عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 12 : 10 PM   رقم المشاركة : [19]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الخامس عشر
قيمة العقل والفكر في القرآن



[align=justify]
دعوة لاستخدام العقل
كثيرة هي الآيات التي تحضُّ على استخدام العقل، والتفكير في آلاء الله، وشؤون الحياة والإنسان والكون، وبارئها جميعاً. لكي تحقق للإنسان المعرفة بالحقائق الكلية وموقعه منها، ومن ثم موقفه منها، وإيمانه بها القائم على يقين لا يزيغه الهوى ولا ينحرف به الضلال.
لم يعرف عن الأديان الأخرى أنها جاءت في هذا الشأن، بمثل هذا الفهم الذي جاء به القرآن (وهذا ليس طعناً فيها). غير أن هناك من ظلُّوا ينكرون هذه الحقيقة، ويعملون على الطعن فيها، بوسائل شتى، وذرائع مختلفة، برغم تهافت الذرائع وعجز الوسائل. والغريب أن هؤلاء على استعداد أن يتقبلوا نسبة القرآن لأي جهة أو إنسان عدا مصدره الحق، وهو الله. –كما أسلفنا في مكان آخر- من ثم كان أسهل شيء عليهم نسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم كأصل في المسألة، سواء كان مؤلفاً أو ناقلاً. ولكنهم يتجاهلون حقيقة موضوعية هي من مكونات الطبيعة البشرية، وهي أن الإنسان، في العادة، يعادي أو يتنكر- على الأقل- لمن يتفوَّق عليه في مضماره. ناهيك عن أنه، لا يجنح إلى تمجيده وتعظيمه إلى حدِّ وصفه بأنه أعظم منه إذا ما كانا في صدد تنافس في ميدان ما. من ثم يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل الذي نجد أنفسنا بحاجة إلى تكراره باستمرار في هذا الصدد ابتغاء الوصول إلى القناعة اليقينية في موضوعنا هذا:
كيف ينسب محمد إلى جهة، أياً كانت، عملاً على هذا القدر من العظمة دون أن يطلب إليه أحد ذلك أو يرغمه عليه؟ لماذا لا يكون هو صاحبه، ما دام هو صاحبه..؟ وإذا كان هو أمِّياً فلماذا، وكيف يتأتى له أن يدعو إلى تعظيم الفكر، وإلى استخدام العقل للتفكر والتدبر في سائر شؤون الحياة والكون؟ أمي عادي لن يقدم على ما يكشف نقصه. ناهيك عن التنديد بالجهل، والضلال، والقصور الفكري، والتخلف المعرفي؟ ثم نتيجة لذلك تصبح دعوته هذه، والآيات التي يأتيهم بها حفية بالدعوة للعلم والمعرفة. كما تصبح مصدراً لملايين التآليف والتصانيف، والكتابات والدراسات، في شتى حقول العلم والمعرفة، منذ بعثته وفيما بعد. كما تصبح مصدراً للجدل والحوار واللدد والموافقة والمعارضة، والأخذ والرد، ليس من قبل معاصريه وحسب، وليس من قبل أمة بعينها من أمم الأرض فقط، وإنما تغدو شغل العالم الشاغل من أنصار وخصوم على مر السنين. وهل من قضية شغلت البشرية ما شغلته قضية الإسلام منذ جاء به رسوله عليه السلام؟ أليست ظاهرة الاستشراق التي شملت معظم أقطار الغرب منذ قرون حتى الآن مما يسترعي الانتباه ويلفت النظر؟ ومن بين المستشرقين من يُمضي جلَّ عمره باحثاً منقباً فيما جاء به محمد من قرآن برغم عدم إيمانه بالإسلام كدين. وغالباً ما يكون هؤلاء من النخبة المفكرة في أعلى الدرجات العلمية الأكاديمية.
