عرض مشاركة واحدة
قديم 02 / 08 / 2008, 28 : 06 PM   رقم المشاركة : [12]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد

في المساء الأخير..!
[align=justify]
ــ 1 ــ
عيناي غائرتان، تجولان في وجهي الناحل الممصوص. أفقي معتم تماماً. قدماي لا تبصران طريقي بوضوح. الكآبة تخنقني. حالات الماضي تبعثر لحظات صفائي. أبحث عن أيامي، وساعاتي الرائقات.. فلا أجد.
أبداً.. لكأنما المدينة صبّت مرارها فيَّ!
ــ 2 ــ
أنا خميس الشايب من قرية (الفوارة). قدمان للحزن، وكفّان للخيبة. والليلة رأس السنة الجديدة. أريد الاغتسال.. من أوجاعي، وعثراتي الماضية، أريد أن أفرح.. لكن الفرح لا يقاربني. كثيراً ما أناديه؟ أرجوه أن يبدو لي (ولو) مرة واحدة.. لأشكو له مرار أيامي وأحزاني.. الدائمة. أتصوّره أنثى، فأتودّد لمن هن حولي.. لحظات فقط وأصدّ. أحسبه ضوءاً من أضواء المدينة، وما أكثرها، أقترب منها.. فتبدو معايبي، بل يأخذني خيالي إلى أن أظنه.. الإخلاص في العمل والاجتهاد عليه، أسعى إلى ذلك.. فأوصف ب(دب الشغل).
محاولات، ونداءات، وانتظارات.. رمّدت روحي.
ــ 3 ــ
هي ذي أمسية آخر يوم من أيام السنة تذوي بين يديَّ. فالليلة تمضي وتأتي أخرى. والدنيا ستموج بالناس، والفرح، والأمنيات.. وأنا طيّ وحدتي وأماني.. الباردة!
قبل قليل فقط كنت أسمع رفاقي في العمل يتحدثون عن طقوس السهر، وما أعدوه لها، ومع من سيسهرون، وأين؟ وما من أحد منهم دعاني، أو حدثني عن هذه الليلة.. لكأنني بينهم منبوذ أو هكذا أبدو. كنت أتقصد، وهم يتحدثون عن السهر، المرور بهم، أطلب منهم بعض الأشياء، أو أسألهم أسئلة عابرة.. لكن دون نتيجة. تجاهلوني تماماً، وكأنني غيرُ موجود.
.. ومع انتهاء الدوام، غادرتُ مكان عملي وحيداً تحت مطر خفيف. شاغلت نفسي، وحدّثتها.. بأنه من الممكن للمرء أن يسهر وحيداً.. فتجيبني (وكأنها ضدي)، يسهر وحيداً.. نعم، لكنه لا يفرح. فأغتمّ! مع ذلك، وبسبب المطر والبرد، أحاول تكريم نفسي في هذا المساء.. فألغي فكرة مواصلة السير إلى البيت مشياً، أو الركوب في الباصات وسيارات (السرفيس)، أسعى إلى مكافأة الجسد مكافأة كبيرة، فأمامي، هذه الليلة، سهر طويل، وقائمة طويلة من الأسى المكتوب، والأماني المشتهاة. تروق لي الفكرة.. فأقبض على خطاي في طرف الشارع، وأنتظر سيارة أجرة فارغة. يمرّ عليَّ وقتٌ طويل وأنا تحت المطر، وما من سيارة. كلما أهمّ أن أصل إلى سيارة أجرة فارغة، يسبقني إليها مخلوق ما ينبت أمامها كالفطر.. يندسّ فيها ويمضي. أنتظر أكثر.. فتبتل ملابسي، ويأخذني البرد، وحين يطول انتظاري.. ألعن ساعة تفكيري بمكافأة الجسد.. فلو مشيت، من ساعتي، لكنت الآن في غرفتي أحتفل بنفسي على طريقتي، أعدّ لها عشاءً فاخراً (أوقية من اللحم المفروم الناعم، وفحل بصل مفروم ناعم أيضاً، وحبة بندورة، وثلاثة أرغفة. سأضع اللحم والبصل في الصحن القيشاني الوحيد الذي أملكه.. ولحظتئذٍ، هات يا قابلية! سآكل وكأنني في أحسن فنادق البلد)! لكن الآن.. ما من شيء سيرضيني، فقد تورّم غضبي وازداد. أتمتم بأسى:
ــ لو ذهبت إلى البحر، يا خميس، لجفَّ. دنيا بنت حرام، تعطيها وجهك، فتدير لك قفاها. دنيا أعجب من البراغي«!
