رد: (( أنا والليل ))
كانت الغيوم مستمرة بالتصادم في صراع مكونات الطبيعة في الاحتكاك والتجاذب ، وبرقها المتوالي
وأصوات الرعود كانت تختلط مع أصوات أمواج البحر الجبّارة المتلاطمة في صراعها الذاتي
الذي لا ينتهي ، كلما اصطدمت موجة " بالسنسول " البحري وتكسرت تتراجع بارتداد
هائل لتعود إلى الوراء فتتلاطم مع موجة جديدة قادمة تأخذ زخمها وتضربها من الأسفل
فتعلو لسبعة عشرة أمتار ثم تهبط مزلزلة ذلك السنسول الذي قام ببنائه قوم جُهّال فوق
اثار تاريخية تعود إلى أزمنة فينيقيا وروما ، هي عبارة عن أعمدة من الجرانيت والصخور
البركانية المتداخلة مع صخور رملية قوية التماسك ؛كان المشرفون على البناء قد اخفوها
تماما أو أخفوا سرقتهم لها لا ندري !.. فالأمواج على ما بدا قد أتت لتنتقم بعد أقل من عشر سنوات
من بناءه فاقتلعت الإسمنت المُسلح وقذفت بكُتَلِه بعيدا وسط الطريق البحري في فوضى عجيبة
فتحت أعين الناس على فساد المجلس البلدي للمدينة !
في هذا الجو الدرامي شعر بالخوف عندما أخذت الرياح تُقتلع أيضا بعض ألواح الصفيح من بعض
الأسطح وتتطاير في الفضاء كما الأوراق مندفعة في كل اتجاه وتتساقط بعنف محدثة ضجيج على ضجيج ،
فالكثير من البيوت العلوية في هذه المدينة البسيطة تصنع على أسطحها خِيَماً أسقفها من ألواح الصفيح
وتقوم بطلائه لتبدو كألواح القرميد ، وها هو الآن يتطاير ويحمل معه حتى أعمدتها الخشبية وجسورها العرضية !
ربما ما كان يجري ، قد أراح صاحبنا قليلا من ثقل حلمه الضاغط حتى جاء صوت مؤذن الصبح
بصوته الخاف المتقطع بالرغم من قرب مأذنة الجامع إلى بيته الذي يرتفع فوق مستواها ببضع
امتار قليلة ، فالمخالفات العمرانية نشُطت في زمن الحرب وأضيفت طبقتين أو ثلاثة فوق المباني
القديمة فصارت مآذن المساجد أدنى من مستوى العمائر !
آثر الدخول إلى غرفته وهو يلملم أذيال غطاءه الفضفاض والذي ابتلت اطرافه ؛ ومن خلف زجاج
إحدى النوافذ واصل مشاهدة تلك المعزوفة الصاخبة والتأمل في هياج الطبيعة .
قال : " عادة ما يشعر بسعادة غامرة عندما تمطر ،ويفعل أحيانا كما الأطفال فيسلّم وجهه
لوجه الريح يداعبه برشقات من رذاذ الماء حتى يغطي كل وجهه ؛ كان ذلك يُشعره بسعادة غامرة
لكنه في تلك اللحظة تذكر تاريخ المرة الأولى التي أحس فيها برذاذ المطر يلسع وجهه ،
وكيف اجبره ذلك على إقفال عينيه ، كان يريد مسحهما ولا يستطيع، فيديه كانتا مجزورتين إلى
جنبيه بقوة . تذكر كيف كان يمد لسنه ويلعق تلك القطرات التي تتجمع حول شفتيه ليبلل ريقه
بعد الذي حدث ليلتها !
منذ ذاك اليوم وهو يُحب طعم مياه المطر ؛ تذكر هذا جيدا ولا يمكن للزمن محوه من ذاكرته
برغم عشرات السنين على تلك الليلة فأدمعت عينيه بقوة ، فرذاذ الماء الذي كان يغطي وجهه
و يُشعره بالسعادة ، صار الليلة سببا جعلت عينية تسكبان على وجنتيه جداول صارت شلالا يجري
أسفل ذقنه ؛عاد به الزمن إلى تلك الليلة الشتوية ، كان الثلج يغطي أسطح مدينته - مسقط رأسه - في حدث نادر.
- وتسألني ؟ !!
فمن هو الذي لا يعرف مدينتي من العالمين أيها الصديق ؛ إنها حيفا.
فأنا أعجز عن وصفها لافتتاني بها ، ولكن سأروي لك قصة تلك الليلة "
اشعل سيجارته الرابعة ، أو الخامسة ، ودخانها كان يتلاعب في فضاء غرفة المطبخ فتبدو اشكاله
ساحرة كلما لمع البرق واخترق الضوء جدار الليل فكسر عتمته بضوء شمعة ، صنع لنفسه القهوة ،
جلس يلملم بعضه ثم تناول ورقة وقلم بعدما جلس إلى طاولة الطعام وسأل نفسه:
من أين أبدأ ؟!
|