[align=justify]عزيزي الأستاذ رأفت العزي.. سرني أن أستمع منك إلى هذه المداخلة الجامعة حول عدد من المسائل التاريخية التي تريد بنتيجتها أن تتبين التمييز بين اﻷساطير وبين اﻷحداث الحقيقية انطلاقا من رواية قدموس الذي أطلق حرف اﻷبجدية إلى العالم. ويبدو أن العالم يعرف قدموس على أنه ابتكر الأبجدية وعلمها لشعب اﻹغريق ، وﻻ يعرف التفاصيل ..مع ما لقصة قدموس من مادة مشوقة سواء كانت حقيقية أو مبالغ فيها والمهم أيضا أنها متى نشرت مفصلة ، فإن فيها العديد من المعلومات التي ربما تكون خافية على الكثير من المؤرخين فيما يتعلق بفينقيا وأوروبا وغيرها. وقصة قدموس تفتح فعليا بابا باتجاه عالم اﻷساطير والروايات. وليس قدموس وحده هو من ارتبطت قصته باﻷسطورة ..وإنما هناك العديد من الحكايات المبالغ فيها والتي تم ابتكارها.. ومع مرور الزمن أصبحت من التراث الشعبي وكادت تصبح حقيقة في وجدان الشعوب. وما تركه لنا اﻷقدمون من إنجازات علمية وأدبية وغيرها ، إنما أحرقت أو أتلفت أو نهبت وانتقلت إلى بلدان أجنبية ..وهناك تمت ترجمتها بما يتناسب مع توجهات الغرب.. ونحن أخذنا اﻹنجازات العربية والإسلامية- للأسف الشديد من مصادر غربية، دون أن يكون لنا فيها أي دور أو تأثير ، ﻷننا نجهل حقيقة مضامينها وأهمية غثها من سمينها..
وللأسف أيضاً ، فإن الغرب استطاع أن يتلاعب بتاريخنا وتراثنا بشكل كبير ، وخصوصاً عندما تدخّل المستشرقون وأخذوا يترجمون كتبنا ومراجعنا ويردوها إلينا وقد عبثت بها أقلامهم وشوهت أو حذفت ماتريد وأضافت ما ترغب. ونحن لجهلنا وغبائنا كنا نصفق لهم ونكرمهم ونعتمد كتبهم كمراجع ومصادر. وكثيراً ما نلاحظ في فترة زمنية سابقة أن كثير من الباحثين والكتاب العرب ذيلوا كتبهم بأسماء مستشرقين وأسماء مؤلفاتهم على أنها مراجع استندوا عليها في تأليف كتبهم.. عزيزي اﻷستاذ رأفت العزي.. ماحدث للأمة العربية اﻹسلامية من استلاب معرفي وعلمي، جعل الغرب يستفيد من تراثنا المجهول لدينا والمعلوم لدى الغرب الذي حاول بكل جهد اتلاف تراثنا العلمي والثقافي أو تشويهه ..أو اﻹستفادة منه بعد أن ينسبونه لعلمائهم. ومن الطبيعي يا عزيزي أن ليس جميع المسشرقين كانوا على نمط هؤﻻء. ﻷن بعضهم اﻵخر عمل لصالح العرب والمسلمين.. ومما يؤسف له- يا استاذ رأفت - أننا لم نمتثل ﻷوامر الله تعالى عندما قال لنا في اﻵية 20 من سورة العنكبوت " قل سيروا في اﻷرض فانظروا كيف بدأ الخلق " والذي سار في اﻷرض أي بحث واستكشف هم علماء الغرب وليس علماؤنا..ونحن نأخذ عنهم ونؤكد على صحة كلامهم دون تحفظ . ومنها مسألة نشوء الكون والتي دعانا الله تعالى لنسير في طلب العلم وننظر كيف بدأ الخلق. ونحن نلاحظ أن الغرب أصبح مصدر العلم واﻹكتشاف والبحث واﻹبتكار والتصنيع ..ونحن المنتظرون لما ينتجه لنا حتى نكون المستهلكين . نعم يا أستاذ رأفت.. الغرب كما قلت ، استنطق الحجر و فك رموز لغاتنا السامية وكشف عن حضارتنا وتراثنا ..وأخذ ما أخذ من علوم وتراث وحتى أساطير وروايات ونسبها لنفسه.
واﻵن انتقل بك الى سؤالك حول التمييز بين قصص تراثنا الحضاري وبين القصص الشعبية التي أثرت الشكوك حول واضعيها.. اسمح لي هنا أن أقول بأن التراث العربي مترع دون سواه بالقصص واﻷساطير الناتجة عن الفتوحات اﻹسلامية وعن انتشار التجار المسلمين في سواحل المحيط الهندي وهذا اﻹبحار جعل الخيل يفصح عن الكثير من الروايات والقصص واﻷساطير التي دخلت في جعبة التراث العربي.ومنها مثلاً رحلات ابن بطوطة والسندباد البحري وحي بن يقظان وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وغيرها.. وهذه الروايات لماذا تصلنا كما وضعت في السابق وإنما جرى تحريف الكثير من فقراتها وإجراء التعديلات على بعضها وفق توجهات الكتبة وانتماءاتهم. وعندما يعاد طبع هذه الروايات يجري فيها التغيير اللازم ..ومنها مثلاً حكايات ألف ليل وليلة وقد صدرت منها طبعات فيها بذيء الوصف والكلام والتصرفات التي نسبت على سبيل المثال إلى الخليفة هارون الرشيد ﻹضعاف شخصيته كخليفة للمسلمين. ومن الطبيعي أن يستفيد الغرب من هذه الأساطير فيقتبس منها، كما حدث في رواية حي بن يقظان التي ظهرت نسختها اﻷجنبية باسم " روبنسون كروزو ".
[/align]