الحلقة الرابعة، أول أمسية شعرية خاصة
مضى أكثر من شهرين على زيارتنا المشتركة، أنا وطلعت، إلى بيت أبي غسان، لم نَلْتَقِ خلالهما، جرَّاء انهماكي بالعمل في تحضير رسالة الماجستير ودراسة العبرية التي ثابرتُ على تلقِّي الدروس فيها بشكل يومي، وذلك بالإضافة إلى دوامي اليومي نهاراً في مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية..
لكن انشغالي الشديد هذا، طيلة تلك الفترة، لم يَحُلْ دون استمرار تواصلي مع طلعت، وإن بشكل غير مباشر. فقد كنتُ، باستمرار، أسأل عنه أخي محمد مباركة الذي كنت ألتقيه يومياً، في مؤسسة الأرض التي كنا نعمل فيها معاً؛ وبدوره، كان طلعت يسألُه عني كلما اجْتَمَعَا في لقائهما الأسبوعي الذي حَرِصَا على استمراره، في موعده الثابت مساءَ كل خميس، من قبل أن يَعْرِفَاني، ثم استمر موعداً ثابتاً لثلاثتنا، سنينَ طويلة، قبل أن يتسع فيما بعد ليضمَّ معنا اثنين صارا من أعزِّ أصدقائنا هما: الروائي الدكتور حسن حمِّيد، والأديب الدكتور يوسف جاد الحق...
ومع أنني كنتُ السوري الوحيد في هذه الثُّلَّة من الأصدقاء، لم أشعر يوماً أنهم غرباء عني؛ أمَّا هم، فقد أَنْسَاهم عمق اندماجي بهم وتآلفي معهم أنني لستُ فلسطينياً، خصوصاً وهم يُتابعون ازدياد انغماسي في قضيتهم ودفاعي عنها، في معظم ما كنتُ أنشره من مقالات ودراسات. وكم كان طلعت مُعبِّراً في وصفه للعلاقة بين هويتي السورية واهتمامي بالقضية الفلسطينية حين قال لأخي حسن حميد يُعَرِّفُه بي، في أول لقاء جَمَعَ بين كلينا: (الأخ توفيق الصواف، سوري الهوية فلسطيني الانتماء والهوى)..
بعد ذَيْنِكَ الشهرين، جاءني محمد ذات خميس يُخبرني، أثناء دوامنا في مؤسسة الأرض، بأن طلعت تَمَكَّنَ من استعارة بعض الروايات الفلسطينية اللازمة لبحثي، وأنه سيعطيها لمحمد في لقائهما الأسبوعي المعتاد، ليسلمها لي يوم السبت أثناء الدوام، متمنِّياً أن أجدَ فيها ما يُفيدني.. ثم أضاف محمد: لقد كان يَوَدُّ أن يُسلِّمها لك بنفسه، ليراك أيضاً، فقد اشتاق إليك، كما أَمَّنَني أن أُخبرك، لكنه فَضَّلَ أن يُرسلَها لك معي كيلا يَشغلَكَ عن بحثك..
ومع أن كلامَ محمد أَشعَرَني ببعض الحَرَج، إلا أنه، وفي نفس الوقت، أَشاعَ الكثير من الامتنان في جنبات نفسـي لهذا الصديق الذي لم يَكْتَفِ بأن عَنَّى نفسه بالبحث عن مصادر لبحثي، بل زادَ فأرسلَ لي ما أعتذرُ به عن تقصيري في زيارته.. وفي فيضِ إحساسي بالامتنان له، وَجدتُني أقول لمحمد: وأنا اشتقت إليه أيضاً، وأرغب برؤيته متى أراد..
وكمن كان يتوقَّع رَدَّ فعلي، سارعَ محمد يَردُّ على ما سمعَه مني بالقول:
ــ اليوم مساءَ، إذا أحببت... ولا حاجة بك لإبلاغه بحضورك، فنحن نلتقي مساء كل خميس، كما تعلم..
ــ نعم.. إذن نخرج من العمل سوية، ونأكل ما تيسر في السوق، ثم نمضي إليه..
ــ اتفقنا..
كان ذلك مساء يومٍ صيفي من عام 1981، ولذلك تَوَقَّعتُ ومحمد أن يُجلسَنا طلعت في حديقة بيته العربي التي لم تكن أكثر من فسحة سماوية صغيرة كما سبق وذكرت.. لكنَّ توقُّعَنا خاب، بسبب ازدحام البيت يومها، بضيوف لم يكن حضورهم متوقَّعاً.. وبما أنَّ بيتي كان أقرب البيوت إلى بيته، اقترحَ محمد أن نجتمع في بيتي، فوافقتُ ورحبت...