.. بعد الانتظار الطويل المُرّ، ألغي فكرة ركوب السيارة. أمحو المكافأة بشتيمة كبيرة.
أمضي في دربي الاعتيادي مشياً إلى غرفتي بوجه محتقن، وشفتين مطبقتين، في البدء كدتُ آكل نفسي من الغيظ، وقد اشتدّ المطر، وهاجت الريح، لكن، وبعد وقت قصير، هان مسيري وحلا حين رأيت فتاة ناهدة الصدر، طويلة ممتلئة، تمشي بهدوء كأن الرصيف تحت قدميها لوح من البللور تخاف أن.. يتوسخ. تشدّ إلى صدرها محفظةً وكتاباً. يرفّ صدرها.. فيرتجان رجة خفيفة.. آسرة. تسير، قربي، تحت المطر غير عابئة بالناس، والبرودة، والريح اللعوب. تمشي.. فتنسحب معها الأرصفة، والشوارع، والمحال، وأشجار الطريق.. توازيها للتحية، وللمرأى الجميل. يعجبني ثبات خطوها، وأحسدها على تمتعها بالمطر.
تروق لي الفتاة فأطوي ببصري بداية الشارع على نهايته.. لأرى إن كنتُ وحيداً قربها أم لا. ألحظ انشغال الناس بأنفسهم، وقد أشعل المطر في أجسادهم الحركة، بدوا يتراكضون ويتناثرون هنا وهناك، وما من أحد منهم مهتم بالآخر. أقترب من الفتاة وأنظر إليها. مرةً أسبقها بخطوات وأنظر إليها. وأخرى أتخلّف عنها وأتفحصها. أنثى كالنخلة، طويلة وممتلئة، ومطمئنة. تبدو لي وكأنها سارت طويلاً تحت المطر.. فثيابها مبتلة تماماً، وشعرها هامد، كفَّ عن إبداء وجهها ورقبتها وإخفائهما. بدت كأنها خارجة لتوها من البحر، بعدما دخلت إليه بتمام قيافتها. أقترب منها ناوياً أن ألاطفها بكلمة، أجسُّ (نبضها)، فأتردد كثيراً، أو أسألها إن كانت بحاجة إلى خدمة ما، فلا أتجاسر، لكن، مع مرور الوقت، تلحُّ الفكرة عليَّ. أقترب منها أكثر. تلحظ هي اقترابي منها وابتعادي عنها، فترامقني مرات عدة، ثم ألحظها ترامقني وتبتسم. تمتلئ الروح برغبتها. أدنو لمحادثتها كطفل، وأنا أتمنى من الله أن يمنَّ عليّ بوقت طيب معها. إن حدث ذلك.. سأكتب تاريخ هذه الليلة على باب قلبي. أدنو أكثر. أهمس ببحة:
ــ »مساء الخير«!
فتجيب دون تردد:
ــ »مساء الخير«!
أتلعثم بالاعتذار، وسؤالي إن كانت بحاجة إلى مساعدة، فتهزّ رأسها نافية (ينقبض قلبي) فأكفُّ عن الحديث. تسألني دون توقع مني:
ــ »إلى أين«!
فأجيبها بحرارة:
ــ »لقد تركت دوامي المسائي منذ قليل«.
ــ لكي تسهر«؟
ــ »لا.. فأنا وحيد«.
تقول بعذوبة، وقد صمتت قليلاً:
ــ »ترافقني إلى مكان سهري«!
فأراوغ قائلاً:
ــ »قد أزعجك«.
فتهزُّ رأسها نافيةً. (نفي لا أجمل ولا أرق)! أنسى نفسي قليلاً لأشكر الله الذي استجاب لدعوتي.
