وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( 23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24 ) (الإسراء)
وقال سبحانه:
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴿34﴾ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴿35﴾ ( الأنبياء )
كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون( 57 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين( 58 )( العنكبوت )
الأم هي الحياة والأم هي الحضن والوطن الأول والأخير الذي لا نرتوي منه أبداً مهما أغدق علينا من فيض ينابيع الحنان والأمان وبحوره العذبة التي لا تنضب أبداً..
بفضل أمهاتنا يشعر كل منا بالتميز ونستمد بدعم الأم الشعور وكأننا ملكات وملوك على هذه الأرض..
دعم نفسي وثقة بالتميز لا تتوقف بها نصمد أمام مصاعب الحياة وآلامها وأشرارها وحسّادها وحروبهم ومواجهاتها وضغوطها ومعاول هدمها إلخ..
دائماً وأبداً في عينيها – وفي عينيها فقط - ابنتي الأجمل الأذكى والأكثر تميزاً ونبلاً والأطيب إلخ...
باب من أبواب الجنة مفتوح لا يغلق إلا بموت الأم وأبواب الرحمة مشرّعة ودعوات بظهر الغيب وفي جوف الليل وفي كل حين..
صدر أرحب وأوسع من العالم بأسره ودفء لا يشوبه برد.. يدٌ لوحدها حكاية، ألف لغة تجيد وينبعث منها حنان يمكن أن يكفي العالمين .. حين تمسح على وجهي وكأني ظمأ ارتوى وصحراء تحول إلى بساتين مثمرة ومشاتل زهور..
عيناها الأجمل حين تحتويني بهما في عناق ولا أجمل، وهل في الدنيا عينان أجمل من عيني بهية - وأي عينان - بهيتي تستطيع أن تضم وتحتوي وتغدق فيض المحبة والحنان والحماية والأمان بنظرة من عينيها .. ومن عينيها فقط ينبع كل الحنان...
صديقتي الأولى والأخيرة والدائمة في كل أزمنتي ومراحل حياتي.. صديقتي الصدوقة التي لا ينزاح همي إلا إذا رميته في أحضانها فأنام مطمئنة وتسهر هي تحمله وتحملني دون أن تحمّلني وتستعد لتنفي الأذى وتبعده عني وإن بصدرها..
هي من تحبني وأختي وابني أكثر منا وأكثر منها ومن الدنيا بأسرها، وهي الوحيدة المستعدة دائماً أن تضحي بنفسها وحياتها دون تردد من أجلنا..
هي من أعطت فعلياً وجاهدت وضحّت دون توقف أو تردد.. هي من ترملت في الثامنة والعشرين من ربيع عمرها وحيدة وقد توفي والديها بلا أخ أو أخت يساندانها وبجمالها الأخاذ وثقافتها الواسعة وتميزها وشخصيتها القوية ونسبها العريق ومكانة عائلتها- تقدم لها العديد- لكنها كرّست حياتها لأختي ولي فحضنتنا وكانت لنا الأم والأب والأخت والصديقة وتحملت من أجلنا كل شيء وحرصت أن نكون الأكثر تميزاً بين لداتنا حتى لا يقال عنا أيتاماً ولا نشعر بيتم الأب..
عملت ودرّست لتعود من المدرسة تدرسنا وتسهر علينا وتخيط وتطرز وتغزل الكروشية إلخ..
حتى ابني تحملت عبء تربيته أكثر مني وسهرت عليّ وعليه..
هي الأمّ العظيمة المثالية بكل جدارة التي عاشت لتعط وتضحي وتجاهد في هذه الحياة في سبيل بناتها..
هي مربية الأجيال التي كان لها الفضل على تلميذاتها وكانت أم لكل من لم يكن لها أم والصدر الحنون لكل من كانت تفتقد الصدر الحنون والصديقة الصدوقة ، تصغي إليهن وتحل مشاكلهن.. هي أمي العظيمة ...
أمّي حبيبتي.. أمّي أنا..
هي الإنسانة التي كانت دوماً بجانب كل من احتاج لها أو احتاج لمن يقف إلى جانبه بأي هم أو مشكلة أو مصيبة ألمّت وهي الكريمة التي كانت تعطي كل ما لها دون أدنى تردد وبإصرار- كرم كان أحياناً يغيظني – حين تتنازل عن معطف أو شال أو أي شيء ثميناً أو بخساً أو هي بأمسّ الحاجة له، لمجرد أنه أعجب إحداهنّ..
أمّي العظيمة..
