عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 14 : 08 PM   رقم المشاركة : [18]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الرابع عشر
الإنسان والحياة الآخرة
في القرآن


[align=justify]
وصف الحياة الآخرة
حفل القرآن بأخبار الآخرة، وما يلقى فيها الإنسان من حساب على ما قدمت يداه في حياته الدنيا. ونحن إذا نظرنا في المسألة بحيادية تامة، وجدنا أن الآخرة والحساب فيها ضرورة تقتضيها عدالة الله، التي سوف تنصف المظلوم من الظالم، وإلا لكانت حياة البشر على الأرض عبثاً. فلا يعقل أن يلقى المصير ذاته، إنسان قضى حياته ظالماً، مقترفاً آثاماً وجرائم في حق بشر آخرين، وإنسان أمضاها سعياً إلى الخير وعملاً في خدمة بني جنسه. هل يعقل مثلاً أن ينجو القتلة ومبيدو الشعوب من حساب وعقاب؟ لابد من مصير مختلف". نقول هذا لمن لا يعترف بالقرآن وما جاء فيه بهذا الشأن، سواء من بين المسلمين أو غيرهم، وإظهاراً للحق والحقيقة ليس إلاّ.
آيات كثيرة في القرآن الكريم تذكِّر الإنسان بالآخرة. تصف الجنة والنار، والملائكة، وقيام الساعة، والحشر، والبعث، تنطوي على الترغيب والترهيب، والتحذير والتنبيه. هذه جميعاً من المغيبات التي لا يستطع الإنسان بجهده الذاتي، وبما يملك من حواس محدودة معرفتها من تلقاء نفسه، على وجه اليقين. وما من إنسانٍ بقادر على الإتيان بشيء مما جاء به القرآن في شأن أي من هذه المغيبات. الآخرة عالم حافل بخفايا وأسرار هي فوق قدرات العقل البشري، والله وحده العليم بحقيقتها وماهيتها.
ما جاء به القرآن عن الآخرة وعلى هذا النحو من الإفاضة والشمول في الوصف، كان جديداً وغير مطروق من قبل في ميادين النشاط الإنساني، سواء عن طريق العقل أو بوساطة الحواس.
كان محمد عليه السلام حين يتلو الآيات التي تصف الجنة والنار، ومشاهد يوم القيامة والبعث والنشور والحساب، تتبدى عليه سمات الخشية والرهبة، وهو الرسول الذي ضُمنت له الجنة. وما نحسب إنساناً يقول أشياء من عنده، يختلقها للناس ثم يصدقها هو فيفرَق منها أو يخشاها، وهو يعرف أنها من صنعه وتدبيره.
ولننظر هنا في هذه الآيات التي تصوِّر جانباً من مشاهد يوم القيامة، وهي ليست سوى غيْضٍ من فيْض:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (الحج:1-2)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (قّ:42-44)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:49)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر:5-8)
وفي سورة الرحمن:
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (الرحمن:37-44)
هذا عن النار ومشاهد يوم القيامة.
أما عن الجنة فالقرآن حافل بآيات تصفها وتبشر بها المؤمنين. منها هذه الآيات:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. ذَوَاتَا أَفْنَانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (الرحمن:45-55)
ويقول تعالى:
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (المطففين:22-26)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (المرسلات:41-44)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود:108)
آيات تلقى في النفس بعبارتها القصيرة المكثفة من الأحاسيس، ما يصعب على المرء وصفه. هي غاية في البلاغة والتأثير النفسي بإيقاعها وجرسها وانسيابها.
ومن تصوير مشاهد يوم القيامة لكلتا الحالتين هذه الآيات:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ. يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الحديد:12-15)
في آيات أربع فقط تكثف المشهد الأخروي العظيم. وصفٌ للمؤمنين في مظهرهم البهيج، والنور يسعى بين أيديهم. فيها بشرى بالجنة، ثم وصف للجنة والخلود. ثم الحوار بين المؤمنين والمنافقين لتصوير حال الأخيرين هؤلاء. والفصل بين الفريقين بسور باطنه الرحمة لهؤلاء المؤمنين وظاهره- الجانب الآخر منه- العذاب لأولئك المنافقين. ثم تنديد المؤمنين بالمنافقين وكيف أنه سبق وأن حذَّر هؤلاء أولئك في أيامهم الدنيوية من هذا المصير الذي لن تنجيهم منه فدية يقدمونها، وذلك من قبيل الاستهزاء بهم وبمنطقهم الذي ألفوه. يقول تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة:36)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الحديد:15)
ترى هل في وسع كاتبٍ مهما بلغت به موهبته الأدبية أن يكثِّف هذه الصور ويعرض الأحداث ليوم من أيام القيامة، بحيث تكون شافيةً وافيةً ولو في سفر ضخم؟ وهل في وسعه أن يحيط بشيء مما أحاطت به هذه الآيات؟ وليكن هذا الكاتب قاصّاً أو شاعراً من عصر محمد عليه السلام، أو ليكن معاصراً لنا يعيش بين أظهرنا.