.. ففي هذه الليلة سأجد لرأسي صدراً دافئاً، وفوقه سأبوح بكل أحزاني، سأقول لها، مصارحةً، أن المدينة عذَّبتني، وأكلت قدميَّ، وأن العيش فيها ضمورٌ لا امتداد، وأنها لم تكن سُلماً، كما قيل لي، له بداية ونهاية، وأن سنوات الحياة فيها درجات.. سنة تقود إلى سنة، حتى أصل إلى القمة. سأصارحها بأشياء كثيرة. لمَ العجلة؟!
أمشي.. فأوازي الفتاة في مسيري. دون أن أهتم بما حولي من أشياء، وأصوات، وألوان. أحاول، قدر استطاعتي، كتم صوت حذائي. وأرجو الله أن يكون وجهي، الذي دعكته في غفلة من الفتاة مرات عدة، لامعاً مثل وجهها. أتأسف لها لأن المطر بلّل ثيابها وشعرها.. فتبتسم. (أنتظرها لتتأسف لي.. لأن المطر بللني أيضاً، لكن انتظاري يطول). أحفًُّ بها مصادفةً.. فأضطرب وأجرض بريقي. أسمعها تقول بصوت هادئ أنها قررت أن تفاجئ أصحابها الساهرين بمنظرها المبلول، فأبتسم وأنا أنتهز فرصة التمعن بجسدها الذي بدت مفاتنه، بعدما لصقت الثياب عليه. بدا وجهها الواسع الطويل لامعاً متورداً.. كأن الدموع غسلته للتو. تقول لي:
ــ »سنفرح هذه الليلة أكثر من كل الليالي الماضية«.
فأتمتم لها:
ــ »هذه الليلة جديرة بالفرح«.
(لماذا.. لمخلوق مثلي، لست أدري)؟!
تحدثني عن وحدتها مع والديها، وأنها عاتبة عليهما جداً لأنهما تركاها بلا أخ أو أخت، وأن حيرتها كبيرة دائماً لأنها لا تعرف كيف تقضي أوقات فراغها. وأحدثها عن قريتي والحياة فيها، وكيف كنت أظنّ أن شهادة الجامعة (حجاب) من الفقر، والخوف، والأماكن العالية، والتردد، والسقوط. (حجاب) سيمحو صفرة لوني، وعثراتي، وماضيَّ. (حجاب) سيأخذني إلى صدر أتمناه، ودربٍ أشتهيه وقد طاردته طويلاً. كنت أظنها دنيا، فسعيت إليها. (بهدلتني) المطاعم ليلاً وأنا أغسل صحون روادها.. فتحملت. وعذَّبتني نهارات الدراسة، فصبرت. ولم أفطن إلى أنني حين كنت أتقدم في الدراسة سنة بعد سنة أن الدنيا تقدمت كثيراً. وحين حصلت على الشهادة انقلب السحر على الساحر.. فلا همومي ولّت، ولا دفئي المرغوب.. دنا.
تقول باندفاع شديد: »إن الشهادة صفر، وما عادت تفيد بشيء«! فأوافقها!
وتضيف بأنها لذلك، ضحَّت برغبتها في دراسة الأدب الفرنسي، ودخلت الجامعة لتدرس الحقوق كما أحبّت أمها.
أؤمِّن على كلامها وأظلُّ طيَّ صمتي؟! أم أنثر ما في القلب من غصّات؟. أتردد قليلاً، فتجتاحني، رغماً عني، كآبة أعرفها جيداً. أسمعها، بعد صمت قصير، تتحدث عن والديها الرائعين اللذين ذهبا إلى سهرتين مختلفتين. فأودّ أن أقول لها إن أهلي، الآن، نيام في هجعة واحدة كعشِّ من (الدبابير).. حلاوة الليل عندهم.. هي أنه هدنة مع الحياة ليس أكثر!
أسألها، وقد مضى علينا وقت طويل ونحن نمشي:
ــ »أما اقتربنا«؟!
فتجيب:
ــ »بلى، لكني أقترح عليك أن نتسكع في الشوارع حتى ما قبيل منتصف الليل بقليل. ما قولك«؟!
فأغمغم، وقد حننت لمجالستها وملامستها، كأنني أعرفها منذ زمن طويل:
ــ »لكن الدنيا.. مطر، وبرد، وأنت رقيقة«!
فتهمس:
ــ »لا عليك«!
وتعود لمحادثتي. تقصُّ عليَّ أخبار عشاقها الذين تركتهم لأنهم غير جديرين بحبها. وتمدُّ أمامي طقوس هواياتها، وصفات صديقاتها وما حدث لهن مع أصدقائهن، وتكشف لي عن أحلامها في السفر. ولكي تسايرني، وقد استمعت إليها طويلاً، تسألني عن ألواني المفضلة، فأقول لها:
ــ »الأحمر. الأخضر..«.
فتهزُّ رأسها مستغربة، لتقول:
ــ »الألوان الأحلى هي الموف، والسكلما..«.
وهكذا ظللنا! حديث يأخذنا إلى حديث، وشارع إلى آخر إلى أن أنفقنا وقتاً طويلاً جداً حتى اقتربنا من منتصف الليل (الذي حسبته لن يأتي)!
.. لحظتئذٍ، قالت:
ــ »هيّا، لقد تعبنا«!
فانطلقنا باندفاع بادٍ. كنت أمّني النفس بأن أرتوي من رؤيتها تحت أضواء مبهرة، داخل بيت دافئ. سأنزع عنها ثيابها المبللة قطعة قطعة. وسأمنحها كلّ الدفء الذي اختزنته الروح لأنثى حقيقية. سأنشِّف شعرها ووجهها بخفيف أنفاسي، وسوف..! كانت صامتة، مستمتعة بوقع أقدامنا، وصوت تساقط المطر.. لابدّ أنها، هي أيضاً، تفكر كيف ستُفرح قلبي. وكيف ستجعل من ليلتي هذه.. ليلةً لا شبيه لها. سأساعدها كثيراً.. سأمحو عنادي وترددي، وأكون بين يديها ليّناً طيّعاً، سألبي رغباتها كلها، وسأجعلها توقن تماماً بأن أبناء القرى جديرون بالمحبة أيضاً. أحمّس نفسي وأشجعها.. بأن هذه الليلة ليلتي، وفيها لا فرق أبداً ما بين الوقوف والانحناء. (يبدو أنني سأعرف الفرح.. أخيراً)!!.
بغتةً، تنقطع أحلامي دونما تنبيه حين تقف رفيقتي أمام باب خشبي عالٍ، مزيّن بالنقوش والرسوم.. فأقف. تقابلني، لأول مرة، وجهاً لوجه، وقد حضنت صدرها بذراعيها، وشدّت عليه. تقول:
ــ »لقد وصلت. هذا هو البيت«.
فأقول لها، وأنا أبتسم:
ــ »أخيراً..، كان المسير استثنائياً«!
توافقني. تزمّ شفتيها على ابتسامة ناحلة، وتهزّ رأسها بعزم، ثم تتمايل أمامي بهدوء، وترمش بعينيها، ثم تقول:
ــ »أشكرك على كلّ شيء. وأرجو لك ليلة طيّبة، وعاماً طيّباً.. أيضاً«.
سقط قلبي أو كاد!.. فهي تودعني!.. بعد كل هذا المسير، وكل هذا الحديث تودعني! (اعتقدتُ أنني وإياها.. كنا ننثر عتبات صغيرة هنا وهناك.. حتى إن خلونا، تكون الروح قد عرفت الروح وتاقت إليها..). إنها تودعني. تبدد أحلام ساعات طويلة، أحلام عمر بحاله. تمدّ حياتي بكآبة إضافية، وإحباط جديد (وهل ينقصني؟!). أخطو نحوها. أحاول أن أقول لها شيئاً، أن أشرح موقفي، وأبيّن لها أنها إن تركتني الآن.. سأردُّ باب الحياة عليَّ.. وأنتهي، سأحاول أن..!! لكنها استدارت دون أن تسمع كلمة واحدة. ودون أن تواعدني لمرة قادمة. فتحت الباب، ودخلت! وخلفها.. صرَّ الباب ثانية وانغلق،.. فانغلقت الروح على ما فيها.. وانطوت.
.. مع ذلك، وقبل أن يخدر الجسد في وقفته، جررتُ خطاي نحو غرفتي.. فما زال لدي هناك جارتي العجوز التي تنتظرني كأنني ابنها الوحيد.. وكتبي، وزهور الأقحوان، وفراشي، وعشاء عامي.. الأخير!!

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس