إحك يا شهرزاد
أخبرني خلي أنه:
حضر إلى المركز في ساعة متأخرة من الليل، لا ليشتكي على أحد أو الإبلاغ عن ضرر لحق به، بل كل ماكان يرغب فيه هو المغادرة إلى وطنه..
بعد التدقيق في وثائقه تبين أن ليس عليه قيد يحول دون رغبته، وماعليه سوى التوجه إلى المطار ويسافر حيثما شاء ومتى أراد..
إلا أن الرجل أصر أن يظل في المركز لحين إتمام إجراءات سفره، متمسكا بالمكتب رافضا الخروج منه، لذلك تم الاتصال برب عمله واخباره بالأمر، وحضر هذا الأخير على الفور، وبحوزته تذكرة المغادرة وكل الحقوق والمستحقات حسب العقد المبرم بينهما، إضافة إلى مكافأة منه إليه وأن لامانع لديه ليظل في عمله إن عذل عن رأيه، أو العودة بعد فترة إجازة قصيرة، لكن الأخير أصر على الرحيل نهائيا دون أن يبدي أي تراجع عن قراره،
وبإلحاح منهم عن سبب اتخاذه هذا الموقف، تردد في الكلام أول الأمر، ثم نظر إلى النافذة بإمعان متوجسا من شيء، وقال بصوت خافت مرتجف أقرب إلى الهمس :
- خايف خايف أنا خايف......ياجماعة الخير.
والتزم الصمت، ممسكا رأسه بكلتا بيديه والدمع ينهمر من عينيه بغزارة..
وبناء على رغبته، وقع على إقرارمنه كونه استلم كل مستحقاته، وحرر محضر شكلي بأقواله، وحيث أنه لم يتبق على موعد مغادرته سوى ساعات قليلة، تم اصطحابه إلى المطار... وما إن أقلعت الطائرة في الأجواء، حتى استند على الأريكة بارتياح، كأنه تخلص من عبئ ثقيل أرهقه كثيرا منذ سنين، محدثا نفسه قائلا :
آه... كم أنا مشتاق إلى وطني,,, حلق أيها الصقر الجامح ..إرحل بعيدا بعيدا عاليا فوق السحاب ..امتطي صهوة الرياح.. إخفق بجناحيك عاليا فوق هذي القباب، نحو المدى وفوق السراب .. بعيداعن الهياكل والجماجم وأطياف الضباب، من ترفض السبات في قعر البحار أو تحت التراب....
فتح الستار ليلقي نظرة الوداع من النافذة، عله ينسى برهة ما كان يؤرقه وكاد يصيبه بالجنون, بدا له البحر كالسماء، والأهازيج العتيقة مازال يرتد صداها عبر نسيم الأثير ... فكم هيج الشوق ذكراه للأهل والأحبة والوطن ..
تذكر الليل البهيم والمطر الغزير ،.حين تمرد البرق على سطوة السماء، موقدا لهيب الرهبة في المكان الموحش... إعصار هز أركان الأكواخ المعششة بالحزن مذ أمد بعيد، أيقظه من غفوته،أدكى شعور الوحدة والغربة والرهبة في فؤاده..
كانت عاصفة هوجاء دمرت مسكنه الخشبي وتركته في العراء ,,لاوجود لأي مكان يأوي إليه، أو مرتفع يعصمه من الماء، لولا أن اهتدى إلى مدخل كوخ بين الصخور، لجأ إليه بصعوبة زحفا بين الأحراش، مستعينا بضوء يومض من منارة بعيدة وسط البحر...
كان الكهف شاسعا .. دافئا وهادئا، كأنه يحظى بعناية من المجهول، استند على الجدار ونام قليلا، وحين استيقظ تقدم إلى الداخل وجد صندوقا خشبيا محكم الأغلاق، أماط عنه الغبار وهم بفتحه، لكنه توهم أصواتا قوية تعالت من عمق الكهف ...
كان الصندوق مليئا بالصور لأناس من كافة الأعمار، أمعن النظر في بعض الملامح والوجوه، وخالجه الشك أنه صادف بعضا منهم في مكان أو زمان ما... وبعد أن هدأت العاصفة وانقشع ضوء الصباح ، غادر الكوخ إلى مسكنه الخشبي المدمر، وجلس بين ركامه يفكر في أهله وذويه وأقرب الناس إليه، لذلك انتابه اكتئاب شديد دفعه لاتخاذ قرار الرحيل إلى بلده ..
وماهي إلا لحظات حطت الطائرة وغادر الجميع نحو بوابة الخروج ...لم يسأله أحد عن جواز سفره كباقي المسافرين، لم يعبأ الحراس بمروره أمام أعنهم .. .. وقف أمام مرآة كبيرة منتصبة على واجهة محل تجاري ليرى نفسه، فلم تكن تعكس سوى من هم يمرون بجانبه....
في حين كانت كل الصور التي في الصندوق قد غادرت تباعا نحو أوطانها لصلة الرحم، دونما تذكرة أو وثائق سفر.
رن هاتفه النقال وتوقف عن الكلام واضعا السماعة في أذنه وغادر وهو يردد:
ياخوي ماحلا الخشب لو لزة السيف...
ومازالت شهرزاد تنتظر الجواب