صرت شجاعا !!
- ابتعد أكثر .. ابتعد قليلا بعد..! ها أنا واقفة هنا ، لا تخف !
- لا أستطيع فعل هذا هنا ، أنا خائف تماما ، هناك شيء يمشي بين العشب ، أقسم أنني رأيته ..
لا ، لا، تعالي وقفي إلى جانبي !
- يجب أن تتعود ، صرت كبيرا بما فيه الكفاية لتفعل ذلك وحدك، ولتفعله ها هنا أتفهم ؟!
- لا ،أنا لا أفهم ..!فلماذا إذن لم تأتي اختي معي ولتفعل ذلك إلى جانبي، نفعله سويا فقد كبرت هي الأخرى !
- ولأنها كبرت، فهي تفعل ذلك هناك، وحدها .. فلو رآك أحد ما ، لا يهم كثيرا كما لو انه رأى أختك
فمن العيب أن يراها أحد في مثل هذا الوضع !!
- سأحاول ، ولكنني لا أستطيع ، أو وو.. ربما لست بحاجة لئن أفعل أي شيء ، كان عندي إحساس بأنني أريد!
فتبين بأن بطني منفوخة فقط ، خلاص ، انتهيت .. لم افعل شيئا !!
قال : لا تضحك عليّ إن قلت لك من أين أتت ،وكيف بدأت أشعر بشجاعتي أو لأقل بدأت الانتصار على خوفي !
كان الظلام دامسا في تلك الليلة ، و" الباص " الذي كان يقلنا قد توقف ليريحنا ويستريح في مكان لا يبعد عن الحدود
اللبنانية سوى مئات الأمتار . الباص كان مكتظا بالبشر معظمهم من الأطفال والنساء ، حتى السائق كان شخصا هرم .
ما أن توقف حتى حاولوا الفرار كما تفر الطيور من أقفاصها ،لم يبتعدوا عن قفصهم الكبير ذو اللون الأصفر سوى
امتار قليلة لأن وجهتهم مجهولة ، والمكان أيضا بالنسبة لهم مجهول . ما أن ترجلوا حتى افترشوا الأرض وشكلوا
بأجسادهم دائرة ضيقة ، كضيق صدورهم ووجوههم التي بدت منهكة وخائفة.
التعب قد جعلهم لا يأبهون لرطوبة الأعشاب التي تغلغل فيها الندى ولا لبلل الأرض الذي جعلها موحلة ولا لتلك البراري الموحشة .
صاروا يتحدثون همسا. بعضهم كان يصدّق كلام السائق وبعضهم الآخر صار يشكك بمعرفته في الطريق .. !
- " ولكن لماذا الخوف " قال أحدهم . ثم أضاف " طالما أن سيارة اليهود العسكرية تراقبنا من بعيد ولا تتدخل ،
فنحن على الطريق الصحيح ، هم حريصون على التأكد من سلامتنا بالنزوح إلى لبنان وترك فلسطين ..
فاطمأنوا نحن في مسار سليم " !!
الأولاد كانوا في غاية الهدوء، أكبرهم سبع سنوات ، بعضهم قد نام في أحضان أهله ، بعضهم أراد أن يأكل ،
وأنا ( حدثني صاحبي بهزؤ ) أردت قضاء حاجتي فسألتني : نمرة واحد أو أثنان ؟! ثم أخذتني أمي وابتعدت
قليلا بعدما علمت بأن النمرة ليست واحد كما كانت قد علمني قول ذلك ! أجلستني في مكان ثم ابتعدت خطوتين
ما لبثتُ حتى اقتربت منها بسرعة .. فقالت ابتعد قليلا .. وكان ما كان !
كانت تلك هي المرة الأولى التي اعرف أن يمكنك قضاء حاجتك في البرية ، لم أعرف ذلك أو أسمع عنه من قبل ،
فحيفا كانت مؤهلة – تقول الدراسات – بأعظم شبكة للصرف الصحي في الشرق الأدنى كله، وكانت النظافة
فيها شيئا مميزا، أما من تلك الليلة وصاعد، عليّ التعود على نمط جديد ، مع مرور الأيام أعتدت عليه ..
وما عدت ألح في أن يكون معي رفيق ولا مرافق ، وما عدت أتخيل أشياء تمشي في العشب ، وأشياء
كنت اتوهمها ستبلعني، وأشياء ستدخل بي وتأكلني من الداخل . صرت شجاعا! لم أعد أخاف عتمة
الليل مهما اشتد سواده، ومهما سمعت من أصوات كانوا يقولون لي انها أصوات ضباع وأصوات خنازير .
لم نلبث إلا قليلا حتى صار السائق الهرم يلملمنا ويتحدث بهمس : " يلا .. بسرعة، العساكر صاروا
يقذفون بقنابل مضيئة حتى يرونا " ما أن صعدنا الباص ومشى عدة أمتار حتى صرخت بأمي :
" اوقفي الباص .. أوقفي الباص " ثم اندفعت صوب الباب الخلفي وحاولت النزول..
فأمسكت امرأة بكتفي كانت قريبة مني وصرخت " الحقي ابنك سوف يفلت من يدي "
توقف السائق وصرخ بدوره : " من وقع ، من وقع ؟!" الجميع ردوا : لا أحد لا أحد ،
الولد يحاول النزول من الباص لأنه يقول فقد شيئا غاليا!"
همست بوجه صديقي الراوي وقلت بماذا شردت .. لماذا توقفت عن الكلام . لم يجبني ولكنني
رأيت الدموع في عينية حينما نظر إلي وقال : " عندما وقف الباص قفزت نحو لا مكان ،
وحينما اصعدوني إليه شعرت بأقدامي تلتصق بالأرض .. تلك اللحظة يا عزيزي، كانت اخر
مرة تطأ فيها قدماي الصغيرتان أرض فلسطين .. كانت تلك آخر مرة التصق فيها تراب
ابائي واجداي بجزء من جسدي . توقف عن الكتابة أرجوك .
|