ولننظر أيضاً في هذه الآيات:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (الحاقة:19-37)
هنا أيضاً لا يملك المرء إلا أن يقف مشدوهاً أمام هذه الصور الحافلة بما سيلاقي الإنسان في الآخرة. صور من الهول يشيب لها الولدان، دفق غزير كشلال هادر، في بنيان محكم لا مثيل لقوته وجبروته، وبيان معجز مشرق لا سبيل إلى بلوغه في أيّ مقام. كما هو الحال في وصف من أوتي كتابه بيمينه، وكان من أهل الجنة وما سيلقى فيها من نعيم مقيم أشارت الآيات إلى ملامح منها.
ثم تأتي الآيات- القَسَم جواباً على التساؤلات.
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (الحاقة: 38-40) لتؤكد لنا أن في الكون ــ كما سبق أن عرضنا في فصل سابق ــ إلى جانب ما نبصر أسراراً وخفايا وعوالم لا نبصرها، فلا تدركها حواسُّنا القاصرة، ولأنها من اختصاص الخالق سبحانه في ملكوته العظيم المهيب، منها الجنة والنار. والقسم بعد ذلك في وصف الرسول وما يحمله إلينا من آيات ربه.
ومن مشاهد يوم والقيامة المرعبة هذه الآيات المحكمة، الزاخرة بالصور والمشاهد المثيرة للرهبة وللخيال معاً، للمصير الكوني بما في ذلك البشر وسائر المخلوقات:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (الحاقة:13-18)
وآيات تنبِّه الناس إلى ما ينتظرهم. ولكنها في الوقت نفسه تشرح حالة إنسانية معروفة. تصفها وصف الخبير بالنفس البشرية، العالم بأحوالها وكوامنها وما فطرت عليه، وهي أن الإنسان غالباً ما يمضي سادراً في غيِّه رغم النذر والمحاذير، والنصائح والعظات:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (الأنبياء:1-2)
اقتراب يوم الحساب، فيما الناس في غفلة وإعراض عن آخرتهم، تلهيهم الدنيا بمباهجها ومتاعبها على السواء. كما أنها تشير إلى ما سبق للبشر أن جاءتهم الرسل بالبينات فأعرضوا عنها، وكذلك سوف يظل شأنهم على الدوام سادرين في الضلال إلا من شاء له الله الهداية والرشاد.
القرآن حافل بأوصاف لكل من الجنة والنار، منها ما يمكننا تصوُّره على نحو ما، ومنها ما لا سبيل إلى تخيُّله، بسبب من عجزنا وقصور في مداركنا وملكاتنا. وفي هذا يلخِّص الرسول عليه السلام وصفاً للجنة بقوله:
»في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر«(*).
هنا لابد أن نلحظ الفرق بين الحديث والآية في الصياغة والأسلوب.
* * *

تأثر الآداب بمشهديات القيامة
وما أحسب أننا نخرج عن السياق إذا ما أشرنا إلى أن القرآن في تصويره لمشهديات يوم القيامة، والحياة الآخرة، في صورتيها، الجحيم والنعيم، الجنة والنار. هذه الثنائيات كانت مصدر إلهام لإبداعات كثيرة في الشرق وفي الغرب على حدٍّ سواء.. فرسالة الغفران ــ على سبيل المثال ــ لأبي العلاء المعري( ) كانت واحدة من هذه الإبداعات الرائعة التي خلَّدت اسم صاحبها في عالم الأدب. وما زلنا نقرؤها بعد نحو من ألف سنة، ليس على نطاق بلاد العرب والمسلمين وحدها، وإنما على مستوى العالم كله، فكم من العلماء الغربيين والمستشرقين قرءوا، ودرَّسوا (رسالة الغفران) في جامعات الغرب.
