عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 07 / 2008, 19 : 10 PM   رقم المشاركة : [20]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل السادس عشر
حفظ القرآن
المعجزة الأزلية



[align=justify]
الوعد ـ المعجزة
إننا نقرأ اليوم قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9)
ولا يخلف الله وعده فنقرأ في كتابه:
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (إبراهيم:47)
إننا نقرأ الآية الكريمة اليوم كما تنزلت تماماً، وبعدما ينوف على أربعة عشر قرن من الزمان. إنها المعجزة التي لا سبيل لمكابر أن ينكرها. القرآن اليوم في كل منزل لدى مليار ونصف من المسلمين هو هو كما تنزل يومئذٍ على محمد رسول الله عليه السلام من هنا تصبح في حكم المستحيل احتمالات ضياعه أو تزويره أو العبث في محتواه.
لو لم يكن الوعد إلهياً، ولو لم يكن الرسول ناقلاً لذاك الوعد لما صمد التحدي حتى يومنا هذا. من ذا الذي يمكنه ـ في أي زمان أو مكان ـ أن يصدر وعداً للمستقبل وأن يقطع عهداً يقول منذ البداية بأنه لن تكون هناك جهة أو قوة أبداً قادرة على العبث به أو تغييره أو تبديله، ولو بالكلمة الواحدة أو الحرف الواحد؟ من ذا الذي يجرؤ على فعل ذلك ويضمن النتيجة سلفاً لقرون سوف تأتي. والقرون حافلة بالمتربصين والمناوئين والمعارضين بالقلم وبالسيف معاً تماماً كما هو الحال عند صدور الوعد.
لو كان صاحب القول من البشر هل كان يضمن لقوله بقاء على الزمان؟ ثم يقيَّض له البقاء فعلاً وواقعاً؟
معجزة إلهية تتحقق نراها اليوم رأي العين. فلقد حفظ الله قرآنه من أي عبث أو ضياع، فبقي كما تتنزل على نبيِّه، على الرغم مما تعرّض له منذ ظهوره من محاولات التحريف والتجديف والتقليد. وعلى الرغم مما واجه من عداوات وخصومات وحروب، لم يهدأ لها أوارٌ أبداً. وكانت على الدوام من قبل قوى باغية لها رؤاها وتوجهاتها، رأت فيه خطراً على مصالحها. ولم يكن ذلك صحيحاً بطبيعة الحال، فهي لو وعته وأدركت معانيه ومراميه، لأقبلت عليه وتنكَّبت طريقه، لوجدت فيه الخير والفلاح دنيا وآخرة لها ولغيرها، على حد سواء، واستلهمت منه الوسائل والسبل لحلِّ مشاكل الإنسان ومعالجة قضاياه وهمومه في سائر الأزمنة وكافة الأمكنة.
كان اليهود وراء ذلك العداء للإسلام منذ البدايات، وما برحوا كذلك. ولقد عملوا دون كلل على جبهتين. أولاهما: محاربة الإسلام والتنكر لأصحابه. ثانيتهما: العمل على تضليل البشرية بتشويه صورة الإسلام في نظرها، لإبعادها عن محاولة الاقتراب منه وفهمه على حقيقته. وكانت أهدافهم سياسية دائماً. كان من شأن ذلك الإساءة للبشرية نفسها بسبب ما عمدت إليه هذه الفئة الضالة من البشر من تضليل، انجرفت معه ووراءه دول وشعوب برمتها مما يدعو للأسف والأسى معاً. فلقد حرموا الأجيال المتعاقبة من البشر نور الإسلام وهدايته. ولقد عمدوا، فضلاً عن ذلك، إلى نشر مفاهيم وممارسات وثقافات سيئة تقوم على تعميم الانحلال والمفاسد والتحلل من القيم والأخلاق، وحتى المشاعر الإنسانية ذاتها. وقد زيَّنوا لهم ذلك بدعاوى ضمَّنوها مقولات جذابة براقة، ابتكروا لها مصطلحات ومسميات ونظريات يطلقونها على متبنيها من قبيل (حضاري)، (متطور)، (علماني)، (متقدم)، (عقلاني)، (حداثي)، (عصري)، وما إلى ذلك من مفردات برعوا في اختراعها ثم تعميمها. أما على الجانب الآخر- الإسلامي- فراحوا يبتكرون أيضاً مسميات ومصطلحات تروقهم وتشوِّه صورة الإسلام في الأعين، من قبيل: (متخلف)، (متطرف)، (رجعي)، (بدائي).. ثم أخيراً (إرهابي).
وقد يتساءل المرء لماذا يعمد اليهود إلى صنيعهم هذا على الدوام؟؟
ولعل الإجابة على السؤال تحتاج إلى حيِّز أوسع. لكننا نجمل فنقول:
إن اليهود يعتقدون بأن بقاءهم وسلامتهم- لقلة عددهم وحسب تفكيرهم المريض في الوقت نفسه - يتطلب إثارة العداوات والحروب بين شعوب الأرض وأممها قاطبة، لكي ينشغل هؤلاء عنهم فيما بينهم من جهة، ولكي يستغلوا الجميع لمصالحهم من جهة ثانية. من أجل ذلك لا بد لهم من العمل على إشاعة الفوضى في كل مكان، وتدمير الأخلاق والذمم وإهدار المبادئ والقيم، وهو ما نراه شائعاً ومنتشراً اليوم على نطاق واسع. بل إن جلّ ما يعاني العالم الآن من ويلات ومآسٍ وفواجع أتت على كل ما هو جميل وخيِّر في الإنسان والإنسانية، لا سيما في حقبة المائة والخمسين سنة الأخيرة.. كل ذلك كان من صنيعهم. وكان دأبهم – إبان ذلك كله- مواصلة حربهم على الإسلام والمسلمين دون هوادة، وعلى كل صعيد. ولا يعني هذا أن المسيحية والمسيحيين يسلمون من مؤامرتهم، ومن عداوة يكنُّونها لها ولهم، ولكنهم كعادتهم- فيما عرف عنهم من قدرة على النفاق واستغلال للظروف والمعطيات كافة- يتظاهرون لهم اليوم بالموالاة والصداقة، تأميناً لمصالحهم، ودفعاً للأذى عنهم، من جهة، ولكي يستعينوا بهم في معاداة الإسلام والمسلمين في حربهم على هؤلاء من جهة ثانية.
أن يلبث القرآن – على الرغم من كل ذلك- محفوظاً كما تنزَّل على رسول الله لهو المعجزة في أعظم تجلياتها.؟
أليس هذا عجيباً في أي حساب وبأي مقياس بشري؟
كيف تنجو دعوة كالإسلام، ويسلم كتاب كالقرآن أمام عداءٍ مستديم ينهض في وجهه، من قبل أعتى قوى الأرض نفوذاً وحيلةً ومكراً؟ قوى لا يردعها خلق ولا دين ولا مبدأ، تبرر كل وسيلة إجرامية من أجل غاياتها، وأولى تلك الغايات عندها محو الإسلام والمسلمين عن ظهر هذا الكوكب- لو استطاعت- ومن غاياتها تشويه القرآن والسعي بكل جهدها ووسائلها إلى تحريفه إن لم يكن إزالته من الوجود. ثم بعد هذا كله نراها لا تفلح في كلا الأمرين، فيبقى الإسلام على الرغم من كل ذلك. ولئن شاب المسلمين ضعف، في زمن ما فإنه لن يدوم، وأما القرآن فيبقى على ألقه وبهائه الذي كان عليه يوم تنزل به الوحي الأمين. ومن المثير للدهشة أن ضعف المسلمين، ومرورهم بما سمي (عصر الانحطاط) الذي دام قروناً، لم يمكِّن خصومه هؤلاء من تحقيق أهدافهم، مما يلقي في الروع بأن الله هو الحافظ لقرآنه ــ كما وعد ــ وليس المسلمون في ظروف ضعفهم.
الآيات المنزَّلة في شأن حفظ القرآن وما يدور في هذا المعنى كثيرة، تجدها هنا وهناك في ثنايا المصحف الكريم، توحي ضمناً أو تقول صراحة بذلك.
يقول تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:41-42)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (الفرقان:1-2)
هذه الآيات تتحدث عن العالمين أي سائر البشرية دونما تحديد لزمان أو مكان. كما تتحدث عمَّن أنزله، وهو الذي يعلم سرَّ السموات والأرض والخلق من بشر وأفلاك. إذن هذا الكتاب الذي أنزل على هذا النحو ولهذه الغاية ليكون للعالمين نذيراً وليكون عزيزاً، وليكون هدى ونوراً للبشر، لا ريب في أنه سوف يكون محفوظاً ومحاطاً بعناية الله ورعايته، القادر بعنايته وتدبيره على حفظه، فهو لم ينزله لكي يكون محلَّ عبث أو عرضة لضياع.
ونقرأ في سورة الشعراء:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء:192-195)
إلى أن يقول بعد آيات خمس من السورة نفسها:
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (الشعراء:201)
لم تحدد الآية زماناً محدداً فهي على إطلاقها مفتوحة على الزمان والمكان.
واضح جليٌّ هنا ــ ومن آيات كثيرة ــ أنه باق حتى دون أن يؤمنوا به إلى يوم القيامة. وليس معنى ذلك بالضرورة أنهم سوف يمكثون على عنادهم وكفرهم طول الزمان وإلى يوم يبعثون، بدليل أن كثيراً من الناس وعلى مدى الزمن آمنوا به واعتنقوه. بل إن منهم من ناصره ودافع عنه وحارب من أجله من بعد عداوة. كان ذلك على صعيد الأفراد ــ والقائمة طويلة ــ وعلى مستوى الشعوب والأمم كما حدث مع المغول والتتار وهو الغزاة المحتلون. وقلما حدث في التاريخ أن دخل الغازي المحتل في دين من وقع عليه الغزو وكان ضحية الاحتلال. حالة فريدة مرت في تاريخ الإنسانية. ولهذا دلالته فيما تحت بصدده. وكما حدث في أقطار غربية أصبحت معروفة بإسلامها اليوم مثل بعض دول البلقان (البوسنة والهرسك وألبانيا وداغستان وطاجكستان وأوزبكستان) وغيرها. وهذا القول ينطوي على معنى الأزلية، وحفظ التنزيل إلى يوم الدين.
ومثل هذا المعنى يرد في الآيات التالية من سورة (ص)، إضافة إلى معاني أخرى تتضمنها:
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (صّ:86-88)
بعد حين خطاب موجه بالقطع إلى أناسٍ غير معاصرين للرسول. التعبير مفتوح على الزمن القادم دونما تحديد. والله سبحانه لن يقول لنا ذلك، لو كان القرآن معرضاً للزوال أو الضياع أو التحريف في الزمن القادم الموما إليه. أما النبأ الذي سوف يعلمه الناس مستقبلاً فهو في علمه. وقد ذهب بعضهم في تفسيره، إلى ما سوف يظهر من علوم، وآيات في الخلق، واكتشافات تبين معها الحقائق الخافية على الناس عند ظهور القرآن. أي أن ما سيحدث في قابل الأيام سوف يكون مصداقاً لما ينبئهم به القرآن عند نزوله. وقد أتينا على شيء من هذا في صفحات سبقت.
ويقول تعالى في سورة فصلت مخاطباً رسوله، مؤكداً له بوعد قاطع أن ما من أحد بقادر على تبديل كلمات الله المنزّلة. وأنه ليس في وسع بشر أن ينجح في فعل ذلك.
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (الكهف:27)
وفي سورة فصلت آيات تؤكد مصدر التنزيل- كما في آيات في سور أخرى كثيرة جداً في هذا الصدد- كما تذكر بأـن القرآن تنزل بلغة الرسول وقومه لكي يفقهه هؤلاء. ولكي يكون لهم علمٌ بمضمونه وفهم في تفسيره وتأويله، ثم حمله إلى سائر الناس من بعد. كما يذكر لهم فيها أن آيات القرآن فصِّلت تفصيلاً، وتحدثت في سائر الأمور: في الفقه والتشريع، في التوجيه والتعليم، في شؤون العبادة والعقيدة، وغيرها وغيرها. إذ تقول في آيتين قصيرتين بعد (حم) عن هذا كله.
حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (فصلت:1-3)
لقوم يعلمون تشمل الكافة وليس قريشاً وحدها، ومن حولها من العرب، أو زمن هؤلاء. هل جاء القرآن بكل هذا التأكيد على البقاء والانتشار، بعد ذلك، لكي ينسى من بعد، أو لكي يحرَّف كما حدث لكتب سابقة من قبل؟
ويحمِّل القرآن مسؤولية الرسالة للرسول عليه السلام، وقومه معه، ومَنْ سيجيئون بعده من أمته في قوله تعالى:
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ (الزخرف:43-44)
القوم لا ينقطعون بوفاة الرسول. القوم أمة متواصل وجودها في المستقبل.
مصطلح (القوم) على إطلاقه لا يمكن أن يعني الناس المعاصرين لزمن الرسول وزمن التنزيل وحده. بل يعني قوماً ممتدين في الزمان. وللتأكيد على معنى حمل المسؤولية من قبل هؤلاء القوم، ينذرهم بأنهم سوف يسألون عن حمل الرسالة التي كلفوا بها. ويسألون هم عما فعلوا. هل حملوا الأمانة أم قصَّروا في حملها؟ يطلب الله سبحانه إلى الرسول الاستمساك بما أوحي إليه، وهذا الذي أوحي إليه هو الطريق السوي الصراط المستقيم الجدير بالاستمساك به وبنشره وتعميمه، و (عولمته)- إذا جاز التعبير- أي تعريف العالم أجمع بأمره وبما ينطوي عليه من هدى ورشاد، ومن خير عميم لصالح الإنسان في دنياه وأخراه. فالإسلام دين ودنيا، روح وجسد، عقل وقلب، فكر وعاطفة.
و سوف تُسألون. متى سيكون السؤال؟ (سوف) التي تفيد الحال والاستقبال. وعن ماذا سيكون السؤال؟ في يقيني أن الجواب واضح بالبديهة لمن شاء أن يبصر نور الحقيقة.
لما كان القرآن يخاطب الرسول والذين آمنوا معه، والذين يؤمنون به، حاضراً ومستقبلاً، فإن الآيات التالية تعبر عن الكثير من معنى (الحفظ) والبقاء والديمومة، فنحن اليوم مخاطبون بالقرآن، تماماً كما كان المسلمون الأولون مخاطبون به في عهد الرسول ثم من بعده. ندرج من هذه الآيات للدلالة قوله تعالى:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (الإسراء:105-107)
وللنظر في هذه الآيات ضمن السياق وفي المعنى ذاته أو ما هو في بابه. بمعنى أنها آيات لا تعالج حالة مؤقتة، ولا تتحدث عن أمر عرضي، بل هي في شأن آيات القرآن نفسه، دستور المسلمين وجوهر إسلامهم، الذي أنزله الله على رسوله لكي (ينصره على الدين كله). ولكي يبقى في الأرض ما بقي الإنسان، لا سيما وأنه يتحدث دائماً عن (الناس) و (العالمين) و (الإنسان) دونما تحديد لجنس أو هوية، وهي مصطلحات عمومية شاملة لا تخص فرداً أو فئة أو جماعة أو قوماً أو عنصراً:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (الإسراء:89)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (الكهف:54)
.. هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (لأعراف:203)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (يونس:61)
ولعل الآية التي نزلت ختاماً للقرآن، كانت تعريفاً بأن هذا القرآن الكامل أصبح دستوراً للأمة الإسلامية ارتضاه الله لها. وبه أتمَّ نعمته عليها.
وقد تلاها رسول الله عليه السلام على المسلمين في حجة الوداع:
.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً.. (المائدة:3)
وآية تنزلت قبلها:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (آل عمران:85-86)
لو كان في علم الله أن تغييراً أو تحريفاً سوف يقع لما توعَّدهم بعدم القبول وبالخسران في الآخرة إذا ما تنكبوا طريقه، إذ كيف يكون الأمر كذلك لو كانوا معرَّضين في المستقبل لمثل ذلك (أي تحريف القرآن أو التبديل في آياته وأحكامه أو احتمال الضياع لنصوصه؟). والكفر بعد الإيمان كان يمكن أن يحدث، بل لا بد أنه كان سيحدث لو كان التغيير وارداً. إذ إن النص الذي سيصل إليهم عندئذٍ ــ الأجيال القادمة ــ لن يكون النص المنزل كما نزل والمطلوب اتباعه؟ هم إذن مسؤولون عن خروجهم على الإسلام أو الانحراف عن نهجه، بعد أن ضمن الله بقاءه محفوظاً إلى يوم الدين في المسطور كما في الصدور.
ألا يُسلمنا هذا إلى سؤال محوري يطرح نفسه هو:
ــ لماذا ثبت حفظ القرآن على مدى القرون فلبث سليماً تماماًَ كما نزل به الوحي الأمين في حين تعرض الحديث إلى ضروب من التلفيق والاختلاق والتزوير والتقليد والمحاكاة وكلاهما جاء على لسان محمد عليه الصلاة والسلام؟
ــ ألا يُستخلص من ذلك نتيجة بدهية كلنها حتمية حسب المقاييس المنطقية هي أن القرآن كلام الله الذي وعد الله بحفظه في حين كان الحديث كلام محمد؟ وما محمد إلا بشر يجوز على كلامه ما يجوز على كلام بشر آخرين.
لقد شغل علماء المسلمين، فيما يتعلق بالقرآن وتفسسيره، في حين شغلهم الحديث بالبحث عن صحيحه من موضوعه، عن قويه من ضعيفه، عن المجمع عليه باتفاق من المشكوك في أمره.
ألا يكفي هذا دليلاً لقوم يعقلون، وحجّة في الوقت نفسه على آخرين عميت فيهم القلوب التي في الصدور؟
ويظل التحدي قائماً صامداً في وجوه المكابرين جميعاً:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:24)
ويظل التحدي قائماً:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (ابراهيم:47)
فيا أيها الناس:
ما معنى أن يظل التحدي قائماً على مر العصور؟
وما معنى أن يصدق الوعد على مدى القرون؟
فدع الإجابة على كل ذلك لمن لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها وأفئدة يهتدون بها وعقول توصلهم إلى الحق والحقيقة.


* * *

كيف جمع القرآن؟
الآيات الدالة صراحة أو ضمناً على حفظ القرآن، وديمومته، وشموليته أكثر من أن يتسع لها المقام. فلنكتف بهذا القدر الذي تيَّسر لنا لكي نأتي إلى مسألة جمعه في مصحف بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى. ذلك أن كثيراً من الخصوم يشكِّكون في مسألة الجمع تحديداًـ فهي مسألة بالغة الأهمية. كان لا بد لهؤلاء أن يسعوا إلى البحث عن مطعن فيها، أو التنقيب عن هنةٍ أو مأخذ، وحين يعجزون هنا يبحثون هناك علَّهم يقعون على ضالتهم المنشودة.
ولتكن مسألة جمع القرآن هذه المرة، فلعلَّها أسهل عليهم مما دعاهم إليه، حين تحدَّى قدرتهم على الإتيان بسورة من مثله. وقد استندوا في دعاواهم على حجة تقول بأن الرسول عليه السلام انتقل إلى الرفيق الأعلى دون أن يترك وراءه هذا المصحف. وإنما تمَّ تجميعه بعد ذلك بزمن ليس بالقصير، من الصحف والرقاع المتفرقة و (المتناثرة)، مما يجعل احتمال فقدان بعض منها – كثيراً أو قليلاً- وارداً. وأن هذا الجمع قد تمَّ في عهد الخليفة عثمان، أي بعد نحو من سبع وعشرين سنة لا بدَّ أنه تعرَّض خلالها لاحتمالات شتى. واستنتاجاً يخلصون إلى نتيجة تقول: بأن هذا القرآن المتداول بين أيدي الناس ليس هو القرآن الذي نزل على محمد بتمامه. أو أن تغييراً أو تبديلاً في كلماتٍ أو آياتٍ منه قد وقع. أو أن آياتٍ أو كلماتٍ دخلت عليه وهي ليست منه.
ولكن المسألة لم تكن كذلك أبداً. فالذي حدث ــ وعليه إجماع ــ هو الآتي:
كان ابتداء الوحي في سنة 611 للميلاد بمكة. ثم توالى نزوله في مكة، وبعدها في المدينة على مدى نيِّف وعشرين سنة. كان عدد من الصحابة يكتبون ما يتنزل منه. بعضهم بدافع ذاتي من تلقاء نفسه، وبعض بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عرف هؤلاء بكتّاب الوحي منهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود. وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي فأقرَّه أو صحَّحه.
بذلك كان الرسول عليه السلام يتأكد من أنهم دوَّنوا الآية أو السورة كما تنزلت عليه. من ثم، ولأنهم كُثر، فلم يكن ممكناً ضياع شيء منها، هذا أولاً. ثانياً كان العرب يعتمدون الحفظ في الصدور، فكان الحفَّاظ مصدراً آخر لحفظ الآيات كما تنزلت، وبهذه الطريقة حفظ العرب أشعارهم ومعلقاتهم وآدابهم. ولأنهم معاصرون للرسول نفسه، ولأنهم كانوا يتداولونها سماعاً، ويتلونها في صلواتهم. لم يكن للاختلاف بين واحدهم والآخر من سبيل. وإن حدث ذلك كان التصحيح والتقويم يتمَّان على الفور بالمقارنة، وفي حياة الرسول بالرجوع إليه. بحيث لا يثبت في النهاية إلا ما تمَّ الإجماع عليه.
كانت الرقاع التي كُتب عليها القرآن محفوظة، عند وفاة الرسول، لدى زيد بن ثابت، الذي تتبع ما في الرقاع مقارناً إياه مع الحفظة وكتابٍ آخرين. وكان زيد يعرض ما لديه دوماً على الرسول، ليستوثق من سلامته وصحته. بقيت الصحف هذه عند أبي بكر، الذي أمر بالجمع الأول، حتى إذا توفي صارت من بعده إلى عمر. فكانت عنده حتى مات. ثم كانت عند ابنته حفصة. بسبب موت العديد من الصحابة في الحروب والأمصار ومن بينهم حفظة كثيرون. وحين خشي عثمان ضياع هذا المصدر. أرسل إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف. كما أرسل عثمان ــ بعد ذلك عندما صار الأمر إليه ــ إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم بأن ينسخوها في المصاحف. ثم بعث عثمان في كل أفق بمصحف، إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، واحتفظ بواحدٍ منها في المدينة.
ثم أقبل المسلمون على استنساخها في كل مكان عن هذه النسخ الأصلية.
كيف إذن يمكن في ظلِّ هذا الحرص، وبعد كل هذا الجهد والاستقصاء، وأمام هذا الحشد من العمل الجماعي، من قبل صحابة معاصرين للرسول، أن يتسلل خطأ أو يقع تغيير أو تبديل، أو ينقص منه شيء أو يضيع؟
ولقد روى المسعودي أنه رُفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحواً من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص. ولم يكن بين جمع عثمان المصحف إلى يوم صفِّين إلا سبع سنوات( ).
ولابد من التنويه إلى أن أحداً من معاصري الجمع لم يطعن أو يحتج أو يصحح في أمر المصحف العثماني الذي اعتمد. ولو أن شيئاً من هذا وقع لما أمكن إخفاؤه ولشاع أمره وظهرت، من ثم مصاحف تدعي أنها هي الصحيحة. شيء من هذا لم يحدث على الإطلاق لا في زمانه ولا من بعد ذلك حتى يومنا.
وجدير بنا أن نشير إلى أن الجمع على هذا النحو الذي أفضى إلى حفظ القرآن وسلامته لأمر معجز أيضاً، فلقد جاءت من قبل آيات مفحمة لكل منكر ومشكك، تعد بجمع القرآن. ففي سورة القيامة وعد قاطع على تحقق عملية الجمع نفسها، من جهة، وببيان ما استعصى فهمه من معاني القرآن من جهة ثانية، إذ يقول تعالى مخاطباً نبيه الكريم:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة:16-19)
ثم إن علينا بيانه لقد تكفل الله سبحانه ببيانه على المدى في آياتٍ بيِّنات وقرائن ومعانٍ سوف تتكشف للناس في أوقاتها.
وكان جبريل عليه السلام يعرض القرآن على محمد عليه السلام مرة في كل عام، في شهر رمضان. وفي عام وفاته عرض جبريل القرآن عليه مرتين لتكونا الأخيرتين في حياته: يقول تعالى في هذا الشأن:
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (الأعلى:6)
ومن الثابت أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على الرسول عليه السلام، وإنما تنزل على مراحل وعلى مدى زمن الرسالة. وكان من شأن ذلك أن يثبت في القلوب ويحفظ في الذاكرات. وقد أرجف المشركون في مسألة التنزيل المُنجَّم فرد عليهم القرآن نفسه بقول الله تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (الفرقان:32-33)
وقوله سبحانه:
وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (هود:120)
وتأكيداً على هذه المسألة ابتغاء الحفظ والتثبيت في الأفئدة، فضلاً عن فهمه، يقول تعالى مخاطباً عباده:
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (لأعراف:204)
ويقول سبحانه:
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (الدخان: 58-59)
فهل بعد هذا من سبيل إلى التشكيك في مسألة الجمع والحفظ والديمومة لكتاب الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟
وبعد:
فإنه ليمكننا القول ونحن على ثقة تامة وإيمان مطلق بما نقول:
• أن القرآن كتاب الله تنزّل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين.
• أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) النبي الأمي رسول الله الذي نزل عليه الوحي بالقرآن.
• أن المصحف الذي بين أيدينا الذي يقرؤه سائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، هو القرآن الذي تنزل على رسول الله بنصه كلمة فكلمة، وحرفاً فحرفاً. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


* * *

مستشرقون منصفون في مسألة الجمع
هناك كثرة من المستشرقين الذين كان مقصدهم في البداية البحث عن مطعنٍ ومآخذ للنيل من الإسلام. حسب رؤيتهم واستنتاجاتهم المغرضة ـ كان أكثر ما عمدوا إلى البحث فيه هو مصدر النص القرآني من جهة، وعما إذا كان قد حرِّف، كما حدث للكتب السابقة أم أنه ظل سليماً من العبث، وكما جاء به محمد (عليه السلام). إلا أن هؤلاء لم يسعهم سوى الإقرار بأن القرآن الذي نتلوه اليوم إنما هو بعينه القرآن الذي تلاه الرسول محمد على المسلمين أثناء حياته. لم يحرَّف ولم يبدَّل. وذلك عندما تبيَّنوا الحقيقة فسجلوها بصدق العالم وموضوعية البحث العلمي، وإن يكن على درجات متفاوتة وحسب فهم كل منهم للمسألة. من هؤلاء ـ على سبيل المثال ـ (سبرنجر) و(إرفنج) و(كارليل) في كتابه (الأبطال)، و(السير وليم موير) الذي سنقتطف ملخصاً لصفحات من كتابه (حياة محمد)( ):
(كان الوحي المقدّس أساس أركان الإسلام. فكانت تلاوة ما تيسَّر منه جزءاً جوهرياً من الصلاة اليومية عامة أو خاصة (جماعة). وكان ذلك فرضاً وسنة. لذلك وعت القرآن ذاكرة المسلمين الأولين. كان العرب ذوي ولع بالشعر العظيم. وقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد على صفحات قلوبهم، كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم. بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النموّ. ثم تناولت القرآن بكل ما أدَّت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد أن أصحاب النبي دوَّنوا أثناء حياته نسخاً شتى لأجزاء مختلفة من القرآن. وأن هذه النسخ سجَّلت القرآن كله. فقد كانت الكتابة معروفة بمكة قبل نبوّة محمد بزمن غير قليل. وكان النبي قد استعمل على تحرير الكتب والرسائل أكثر من واحد من أصحابه بالمدينة. وقد فكَّ إسار الفقراء من أسرى بدر وغيرها مقابل قيامهم بتعليم أنصار المدينة الكتابة. ومن اليسير، مع ثبوت هذه المقدرة على الكتابة، أن نستنبط أن الآيات التي وعتها الذاكرة بدقة قد سجّلتها الكتابة بمثل هذه الدقة.
(ثم إنا نعرف أن محمداً كان يبعث إلى القبائل أصحابه لتعليمهم القرآن وتفقيههم في الدين. وهؤلاء كانوا يحملون معهم أوامر مكتوبة في شأن الدين. وكانوا يحملون ما نزل به الوحي بطبيعة الحال. والقرآن نفسه ينصُّ على وجوده مكتوباً. وتنص كتب السيرة، حين تذكر إسلام عمر على وجود نسخة من السورة المتممة للعشرين (سورة طه) في حيازة أخته (فاطمة) وأسرتها. وكان إسلام عمر قبل الهجرة بثلاث سنوات. فإذا كان الوحي يدوَّن ويتبادل في ذلك العصر الأول، حين كان المسلمون قليلين، يسامون سوء العذاب، فمن المقطوع به أن النسخ المكتوبة كثر عددها وتداولها حين بلغ النبي أوج السلطة وحين صار كتابه قانون العرب جميعاً.
(كان القرآن منظوراً إليه، حتى في حياة النبي، برهبة اليقين بأنه كلام الله ذاته. لذلك كان كل خلاف على نصه يرجع فيه إلى النبي نفسه كي يزيله.
ويواصل وليم موير حديثه حول جمع القرآن بعد ذلك بما لا يخرج عن ما أوردته كتب السيرة، وما ورد في مكان آخر من هذا الكتاب، إلى أن يقول:
(.. ومع ما أدَّى إليه مقتل عثمان نفسه ــ صاحب مصحف عثمان نسبة إلى جمعه له ــ بعد ربع قرن من وفاة محمد (عليه السلام)، من قيام شيع مغضبة ثائرة زعزعت ولا تزال تزعزع وحدة العالم الإسلامي، فإنَّ قرآناً واحداً قد ظلَّ دائماً قرآنها جميعاً. وهذا الإسلام منها جميعاً لكتاب واحد على اختلاف العصور حجةّ قاطعة على أن ما هو أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة عثمان. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظلّ اثني عشر قرناً كاملاً بنصٍّ هذا مبلغ صفائه ودقَّته.
(وقد كان عددٌ كبير ممن وعت قلوبهم القرآن كما سمعوه حين تلاه النبي أحياء حين جمع عثمان المصحف.. وإن عليّاً (رضي الله عنه) كتب بخط يده عدداً من هذه لمصاحف.
(نستطيع أن نستنبط إذاً مطمئنين أن مصحف عثمان كان ومايزال صورة مضبوطة عما جمعه زيد بن ثابت، فهل كان ما جمعه زيد صورة صادقة كاملة لما أوحِيَ إلى محمد؟ والاعتبارات الآتية تبعث اليقين بأنه كان كذلك:
أولاً ـ تمَّ الجمع الأول برعاية أبي بكر. وكان تابعاً صادق الإخلاص لمحمد. كما كان مؤمناً بالمصدر القدسي للقرآن. وكان اتصاله الحميم بالنبي خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته.. ومثل هذا القول يصدق على عمر، وقد تمَّ الجمع في خلافته.. وقد كان الحرص على الدقة قائماً بشعور الناس جميعاً، لأنه لم ينغرس في نفوسهم شيء ما انغرس هذا التقديس المرهب لما يعتقدونه كلمة الله. وفي القرآن نذرٌ للذين يفترون على الله الكذب أو يخفون شيئاً من وحيه.
ثانياً ـ تم الجمع خلال سنتين أو ثلاث سنوات بعد وفاة محمد، وقد رأينا طائفة منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب. المسلمون لم يكونوا صادقي القصد في جمع القرآن كله في مصحف واحد فحسب، بل كانت لديهم كذلك كل الوسائل التي تكفل ما اجتمع في الكتاب الذي وضع بين أيديهم بعد جمعه من دقة وكمال.
ثالثاً ـ ولدينا ضمان أوفى للدقة والكمال. ذلك ما كان موجوداً منذ حياة محمد من أجزاء القرآن المكتوبة، والتي لاشك كثر عدد نسخها قبل جمع القرآن. وما جمعه زيد تداوله الناس وتلوه بعد جمعه مباشرة. وكان ذلك محلَّ إقرارهم جميعاً. ولم يتصل بنا أن الجامعين أغفلوا أجزاء أو آياتٍ أو ألفاظاً، أو أن شيئاً مما كان موجوداً من هذه اختلف عما حواه المصحف الذي جمع.
رابعاً ـ محتويات القرآن ونظامه تنطق في قوة بدقة جمعه، فقد ضمت الأجزاء بعضها إلى بعض ببساطة تامَّة لا تعمُّل ولا فنَّ فيها. وهذا الجمع لا أثر فيه ليدٍ تحاول المهارة والتنسيق. وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع من هذه الآيات المقدسة.
(والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقاً فحسب، بل كان، كما تدلُّ الوقائع عليه، كاملاً، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أي شيء من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤكد، استناداً إلى أقوى الأدلة، أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد)( ).


* * *

مصطلح (الإسلام)
الإسلام عنوان الدين الذي جاء به محمد عليه السلام بأمر من ربه عن طريق الوحي جبريل عليه السلام.
لم يكن هذا المصطلح معروفاً أو مطروقاً أو متداولاً من قبل في زمانه، سواء في محيط مكة أو شبه الجزيرة العربية أو أي مكان آخر. أما الديانتان السماويتان السابقتان عليه فقد عرفتا باليهودية والنصرانية.
صحيح أن القرآن يذكر أن إبراهيم كان حنيفاً (مسلماً)، إلا أننا لا ندري ما إذا كانت هذه التسمية تدوولت وانتشرت في عصر إبراهيم وعلى نطاق عام واسع أم لا. بيد أن الصحيح والواقع يقولان أن ما من أحد قبل بعثة محمد عليه السلام عرفها عنواناً لدين معروف آنئذ.
المنطقي إذن أنه ما كان لمحمد أن يعرف، قبل أن يتلقى كلمات ربه أمر إسلام إبراهيم عليه السلام. فما كان له من ثم أن يضع هذه التسمية من عنده، بل كيف كانت ستخطر في باله، هذه الكلمة تحديداً، دون غيرها؟
يقول تعالى لنبيه محدِّداً ومسمِّياً دينه الذي عليه أن يحمل رسالته:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (آل عمران:19)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:85)
أما عن إسلام إبراهيم من قبل، وأن الإسلام كان دينه فيقول تعالى:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج:78)
وإذا كان ذكر (الإسلام) لم يرد في أي من الديانتين السابقتين، ولا هو ورد في أدبيات عصريهما أو في المراجع التاريخية، أو (الديانات) غير السماوية التي عرفت يومئذ كالبوذية والكونفوشية، فمن أبلغ محمداً بها؟ ورقة بن نوفل والراهب بحيرة أيضاً لم يستعملا هذا المصطلح أبداً. بل إن ورقة حين أنبأته السيدة خديجة (رضي الله عنها) نبأ محمد وما عرض له، لم يزد على قوله بأن هذا الذي يأتيه هو الناموس الأكبر الذي كان يتنزل على موسى من قبل، ولم يقل إنه (الإسلام)
هي إذن كلمة جديدة تماماً في التداول في زمن محمد. هي عنوان الدين الجديد. إن بُعد الشقَّة الزمانية بين إبراهيم ومحمد، واختفاء التسمية طيلة ذلك الزمن الفاصل بينهما- زهاء ألفين وخمسمائة سنة، لمما يؤكد بأنها جاءته تنزيلاً. مسألة تبدو مسلمة لا مراء فيها. وفي الختام يقول تعالى:
..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً.. (المائدة:3)
من شأن هذا أن يعود بنا إلى التساؤل رداً على مفتريات خصوم هذا الدين:
هل خطر لمحمد أن يطلق هذه التسمية تحديداً، ومن تلقاء نفسه، على دعوته؟ ثم تبقى عنواناً لهذا الدين، خالدة على مرِّ السنين، مذ نزل بها الوحي الأمين على قلب سيد المرسلين، لولا وحي ربه في آيات منها قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج:77-78)
(الإسلام) هو التسليم بما قدَّر وأمر فيما يتعلق بالإنسان وسائر أبعاد الكون والخلق. وقد جاءت آيات تحمل هذا المعنى. منها قوله تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (النساء:125)
نرى هنا إعلان الإسلام ديناً من قبل الله. كما نرى عطف المصطلح على زمن إبراهيم وحنفيته. والإحسان شرط من شروطه كما في الآية.
ويقول تعالى:
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران:20)
لم يكن محمد عليه السلام صاحب التسمية لهذا الدين بالإسلام وإنما كانت من عند الله.
وهناك آيات تميز بين الإسلام والإيمان. فالإسلام عنوان للدين المتضمن تشريعات وقوانين وأوامر ونواهي وعبادات وأركاناً لا يتحقق من دونها، فيما الإيمان شأن خفي في نفس الإنسان مكانه القلب لا يطلع عليه غير الله. الإيمان هو (ما قر في القلب) كما يقول رسول الله عليه السلام. في الآية التالية يتبين لنا أن هناك فارقاً بين الإسلام والإيمان الأمر الذي يؤكد التسمية كعنوان لهذا الدين. يقول جل من قائل:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحجرات:15)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (الحجرات:17)


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس