1 في حديث الصحابي جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي (ت: بحدود سنة 70 هـ) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد فدميت إصبعه، فقال:
هلْ أنتِ إلاَّ إصبع دَمِيتِ *** وفي سبيل اللهِ ما لَقيتِ
(صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير رقم 2648، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير رقم 1796 ). والبيت من مقطوعة لابن رواحة (عبد الله بن رواحة الأنصاري، أحد القُوَّاد الثلاثة في غزوة مؤتة جنوب الكرك في الأردن، استشهد فيها سنة 8 هـ)، تمثَّّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمامه:
يا نفسُ إلاَّ تُقتلي تموتي *** هذا حِمامُ الموتِ قد صَليتِ
إن تسلمي اليومَ فلن تفوتي *** أو تُبتلي فطالما عوفيت
وما تمنيتِ فقد أُعطيتِ *** إنْ تفعلي فعلهُمَا هُديتِ
وإنْ تأخرتِ فقد شَقيتِ
(ديوان عبد الله بن رواحة 153 )، وتمثلُ النبي صلى الله عليه وسلم ببيت واحد من الشعر لا يلزم منه أن يكون شاعراً، ولا يسمى قائله شاعراً، لأنه لم يقصده؛ والله تعالى نفى عنه العلم بالشعر بأصنافه وأعاريضه وقوافيه؛ وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن موصوفاً بشيء من ذلك. فمن أنشد القليل من الشعر، أو قاله، أو تمثل به على الندور، لم يستحق به اسم شاعر، ولا يقال فيه إنه تعلم الشعر، ولا يُنسب إليه، ولو كان ذلك كذلك للزم أن يقال عن الناس كلهم شعراء، ويعلمون الشعر، لأنهم لا يَخْلُون أن يعرفوا كلاماً موزوناً مرتبطاً على أعاريض الشعر. 2 ولمَّا فرَّ الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين سنة 8 هـ جعل يقول:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ *** أنا ابنُ عبدِ المُطَّلبْ
(صحيح البخاري 4 / 53 كتاب الجهاد والسير، فتح الباري 7 / 394 - 8 / 31 - 10 / 542 ، صحيح مسلم 3 / 1401 كتاب الجهاد والسير، شرح النووي 4 / 405 )، وهذا لا يعني أنه صلى الله عليه وسلم نظم الشعر، إنما قاله اتفاقاً، ولم يقصد به قرضه ، وذلك كثير في الكلام، يأتي منه ما اتزن بوزن الشعر وليس بشعر. ونحوه ما جاء في بعض آيات القرآن الكريم، كقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) - آل عمران: 92 - ، ووزنه فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، على وزن بحر الرمل، وقوله تعالى : (نصر من الله وفتح قريب) - الصف: 13 - على وزن بحر الرجز، ومنه كلام العوام ، يأتي في كلامهم المقفى الموزون وليس بشعر، ولا يسمى قائله شاعراً لأنه لم يقصده.
3 وعن البراء بن عازب الأنصاري (ت: 72 هـ ) قال: لمَّا اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة 7 هـ ، فأبى أهلُ مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يُقيم بها ثلاثة أيام، فلمَّا كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قالوا: لا نُقِرُّ لك بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله. فقال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله. ثم قال لعلي بن أبي طالب: امحُ رسولَ الله. قال علي: لا والله، لا أمحوك أبداً. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابَِ - وليس يُحْسِن يكتب - فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ( صحيح البخاري الحديث 4251 كتاب المغازي، صحيح ابن حبان 11 / 229 )، وفي صحيح مسلم الحديث 1783 كتاب الجهاد والسير: فأمر صلى الله عليه وسلم علياًّ أن يمحاها ، فقال علي: لا والله لا أمحاها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها. فأراه مكانها، فمحاها وكتب: ابن عبد الله.
و(كتب)، أي أمر الكاتب، وهذا من باب (المجاز العقلي)، أي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير صاحبه لعلاقة بينهما، وهذا كثير في كلام العرب: قال ابن عباس (عبد الله بن عباس، ت: 68 هـ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر الأمة ، أي عالمها. كان عالماً بالفقه والتفسير والأنساب والشعر وأيام العرب): كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم (صحيح البخاري، الحديث 2936 كتاب الجهاد والسير، وقيصر الروم: فلافيوس أغسطس هرقل، ت: 20 هـ / 641 م ) ؛ وفي حديث أنس بن مالك (الحضرمي ، خادم الرسول صلى الله عليه وسلم، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة، ت: 91 هـ): كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي وكسرى (صحيح مسلم، الحديث 1774 كتاب الجهاد والسير، والنجاشي: أصحمة بن أبجر، ت: 9 هـ / 630 م، وكسرى: خسرو الثاني، ت: 6 هـ / 628 م)؛ وفي حديث عبد الله بن عكيم الجهني، وإسناده صحيح: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (سنن النسائي 3 / 147 ). فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرَ علياًّ أن يمحو لفظة " رسول الله " ويكتب مكانها: " ابن عبد الله " فأبى عليٌّ ذلك إجلالاً لاسم رسول الله أن يُمحى، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريه مكانها، فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، فكتبَ عليٌّ بعد ذلك: ابن عبد الله، نزولاً عند رغبة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الذهبي ( محمد بن أحمد، ت: 748 هـ): ما كل من عرف أن يكتب اسمه فقط يخرج عن كونه أمياًّ، لأنه لا يسمى كاتباً، وجماعة من الملوك قد أدمنوا في كتابة العلامة (أي التوقيعات الملوكية) وهم أميون، والحكم للغلبة لا للصورة النادرة (تذكرة الحفاظ 3 / 1181، سير أعلام النبلاء 14 / 190 ).