هي أمي وهي من ملأت مكان الأب بعد أبي الراحل، هي من ملأت دنيايَ وهي صديقتي وصاحبة أجمل وجه وعينان وغمازات وابتسامة وصوت حلو المنطق والحديث والدفء..
هي نبع المحبة الذي لا ينضب
اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت وإليك المصير
لا يدرك إنسان حجم وجعي وفداحة ما فقدت وهول ما خسرت إلا من له أم كأمّي..
ألمي ودموعي لا يمكن إلاّ أن أحملها وحدي وخلف الجدران وقد علمتني الشموخ وألاّ أضعف أمام الناس ولا أنحني أو أظهر ضعفي وأن أبتسم وأضحك للناس كلما دنت الدموع من الاقتراب أو آنست في نفساً ضعفاً.. وهذا ما كان ويكون حتى في عزّ وجعي وصدمتي لمر فراقها...
هي الشمس الحانية – التي تُدفئ ولا تحرق- المانحة في كل حين والتي تدور أفلاكنا من حولها وفي مدارها..
كم تمنيت ودعوت الله بكل أنانية الأبناء أن أرحل قبلها ولا أُفجع بها..
كم كنت أتمنى ألا أخسر دفئها ويحتويني برد العالم من بعدها خالية الوفاض منها..
غاب جسدها وطلتها البهية وأشتاقها لكني ما زلت أشعر بها بقربي تحميني روحها وتتفقدني..
نعم.. أشعر بشيء هائل.. بألم المصاب وفجيعة الرحيل وآلام دفن جسد أكثر من حبيب- أقرب من قريب – أعزّ من عزيز - هو جسدي - جسدي بعض من بعضه، منه تكوَّن وتشكّل بداخله وأبصر النور بفضله - في تراب الغربة أُدفن / يُدفن ويمتدّ إليّ الشعور بالفناء..
أتفنى عينان كالكوكب الدّري جمالاً وبريقاً وجفون يستمد منها السحر سحره؟!
ترفق أيها الثلج والصقيع بجسدي الحبيب أمانة غالية في حفرة تحت لحافك..
أيطوي التراب أغلى الكنوز ويحجب ركام الثلوج الدرر؟؟!!
ترفق بعينيها حبيبتاي – عينان نجلاوان سوداوان وجفنان ساحران- تحدث بجمالهما كل من عرفها يعلوهما حاجباها المقوسان – ميراث جدّها سيدنا عمر بن الخطّاب - وغمازات خديها العميقة المستديرة.. ما تزينت النساء بغمازات كغمازات خديها.. بوجهها البيضاوي الجميل وابتسامتها الطيبة النبيلة .. بجلد وجه لم تمتد له التجاعيد ولا الذبول يوماً.. ببهاء قوام وشموخ عنق وجيد نادر.. بابتسامتها البهية المشرقة التي طالما واجهت بها كل أعاصير الحياة وما بخلت بها حتى لو كانت بذروة الألم وسطوة الوجع، ولسان حالها يقول:
"ياربي شدّ أزري حتى لا أوجع ابنتاي حبيبتاي"
مهما رفضتُ اليوم الحقيقة وكابرتُ أمام الناس، فالمصاب أليم..
المصاب أليم أليم والفجيعة كبيرة ينوء ظهري بحملها وعقلي المشوش لم يزل بين تصديق ونكران..
كل نفس ذائقة الموت، ولا راد لقضاء الله سبحانه أرواحنا أمانة يستردها متى يشاء وله الأمر من بعد ومن قبل..
هي الغالية الحبيبة وهو سبحانه أرحم بها مني ومن أختي وابني وأحنّ عليها من الأم والأب...
لله ما أعطى ولله ما أخذ وإليه المصير وحده لا إله إلا هو الحيّ القيّوم الذي يحيّ ويميت.
اللهم لا اعتراض على قدرك سبحانك ونحن لمشيئتك صاغرون راضون لا نقول إلا ما يرضيك عنّا..
هي عندك وهي أعزّ علينا من أنفسنا وأنت أعلم بنا منّا ، فارحمنا وهوّن علينا مصابنا إلى أن نلحق بها وتجمعنا برحمتك وفضلك بها وبالوالد والأهل في جنان خلدك ولا تفتنّا بعدها يا أرحم الراحمين فنحن وإياها - وهي من علّمتنا - نعبدك مخلصين ولا نشرك بك سبحانك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك فأنت الحيّ القيّوم وكلّنا لنا أجلٌ وكتاب فاقبلها في الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين واجعل خاتمتنا على خير وإخلاص لك ولعبادتك ولا تضلّنا بعد إذ هديتنا.
قدر الله وهذه إرادته وفيها حكمته ونحن مؤمنون.