عرض مشاركة واحدة
قديم 25 / 07 / 2008, 10 : 09 PM   رقم المشاركة : [7]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد

انعتاق..!
[align=justify]
صبحاً،
يشهد الله صبحاً، والضوء عميم. والناس في يقظة وحركة اعتياديتين تماماً.. تبدلت الحال وتغيّرت. انشدت الأبصار إلى رجل ربعة. مكشوف الرأس والساعدين، مبلول الشعر والوجه والشاربين. ثيابه نظيفة، وأنفه مندّى، وقيافته زاهية. يسير حافياً في شارع من أحسن شوارع مدينتنا، وقد دفع أمامه شاة سمينة، صوفها طويل نظيف، حلو. عقد في رقبتها جرساً نحاسياً، متوسط الحجم، له قطعة جلد رمادية اللون، ذات قفل نحاسي صغير، قابض على طرفيها.
يمشي، فتندفع الشاة أمامه. يتحرك رأسها، فيضطرب الجرس ويرن، ويتباعد الناس من أمامها، وتلتفُّ وصاحبها بالأبصار اللائبة الحيرى، فالمكان ليس سوق الغنم، ولا المسلخ، وإنما هو شارع طويل عريض، أنسامه عطرة، وأفياؤه دائمة، ومحاله رافلة حافلة بالألبسة وأدوات الزينة والمجوهرات والورد، والمداسات، والفنادق الفخمة، والحدائق الجميلة، تؤمه، ليل نهار، نساء كثيرات أنيقات، لامعات، تسبقهن، على الدوام، الروائح، وأصوات أحذيتهن الراقصة.
ساعتئذٍ، بدا الصباح مشمساً، ممتلئاً بالرواء والضوء، والناس في التفات وحركة، ووقوف ومسير، وغياب وظهور.. تتوازعهم الدروب، والشوارع، والحارات، والحافلات، والأقبية، والدوائر، والمؤسسات. أحاديث بعضهم تغيّبها أصوات السيارات والباعة، وضجّة الشوارع المتنامية.
كنت مشدوداً، كغيري، لذلك الرجل الربعة وشاته السمينة. حين اقترب مني ووازاني، قبضت على خطاي ودهشتي لحظات فقط ورامقتهما.. حتى غابا.. وحين أدرت ظهري لهما وهممت بالمضي إلى عملي.. واقفتني أنثى طويلة، عبلاء، وجهها صاف، وعيناها دامعتان، وشعرها الطويل الأسود مأخوذ بكامله إلى الخلف، وقد انعقد برباط بنفسجي كابي اللون. يتراقص ويهتزّ كلما تحركت. لها أذنان صغيرتان جداً. هزّتني، وقالت:
ــ »صباح الخير..«!
فابتسمتُ، وأجبتها:
ــ »صباح الخير..«.
وانتظرتها لتقول شيئاً آخر. وجهها اللامع، انفتح كنافذة وأشرق. واهتزّت شريطتها البنفسجية وتمايلت. ورفت ذؤابتها بطراوة بادية فوق رقبتها المعروقة الطويلة مراتٍ عدة.. وقالت:
ــ »قبل قليل، (وأشارت إلى الرجل) وقف عند ناصية الشارع، وخطب في الناس. دعاهم أن يلحقوا به. فشاته مباركة. وسينالون، إذا ما سألوها، ما يشتهون. شاته.. التي ستقف في مكان ما من المدينة، وتستمع للرغبات«، وحين هززت لها رأسي هزات عدة، نقلت ثقل جسدها من رجل إلى أخرى، وكسرت عوداً صغيراً كان بين أسنانها. وأضافت:
ــ »إنني ذاهبة إليه، فلديَّ ما أشتهي! هل تأتي«؟!
قلت بحزن شديد:
ــ »أعتذر، لأنني ذاهب إلى عملي«.
لحظتئذٍ، كانت أبصار المارين من حولنا تسيُّجنا.. فانتبهنا، واستنفرنا خطانا. استدارت المخلوقة، واستدرتُ. وحين التفتُّ نحوها، وقد ابتعدت، بدت لي أجمل وأبهى.
[ يا إلهي، فعلاً، الطول.. زينة ].
وغابت، وغبتُ. ولا أدري، الآن، كيف تركتُ عملي، وخرجتُ! فحين وصلت إلى مكان عملي لم أجد أحداً من الموظفين قرب دفتر الدوام، وقد اعتدنا التزاحم حوله، كما لم أجد الموظف المسؤول عن تسجيل مواعيد الوصول والانصراف، بل حين دخلت غرفة العمل.. لم أصبّح على أحدٍ من زملائي، إذْ لم أجدهم!
انتظرتُ وقتاً لا أدري مقداره، فلم يأت أحدٌ منهم. اقتدت نفسي إلى غرف أخرى في الدائرة.. فلاقتني الأبواب المغلقة بجفاف وعبوس شديدين. ونفرت خارجاً.. دون أن أسمع مراقب الدوام يصرخ في ظهري:
ــ »يا أستاذ..«!
خرجت فوق خُطا عجلى، وأيقظت حواسي، إذْ بدا الشارع الذي أسير فيه خالياً تماماً من الناس، والسيارات، والباعة، والضجّة.. ودهشت! جزتُ الشارع إلى شارعٍ آخر، فوجدتُه أكثر هدوءاً! ثم إلى آخر فآخر.. ولم أجد مخلوقاً! المحال مفتوحة وخالية، والأرصفة وحيدة لا مؤنس ولا جليس، والمدينة هادئة وساكنة.. لكأنها أطلقت أناسها وصخبها! وددتُ أن أرى مخلوقاً لأسأله »ماذا حدث«؟! لكن ما من أحد.
وقفت قرب عريشة ياسمين لا زهر لها ولا رائحة.. ونسيت نفسي! وما تناديت إلى الحركة.. إلا عندما علت الضجة وانتشرت، فانتبهت، ورأيت من بعيد حشداً هائلاً من الخلق.. يقترب مني رويداً رويداً. رأيت الناس يسيرون كالنمال صفوفاً صفوفاً. خطاهم رتيبة، وحركتهم باهتة. وحين اقتربوا.. رأيت وجوههم ناحلة بشفاه مطبقة.. لها ملامح المهابة والقداسة. وفي مقدمتهم يسير الرجل الربعة.. وشاته!!
بدا لي أصغر حجماً مما رأيته عليه في المرة الأولى. وجهه ضامر جاف. وجيده انكمش ورقَّ. وقد فَقَدَ قدميه، وأصابع يديه، وشعر رأسه، وشاربيه، ونصف أنفه. وبدت شاته كميةً من العظام، تدب على الأرض بجلد شوتْه الشمسُ. وقد تساقط صوفها، وبان هزالُها الشديد. كانت أقرب إلى قطة كبيرة الحجم منها إلى شاة.
جمجمتُ:
ــ »ما الذي حدث؟!
قبل قليل كانت الدنيا دنيا«!
أربكني المشهد، واستولى عليَّ. وحين وازاني الرجل نظر إليَّ نظرةً عاتبة، وقال:
ــ »لقد أخّرتنا. اتبعني«.
ضجَّ صدري، وتباهتُّ.. لأن الرجل كان يعنيني تماماً، كأنه يعرفني منذ أمدٍ بعيد، لذلك.. ودونما سؤال أو كلام.. لحقتُ به! رأيت خلفه مباشرة رجلين. أحدهما يحمل مقصاً، والآخر يحمل سكيناً. فسألتهما غمزاً بعينيَّ عن المقص والسكين. فأجاب صاحب المقصّ:
ــ »نحن في خدمتها. (وتلفّت حوله نحو آخرين، وأضاف):
فإن نبت صوفها (وأشار إلى الشاة) أقصّه«!
وقال الثاني بطمأنينة:
ــ ».. وإن احتاج الأمر.. ذبحتها«!
ورأيت رجلاً يحمل سطلين نحاسيين، أحدهما فارغ، والثاني ممتلئ بالماء.. يشدهما إلى صدره بحرصٍ شديد، سألته عنهما: فقال:
ــ »إن عطشت.. سقيتها.
وإن درّتْ.. حلبتُها«!
ورأيت آخرين بين أيديهم تبن، وحشائش، وأدوات حلاقة، وثياب وقطع جلدية، وأجراس، وأدوية، وآلات عزف، وصحون، وأباريق، وكاسات، وأوراق، وكتب، وحصر، وأغطية، وزجاجات عطر، وأسلحة، ومراوح صغيرة.. كانوا بشراً، ثيابهم متنافرة في ألوانها وأطوالها. سألتُهم عن الأشياء التي يحملونها، فأجابوني بأنها جميعاً في خدمة الشاة وصاحبها، وأقنعوني بضرورة وجودها.
.. بدوا بوجوههم الصفر، وحركتهم المتباطئة.. حفاة بلا زينة، لا رونق لهم، ولا صفاء.. وقد تخثرت أملاح عرقهم فوق وجوههم، ورقابهم، وسواعدهم، وأكفّهم. كانت الدروب التي ساروا فيها قد برتْ أقدامهم، بعدما تقطّعت أحذيتهم وسقطت، وبعدما تمزقت ثيابهم وتآكلت. وكان ثمة صوت لرجل أشيب يتعالى بين حين وآخر، يدعو بالتوفيق والنجاح لهم. وصوت آخر لعجوز تلبس ثوباً طويلاً أسود، معصوبة الرأس، يدعوهم إلى الصبر. كثيرون منهم، كانوا يعصبون بطونهم بأذرعهم ومطاط سراويلهم، كانوا يمرون بمعامل لا دخان لها، أبوابها مفتوحة، وهدوؤها قائم، وبحواكير غادرتها عصافيرها، بعدما طيّرت ثمارها، وبسواقٍ اعتكر ماؤها وشحَّ.. ولجّت أحياؤها، وبحدود يقظى.. يتناهى من ورائها غناء خافت حزين.
فجأةً، ودونما سابق تنبيه، وقفت الشاة قرب شجرة كينا عالية، واسعة الأمداء.. وشرعت تحكّ ظهرها حكّاً عنيفاً، فوقف الرجل، ووقف أفراد الحشد من ورائه، وتدافعوا، وزفروا جميعاً، وتلاهثوا. وتطاولت الأعناق في تزاحم شديد.. لترى الشاة، التي سارت بهم طويلاً! فاستنفر كلٌّ منهم رغباته، ورتّبها في سقف لهاته، وهيأ نفسه للكلام، فربما وقع الحديث عليه أولاً.
حكّت الشاة ظهرها بجذع الشجرة مرةً ثم أخرى، ثم ثالثة.. وهكذا إلى أن انكسرت الشجرة الكبيرة الضخمة، وسقطت على بناءٍ عالٍ، فسقط هو الآخر على بناءٍ آخر، فسقط، ثم.. توالت الانهيارات.
السقوط، أحدث ضجةً كبيرة، فشهق الناس وتدافعوا نحو بعضهم وتلاصقوا، وهم يتمتمون ويهمهمون، ثم وقبل أن يلقطوا أنفاسهم، رأوا الشاة تنقلب على قفاها كتلةً من العظام، لا نبض فيها، ولا حركة.. حتى جرسها كفَّ عن الرنين، وصمت! في الحال، هرع إليها نفرٌ من الناس في مقدمتهم حامل الماء، وصاحب السكين. الأول: رشّها بالماء.. فما جفلت. والثاني: جسَّ نحرها. وتنشق أنفاسها.. وتباهت. وحين ابتعدا عنها، اندفع إليها طبيب وممرضة، قلّباها على مرأى من الجميع، ثم نفضا أيديهما بأسى، فقد قضي أمرها.. ومضت.
عندئذٍ، سقط المقص، واندلق الماء، وتبعثرت الأدوية، وديست الحشائش، وتناثر التبن، وصرّ الورق.. (ووو..). وساد الهرج والمرج، ثم انتهى كل شيء. كان الناس جوعى، حزانى، حيارى، حتى الفتاة الجميلة التي واقفتني، وأنا في طريقي إلى العمل، رأيتُها ضجرة، تفرك في كفّها زهرات من الياسمين الأبيض، وقد استحال بياضها إلى لونٍ أصفر عاتم. سألتها عن سبب اضطرابها وعكر وجهها، فقالت:
ــ »رافقتهم.. لأتحدث، وأنسى، وأنال. وها أنت ترى ما حدث«!
وودّت أن تضيف شيئاً آخر، إلا أن كلّ شيء تنامى على نحو غير متوقع. فقد رأيتُ، ورأت الخلق.. وقد أداروا ظهورهم للشاة وصاحبها، الذي ارتمى قربها، يقبضون على أيديهم في تشكيل هندسي بديع. كانوا يهزّون أيديهم ويهتزّون. ثم ما لبثت أصواتهم أن انطلقت بالغناء، فغنوا ودبكوا طويلاً.. تماماً كما لو كانوا في فرح حقيقي. الحيرة، تملكتني إذْ منذ لحظات فقط كانوا طيّ حزنهم وذبولهم، بل إن كثيرين منهم سقطوا عندما شاهدوا الشاة تسقط، فما الذي حدث الآن؟! وظللتُ أراقبهم!
فجأةً، جمدوا تماماً. غيّبوا هرجهم. وثبتوا في أماكنهم. جمدوا حينما رأوا، من بعيد، ومن الطرف الآخر للمدينة.. الرجل الربعة والشاة يتقدمان نحوهم بسرعةٍ عجيبة!
رجل ربعة، حافي القدمين، حسن الهندام، مكشوف الرأس والساعدين، مندّى الأنف، مبلول الشعر والشاربين. وشاة كبيرة سمينة، صوفها طويل نظيف، في رقبتها جرس نحاسي مشدود إلى قطعة جلد رمادية، لها قفل نحاسي صغير يقبض على طرفيها.
رؤيتي غابت أو كادت. وجسدي ذوى.. فما استطعتُ الالتفات نحو الرجل الربعة الذي كان ممدداً خلفي، وشاته التي سقطت وماتت.. لأتأكد من وجودهما. ولا أدري إن التفت الناس نحوهما أم لا! ما أدريه حقاً هو أن الخلق من حولي انتظموا في صفوف خلف صفوف، ووقفوا قبالة الرجل الربعة وشاته السمينة القادمين من البعيد، ولم يخلوا لهما الدرب. انتظرتُ طويلاً فلم أرَ الرجل وشاته، فقد حجبتهما عني الصفوف والقامات الناهضة.
.. كنت لحظتئذٍ في عراكٍ بارد مع جسدي الذي تماوت، وقد تناوب عليه نعاسٌ حييّ شفيف، وخدرٌ طري ناعم، ولم أعد أرى ما يجري، وقد أصبحت داخل الحشد.
كان الوقت ساعتئذٍ صباحاً، صباحاً طازجاً، هانئاً، صافياً. عرائش ياسمينه الخضر دلّت زهرها الأبيض تحيةً للحاضرين.. وسط أنسام مندّاة لفّت الناس، والمكان، والفضاء.. أيضاً.



[/align]
* * *
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس