[align=justify]بدايةً، أودُّ الاعتذار لأخي طلعت، عن تأخري في كتابة مادة عنه في الذكرى الثالثة لرحيله، كما أودُّ الاعتذار أيضاً لكلِّ من كانوا يتابعون حلقات حكايتي معه، وتوقفتُ عن كتابتها.. وأراني أعتذر مع أنني ما تأخرتُ عن الكتابة ولا توقفتُ كسلاً ولا اختياراً، بل اضطراراً، بسبب ظرف خاص مررتُ به مؤخراً، لا أريد ذِكْرَهُ لأنني لا أريد تَذَكُّرَه، لشدة ما أثار فيَّ من ألم وحزن وكآبة وخوف، ولكثرة ما ترك في نفسي من ندوب أظنها ستبقى تؤلمني طويلاً...
وليقيني أن أخي طلعت كان سيكون إلى جانبي يواسيني ويشدُّ من أزري، لو أنه كان ما يزال حياً، فسأخصص هذه الحلقة له، وأكتبُها موجِّهاً الخطاب إليه تارة، ومتحدثاً عنه بصيغة الغائب تارة أخرى..
........................
تحلُّ الذكرى الثالثة لرحيلك، وما زال من الصعب عليَّ تصديقُ غيابك، لأنني ما أزال أستشعر دفء وجودك معي، بروحك الطيبة ومحبتك الغامرة، وبقدرتك على مواجهة المواقف الصعبة بشجاعة ورباطة جأش..
لكنْ، وفي كثير من الأحيان، بدلاً من أن يدفعني عظيم محبتي لك إلى بكاء فراقك، يدفعني ما آلت إليه أحوالنا، إلى الوقوف حائراً على مفترق عواطف متضاربة، فلا أدري أَأَحْزَنُ لأنك سبقتني إلى رحمة الله أم أَغْبِطُكَ على أنْ جَنَّبكَ ــ سبحانه وتعالى ــ ما نراه من ويلات وما نعانيه من آلام ونكابده من قلق وخوف وهَمّ، أم أتحسَّر على افتقادي صبركَ وشجاعتك ورباطة جأشك في الملمات، وتشجيعَك لي على احتمالها وعدم الانكسار أمام عواصفها؟
وبين الشوق والخوف، بين الألم والأمل، وبين الحنين إلى ما كُنَّاهُ فيما مضى وخوفي من مواجهة ما هو آتٍ وحدي، أشعرُك ظالّاً معي، تنأى بحضورك الخاص جداً، في الوجدان والذاكرة، عن الغياب، وتستعصي على النسيان.. ولأنك أبيتَ، وأنتَ حيٌّ، أن تكون في حياتي وحياة كل من عرفوك مجرد عابر سبيل لا يترك في نفوس مَن عرفوه أثراً عميقاً باقياً، أراك اليوم، حتى بعدما صرتَ تحت التراب، تأبى أن تتركنا نكابد الآلام دون أن تُشاركنا مكابدتها، وتأبى أن تُطِلَّ علينا من ذاكرتنا إلا في صورة المُحب الذي ينثر أملاً هنا ورجاءً هناك ومواساةً وعبقَ ابتهال دافئ في كل أرجاء نفوسنا..
وكيف لا تكون كذلك يا أخي، وقد كنتَ واحداً من القلة القليلة الذين يعبرون الحياة، خطوة خطوة، مع مَن عرفوهم، يشاركونهم الأفراح والأحزان، الهموم والآمال، الفقر والغِنى، وكلّ ما تحفل به الحياة من تصاريف حلوة ومرة؟!
كيف وقد كنتَ من تلك القلة النادرة التي آتاها الله، بالإضافة إلى البسطة في الجسم، والتفرُّدَ في الإبداع، طيبةَ القلب والقدرةَ على حب الآخرين وإيثارهم على النفس حتى ولو كانت بصاحبها خصاصة؟!
كنتَ كبيراً في كل تصرفاتك، نبيلاً في مشاعرك ومواقفك، شهماً في نجدتك لكل من استنجد بك وقت العسرة، عفيف الكف واللسان، على الرغم من كل المغريات، شجاعاً في التعبير عن رأيك ومواقفك في كل الأوقات، كريماً في بَذْلِكَ ما تملك، على قِلَّته، لمن تحب، بل لمن تعرف ولا تعرف.. متسامحاً بحق من يُخطئ معك أو يؤذيك..
لهذا كله، حين جلست أريد الكتابة عنك، في الذكرى الثالثة لرحيلك، حِرتُ من أين أبدأ، وعمَّاذا أكتب.. أأكتب عن تفردك شاعراً مبدعاً، أم عن رهافتك قاصاً بارعاً، أم عن قدرتك كصحفي، أم عن إبداعك كناقد؟ ثم بدا لي أن جوانبك هذه كلها تذوب كالسكر في شِعرك، فقررتُ التحدثَ عنك شاعراً، وأيَّ شاعرٍ كنتَ يا طلعت!
وإذا كنتُ ارتأيتُ الحديث عنك شاعراً، فلن أتحدث بأسلوب المدائح الهلامية التي يصوغها البعض مُثقلةً بكمٍّ من المبالغات المضحكة المبكية.. فمثل تلك المدائح لا قيمة لها في النهاية، وليس في كَيْلِها لك توفيةً لما أعتقد أنه حقك الذي حُرمتَ منه كمبدع مُتَمَيِّز، في حياتك وبعد وفاتك؛ بل سأتحدث عنك من خلال إلقاء حزمة ضوء على إبداعك الشعري المُتَمَيِّز الذي قَلَّما وجدتُ ما يرقى إلى مستواه الفني والإنساني في نتاجات كثيرين ممن عرفتُهم وقرأتُ لهم من شعراء عصري..
وبالتأكيد، لن أَقْصِرَ حديثي عنك شاعراً في هذه الحلقة المقيدة بمناسبة ذكرى رحيلك، بل سأحاول الاستمرار في الحديث عن شعرك في حلقات أخرى قادمة، مُرَكِّزاً على نواحٍ يتضافر مجموعها ليؤكد، في المحصلة، أنَّكَ بالإضافة إلى كونك شاعراً مطبوعاً قادراً على قول الشعر بنفس السهولة والبساطة التي تتنفس الهواء بها، لم يكن شعرك سخيفاً ولا سهل التقليد ولا عرضيَّ التأثير في مُتَلَقِّيه، بل كان عاليَ الجودة أخَّاذَ التعبير مؤثراً لا ينتهي تأثيره بمجرد الانتهاء من قراءته أو سماعه؛ وأن قدرته على التأثير لم تكن نابعةً من صعوبة صياغته أو من غموض متكَلَّف في صوره ورموزه أو من بهلوانيات بلاغية سرعان ما تبهتُ بعد افتضاح لغزها، بل كانت قدرتُه التأثيرية نابعةً من منابع إبداعية صافية ومن موهبة قوية تتجلى قدرةً باهرة على التخييل، وقدرةً على صوغ الخيالات بكلمات بسيطةٍ، لكنها قادرة، رغم بساطتها، على محاورة العقل وملامسة القلب وإطراب الأذن وإبهاج النفس في آنٍ معاً..
إلى ذلك، أظنني سأفردُ حلقة خاصة للحديث عن قدرتك الفنية المدهشة على الجمع بين المتناقضات في أضاميم شعرية حلوة النغمات مطربة من جهة، وقادرةٍ على صنع ردود فعل متنوعة، في نفس الوقت، من جهة أخرى..
وبعد،
فلا أملك في ختام هذه العجالة، سوى أن أقول:
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون... رحم الله أخي طلعت، وأعانني على إكمال سيرته التي بدأتُها في موقع نور الأدب، والتي شغلني عن إكمالها ما أعانيه وتعانيه بلادي من ويلات الفتنة التي تعصف بها..
رحم الله طلعت إنساناً وفناناً وصديقاً صادقاً وفياً... وأتمنى أن أتمكن من المساهمة في إنصافه بحق وموضوعية دون مبالغة أو غلو في مديحه، ليقيني بأن زيادة مدحه أو نقصانه لن يفيداه شيئاً، بعد أن صار في حضرة من لا يظلم عبداً شيئاً ولا يَلِتْهُ من حقه مقدار ذرة..[/align]