ثم جاء الإيطالي (دانتي الليجيري) لينسج على منوالها، ويكتسب جرَّاء عمله هذا شهرة واسعة، ومجداً أدبياً رفيعاً يتغنى به الأوروبيون إلى اليوم. ودانتي اطلع أيضاً – حسب المصادر - على التراث العربي، كما اطلع على القرآن. ولكنه بما انطوى عليه من حقدٍ على الإسلام، شأنه شأن معظم الغربيين، من العامة والنخبة، على حدٍّ سواء، وبسبب من حملات التشويه التي لم تتوقف يوماً على الإسلام والمسلمين، والتي مهدت للحروب الصليبية في حينه، ثم استمرَّت بعدها دون توقف حتى هذه الساعة، وإن هي اتخذت أشكالاً وصوراً مختلفة استعماراً وتحكّماً واستيطاناً حسب تطور الزمن والعلاقات السياسية والثقافية. فالغرب بعد انحسار موجات حملاته الصليبية عسكرياً، انعطف نحو محاربة المسلمين والإسلام عن طريق الفكر والثقافة والعلم والاقتصاد متخفياً غالباً وراء ستار دعوى الموضوعية. لكنه يعود في أيامنا إلى المجاهرة بعدائه القديم المستديم، وإلى مباشرة حروبه ضد المسلمين على شتى الصعد، وفي ديارهم ذاتها. بحيث لا يكاد بلدٌ إسلاميٌّ واحد يخلو من حروب عدوانية في صورة ما يشنُّها عليه الغرب مجتمعاً، أو متمثلاً في دولٍ معينة منه. لن نسعى هنا إلى الإسهاب في عرض النماذج والحالات، فليس هذا هو المقام. ولكن قد تجدي الإشارة إلى صورة واحدة من ذلك العداء الفكري الشرس، وفي مضمار الأدب والثقافة تحديداً. من ذلك ما عمد إليه دانتي الليجيري( ) من تحريفٍ وتجديفٍ في حقِّ الإسلام. وفي حق نبي الإسلام. وما هذه الإشارة إلا من قبيل التذكير، على سبيل الشاهد، اقتضته الضرورة، وعلى الرغم من أن دانتي لم يفلح في تصوير الفردوس والجحيم بأكثر من ديباجة اللفظ، إلا أنها- مع ذلك- أكسبته شهرةً طبقت الآفاق في أوساطهم، لا لشيء إلا لأنها حفلت بالإساءة إلى الإسلام ونبيِّه على وجه الخصوص، في صياغة شعرية اتخذت من الجحيم والفردوس ميداناً لها، متسربلة بثياب الفن الأدبي.
أما فيما يتعلق بالموت، الموضوع الذي قلما يخلو من التعرض له والخوض في شأنه عمل أدبي، فإن القرآن يحفل بالآيات الكثيرة جداً فيه أو عنه. حيناً من أجل العظة والعبرة، وحيناً لتعريف الإنسان بمصيره الحتمي المنتظر، لكي تشعره بضعفه وعجزه حياله، وأنه لا مهرب ولا مفرَّ منه، وحيناً من أجل تعريفه بعاقبة سلوكه في حياته الدنيا، وأنه لا شيء يضيع أبداً. أو يذهب بدداً. والموت هو البوابة إلى الآخرة، ومن هنا جاءت ضرورة تعرُّضنا لمسألة الموت. وفي آيات كثيرة وصف لحالة الموت وكيفيته، والاحتضار الذي يسبقه، ودور الملائكة في شأنه. ولا تأتي الآيات على ذكر الموت كحادثة مجرَّدة، وإنما هي تربطها بمصير الإنسان في الآخرة، أي أن لها ما بعدها، وأنها ليست نهاية أخيرة، بمعنى أنها ليست فناءً مطلقاً. وفلسفة الموت هنا شائكة معقدة ومركبة، كما هي في الآن ذاته، على قدر من السهولة والبساطة. فهي حالة طبيعية تماماً. هي الشق الآخر للوجود الأرضي: حياة يقابلها موت. لا تجري على الإنسان وحده وإنما على سائر الكائنات والمخلوقات. ولطالما شغلت مسألة الموت المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء على مر العصور كما قلنا آنفاً. وكانت موضوعاً أثيراً لأعمالهم، برغم الغموض الذي يكتنف موضوع الموت، والإبهام الذي يحيط به. وكأنهم في سائر كتاباتهم يحاولون حلَّ لغزه المحيِّر، ولكن دونما طائل. وظاهرة الموت كانت، وما برحت، مثار البحث وموضع الدراسة والتساؤل، مذ وعى الإنسان حقيقته، ومنذ قابيل وهابيل. ولكن أحداً لم يستطع الإتيان بقولٍ شافٍ قاطع في مسألة الموت مثلما فعل القرآن. وما أحسب أن أحداً سوف يماري بالقول بأن ما لم يستطعه الجميع، على مرِّ الحقب وتعاقب العصور استطاعه أمِّيٌّ في مكة، لم يؤت من علوم الدنيا والآخرة قبل بعثته إلا إرهاصاً وتكهنات. وما هو بالذي قرأ تاريخ الأمم والشعوب وفلسفة الإغريق والرومان. ولا هو بالذي خطَّ حرفاً بيمينه على ورقة أو قرأ في كتاب. وحتى أولئك الذين يتجاهلون أحداثاً وقعت في عهد الرسول، وبين قومه وعشيرته أكَّدت أميته، أولئك أنفسهم لم ينكروها، وكانوا أولى بذلك، لو لم تكن حقيقة معروفة وأمراً شائعاً.


* * *

القيامة والمصير البشري
وإذا كان لابدَّ من الاستشهاد بأقوال علماء من الغرب، من أجل أولئك الذين يسلِّمون على الفور بما يأتي من قبل هؤلاء يقول الدكتور (الكيس كارلل) في مسألة الموت بوصفه بوابة الآخرة:
(إن الإنسان لن يسأم أبداً من البحث عن (الخلود) والسعي وراءه، مع أنه لن يظفر به إلى الأبد، فتركيبه الجسماني يخضع لقوانين معينَّة. إنه يستطيع أن يوقف الزمن (الفيسيولوجي) لأعضاء الجسد، حتى يؤخِّر الموت لفترة قصيرة، ولكنه لن يتغلب على الموت أبداً) ( ).
أما في شأن القيامة ونهاية العالم الحتمية، فيقول عالم آخر ما ملخَّصه: (لم تعد مسألة نهاية العالم غير مفهومة، فنحن على علم بالقيامات الصغرى التي تقع على سطح الأرض، وهي التي ستحدث مرة أخرى على نطاق أوسع، حتى تشمل الأرض المأهولة كلها..
(إن الظاهرة الأولى التي تنذرنا بإمكان القيامة هي الزلازل. فبطن الأرض يحتوي على مادة شديدة الحرارة، نشاهدها عندما ينفجر البركان. وهذه المادة تؤثر على الأرض بشتى الطرق، فمنها ما تصدر عنه أصوات مروِّعة رهيبة، وما نحسُّ به من الهزَّات الأرضية، التي نسميها (الزلازل).. إنها لا تزال كلمة رهيبة في حياة الإنسان المعاصر، رغم تقدم العلوم والتكنولوجيا، كما كانت كذلك في حياة الإنسان القديم. هذه الزلازل هي حملة الطبيعة ضد الإنسان، الذي لا يملك شيئاً يقاوم به الزلازل، فهي نذير يذكره دائماً بأنه يعيش فوق مادة حمراء ملتهبة جهنمية، لا يفصله عنها سوى قشرة جبلية رقيقة، لا يزيد سمكها عن خمسين كيلو متراً. وهذه ليست، بالنسبة إلى الكرة الأرضية، إلا بمثابة القشرة من ثمرة التفاح.
(إن الزلازل لا تقرع أبواب المدن إلا بغتة، دون سابق إذن أو إنذار. والإنسان لا يستطيع أن يتنبأ بمكان الزلازل، ولا بموعد وقوعها، وهي نفسها تنبئ عن قيامة كبرى سوف تفاجئنا غداة يوم على غرَّة من ا .. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً.. (لأعراف:187).. إن هذه الزلازل دليل ناطق بأن خالق الأرض قادر على تدميرها كما يشاء. وهذه هي حال الفضاء الخارجي. فالكون فضاء لا حدود له، تدور فيه نيران هائلة لا حصر لها، هي السيارات والنجوم). وهذا الدوران يمكن أن يتحول في أي يوم إلى صدام عظيم لا يمكن تصوره. وفي تلك اللحظة الرهيبة يكون ما في الكون أشبه بآلاف من القاذفات النفاثة المليئة بالقنابل النووية، وهي تواصل رحلتها في الجو، ثم تصطدم كلها مرة واحدة! إن اصطدام الأجرام السماوية ليس بغريب مطلقاً. بل الغريب حقاً هو عدم وقوع هذا الاصطدام. هذا الواقع هو بعينه ما نسميه ((القيامة))( ).
يقول تعالى:
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (الانفطار:1-4)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (التكوير:1-6)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا. وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (الزلزلة:1-5)
ويقول سبحانه:
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (المرسلات:7-14)
وتحت عنوان ضرورة الآخرة يقول وحيد الدين خان( ):
(إن الحياة الآخرة ذات هدف عظيم هو المجازاة على أعمال الدنيا، خيراً كانت أو شراً. للإنسان ثلاثة أبعاد يعرف في الآخرة من خلالها هي: نيته، وقوله، وعمله. وهذه تسجل بأكملها في الأثير (الفضاء) – وفي أقوال أخرى تسجل على الهالة المحيطة بجسد الإنسان طوال حياته- إن هذا الواقع يؤكد إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان في حياته، عندما يبدأ حياته الأخرى، فإن وجوده نفسه سوف يشهد على الأعمال والنيات التي عاشها:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (قّ:16)
ثم يسهب في الحديث عن القول والعمل، مؤكداً عن طريق العلم والعلماء الدارسين في ميادين الفضاء والأثير والكون، بأن الصوت والصورة لكل ما يصدر عن الإنسان في حياته مسجلة ولا تذهب بدداً يقول تعالى:
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (قّ:17-23)
وقد ثبت قطعيّاً أن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير إلى الأبد، بعد حدوثها للمرة الأولى، ومن الممكن سماعها مرة أخرى- كما مرَّ معنا من قبل-.
(إن جميع تحركاتك تسجل على شاشة الكون، حيث لا يسعك الهرب منها أو منعها، سواء كنت في الظلام أو النور، فحياتك كالقصة التي تصور في الاستديو، ثم تشاهدها على شاشة السينما بعد حقبة طويلة من الزمن، وعلى بعد كبير من مكان التسجيل، ولكنك تشعر كأنك موجود في مكان الأحداث، وهكذا شأن كل ما يقترفه الإنسان، وشأن الأحداث التي يعيشها، فإن فيلماً كاملاً لتلك الأحداث سوف يوضع بين يدي كل فرد يوم القيامة، يقول تعالى:
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:48-49)
(هل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان. لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل. ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما. وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه عن فطرة الإنسان. إذا لم يكن هناك قيامة فمن ذا الذي سوف يحاكم هؤلاء الطواغيت)( ).
وفي دراسة مستفيضة للدكتور دوكاس يقول في نهايتها:
(يتضح من هذا أن عقيدة بقاء الحياة بعد الموت- التي يؤمن بها الكثيرون كعقيدة دينية- ليس من الممكن أن تكون واقعاً فحسب، وإنما لعلها هي الوحيدة، من عقائد الدين الكثيرة التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبي( ).
أما موعد الساعة فما من أحد يعلمه سوى الله سبحانه:
يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (لأعراف:187)
ولننظر في هذه الآية الواحدة لنرى كم موضوعاً حوت على قصرها:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران:185)
وآيات أخرى في السياق:
الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (آل عمران:168)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (آل عمران:154)
نخلص من هذا كله إلى نتيجة قاطعة حول المصير الإنساني والقيامة عندما تحين الساعة. فالساعة آتية لا ريب فيها. ولكن توقيتها مسألة اختص الله بها نفسه فلم يطلع عليها من خلقه أحداً. وذلك لحكمة يعلمها هو وحده.
ألم يكن في وسع محمد عليه السلام أن يتظاهر بالمعرفة وأن يدعي العلم بأمرها. ومن ذا الذي سوف يحاسبه على دعواه التي لن يظهر صوابها من خطئها في زمانه أو حتى بعد دهور من الزمن؟ ومن ذا الذي يعلم عن المسألة شيئاً من بين سائر الخلق لكي يحاسب؟ ولكن حاشاه أن يفعل وهو رسول الله الأمين.
أوَ ليس عجز الإنسان حتى اليوم، وبرغم ما بلغه من شأو في مضمار العلوم، دليل آخر على صدق القول الإلهي فيما جاءنا به؟
نرى في القرآن، وفي أحاديث الرسول عليه السلام، ما ينبئ باقتراب موعدها. والاقتراب هنا ليس وفقاً لحساباتنا المعروفة بالسنين والقرون الأرضية، إنما هي بحساب الكون ومقاييسه، التي لا يحيط بها غير الله سبحانه أيضاً. من ذلك قول رسول الله (إنما بعثت بين يدي الساعة)( ). ومنها قوله تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (القمر:1)
وقوله:
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (الأحزاب:63)
وقوله:
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (الشورى:17-18)
حتى نبي الله لم يعط علم الساعة، إذ تؤكد سائر الآيات المتعلقة بها بأن الله وحده هو المختص بعلمها، سواء في كيفيتها أو ساعة وقوعها.
وقد نرى في الآيات التالية تلخيصاً وافياً وتوصيفاً دقيقاً للوجود البشري على الأرض، والمصير النهائي للإنسان فرداً والإنسانية جماعة. تصف هذه الآيات حال الإنسان والإنسانية برمتها في نهاية المطاف.
يقول تعالى:
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى. فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا. إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (النازعـات:34-46)
تاريخ البشرية كله، وعهدها بالأرض سيبدو عندئذٍ وكأنه لم يكن أكثر من عشية ذات أمسية أو ضحى ذات يوم.


* * *

النفس الإنسانية
من الطريف أن نفس الإنسان التي تنطوي عليها جوانحه، ويقوم عليها وبها كيانه، نفسه هذه هي الأكثر غموضاً عليه من أي شيء آخر. وجه الطرافة في المسألة أنها هي هو..! وهي ذاته في الحياة وبعد الممات وبرغم ذلك فهو لا يكاد يعرف من أمرها شيئاً. والنفس غير الروح، ولكنها مثلها غامضة مجهولة الأبعاد والآفاق من قبل الإنسان. ينطبق هذا القول على نفوس الآخرين كانطباقه على نفس الإنسان الخاصة به أي أنه يجهل مكنونات أنفسهم ودخائلها. ولعل هذا الغموض هو ما حيَّر الإنسان على مر العصور. بل لقد أضنته وأرهقته، أيّ ضنى وأيّ إرهاق محاولاته للتعرف إلى نفسه، بيد أن الإخفاق كان نصيبه دائماً. وكالسراب، كانت النفس مراوغة على الدوام، كلما حسب أنه أوشك أن يبلغ سرها، لم يجد عند السراب شيئاً، وألفاها أبعد منالاً.
إن الإنسان لم ينطلق إلى أجواء الفضاء، ولا هو غاص في أعماق الأرض وأغوار البحار إلا هرباً من نفسه حين أعياه البحث عنها دونما جدوى. وهو من ثم يمضي يبحث عن أشياء تلهيه عن الجلوس إليها منفرداً، حيث لا يخيف الإنسان شيء أكثر من انفراده بنفسه، ما دام على جهل بحقيقتها، بكنهها وماهيتها. ناهيك عن أن يعرف نفس الآخر. وهو يُمضي جلَّ عمره محاولاً معرفة تلك النفس، وما تنطوي عليه، ما تريد ومالا تريد، ما توسوس له، وما تحدِّثه به، وهل هذا الحديث معها في مصلحته، ومن أجل خيره أم هو في أذاه وشره. بل إن الإنسان ليحسبها أحياناً كائناً منفصلاً عنه فيخاصمها أو يصالحها. يطلق لها عنان الحرية إلى مداه الأقصى، أو هو يقمعها قمعاً ليس في مكنة أعدائه أنفسهم أن يبلغوه منها.
إنَّ القارة غير المكتشفة حتى الآن. وبالرغم من سائر إنجازات التكنولوجيا والعلم الحديث هي نفس الإنسان، التي لم يستطع سبر أغوارها ولن يستطيع إلى ذلك سبيلاً. إن صراعه الرئيسي وعراكه الأساسي هو معها. ووجه آخر للمفارقة أيضاً هو أنه لا يسعى في حياته كلها إلا من أجلها في الوقت عينه. يريد إمتاعها وإسعادها بتحقيق رغباتها – العشوائية الهوجاء غالباً- على حساب أيِّ شيء آخر أو أحد آخر.
وقد تبدو النفس وكأنها كائن منفصل مستقل جموح يلقى صاحبها الكثير من العنت في محاولة تطويعها وترويضها، ينجح في مسعاه حيناً ويخفق حيناً. وتظل المعركة بينهما قائمة مدى الحياة.
وتبقى النفس، ذلك اللغز الغامض الذي اختص الله وحده بعلم خفاياه وأسراره. وقد لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن معظم الآيات القرآنية محورها النفس الإنسانية، سعياً لهداية صاحبها الإنسان، ولإخراجه مما تسوِّل له هذه النفس من سوء نحو الخَلْق، وكفرانٍ نحو الخالق. من ثم كان الحديث عنها وحولها منذ بداية البدايات. فالنفس هي التي تمكَّن منها إبليس فأخرج أبوينا من الجنة. والنفس هي التي سوَّلت لقابيل، منذ بدء الخليقة قتل أخيه. ومن ثم كانت هي السبب، وهي المحور المحرِّك لعوامل النشاط الإنساني كله. فهي التي تضرم الحروب بين البشر، وتثير الخصومات، وهي أيضاً التي تقيم العلاقات النافعة الصالحة بين الأفراد والجماعات. هي مصدر الحب والكره، وهي عماد الصداقة والعداوة، هي موضع الصلاح والتقوى حين تتوجَّه إلى الله ويمنُّ عليها بالهداية، كما هي موطن الشرور والآثام حين تنقاد إلى همَزات الشياطين.
آيات القرآن تؤكد هذه المعاني الحقائق. وتبين لنا أن الله وحده العليم بنفوس البشر، ما تبدي من أمرها وما تعلن. ولقد جاءت أوصاف القرآن للنفس البشرية مدهشة لدقتها في وصف حالاتها المختلفة.
نورد فيما يأتي آيات قليلة، من كثيرة في شأنها، حيث لا سبيل إلى الإحاطة في هذا النطاق الضيق، بكل ما ورد في شأنها:
يوجِّه الله سبحانه وتعالى الخطاب إلى النفس الخيَّرة فيقول:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر:27-30)
ويتحدث الخطاب إلى النفس- من نوع آخر- الظالمة مثلاً فيقول:
.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (الأنعام:93)
ومن الآيات في النفس في سياق آخر:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (الأنعام:158)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (الأنعام:164)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (يونس:100)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (يونس:108)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (النحل:111)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (الإسراء:25)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (المؤمنون:103)
وللتأكيد على أن الأنفس بيد الله، هو الذي يلهمها الهداية أو الضلال بمعنى يدُّلها، وليس على أنه يجبرها أو يسيِّرها في سبيل الضلال والغواية كقوله:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس:7-10)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (النساء:110)
الدليل على ما ذهبنا إليه هو نسبة الفلاح أو الخسران إلى صاحب النفس ذاته. (قد أفلح من زكاها) فالإلهام هو فتح الطريق أمامها في كلا الاتجاهين: الهداية والضلال ثم هي التي تختار بعد ذلك، وتتحمل من ثم مسؤولية اختيارها. ولأن النفس هي المسؤولة في الحالتين تقول الآية:
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (قّ:21-22)
وهذا يعود بنا ثانية إلى مسألة انتقال الروح بعد الموت، وأن الروح باقية، فها هي ترى بوضوح أكثر حدَّة بعد أن تخلَّصت من ثقل الجسد المادي، الذي كان يحجب الكثير من الحقائق عنها، مما أبقاها في غفلةٍ عن هذا المصير، لا سيما وأن إرضاء الجسد والنفس كانا من أسباب الشقاء الأخروي للإنسان. وفي السياق ذاته:
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (غافر:17)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (الذريات:20-23)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (الروم:8)
وآيات عن الإنسان دون ذكر النفس ولكنها تعنيها. من هذه الآيات ما هو خليق بأن يدفع الإنسان إلى التفكير مليَّاً في آلاء الله، بل وإلى إطلاق العنان لفكره وخياله في ملكوت الله، لكي يرى ببصيرته مالا يراه ببصره مما تنطوي عليه القدرة الإلهية من عظمة، ومن احتفاء بالإنسان في الوقت عينه، بحيث يهتم الله بأمره هذا الاهتمام كله. فيبعث إليه بالرسل في شتى الحقب والأزمنة (خاتمهم محمد عليه السلام بكتاب يلبث بين أيديهم ما بقي من الزمان)، وكيف يفصِّل له الآيات تفصيلاً، وينبهه إلى مصيره، ويرشده إلى سبل هدايته ويحثُّه على النظر في ملكوته وفي خلقه، وفي نفسه ذاتها، لكي يخرج في نهاية المطاف بمحصلة أفضل لدنياه وآخرته على حد سواء. من هذه الآيات:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج:46)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (الكهف:103-104)
لأن الإنسان يلبث في غفلة من أمره، لا يتذكَّر مصيره الذي سيلقاه، ولأن الحقيقة تتبدى له واضحة كالشمس في لحظات احتضاره وعند موته، عندئذ فقط يندم على ما فرَّط فيها، فيطلب مستحيلات لا تتحقق أبداً، إذ يصحو ولكن بعد فوات الأوان.
