرها وغيرها. وأنت اليوم تسجل على قرص صغير للغاية (الدسك والـ CD) عدداً هائلاً من المعلومات والكتيبات.
فإذا كانت هناك – وقد عرفت هذا كله- هالة من الأشعة محيطة بجسدك دون أن تدركها أو تحس بها، فلا تستكثر أن تحوي أعمالك وأقوالك على مدى زمن حياتك، التي مهما طال بها الأمد، فهي قصيرة، بل هي غاية في القصر، في مثل هذه الحسابات. ومن العلماء اليوم من يؤكد بأن الأصوات البشرية لا تذهب بدداً في الفضاء- وغيرها من الأصوات أيضاً- بل إنها موجودة ومحفوظة في طبقات الأثير المحيطة بالأرض، لا تفنى ولا تضيع بدداً أبداً، بدليل التقاط جهازك للصوت الذي يحمله الأثير إذا ما استخدمت الموجة الخاصة بمركز انطلاقه. وكذلك الأمر مع كل من يضع المؤشر على المركز ذاته. وما دام هذا هو ما يحدث للصوت الذي تسمع، إذ هو يدور في مدار محدد- حسب الموجة- من الفضاء، فكيف، ولماذا نتصور أنه سوف يفنى بعد ذلك؟ بل وأين يذهب بعدئذ إذا كان الأمر كذلك؟ لا شيء يؤكد أنه انتهى عندك إطلاقاً. بل إنه تابع دورته بعد أن مرَّ بك، وما انفك يدور في فلك ومدار بدليل أن غيرك مما يليك بمسافات بعيدة يسمعه ويراه أيضاً كرؤيتك وسماعك له تماماً وفي اللحظة نفسها. ومن العلماء من يقول بأن العلم سوف يأتينا في وقت ليس ببعيد، بأصوات من نشاء من الغابرين.
هذا ما يقولون. والمسألة- في رأيهم- أصبحت ثابتة ومؤكدة، وكل ما في الأمر مما يعيقهم، هو أنهم لم يستطيعوا بعد، وإن كانوا بصدد البحث عن وسيلة تدلُّهم على كيفية التقاط تلك الأصوات واستخلاصها من بحار الأثير. ولعل هذه هي المهمة الأسهل- في رأيهم أيضاً- كما أنهم لم يعرفوا الوسيلة إلى تحديد هوية صاحب الصوت.. إذن فالفضاء يعج بأصوات كل من مرُّوا على ظهر هذه الأرض، مذ وجدوا ووجدت.


* * *

أسرار كونية لم تكشف بعد
وإذا كان من شأن هذه الإنجازات العلمية أن تفضي بأصحابها- أو ببعضهم- إلى الغرور، وببعض إلى الإلحاد، وإلى الإحساس الخاطئ بالعظمة، حين يتصورون أنهم (صنعوا) معجزات علمية خارقة غير مسبوقة- هي فعلاً هامة ومدهشة- فإننا نذكِّر هؤلاء بالحقائق التالية:
إن ما استطاعوا إنجازه ليس إلا كشفاً عن بعض خفايا الطبيعة وأسرار الكون. لكن هذه كانت موجودة وقائمة منذ الأزل. كما أنها ما انفكَّت طيَّ الخفاء حين كان الإنسان عاجزاً عن إدراكها طوال العصور والأحقاب الماضية. وغني عن القول بأن الكشف عن شيء وإظهاره بعد أن كان خافياً عن الأعين والمدارك شيء، وإيجاد الشيء نفسه من العدم شيء آخر، مختلف تماماً. ولقد حفل تاريخنا الإسلامي بالكثير من العلماء، والعظيم من الإنجازات التي مهَّدت هي نفسها للكشوفات الحديثة والإنجازات المعاصرة( )، بيد أن أحداً منهم لم يبلغ به الغرور هذا المبلغ، بل كان من شأنها أن زادتهم إيماناً بقدرة مبدع الوجود. لم يمنُّوا على الآخرين بإنجازاتهم. كما إنهم لم يحاولوا استغلال ذلك في ابتزاز الآخرين واستغلالهم كما هو حادث اليوم ومنذ عصر النهضة الأوربية.
إن الله هو الذي (خلقهم وما يعملون). إذ إن العقل الذي مُنحوه هو نفسه هبة الله وصنعته. بدليل أن أحدهم يتوصل إلى كشف حقيقة علمية دون غيره من علماء وغير علماء، فيما هي موجودة قبل ذلك وبعد ذلك للجميع، في انتظار من يزيل الغطاء عنها. وآخر يتوصل إلى كشف حقيقة أخرى في زمن آخر، تترتب عليها- في كلتا الحالتين- إنجازات وصناعات وآثار هيِّنة الشأن أو خطيرته. لكن هذه مختلفة عن تلك فيما توصلت إليه. معنى ذلك أن واحدهم منح عقلاً مختلفاً عن غيره متميزاً عليه، في قدراته أو طرائق تفكيره، وهذه أيضاً ليست من عنده. وما كان له يد فيها. ولولا ذلك لكان كل الناس علماء وموهوبين، أو كان كل الناس بلا استثناء قادرين على كشف هذه الأسرار والتوصل إلى هذه الحقائق. إذن كل إنسان على حدة منح عقله الخاص، بإمكاناته المحدَّدة المعينة المختلفة، دنوّاً أو علوّاً على غيره، ولكنه أيَّاً كانت قدراته ـ عقلاً وذكاء ـ فهو لن يتجاوز حدوده المعطاة. وإذا ما ضربنا مثلاً بصانع آلة النسيج – لتوضيح الصورة- فهو الذي يصنع الآلة، ثم تقوم الآلة بصناعة النسيج، فهل للآلة عندئذ أن تتيه على النسيج أو أن تباهي بأنها هي صانعته؟ الصانع للنسيج في حقيقة الأمر- وإن كانت الآلة في الظاهر- هو صانع الآلة ومصممها في الأصل. فالله الذي خلقكم (وما تعملون) هو الذي أوجدكم تالياً لوجود الكون بكل ما فيه من عناصر وقوى، الظاهر منها والخفي، وهو الذي صمم عقولكم على اختلافها، ومكَّن هذا العقل أو ذاك من أن يبلغ من العلم ما يلغ، وأن ينجز، بواسطته تحديداً، ما أنجز دون سائر البشر.
إن حكمة الله اقتضت أن يبلغ أناس من بني البشر من العلم شأواً معيناً، في زمن معين، لكشف حقيقة كونية ما، لكي يكون ذلك مدعاة للإيمان بعظمة الخالق، وما أودع في الكون من حقائق كامنة وأسرار خافية. ولكي يري الإنسان - من جهة ثانية- مدى قصوره ومحدوديته. وكأن سؤالاً مفحماً يوجه للإنسان في كل لحظة: أين كنت؟.. وأين كانت قدراتك العقلية قبل هذا الكشف؟ هذه آية من آياتي أتحت لك أنت القدرة على رؤيتها، وسؤال هام يرد على الذهن ضمن هذه التساؤلات. لماذا تأخرت الكشوفات حتى أتى كل منها في زمانه؟ ولماذا لم تعرف كلها مرة واحدة؟
حريٌّ بالإنسان إذن أن يدرك، كلما توصل إلى مزيد من الكشوف والإنجازات كم هو جاهل، كما يقول سقراط في الفلسفة، التي هي أم العلوم وصاحبة الريادة فيها: »كلما اكتشفت حقيقة جديدة أدركت كم أنا جاهل«. فالحقيقة التي لم أعرفها إلا اليوم تؤكد جهلي بها حتى اليوم. ترى كم هي الحقائق التي ما برحت كامنة خفية لم يكشف النقاب عنها بعد؟ بل هل يحق لنا السؤال عن كمٍّ عددي؟ لعلها بعدد ذرات الرمال على شواطئ البحار إن لم يكن أكثر..
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (الكهف:109)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (لقمان:27)
قد لا يكون في وسع عقل أيٍّ منا أو خصوبة خياله استيعاب المعنى والمضمون والصورة لهاتين الآيتين من سورة لقمان وسورة الكهف. هل يمكن للإنسان أن يتصور أن كل ما في الأرض من شجر قد تحول إلى أقلام وأن البحر ــ بل سبعة أبحر ــ تحولت إلى مداد لكتابة آيات الله وآلائه وخلقه في كونه العظيم لما وسعها ذلك. المسألة ليست في عجزنا أو في قدرتنا على التخيل والاستيعاب، إذ إن هناك الكثير الكثير مما نرى ونشهد لا نزال غير قادرين على استيعابه أو استجلاء كنهه. ومن هذا القبيل مشاهد وحقائق رآها أو عرفها العلماء على وجه اليقين. ألم يقر العلم، وبالرؤية العيانية عن طريق التلسكوب، بأن هناك ملايين النجوم في مجرتنا وحدها؟ وأن هناك ملايين المجرات مثلها، أكبر أو أصغر منها؟ أوَ لم يقل العلم بأن شمسنا ومجموعتها من الكواكب ــ عطارد، الأرض، الزهرة، المريخ، زحل، المشتري، أورانوس، نبتون، بلوتو ــ هذه جميعاً ليست أكثر من نقطة في زاوية من مجرتنا المسماة (طريق التبانة). علماً بأن المسافة بين شمسنا وأرضنا مائة وخمسين مليون كيلومتر. أما بين الشمس وأبعد كواكب المجموعة الشمسية (التي هي أسرة الشمس) فتحسب بآلاف الملايين من الكيلومترات. هذه الحقائق باتت معروفة علمياً، بل إن بعضها رؤي بالعين خلال المراصد. هذه الآيات تؤخذ إذن على محمل الحقيقة وليس المجاز. أما التشبيه للشجر بالأقلام والبحر بالمداد فما ذلك إلا من أجل تقريب المضمون إلى أفهامنا. أي أن الله سبحانه يخاطبنا على قدر عقولنا، وضمن الأشياء التي تحيط بها مداركنا والصور التي تعيها ذاكرتنا.
لماذا جئنا بهذا كله؟
أتينا به، وعلى قدر من الإيجاز كبير، بغية الوصول إلى اليقين المطلق بعظمة خالق الكون، وما ينطوي عليه من أسرار وخفايا، وآيات وعجائب لا تنقضي على الزمان، وبما أوحي منها وتنزَّل على محمد عليه السلام، سواء كان ذلك قرآنا يتلى (بصائر للناس)، أو شواهد من الكون المحيط بنا، أو حياتنا التي نحيا.
وما كان لمحمد عليه السلام أن يعلم شيئاً من هذا ــ وقد أثبت الكثير منه العلم الآن فقط ــ لولا أنه وحي ربه.
.. مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف:111)

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس