إحكي يا شهرزاد
أخبرني خلي أنه:
رفع بصره ليتأكد من وجود من كان يحدثه، انتابه إحساس كأنه استيقظ من إغفاءة سهد عميق بعد رحلة بحث طويلة ... أغلق الحاسوب، وألقى ما بيديه من أوراق وأقلام، وغادر المكتب متجها إلى مسكنه تحت جنح الظلام. قطرات من زخات المطر وكأنها تهسهس تراتيل الزمن الأخير، على جنبات الممر الأخضر الضيق المعبد بالأحجار الكريمة المستطيلة البيضاء، تلمع صفائحها البراقة عاكسة لون الانارة الخافت باتجاه المجمع السكني لمنتسبي القوة، مارا بجانب نادي الأفراد، ملقيا نظرة سريعة على النافذة..
كان الجميع منشغلين بمتابعة التلفاز، لا وجود لأي حرس في مدخل البوابة الرئيسي، وكذا مكتب الأحوال، الدوريات المتحركة تبدو شبه ثابتة، كأن المدينة في سبات عميق تحت رحمة هذا الجو المضطرب المظلم، والرياح القوية تجوب الأزقة والدروب الفارغة...
كم كان يمقت عمل الليل، يشمئز من معاينة الحوادث في أماكن مهجورة مقفرة، وطالما توجس من تواجده فيها مجبرا في كثير من الأحيان....
لكن في صباح اليوم التالي، وردته مكالمة هاتفية من رئيسه المباشر، يطلب منه الحضور فورا إلى مكتبه بسبب البلبلة التي أثارها ليلا من حيث لايدري، مما أقدمت عليه أنامله على كتابته وبثه على الحاسوب المتصل بأجهزة أخرى، تتلقى مباشرة كل ما يحرر في حينه، ولا يمكن إلغاء أو تعديل أو تصحيح ماينسخ فيها، ولا يمكن العذول أو التراجع عما حرر إلا بمبرر مقنع، وبالتالي بأمر من القيادة العامة ...
إلا أن الرجل لم يستوعب الموضوع، علما أنه من المحترفين القلائل من تسند إليهم أخطر القضايا وأعقدها لكفاءته، كما أنه ليس بحديث العهد في وظيفته، بل من أقدم المحققين وذوي الخبرة الواسعة، مكنته تجربته الطويلة من تقليد منصب هام في قسمه، وليس من الهين أن يسقط في خطإ فادح يقضي على جميع منجزاته كل هذه العقود، ولم يتبق على موعد إحالته على التقاعد سوى أياما قليلة، لكن بالرغم من محاولة مسؤوله المباشر معالجة الأمر، إلا أن برقية مستعجلة صادرة بشأنه تأمر بإحالته إلى التحقيق، كون البلاغ الذي حرره متعلق بقضية جنائية من الدرجة الأولى، والمتهم المدلي بأقواله فيها أخلي سبيله من طرفه، قدغادر المقر ولم يتحفظ عليه كما هو متبع حسب الأصول...
وعلى إثر التقرير المرفوع بشأن الاحالة، أوقف المحقق احتياطيا لغاية النظر في الموضوع من طرف النائب العام..الذي جاءت مقرراته كالتالي:
_ 1- تطلب تحريات الشرطة حول الواقعة ...
2- تحال الأوراق التحقيقية للمختبر الجنائي لإجراء اللازم
3-ضبط وإحضار المتهم المذكور في البلاغ رقم/ ....
كاد المحقق في محبسه أن يصاب بالجنون من شدة التفكير، حاول التذكر ولم يستحضر أي شيء مما جرى في تلك الليلة المشؤومة، وكل ما يذكره أن السهد داعب عينيه قليلا واستسلم هنيهة للنوم على مكتبه من شدة التعب، ثم غادر إلى مسكنه، لا يدري ما وقع أثناء تلك الغفوة، سوى الكابوس المزعج الذي أيقظه دون إنذار...
حين تم إحضاره إلى مكتب المباحث تنفيذا لأمر النيابة العامة،ولاعتبارات خاصة، لم يسأله أحد عن أي شيء، بل كان التعامل معه زميلا ومايزال، فرض احترام الجميع له لتواضعه وحسن معاملته، كل ما طلب منه، أن يجلس في مكتب التحقيق، وأحضر له فنجان قهوة، ليطلع بمفرده على البلاغ الذي خطه بنفسه، وكل الأوراق التحقيقية ذات الصلة،أغلق باب المكتب وترك بكامل حريته ليقرر بنفسه:
كان متلهفا لقراءة مااتهم بكتابته، كونه يعرف أسلوبه جيدا، يعلم متى يضع النقطة والفاصلة والقاطعة، يعرف تماما متى يسأل وكيف يسأل ويستفهم ويستنكر في صيغة السؤال، يدرك كيف وأين يوقع المتذاكي في شرك التناقض، أسلوب المقدمة لديه تختلف دباجتها عن كل زملائه، كان متيقنا أن الموضوع برمته مجرد خطأ أو سوء فهم، يجب تصحيحه، يتوجب الآن عليه إعادة الاعتبار لنفسه أمام الجميع، ثم شرع في القراءة بدءا من أول السطر، متلهفا للحروف والكلمات، يسردها بنهم.. وكان البلاغ المسند إليه كالتالي :
بمناسبة وجود المتهم في تمام الساعة الثانية والنصف صباحا، حيث أنه حضر إلينا بإرادته، وبكامل قواه العقلية، مدركا لأقواله وأفعاله، للإبلاغ عن نفسه، والمدعو/..... يبلغ من العمر 24 سنة، مواطن الجنسية، محل إقامته في... وبأمر من النقيب / ... فتح المحضر في ساعته وتاريخة:
ما هو موضوع بلاغك ؟
أنا مجرم ؟
وماذا ارتكبت من جرم ؟
أنا قاتل.. قاتل.. قاتل؟
من قتلت؟
قتلت أمي وجدتي وخواتي اثنتين، وبنت أختي الصغيرة؟
لماذا؟
كنت مضيع يومها، مخمور ومتعاطي لحبوب؟
إشرح لنا بالتفصيل ماذا حدث؟
أناإنسان مدمن مخدرات، لكن يوم اكون صاحي أوصل اهلي بالسيارة لمشاويرهم الخاصة..
فيوم من الأيام، رحت أوصلهم يزورون عمي فديرة خارج لبلاد عن طريق البر، دسيت مع الاغراض فالدبا بطول خمر و حبوب مخدرة...
ونحن فالطريق، صار بيني وبين أمي سوء تفاهم...
ماسبب سوء التفاهم ؟
قالت لي: ياولدي رفقانقك فالفريج كلهم قاريين أو تجار كبار، وانت صايع ضايع ما طعت تخوز عن الحرام.. يلعن اليوم اللي ربيتك فيه..
قلت لها : مالك خص فيني، أنا حر وياريتك ماربيتيني
قالت: بنات عمك، وبنات خوالك ولا وحدة منهن تباك، وأهلهم مايقدرن يغامرو ويعطونك وحدة من بناتهن، انت ياولدي إنسان سكير وعاطل عن العمل، دليتنا ومسحت راسنا بالأرض...
بلعت أربع حبات زيادة من القهر، وحسيت كأن النار شبت فقلبي،
وقلت لها: ولحين ياما شوتبيني أسوي، تراني دورت عن عمل وكلهم يرفضوني، ويقولون لي أنت صاحب سوابق، مليت من كثر الحواطة فالشركات، تراني ندليت أكثر من اللازم..
قالت : ياريتك مت وبنت عمك اللي كنت طمعان فيها الأسبوع الجاي أنت معزوم لعرسها ...هي دكتورة وأنت ياولدي جاهل وردي ومايستوي ...
قلت: أنا؟ أنا جاهل وردي ؟
قالت : بلا
مادريت كيف سحبت المسدس من تحت السيت، واطخها... وقفت موتوري والبنات يصارخن.. العجوز ماتكلمت.. كانت مفزوعة.. نزلت من السيارة ماسك المسدس فديني.. وسحبت البوطل من الدبا وشربت الباقي... كل اللي فكرت فيه وقتها ان البنات يوم يوصلون البيت يبلغون عني.. فتحت باب السيارة الخلفي ..واطخ خواتي ثنتين... والصغيرة تقولي وهي تترجاني:
-"ليش ياخالي ليش؟؟ حرام عليك".. واقتلها وهي مغمضة عيونها بكفها.. عقب طالعت لعجوز وهي تقول: بتعذب روحك ياولدي بيدينك.. نحن بنرتاح وانت لا.. وقالت:
اشهد أن لاإله إلا الله عفوك يارب .. ولقات هي بعد نفس المصير
ساد الصمت قليلا ثم سألته أن يكمل أقواله:
-دفنتهم بين نخلتين ما في غيرهم فالمكان، قريب من عزبة الناجي...
