الأديبة المتميزة هدى الخطيب
ما شاء الله على هذه الهمة وعلى هذا النشاط ، .. وعلى مثل المواضيع القيمة التي تحدد المصطلحات وتدقق في معناها ، وتميز وتوضح .. لتعم الفائدة والاستفادة ..
هو ملف غني متشعب الزوايا ، والمحاور والتساؤلات التي تصب جميعها في الفرق بين الكاتب والأديب وبين الأديب وغير الأديب .. وعلاقتهم بالإبداع ..
لهذا ارتأيت أن أقوم برحلة حول مصطلح الأدب ، هذه الكلمة التي مرت بأطوار متعددة وبرحلات متغيرة في المعنى والدلالة منذ أن ظهرت في العصر الجاهلي إلى العصر الحديث ...
نجد طرفة بن العبد يقول :
نحن في المشتاة ندعو الجفالى ****** لا ترى الأديب فينا ينتقر
ونجد في كتاب النعمان بن المنذر إلى كسرى مع وفد العرب : ((وقد أوفدت ، أيها الملك، رهطا من العرب لهم الفضل في أحسابهم وأنسابهم، وعقولهم وآدابهم ))
فنجد مصطلح الأديب في المثال الأول بمعنى الداعي إلى الطعام ، لا يتنافى مع المعنى الثاني الذي يدل على الأخلاق ، بل يكمل المعنى الأول لأن إكرام الضيف من آثار الخلق الحسن ..
وفي العصر الإسلامي اتسع مدلول الكلمة ليشمل التهذيب اللساني والخلقي معا ، قال الرسول
ﷺ (( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) فجاء بمعنى حب الفضيلة ونبذ الرذيلة ..
أما في العصر الأموي نجد عبد الملك بن مروان يخاطب مؤدب أبناءه : (( أدِّبهم برواية شعر الأعشى )) فحمل مصطلح الأدب مضمون السيرةالحسنة وتهذيب الخلق ، وتقويم اللسان ..
وتعلم جملة من المعارف من قبيل رواية الشعر والنثر ، وما يتصل بهما من أخبار ، فضلا عن اللغة والنحو ،،
أما في العصر العباسي وقد اتسعت العلوم والمعارف واتسع معها مدلول كلمة الأدب ، فأطلقت على الأشعار والأخبار والأحاديث والوصايا والخطب لما لها من أثر في تهذيب الأخلاق وتقويم اللسان ، فالمطلع عليها يحصل له التأدب ، ولهذا سمي ابن المقفع كتابيه (( الأدب الصغير ، الأدب الكبير )) نظرا لتضمنهما مجموعة من الحكم والنصائح الخلقية والسياسية ، وقد أشار محمد منذور في كتابه الأدب ومذاهبه .. أن الأدب يدل حسب ما تعارف عليه الأدباء في القرنين الثالث والرابع الهجريين على مأثور الشعر الجميل والنثر البليغ ، المؤثر في النفوس ، المثير للعواطف ، وبهذا فالأدب .. كل شعر أو نثر يؤثر في النفس ، ويهذب الخلق ويدعو إلى الفضيلة ويبعد عن الرذيلة ، بأسلوب رائع ..
أما مفهوم الأدب في العصر الحديث فهو علم ومنهج وفن وتصور وطريقة ونقد .. إلخ بل هو عند البعض (( كل شيء قيد الطبع )) وعند آخرين هو (( تلك الكتب العظيمة التي تشتهر لشكلها الأدبي ولتعبيرها ))
وقد يقول قائل الأدب أكثر شمولا من التاريخ والسيرة ، فهو ذو طبيعة خالدة....
بل هو مؤسسة تأخذ دلالتها الحقة في إطار تاريخ محدد..
من الصعب جداً تحديد هذا المصطلح و تضييق مفهومه في هذا العصر الذي تناوله الباحثون والمهتمون تارة باعتباره لغة تنتج الجميل والجمال ، وتارة أخرى باعتبار نزوعه الفني والجمالي ، وثالثة باعتبار الثأثير والإقناع.. وإمتاع النفس .. وأخرى باعتباره ذاك التعبير البليغ الفصيح الذي يحقق المتعة واللذة الفنية..
لكن لماذا تناولت بداية الحديث عن مصطلح الأدب ، واختلاف مفاهيمه وتقاربها عبر هذه المراحل .. ؟؟
لأن كل ماتم إدراجه تحت خانة مصطلح الأدب هو الذي يحدد ملامح الأديب وشخصيته وإنسانيته .. وتاريخه وواقعه .. فالأديب غير منعزل عن كل الأحداث والوقائع التي يشهدها مجتمعه والتي شهدها من قبل ،بل هو متفاعل وفاعل ومنفعل ، لأنه يحاول جاهدا التأثير على نفسية القارئ وأحاسيسه.. بأسلوب متميز بليغ فصيح متمكن وراقٍ ..
”كم من الناس عاشوا وماتوا دون أنْ يشعر بهم أحد، وكذلك كم من النماذج الأدبية أصبح هشيماً تدروه الرياح أو قُلْ أصبح هباءً، لأنه لا يحمل الصفات التي تبقي عليه فضلاً عن تلك التي ترفعه شامخاً في الوجود البشري كالطود الراسخ“ -1
الأديب هو الذي يجعلك تتأثر معه بكل كلمة،مستمتعا بكتاباته ، متذوقا لضروب الفن والإبداع ، متجاوبا مع إدراكاته وقناعاته .
الأديب هو الذي يجعل النص الأدبي زاخرا بالقيم الفنية والجمالية والإبداعية والإنسانية ..
هو القادر على إعطاء نفس مختلف لكتاباته ، مما يتيح لها الاستمرار والبقاء ، بل الخلود ..
إنها الروح التي يستمدها من سعيه نحو الحقيقة .. وإخلاصه لفنه .. وللواجب الإنساني
أولا وأخيرا ..
إذا أردت أن تعرف من هو الأديب ، لما وجدت أجمع ولا أدقّ في معناه منْ أنْ تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط“-2- ..
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
-1شوقي ضيف، في النقد الأدبي. القاهرة. دار المعارف. ط 6. 1981. ص 184-
-2-مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم. ج3. ص 214