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون:99-100)
ومن حالات النفس الإنسانية:
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (فصلت:51)
إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ (المعارج:19-22)
في كلمات قليلة مكثَّفة تصوِّر حالاتٍ إنسانية، تمثل حياة الإنسان كاملة على ظهر الأرض، بما في ذلك خفايا نفسه ونوازعها، والطبيعة البشرية المتأصلة غريزياً وفطرياً في سائر الناس. ولكن القرآن يدعو إلى تهذيبها والتخفيف من غلوائها. يدلها على هفواتها وزلاَّتها وأخطائها، للعمل على الخلاص منها، والتوجُّه نحو الخير والفضيلة، والتطلُّع إلى موقع في جنة الله بعد موته، إن هو تقيَّد بأوامره ونواهيه، وأخذ بأسباب الهداية والرشاد التي سيقوده إليها عقل منحه الله إياه من أجل ذلك.
ومزيد من هذه الآيات في تصوير الإنسان وتبيان حقيقته، سواء تلك التي جبل عليها، أو تلك التي يكتسبها وكثيراً ما تكون وبالاً عليه.
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (البقرة:205-206)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب:72)
ولكن آيات أخرى تطمئن الإنسان إلى أنه قادر أيضاً على تجاوز نزعات النفس الأمارة بالسوء، بل وإخضاعها بما يملك من إرادة حازمة إن شاء لكي يكون سلوكها سوياً:
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعـات:40-41)
في صدد فضل القرآن في التعريف بالنفس، كما في دعوته وتوجيهاته إلى الارتقاء بها، رفعةً وسموّاً، عن طريق مسلكها في الحياة الدنيا. يقول هيكل في كتابه حياة محمد تحت عنوان فرعي (القرآن وأدب النفس):
(لو شئنا أن نجيء بطرف مما في القرآن في أدب النفس، وتهذيب الأخلاق لانفسح المجال إلى مالا تنفسح له خاتمة الكتاب. وحسبنا أن نذكر أنه ما حضَّ كتاب على الخير والفضل ما حضَّ القرآن، وما سما كتاب بالنفس الإنسانية ما سما بها القرآن، وما تحدَّث كتاب عن البر والرحمة، وعن الإخاء والمودة، وعن الصدق والإحسان، وعن الوفاء وأداء الأمانة، وعن سلامة القلب وصدق الطوية، وعن العدل والمغفرة، وعن الصبر والثبات، وعن التواضع والإذعان، وعن الخير والمعروف، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والإقناع والإعجاز في الأداء ما تحدث القرآن. وما نهى كتاب عن الضعف والجبن، والأثرة والحسد والبغض والظلم، والكذب والنميمة، والتبذير والبخل، والبهتان واللمز، والاعتداد والإفساد، والغدر والخيانة، وعن كل رذيلة ومنكر، ما نهى القرآن، وبالقوة والإعجاز التي نزل بها الوحي على النبي العربي)( ).
ويقول في كتابه تحت عنوان فرعي آخر (الرجل الكامل في القرآن):
(لقد طالما صوَّر الكتَّاب في مختلف العصور والأمم صورة الرجل الكامل. صوَّره الكتَّاب والشعراء والفلاسفة والمسرحيون في العصور القديمة وما يزالون حتى اليوم. مع ذلك لن نجد صورة لهذا الرجل الكامل كهذه الصورة الفذَّة التي وردت في سياق سورة الإسراء. وهي ليست إلا بعض ما أوحى الله إلى رسوله من الحكمة. لا يقصد بها إلى تصوير الرجل الكامل، وإنما يقصد بها أن يذكر الناس بعض ما يجب عليهم)( ). يقول تعالى:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً. وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (الاسراء:23-38)
فهل كان محمد عليه السلام محيطاً بكل هذا من تلقاء نفسه لو لم يكن رسول الله؟


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس