أين أضع الحذاء
كان أبي يسافر للقدس مرارا لزيارة عمتي ويحبّ أن أرافقه لأنّي صغيره الوحيد ويتأبط جريدة يوميّة ليتصفّحها عبر الطريق البري الطويل، كانت تعجبني لفة شماغه التي تدلّ على العزّة والإباء، عندما نصل للجسر الفاصل بين فلسطين والأردن يأخذ الجندي اليهودي بالتفتيش ويأمر أبي أن يخلع شماغه عن رأسه أولا، ليضعها في قفة التفتيش ثمّ يأمره بخلع حذائه ليضعه فوق الشماغ، حاول أبي مرّة أن يضع الحذاء أولا ثمّ الشماغ، فنهاه الجندي: ممنوع، هيك لازم!
سأله بمكر: أنت، يا عربي، إيش أخبار جريدتك؟
فيردّ أبي باعتزاز: ثورات وانتفاضات وعمليات فدائية، وبدنا نحرر فلسطين، رح يجي يوم ما يكون في تفتيش ولا معابر ولا جسور، ويصير وطن عربي حرّ واحد.
مرت السنون وفي كلّ زيارة للقدس الشريف يصرّ الجندي أن يكون الحذاء فوق الشماغ، وكنت ألحظ مسحة الذلّ على وجه أبي.
أوصاني أبي قبل موته "لمّا تزور القدس البس شماغي ولا تتفرنج بالطاقية هاد سبرنا وما تتركوا عاداتنا"، أخذتني مشاغل الحياة ولم أزر القدس من سنوات بعيدة.
اتصل بي ابن عمتي منذ سنة "تعال نتفاهم لنبيع ميراث جدنا من أراضي القدس بملايين الدولارات".
سافرت للقدس الشريف ومعي أصغر أبنائي ولبست شماغ أبي وحملت جريدة كي أتصفحها، وفي الطريق نازعتني الأفكار، نفسي تميل للبيع لأنّ ضيق ذات اليد يكاد يخنقني وعقلي يرفض البيع تمسكا بإرث الأجداد ولأني لا أعرف لمن ستباع الأرض؟ وصلت الجسر، آليّة التفتيش قد تغيّرت واستبدلت السلال البلاستيكية بالقفة فوق شريط إلكتروني، تصفّح الجندي تصريحي وقال بمكر: لازم توافق على طلب قريبك، هط خبيبي شماغك في سلة والكندرة في الثانية، استدرك هازئا: الشماغ خربان ارميه بالزبالة، أنا كتير مبسوط من أخبار جريدتك اللي بتنزف دم، ما في وطن عربي واحد، قطّعناكم خبيبي بإيديكم.
طأطأتُ رأسي ذلا لنزف أمتي من بين سطور جريدتي، وابني الصغير مستكين في عينيه دمعة وبيده حجر، ورفعت حذائي ولم أدرِ أين أضعه!!!
من كتاب المجموعة القصصية "في المرايا بقايا رجل"
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|