فإذا كان ما جاء به محمد هيِّناً غير ذي بال أو قيمة، فلماذا كل هذا الاحتفاء به، موافقة أو معارضة. يحدث هذا إزاء دعوى صاحبها في نظرهم ليس إلا رجلاً أمياً من العرب؟ ولكن هذا الرجل (الأمي) يعلن للعالمين بلسانه هو هذه المرة: (اطلبوا العلم ولو في الصين)( ). ويعلن (تفكر يوم خير من عبادة دهر)( ). كيف استطاع هذا الرجل، بهذا الكتاب، أن يشغل الدنيا بأسرها على مرِّ الزمان؟ أليس هذا في حدّ ذاته مدعاة للاقتناع اليقيني بأنه كتاب غير عادي، ليس كأي كتاب ظهر للبشر، إذن لابد أن مصدره مغاير تماماً لما عرفوا وما ألفوا؟
وهذا الذي أسلفنا أنموذج من حديثه. بل هو يعتبر من يموت وهو في طريقه إلى أماكن بعيدة، باحثاً عن علم هو في مصاف الشهداء. أما في القرآن الكريم فالآيات المتعلقة بالعلم المعرفي، والحثِّ على طلبه أكثر من أن تحصى، هادفة وداعية إلى تعلُّم الإنسان ما لم يعلم، وإلى التذكُّر وإعمال الفكر. نورد من هذه الآيات كأمثلة:
.. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (إبراهيم:25)
وتقول آية، على سبيل التساؤل لإثارة الفكر:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (البقرة:266)
وفي استخدام العقل:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران:190-191)
وفي تمجيد العقل والحكمة:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة:269)
ومثل من واقع الحياة والأحياء:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24)
ولمقارنة الفرق بين العلم والجهل وتشبيه الجهل بالعمى، بعد الآيات التي تصف الفريقين:
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (هود:24)
وآيات أخرى في العلم والفكر والتدبر والمعرفة:
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (الاسراء:71-72)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (يونس:5)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (الأنعام:104)
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام:50)
هذا الحشد الهائل من الآيات ليس إلا نزراً يسيراً من كثير لا سبيل إلى الإحاطة به في هذا المقام.
الآيات تقدم رداً مفحماً على الذين يتهمون الإسلام بالجمود وعدم الملاءمة لروح العصر في الأزمنة اللاحقة على نزوله. هؤلاء جهلة أو مغرضون. فمنهم من يتخذ من حال الأمة الإسلامية الراهن دليلاً على ذلك. ومنهم من يزعم معاداة الإسلام للعلم والمعرفة، بدليل وقوف المسلمين عند الموروث عن السلف قبل عديد من القرون، فضلاً عما هم عليه من تخلف وتراجع.
هذان فريقان، أحدهما من المسلمين أنفسهم المنبهرين بـ (الحضارة) الغربية. ثانيهما من غير المسلمين: الغربيون الاستعماريون منهم واليهود أعداء الإسلام التقليديين على مرّ العصور.
لا بد من التنويه إلى أن هناك خلطاً في الفهم والتقييم أدَّى إلى عدم التفريق بين الإسلام، بكل عظمته كمبدأ وعقيدة ومنهاج للحياة، وبين ما هو عليه حال المسلمين من تقصير وإساءة فهم للإسلام، وابتعادهم عنه وأخذهم بما يشبه الثوب المرقع من هنا وهناك، دونما إدراك أو تدبُّر، فعمَّت في مجتمعاتهم الفوضى الفكرية والثقافية، وتخلفوا صناعياً وعلمياً وسياسياً عن موكب المدنية المنطلق منذ قرون إلى آفاق أمسى من غير اليسير عليهم اللحاق بها حتى لو شاءوا. فما بالك في كونهم- أو كون معظمهم- ما انفكُّوا غير مدركين لواقع الحال من جهة، ولما ينبغي أن يكونوا عليه من جهة ثانية. المسلمون اليوم- في عبارة واضحة محدَّدة- لا يمثلون الإسلام على الإطلاق. وهم من ثمَّ يسيئون إليه أمام الأعداء والخصوم، إذ يحسبونهم ممثليه، وأن الإسلام هو هؤلاء، وأن ما يعانون من تخلف كان الإسلام سببه.
ولقد سبق للإمام محمد عبده أن شخَّص هذه الحال، منذ أوائل القرن الماضي حين زار أوروبا، وتأثر بما رآه هناك من تقدُّم مدني، مقارناً إياه بما كان عليه حال المسلمين في الشرق- ولا يزال- فقال كلمته المشهورة: (رأيت في أوروبا مسلمين من غير إسلام وعندنا يوجد إسلام بغير مسلمين). قد يكون لنا رأي متحفظ أو تفسير لما ذكر الإمام ليس هنا أوانه.
كذلك كان الأمر مع المفكر العربي في تلك الحقبة، الأديب شكيب أرسلان الذي عرض للمسألة في كتابه (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم).
