25 / 07 / 2008, 48 : 01 PM
|
رقم المشاركة : [3]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
أحوال..!
[align=justify]
كانا واقفين قرب النافذة الصغيرة، يأكلان ما تبقى من طعامها، وهما يهمهمان ويتحاوران في محل لبيع السندويش.. حينما دخل ذلك الشاب الطويل المبتسم، وبادرهما بالسلام بصوتٍ طليق رنان.
كانا وحيدين في المحل، يتبادلان الهموم والشكوى. كان الأول يتحدث بألمٍ عن ديونه الكثيرة، وعن أولاده الذين صاروا سجنه بعدما أوقف شبابه وعافيته من أجلهم، وأنه يعمل ليل نهار كي لا يسمع كلام زوجته البارد التي لم تقتنع بأن الدنيا حظوظ وسلالم. وكان الثاني يشكو له مرض أمه المزمن الذي منعه من الزواج، والولد، وكيف أن حال أمه المتعبة أطفأت شهوته نحو الحياة، والنساء، والرغبات البعيدة والقريبة معا!!
حين دخل الشاب الطويل الممصوص بثيابه المبقعة بنقاط الدهان الكبيرة والصغيرة، انقطع حديثهما، وطارت الهدأة، فالتفتا إليه، واستغربا لهفته على الحياة، وإقباله عليها، وهو بلا عافية، ولا رونق؛ وجهه متعب، ونعله بالٍ، وابتسامته بلا ضفاف. رجلٌ بلا صدر، ناحل مثل عود القصب، يتقاوى، ليحمل بإحدى يديه الرفيعتين دلوه الرمادي المملوء إلى منتصفه بعنب أسود اللون.
مال الأول على صديقه، وسأله:
ــ »ما الذي يجعل هذا الفتى سعيداً كلّ هذه السعادة«؟!
فيقول الثاني:
ــ »لم يعرف الدنيا بعد«!
وصمتا معاً. والشاب الطويل ذو الشارب الأسود الناعم يدندن لحناً شائعاً منتظراً البائع العجوز أن يفرغ من لفّ عشر سندويشات كبيرة متشابهات في كل شيء.
فجأة، انكمشت حركة الشاب. غابت ابتسامته، وانطفأت دندناته الضاجّة حين أحسَّ بأن واحداً من الرجلين راح يتقصده بنظراتٍ خاطفة ذات معنى، نظرات سائلة مقلقة. والبائع العجوز الراعش الشفتين ناشط في توزيع الطعام على الأرغفة المبسوطة أمامه. ونحلة صغيرة ذهبية اللون تحوّم فوق فتحات زجاجات الكازوز الفارغة.
أوجس الشاب الطويل ذو الكفين المجرَّحين في نفسه خيفة من نظرات الرجل الصارمة، فراح يتشاغل عنه بالنظر إلى يدي البائع العجوز الأفطس الأنف تارةً، وإلى تلك الفتاة الطويلة ذات الشعر الأشقر المعقوص بشريطة مشمشية اللون، الواقفة على الطرف الآخر من الشارع العام أمام محل الحلويات منتظرة دورها في الشراء، وقد أصبحت محطّ أنظار الآخرين بملابسها القصيرة، وصدرها المفتوح، وجمالها الأخّاذ.
بدا الشاب والرجل في حالة من التوتر، والترقب، والمشاهدة الحريصة، والتربص مثل قطين متوفزين. كانت نظرات الرجل القاسية تكاد تستنطق الشاب الذي انطوى على نفسه، وبالكاد صار يناوشه النظرات القصيرة العجلى. وكان الشاب الطويل الحائر لا يدري لماذا يتقصده الرجل الضخم بنظراته العبوسة السائلة، ولماذا يقابله بهذا الوجه المسيّج بالغضب. وهمَّ أن يسأله، لكن ودون توقع منه، تمتم الرجل بنبرة مقتضبة جافة:
ــ »أأنتَ من قال السلام عليكم«؟!
فأومأ الشاب له بهزّة الموافقة من رأسه، وقد ازرق وجهه وشحب. وتمنى لو أن الحظ أسعفه فشرح للرجل المتجهم أنه هو من سلم محبةً به وبرفيقه، وأنه لم يغلط قط. وودَّ لو أسعفه الحظ أيضاً أو لو أن الجرأة واتته ليسأله إن كان قد اقترف خطيئة أو ذنباً. غير أنه لم يقل شيئاً، وانتظر قلقاً ما سيقوله الرجل الذي أخذ منه موقفاً عدائياً دون أن يدري لماذا!! غير أن الرجل لم يقل كلمة واحدة. وكلّ ما فعله أنه أنهى طعامه، ومسح فمه وأصابعه بورقة بيضاء شفافة، واصطحب صديقه، وخرج من المحل الصغير الضيق، تاركاً الشاب الطويل المندهش مبلولاً بأسئلته المتعددة، وتأويلاته المختلفة، وحيرته الضافية!!
[/align] * * *
|
|
|
|