وماذا فعلت بعد ذلك؟
شربت مزيد من الخمر والمخدرات، اخترب موتوري فالبر.. وغرزت تواير السيارة قريب من فريج .../ وبقيت هناك إلى اليوم...
أنت متهم ب/ ......فما قولك؟
بلا
هل لديك أقوال أخرى ؟
لا
تليت عليه أقواله ووقع عليها باصما بإبهامه معترفا ومقرا بما نسب إليه
كان من أسندت لهم متابعة الموضوع يراقبون عبر شاشة المراقبة المثبة في مكتب التحقيق، الرجل كيف كان يتعامل مع البلاغ الذي اتهم بتحريره، لكنهم فوجؤوا به حين أسند رأسه على المكتب بعد أن أنهى القراءة، وانخرط في بكاء مرير، بعد لحظات استدعي ليدلي برأيه حول الموضوع، ويطلع بنفسه على التقرير المرفوع بشأنه إلى النائب العام، لكن كل ما قاله ولم يزد عليه:
_ -كنت ياسيدي شاهدا على كل ماحدث بالتفصيل، ولست فقط محررا للبلاغ، لقد تذكرت الطفلة وهي تغمض عيناها بكفيها الصغيرتين وكانت ترجوه أن لايقدم على تصفيتها كانت تتوق للحياة، لكنها تلقت رصاصة القتل والغدر.. هذا ما أبكاني سيدي ...
كان الأمر يقضي: عدم مغادرة المتهم سكن الأفراد لأي سبب كان لحين انتهاء التحقيق، ولتلك الأسباب تم التحرك إلى الأماكن المذكورة في البلاغ للتأكد من صحة الحادث أو من عدمه، وكانت النتيجة أنهم وجدوا جثث الضحايا مدفونة في نفس المكان المشار إليه، والتي تعود إلى الفتيات الثلاث والأم والجدة، وبانتقالهم إلى مكان السيارة، تم العثور بداخلها على جثة الجاني متحللة جدا، وبحوزته المسدس الذي استعمله في تنفيذ جريمته، نقلت الجثامين كلها إلى الطب الشرعي
ولهذه الأسباب أتت مقررات النيابة كالتالي:
1-الإفراج عن المحقق دون قيد أو شرط
2-تسليم جثث الضحايا إلى ذويهم والتصريح بالدفن بعد إجراء اللازم
3-مصادرة المسدس نوع/...عيار.. وإيفائنا إن كان مسجلا تحت رقم تابع لأحدى مخازن القطع المسلحة..
4-يتم حفظ البلاغ كون الجاني وجد متوفيا في سيارته بسبب تعاطي جرعة زائدة من مادة مخدرة..حسب تقرير الطبيب الشرعي...
بعد هذه الشروحات التي تم تنفيذها في حينه، كان المحقق قد طلب إجازة اضطارية بسبب حالته النفسية السيئة جدا، لكن أثناء مغادرته الدولة متجها إلى بلده عن طريق المطار الدولي ..
ترد برقية من الشؤون الذاتية بشأنه إلى المكتب تفيد تاريخ إحالته على التقاعد/,,,
لتتزامن مع برقية أخرى صادرة من المختبر العلمي تؤكد صحة توقيع المتهم في البلاغ رقم .../ مما يِفيد تواجده بالمكتب في ساعته وتاريخه أثناء الإدلاء بأقواله...
رن هاتفه النقال صادحا:
ياجبال الريف علاش تكذبي وتباني قدامي فرحانة
واتجه إلى سيارته وهو يردد رنة الهاتف
كان بودي أن أسأله كيف...؟
لكني عرفت الجواب منه مسبقا
حين أشار بيده كعاته، بعدين بعدين باحاكيك دلحين مستعجل ياخلي؟؟؟؟
ومازات شهرزاد تنتظر الجواب