صورة المسلمين اليوم في اسوأ حالاتها. ولكن ليس الإسلام هو سبب ذلك. بل إن الإسلام هو أول ما يدينهم على واقعهم الذي هم عليه. فهو يريد لهم الوحدة أولاً تحت لواء العقيدة كما يريد لهم، التقدم والتفوق ليكونوا طليعة للآخرين- وليس العكس- بما يتيح لهم، فيما لو طبقوه في مجتمعاتهم وشؤون حياتهم. الإسلام يدعوهم لأن يكونوا الطليعة في قيادة البشرية، من أجل خيرها، بما ينشره من عدالة ومساواة بين البشر، حيث لا أحمر ولا أسود ولا أبيض إلا سواء في الإنسانية. وحيث لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والصلاح وفعل الخير، بصرف النظر عن العرق والجنس واللون والانتماء، الأمر الذي ما برحت البشرية تعاني بسببه في معظم صراعاتها. فما الأثنية والتطهير العرقي والتمييز بين الأعراق والأجناس. سوى آفات العصر التي أفرزتها (حضارة) الغرب وقادته وعلى رأسهم اليهود.
لقد نسي العالم، والمسلمون أنفسهم أو شكوا على نسيان حقيقة ناصعة: هي أن ما جاء به الإسلام إلى البشرية لم يؤت مثله، برغم سائر الدعاوى والفلسفات والنظريات التي ما برحت تظهر هنا وهناك، من حين لآخر عبر القرون، وكان نصيبها جميعاً الإخفاق. فلم تحقق للإنسانية سعادة ولا خيراً. بل على العكس من ذلك تماماً. الغربيون أنفسهم أصحاب هذه الدعاوى ليسوا سعداء تماماً بما هم عليه. صحيح أنهم ينعمون بالكثير من مظاهر المدنية، وأدواتها المريحة (للجسد وحده)، ولكنها لم تشبع أرواحهم ونفوسهم، وهم في أمسّ الحاجة إلى ذلك، وإلا لما رأينا حالات الكآبة والانتحار بين الأفراد، في مجتمعاتهم. ولقد أينا ونرى في كل يوم لجوء الكثيرين منهم إلى اعتناق ديانات وعقائد أخرى، لأن (حضارتهم) الراهنة وفلسفاتهم المادية المتجاهلة لإنسانية الإنسان أبعدتهم عن كل انتماء روحي حتى عن المسيحية نفسها.
إن معظم أسباب المعاناة وضروب المآسي والمظالم القائمة في عالم اليوم هي التقدم العلمي (المادي) الذي بلغته المدنية الغربية (ولا نقول الحضارة) دون أن يواكب ذلك ما يوازيه من تقدم روحي وأخلاقي – لا يأتي إلا عن طرق الدين- فالإنسان ليس جسداً فقط وإنما هو جسد وروح. ولعل إشباع حاجاته الروحية أكثر ضرورة وإلحاحاً من حاجاته الجسدية.
وعود إلى موضوعنا بعد هذا الاستطراد
القرآن يتوجه دوماً بالخطاب إلى أولي الألباب وإلى الذين يعقلون وأولي الأبصار و الذين يتفكرون و الذين يعلمون. كما يحثُّ على الإطلاع والدراسة والبحث التي هي وسائل الإنسان إلى المعرفة والعلم. كما يرد فيه، وبكثرة، ذكر القلم والكتاب وفعل الكتابة:
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (يونس:101)
أليست هذه دعوة للبحث العلمي الشامل، دونما تحديد أو حدود في آفاق (السموات والأرض)؟ النظر المطلوب في الآية يقتضي توفير أدوات ووسائل تستخدم في البحث والدراسة والتقصي لماهية ما ينظر فيه.
أول سورة تنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم كانت:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5)
نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (القلم:1-2)
وهناك الآية الخاصة بالكاتب بالعدل في سورة البقرة رقمها 282 فليرجع إليها.
وآيات أخرى في شأن الكتاب والكتابة:
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (الاسراء:13-14)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة:285)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (الفرقان:5)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (النمل:28-29)
(القلم) هو الأداة الأولى اللازمة في أي محاولة للبحث والتعلم لكي يعلم الإنسان ما لم يكن يعلم قبل ذلك.
وحثّاً على التحصيل العلمي كذلك يقول تعالى:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (طـه:113-114)
ولأن العلم بلا حدود فيظل طلب الزيادة في العلم بلا حدود أيضاً، لاسيما حين يكون المطلب شاملاً آفاقه السموات والأرض بكل ما فيها وما تزخر به.