كان بيتي في بناء حديث الإنشاء، له شرفةٌ واسعة تُطلُّ على شارع حديثِ الظهور، تَمَّ شقُّه آنذاك بين حَي الشيخ محي الدين وساحة شمدين التي كانت أولَ نقطة في حي ركن الدين.. وكان بيتاً واسعاً أُقيم فيه مع أمي وإخوتي.. ومع أنني لم أكن متزوجاً بعد، فقد خُصِصْتُ بغرفة لوحدي، كانت تحوي سريراً من الحديد وأريكةً متوسطة الطول وخزانةَ ملابس صغيرة وخزانة كتب صغيرة أيضاً، بالإضافة إلى طاولة كبيرة كانت مخصصة للطعام فَحَوَّلتُها إلى طاولة للدراسة.. وربما لِمَيلِي الطبيعي إلى الفوضى، تركتُ الكتبَ والدفاتر والأقلام تتناثرُ فوق تلك الطاولة بفوضوية لم أشهد ما يَفُوقُها إلَّا فوق طاولة أخي حسن حميد، في غرفته باتحاد الكتَّاب العرب بدمشق...
تجاوزتُ بسرعة احتجاجَ أمي على هذه الزيارة المفاجئة التي أَشعَرَتها بالحرج، لاحتمال أن يَظنَّ بها صديقاي الظنون، عندما يَرَيَان ما عليه غرفتي من فوضى.. فقد طَمْأَنْتُها بأنهما ليسا من النوع الذي يهتم بهذه المسائل، وإن سأَلَاني فسأُخبرهما بأنني سببُ الفوضى لا أنتِ.. ولمَّا آنستُ منها ارتياحاً لكلامي، رجوتُها بأن تُعدَّ لنا شاياً أو قهوة أو أيَّ شيء يُشرَب، فابتسمت وقالت لي: اذهب إلى صديقيك ولا تهتم.. سأبيِّض وجهك.
بدأتُ حديثي مع طلعت بالاعتذار له عن طول غيابي، مُتَعللاً بانشغالي في التحضير للبحث ودراسة العبرية.. فإذا به يُلَوِّحُ لي بيده قائلاً:
ــ أعرف.. ولا حاجة بك للاعتذار.. المهم أن تُنهي البحث وكفى..
قال ذلك، ثم مدَّ يده إلى كيس كان يحمله معه، فأخرجَ منه عدة كتب، وقدَّمها لي قائلاً:
ــ تفضَّل.. هذه هي الروايات التي أخبرك عنها محمد.. استعرتُها لك من بعض أصدقائي، ووعدتُهم بإعادتها إليهم حالما تنتهي من تصويرها..
تناولتها بامتنان بدت آثاره على وجهي، وبعد أن شكرتُه على إحضارها، وعدتُه بأن أُصوِّرَها وأُعيدها إليه الخميس القادم، كي يُعيدها لأصحابها، فاستحسن ذلك..
وبعد أن استمعا لي مطولاً، وأنا أتحدث عن سير دراستي، والعقبات التي تعترضني، حَثَّاني على المتابعة مُذكِّرَين إياي بضرورة الانتهاء من دراسة العبرية بأسرع وقت، والبدء في إعداد رسالة الماجستير، ليس من أجل الشهادة فحسب، بل إنجازاً لوعدي الذي قطعتُه لهما ولأستاذي أبي غسان.. فطمأَنتُهما إلى أن كل شيء يسير على ما يرام، وأنني أبذل غاية جهدي في الدراسة والبحث..
ثم ذهب بنا الحديث مذاهب شتى، في اتجاهات مختلفة، ليستقر عند كتابة الشعر وروعة امتلاك الموهبة في كتابته، وقلة من يمتلكونها في كل العصور.. وظللنا ننتقل من موضوع في الشعر إلى آخر، حتى انتهينا إلى ما أصدره طلعت من دواوين حتى تلك الفترة، وكان عددها قد بلغ أربعة صغيرة هي:
1) لحن على أوتار الهوى، 1974
2) في أجمل عام، 1975
3) أحلى فصول العشق، 1976
4) لوحة أولى للحب، 1980
ولما كنت قد قرأتُ ديوانَيه الأخيرين اللذين أهداهما لي، في لقائنا الماضي، معتذراً عن إهدائي اللذين قبلهما لنفاد نسخهما عنده، خطر في بالي أن نُكمل جِلسَتَنا، ذلك اليوم، بنقاش بعض قصائده المنشورة، والتعليق عليها.. فرحب بالفكرة، وكذلك فعلَ محمد، لكنه أضاف مقترحاً أن يقوم طلعت بقراءة ما نختارُ مناقشَتَه من قصائده، مُلمِحاً إلى امتلاكه طريقة رائعة في إلقاء الشعر، ومؤكداً أنها ستلقى إعجابي.. لم أمانع.. وبعد تشاور قصير، وَقَعَ اختيارنا على قصيدة (أحلى فصول العشق) التي اختار طلعت عنوانَها ليكون عنوانَ ديوانه الذي حواها مع اثنتي عشرة قصيدة أخرى..
أسندَ ظهره إلى الأريكة التي كان يجلس عليها مع محمد.. أخذَ نفساً عميقاً، ثم سرحَ ببصره بعيداً، حتى بدا لي كأنما غادَرَنا باحثاً عن عالم غير الذي كان يضمُّ ثلاثتَنا داخل الغرفة... عالم تتشيَّأُ فيه الكلمات خيالاتٍ تسبح في فضاء لا مُتناهٍ من المشاعر والأحاسيس المرهفة، وتتحركُ فيه مَرِحَةً فوق موجات عذبة من الموسيقى، قبل أن تَتَضامَّ في أبياتِ قصيدةٍ يُغنِّيها شاعر..
لم يستغرق انتقاله من عالمنا إلى عالمه الشعري سوى برهة قصيرة، كنتُ خلالها أَرْقُبُ من طَرْفٍ خَفِيّ، ما يطرأ من تغيرات سريعة متلاحقة على وجهه الذي تحوَّل فجأةً، إلى مرآة حسَّاسة تعكس جانباً مذهلاً من عالمه الداخلي الذي ينطلق منه ينبوعُ إبداعه محمولاً على موجات صوتِه كلماتٍ تتناهى إلى أسماعنا قصيدةً يقول مطلعُها:
ألقاكِ في نطقي وفي صمتي
في رعشةِ الشفتين في موتي
ألقاكِ لا أدري
كم ضِعتُ.. كم أبحرتُ كم عدتُ..
عيناك أورقتا بشرياني
أهواك يا أحلى فصول العشق في
ثوران بركاني
أهواكِ حاملةً
قنديلَ أفراحي وأحزاني
في جسمي المجنون مبحرةً
ترتاحُ في موجي وشطآني
أهواكِ تنتفضين في بحري مبللةً
بالبرق بالفيروز بالجرحِ
بدخاني المصلوب في ترتيلة البوح
أهواك ثائرةً
دوري على شفتيَّ بركاناً
مدي عروقك في دمي نهراً
لا تهربي لليل من سفني
ثوري هنا ورداً وأشرعةً منَ
القبلاتِ في الصبحِ
واستمر يلقي قصيدته منفعلاً بما ترسمه كلماتُها من صور راحت تُثير فينا انفعالاتٍ مُقارِبَة لتلك التي أثارتها فيه، حتى بلغ نهايتها التي أَتْبَعَها بزفرةً طويلة، فِعْلَ من ألقى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، ثم ابتسم مرسلاً إليَّ نظرة مُعَبَّأةً بسؤال واحد بسيط يقول: (ما رأيك؟)..
لم أَتَفَوَّه بأي كلمة فوراً.. بل أشعلت لفافة تبغ، أخذتُ منها نفساً عميقاً، ثم آخر، تاركاً لنفـسي الاستمرار في متعةِ ما كنتُ أسمع من تلك القصيدة التي أحسستُ أن صوت صاحبها كان يحملني، وهو يقرأها، إلى عالم لطيفٍ من جَمَالٍ دافئ يرسم حلماً شفيفاً تُبدِعُه موهبةٌ شعرية بِكْرٌ لا تكلُّف فيها، لا تكون إلا لشاعر مطبوع...
كنتُ أتمنى لو أطال فترة استرخائي في تلك المسافة الرائعة بين زمن سماعي للقصيدة وزمن مطالبتي بإبداء الرأي فيها، لكنه لم يفعل بل بادر إلى سؤالي مجدداً:
ــ هيه... ما رأيك؟
ــ لقد استمتعت.... قصيدة جميلة من الناحية الفنية.. جميلة الصور والصياغة والموسيقى.. وصادقاً أقول لك إنني استمتعتُ بإلقائك لها أيَّما استمتاع..
أخبَرَتني تعابير وجهه بعدم رضاه عن إجابتي، وقد صدقَ حدسي، إذ سرعان ما نظرَ في عينيّ مباشرة وسألني بصوت فيه بعض نزق:
ــ أهذا كل ما لديك؟
صَمَتُّ لحظةً، فِعْلَ مَنْ يريد إضافةً على ما قال، لولا أنه يخشى إزعاجَ سامعِه، فانتبهَ لترددي، فقال:
ــ أرجو ألَّا تتردَّد في إسماعي رأيكَ كاملاً..
ــ أخشى أن أُزعجُك..
ــ تُزعجني إن كتمتَ رأيك في شِعري، لأي سبب كان..
ــ حسناً.. رأيتُ في ديوانَيك اللذين أهديتَهما لي، وأثناء سماعكَ الآن، شاعراً غنائياً مطبوعاً ومؤثِّراً إلى أبعد الحدود، لكنني رأيتُ فيهما أيضاً شاعراً أُحادي المحور، من ناحية المضمون.. قَصَدتُ أن جميع قصائد الديوانين تتمحور حول موضوع واحد هو الغزل، أو هكذا تهيَّأ لي.. ومع أنني أؤمن إلى أبعد الحدود بحرية اختيار الشاعر لمواضيع قصائده، لقناعتي بأن هذه الحرية هي التي تمنحه القدرة على الإبداع وتمنح كلماته القدرة على التأثير في مُتَلقِّيها، إلا أنني تمنيتُ لو رأيتُ موهبتك الشعرية تتألَّق في موضوعات أخرى، وتُقدِّمُ قصائدُك مضامين مختلفة الألوان والطعوم.. إنَّها مجرد أُمنية، من أخ وصديق لا من ناقد... ومع ذلك، لكَ أن تُلقيها وراء ظهرك، إن لم تُعجبك، فليس عليك أن تُلبي ما يرضيني أو يُرضي غيري إذا كان يُقيِّدُك..
ــ هل انتهيت؟..
ــ نعم..
صمتَ طويلاً، قبل أن يقول لي:
ــ ملاحظتُك صحيحة.. وقد انتبهتُ لها، كما نَبَّهني لها آخرون قبلك.. ولذلك أخذتُها على محمل الجدِّ منذ زمن، وبذلتُ جهداً للانفلات من التمحور حول الموضوع الغزلي وحده.. وسيظهر أثر هذا الجهد في ديواني الجديد الذي سأصدره قريباً، والذي أرجو أن ينال إعجاب عدد أكبر من القراء.. لاسيما وأن قصائده غنية بالرموز ذات الأبعاد والدلالات المتنوعة التي ربما يكون البعد الوطني أكثرها بروزاً..
ــ هذا رائع.. أرجو أن أقرأه قريباً..
ــ هل لديك ملاحظات أخرى؟
سألني محمد الذي كان يتابع حوارنا صامتاً مُشفقاً من أن ينتهي إلى خصام بيننا.. فلما أجبتُه بأن لا ملاحظات أخرى لدي، اعتبر إجابتي إيذاناً بانتهاء الحوار بيننا على خير، فارتسمت على وجهه ابتسامة ارتياح عريضة، ثم قال مُقترِحاً كعادته:
ــ لدي اقتراح، أرجو أن نناقشه الآن..
قال طلعت: تفضَّل..
ــ تابعتُ حواركما بانتباه شديد، ومن خلال ما دار بينكما، أرى أن نقدَنا لبعضنا عملٌ إيجابي ومفيدٌ جداً، ولذلك أقترحُ الاتفاق فيما بيننا على أن يقوم كلُّ واحد منَّا بقراءة أي مادة يريد نشرها في اجتماعنا الأسبوعي هذا، وأن يستمع إلى رأي صديقيه بها ومآخذهما عليها، قبل نشرها.. لأنَّ نقدنا لبعضنا سيكون مبنياً على المحبة والصدق، بينما نقد معظم الآخرين لابد أن يُداخِلُه افتراء إما بسبب الحسد أو بفعل الغيرة في أحسن الأحول.. وفي رأيي، إذا وافقتمُا على هذا الاقتراح، فمن الممكن أن نتفادى الكثير من عيوب نصوصنا قبل نشرها، لأن إصلاح العيوب ممكنٌ قبل النشر على الناس ومستحيلٌ بعده.
ــ رأيٌ رائع فعلاً.. وأنا موافق عليه..
قال طلعت، معلقاً على اقتراح محمد... فأيَّدتُه متحمساً:
ــ وأنا موافق أيضاً..
وبالفعل، التزمنا، منذ تلك الجِلسة، نقدَ أعمالنا قبل نشرها، وظللنا نمارسه حتى بعد أن اتسعَت دائرةُ ثُلَّتِنا، بانضمام آخرين إليها، ممن سآتي على ذكرهم كثيراً في الحلقات القادمة، إن شاء الله..
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|