رد: (( أنا والليل ))
من حلم مزعج لكابوس مرعب !
أطلّ من احدى الأبواب الزجاجية على الشرفة وبدت المدينة كلها غارقة في الظلام
ولا حتى ضوء شمعة واحدة لا في الشوارع ولا البيوت ولا حتى الميناء البحري الذي لا يبعد
عن بيته سوى عشرات الأمتار .. كل شيء بدا عتما باستثناء ضوء المنارة القديمة ولمعان البرق المخيف
وفي مثل هذا الجو العاصف اعتادت السفن الراسية في ذلك الميناء الصغير الهرب إلى عرض
البحر خوفا من الغرق ، وأما مراكب الصيادين الصغيرة فالموت كان مصيرها بعدما آلت إلى
حطام متناثر سينبئ بأخبارها طلوع النهار وسوف تتصدر أخبارها شاشات التلفزة
وصورها صحف اليوم التالي !
استدار ليبحث عن علبة سجائره التي يلقيها بعيدا عن متناول يده، وتُلحُ عليه نفسه
بإشعال واحدة وتدفعه إليها دفعا كأنه سجين محروم ، كان قد نوى قبل أيام الإقلاع عن
التدخين وصار لأجل ذلك يرمي علبتها في أماكن مختلفة ؛ إذ كان عليه أولا الإقلاع عن
عادة تناول السيجارة ، فهي برأيه أخطر من التدخين نفسه ! ولكن ، ها هو الآن يقبلها
بشغف بعدما تحققت غايته ووجد ضالته .
خرج إلى الشرفة وبصعوبة أقفل الباب خلفه معاندا قوة الريح واتجه نحو إحدى زواياها
التي اعتادت على انفاسه. من تلك الشرفة اعتاد على رؤية الجهات الأربع تمتد على مدى النظر؛
فمنزله هو الأعلى من جميع المنازل في البلدة القديمة ، ويتمتع بسكن يُحسد عليه لكنه كان
وعائلته يدفعون ثمن ذلك 131 درجة يصعدونها يوميا أكثر من مرتين !
فإلى الشرق كان يمتد النظر من جنوبه إلى شماله سلسلة الجبال الشاهقة التي تبدأ من الجنوب الشرقي
بجبل عامل حتى جبال الباروك شمالا .. وإن أجمل ما في هذا المدى شروق الشمس من أفق الجبال
البعيدة وتسلل القمر في الليالي الساكنة تزداد روعته عندما يكون بدرا ينير الدنيا ويتوارى خلف الغيوم
البيضاء المُهابة حينما يخشى الحسد .
وفي الغرب يرى البحر على اتساع الشعاع والأفق البعيد ، السفن العابرة والراسية وأشرعة
مراكب الفقراء الذين يبحرون ليلا ويأتون بصيدهم مع نسائم الصباح يعرضون أسماكهم في مزاد
علني يتحكم فيه بعض السماسرة ؛فميناء المدينة في متناول يده، وصرخة " الدّللاّل " كانت
تُسمع باكرا فينزل بسرعة قدميه من أجل مشاهدة الأسماك الطازجة المختلفة وإن تيسر له يشتري
من تلك التي لا يقترب إليها الأغنياء ففي معظم دول العالم السمك للفقراء إلا في هذا البلد العجيب !
اما لجهة الشمال فكان يرى رأس بيروت الناتئ في وضح النهار بأبراجها الأنيقة فهي لا تبعد
عن مدينته أكثر من 45 كلم يربطها طريق ساحلي جميل لا تملّ وعينيك لا تفارق النظر منها
إلى زرقة الماء ؛ وإلى الجنوب، كان يرى رأس بلدة " عدلون أوسع رقعة جغرافية في كل الساحل اللبناني
مغطاة ببساتين الحمضيات التي كانت تغزو أسواق أوروبا قبل أن يغزوها مال النفط ويجعلها خراب
ويتوجه الأوروبيون إلى استيراد حمضيات فلسطين المحتلة أي الحمضيات الإسرائيلية !
خرج في هذا الجو العاصف إلى تلك الشرفة وكان من المفترض أن تحميه ستارتها القديمة قليلا ،
لكنها في تلك اللحظة بدت شللا متطايرة بفعل العواصف وسرعة رياحها فلاذْ في تلك الزاوية ما
استطاع حاجبا رذاذ المطر عن سيجارته واضعا يده تحت الغطاء حتى لا تبددها الريح قبل رئتاه ؛
فهذا الشتاء لم ير مثله في حياته كلها ، ولم يحدث ذلك المطر منذ ثمانية عقود " كما قال علماء
الأرصاد وتلك الليلة ؛ كانت قمة ذلك الفصل ، فالعاصفة الهوجاء متواصلة ، و الأمطار لم تتوقف
منذ خمسة أيام كان يتخللها تساقط حبّات البرّد بشكل مخيف ويوم البارحة من تلك الليلة ، كان
سكان المدينة يبحثون عن اسم جديد " لحبات البرد " المتساقطة !
لم يروا - حتى المسنين منهم - مثلا لها من قبل على الاطلاق ، فحبات البرد كما تعرفها الناس
كروية الشكل أما ما شاهدوه فكان شيئا مذهلا ؛ لا أحد يصدق أنها نزلت من السماء!!
بدت وكأن حجرا ضخما قد سقط على وجه بحيرة سطحها من الجليد السميك فحطمه وجعله
قطعا متكسرة بأشكال مختلفة مثيرة ،تخيل الناس أن وجه البحيرة انقلب وصار فوق المدينة
ثم القت بسطحها تلك القطع على دفعات كأنها ترمي الواح الزجاج الشفاف السميك ما أن
تصل إلى الأرض حتى تتهشم وتتناثر وتبدو بحجم كف اليد أو لوح الصبار ؛ فالمدينة
قد نُكبت بسيارتها وبعض واجهات محلاتها ، وتكسرت الأشجار في بساتينها واقتلعت
أعمدة الكهرباء من اماكنها وأعادنا ذلك المشهد إلى حطام الحروب المختلفة التي حدثت
في حروب الأخوة وعدوان العدو الإسرائيلي .. لقد كانت كارثة حقيقية !
سيدتي عروبة أهلا بك في أي وقت وشكرا لك
|