وفي سورة البيَّنة نقرأ الآيات:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (البينة:1-3)
وقد أوردنا فيما سلف آيات تبدأ بالسؤال ألم تر. هذا التساؤل المثير الخطير ألم تر ماذا يعني غير الحضِّ على الرؤية والتبصر، وتضمين التنديد- في الوقت عينه- بمن لا يفعل.
الرؤية هنا قد تكون معاينة: كرؤية الشمس والقمر والنجوم وسائر المخلوقات في الأرض، والإنسان نفسه مما يفضي، بعد التأمل إلى الوصول إلى حقيقة بدهية، هي أن لهذه جميعاً خالقاً يدبر أمرها. وقد تكون الرؤية مجازية، بمعنى استشراف الآفاق الكونية بالبصيرة والعقل، وتحليق الخيال للتصوُّر والتأمل في آيات الله. فالإنسان لم ير السموات والأرض حين كانتا رتقاً. وهو لم ير كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده، والإنسان لم يشهد أحداث الأزمنة الماضية. ومصائر الأمم الغابرة، ولكنه يدعو إلى الرؤية بإعمال العقل والفكر والمخيلة، ليستخلص المعنى، ويستنبط الحقيقة. وتأكيداً على هذا المعنى- عدم الرؤية المحسوسة- يقول تعالى:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف:51)
ثم تأتي آية جامعة مانعة تشمل الكثير من المسائل التي حاولنا التعامل معها كقوله تعالى:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (الكهف:54)
مؤكدة لحقيقة إنسانية عامة وملموسة، هي أن الإنسان كان حقاً ((أكثر شيء جدلاً)). ذلك فضلاً عما تمضنته من تأكيد على أن القرآن جاء للناس بكل مثل ونبَّه إلى كل حقيقة.
وما أكثر الآيات التي تدعو إلى النظر والتمعن في مسائل الخلق، وهي دعوة إلى العلم والمعرفة عن طريق النظر سواء بالحواس أو بإعمال الفكر كهذه الآيات:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (لأعراف:185)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية:17-20)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (قّ:6-7) وإلى الآية:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت:20)
من علامات تقصير المسلمين في حق إسلامهم، وبالتالي حق أنفسهم بعد أن كانوا سباقين في شتى العلوم، مسترشدين بما حفل به قرآنهم من نور وهداية وإرشاد، يمكننا القول- بأكبر قدر من الإيجاز- بأنه لا ينكر هذه الحقائق إلا مكابر. فالغرب نفسه يعرف لكنه لا يعترف بأن حضارته قامت على إنجازات العلماء المسلمين. وهم يعرفون ابن سينا، وابن الهيثم، والفارابي، وابن حيان، والرازي، وابن النفيس، وابن زهر، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم وغيرهم، مما لا سبيل إلى إحصائه.كما أنهم يعرفون- وإن أنكر الكثيرون منهم ذلك فنسبوه إلى اليونان- أن أوروبا أخذت عن هؤلاء أسس نهضتها التي بدأت فيما يسمونه هم (عصر النهضة). فقد كانت الجامعات الإسلامية في أسبانيا وصقلية، وشمال أفريقيا مقصد الأوروبيين لتلقي العلم فيها، تماماً كما يفعل طلابنا اليوم في ذهابهم إلى أوروبا وأمريكا. كما كانت الحروب الصليبية سبيلاً لاحتكاك الأوربيين بالديار الإسلامية ونقل الكثير عنها مما بلغته آنئذٍ من علم ومدنية ومعارف.
ومن الأمثلة على جحود الغربيين وتنكرهم لفضل العرب على الحضارة:
يقول الغربيون إن (أرسطو طاليس) الإغريقي كان أول القائلين بكروية الأرض. ولكن طاليس لم يقل بدورانها، بل كان يعتبرها مركز الكون. وذلك خطأ فادح تنزهت عنه آيات القرآن الكريم. كما أن طاليس قال بكروية الأرض واستدارة كاملة لها، في حين أن شكلها بيضوي. والقرآن أول من قال ذلك للناس.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (النازعـات:30-31)
معروف أن الدحية تشبه البيضة.
كما أنه لم يعرف- ولا عرف غيره- آنذاك أن الأرض مائلة على محورها بسبب نقص في طرفها عند المحور، وأن أطراف القارات يعتريها النقصان المستمر. القرآن قال ذلك:
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (الأنبياء:44)
ولنلاحظ تلكما الآيتين: أولاهما وصفت الأرض كالدحية. أي شكلها الحقيقي تماماً. والثانية ذكرت الزرع والنبات الذي يخرج من الأرض بسبب النقص الذي يميلها على محورها، في مواجهة الشمس، لتتكون الفصول التي لولا تعاقبها لما كان هناك نبات، وبالتالي لا حياة على ظهرها، لبشر أو حيوان، أو طيور أو حشرات، أو أحياء برية وبحرية، على وجه الإجمال.
أما (كوبر نيكوس) فيقول بأن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس. ولكن الآية جاءت قبل نحو من ألف سنة من كوبر نيكوس، تقول:
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل:88)
لقد فهم المفسرون القدامى أن ذلك من أحداث يوم القيامة. ولعلهم معذورون فيما ذهبوا إليه، حسب معطيات عصرهم العلمية الشحيحة. كان تفسيرهم خطأ بطبيعة الحال. فالإنسان عندما تقوم الساعة، ويُرى ((الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)) لن يكون في وضع يسمح له بتلك الرؤية، بل إن الإنسانية كلها تكون، عندئذ في حالة تصفية ونهاية لقيام القيامة، فكيف يتسنى للناس أن يروا الجبال أو غيرها وهم في حالة الذهول والروع المحيقة بهم؟ أي ((ناس)) معنيون هنا؟ وهل سيكون هناك أحياء؟ فالقيامة ((كلمح البصر أو هي أقرب)). ثم إن الجبال سوف تدمر تماماً.
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (طـه:105-106)
المعنى المقصود في الآية الكريمة، وحسب معطيات العصور اللاحقة لعصور المفسرين القدامى، هي الرؤية والتأمل والإدراك بأنها تدور مع دوران الأرض. فهي ((تمر مرَّ السحاب)) برغم أنك تراها ((فتحسبها جامدة)) ساكنة في مكانها وحقيقة أمرها غير ذلك. (سبق أن عرضنا لشيء من هذا).
أما الشمس، فما من أحد عرف من قبل أنها وهي تسبح في فلكها لها مستقر نهائي ((تجري لمستقر لها))، وأنها سوف تصل إلى ذلك المستقر ذات يوم يعلمه الله وحده. ولقد تبين أخيراً عن طريق العلم بأدواته وآلياته المختلفة أن الشمس تسعى نحو برج النسر، الذي يجري بدوره ((وكل في فلك يسبحون)) لغاية أخرى وفي مدار آخر. والشمس إذ تفعل ذلك تسحب معها مجموعتها من الكواكب السيارة. لكن سرعتها سوف تدرك سرعة برج النسر في وقت ما لتستقر داخله وينتهي أمرها، ومن معها من توابع. ومن شاء فليعد إلى المراجع العلمية الفلكية، ففيها تفصيل ذلك. ومنها الثقوب السوداء التي اكتشفت وجودها المراصد في وقت ليس ببعيد، والتي يمكن أن تبتلع الشمس وكواكبها معاً فلا تبقي لها أثراً. وهذا مصداق قوله تعالى:
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء:104)
وقوله تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (الزمر:67-68)
هذه الحقائق العلمية لم تكن متاحة في عصر محمد عليه السلام، ولا في عصور لاحقة تجاوزت قروناً من بعده، إلى أن جاء الزمن الذي عرفت فيه البشرية هذه الحقائق والمكتشفات التي مضت تظهر تباعاً وتدرجاً عن طريق العلم، وليس دفعة واحدة لحكمة اقتضتها إرادة الله.
الحث على العلم إذن، والحضُّ على إعمال الفكر في هذه الآيات، بغية الوصول إلى الإيمان عن طريق المعرفة. وهي متسقة مع الآيات التي تشرح العمليات الجارية في الكون، في السموات والأرض، على الحياة والأحياء، واستنباط النظريات العلمية لتفسير هذه الظواهر، والإفادة منها في شتى ميادين النشاط الإنساني، الهادف إلى تطور الإنسان وتقدمه على مر الزمن. فالله سبحانه لم يخلق الكون عبثاً، وكذلك الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا عبثاً:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (صّ:27)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (الدخان:38)
صدق الله العظيم.
ما تضمنته الآيات الكريمة من معطيات ومعلومات كشف عنها العلم تباعاً لما يصير العجب والدهشة، إن لم نقل الذهول. فأني لمحمد أو لأهل زمانه والحالة هذه القدرة على الإحاطة بها؟ لكأن العلم شاء له الله أن يرد في متوالية متواصلة على مدى الزمن تصديقاً لما بين الأيدي وما في الصدور من كتاب الله. لكأنه ــ فيما يبدو ــ يأتي منجّماً في فضائيْ الزمان والمكان.


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس