رد: راهِن العالم الإسلامي - الفصل الأول - محمد توفيق الصواف
قراءة في المعطيات السابقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُبيِّن استقراء جملة المعطيات السابقة أن امتداد العالم الإسلامي على هذه المساحة الواسعة من الأرض، وشمولَه عدداً كبيراً من البلدان والدول، موزعةً على مختلف قارات العالم، قد وَفَّرا لبلدانه تنوُّعاً هائلاً في البيئات والمناخات والإطلالات. فبالإضافة إلى الصحارى الشاسعة وشبه الصحارى، ثمة سواحلُ طويلة وسهولٌ ساحلية، وكثير من الهضاب والجبال والأودية، وكثير من السهول والأحواض التي كَوَّنَتْها الأنهار في الداخل.
وقد كان من البديهي أن يُنتِجَ هذا التنوعُ البيئي، تنوعاً سكانياً مماثلاً يشمل أنماط حياة الناس، في جميع الميادين، وعلى الصعد كافة؛ وهذا ما حدث فعلاً، كما ينبئنا استعراض المشهد البيئي/السكاني للعالم الإسلامي، إذ يبدو واضحاً أنه ينبض بأنماط الحياة الاجتماعية الثلاثة: البدوية/الرعوية، والريفية/القروية، والحضـرية/ المدينية.
وصحيح أن لكلٍّ من هذه الأنماط البيئية الثلاثة سماته الخاصة التي تميِّزُه عن النمطين الآخرَين، إلا أنه يشاركهما في سمات أخرى كثيرة. وهذا طبيعي، لأن السكان الممثِّلِين لكل نمط لا يعيشون منعزلين عن ممثلي النمطَين الآخرَين، بل ثمة تمازجٌ وتفاعلٌ دائِمَان بين الجميع، أثمرا عدداً من السمات التي صارت، بمرور السنين، مشتركة بين سكان العالم الإسلامي عموماً، بدواً وقرويين وحَضَـراً، على السواء.
إلى ذلك، أدى الانتشار الواسع للإسلام، في سائر قارات العالم، إلى تعدُّدِ قوميات المسلمين وأعراقهم، وإلى اختلاف ألوانهم وثقافاتهم ولغاتهم. ولاستمرار الدعوة إليه ونجاحها إلى اليوم، على الرغم من كل محاولات التضييق على دعاته والعدوان على أتباعه، قديماً وحديثاً، لا عجبَ إن بَدَت الخارطة البشـرية للمسلمين بالغة التنوع والتعقيد إلى تلك الدرجة التي يُهيَّأ للباحث فيها أنه ما من عرق ولا قومية ولا لون إلا وبين أفرادِ كلٍّ منها مسلمون بنسبة ما، قَلُّتْ أو كثرت.
ويُظهِر تقصّـِي وجود المسلمين الجغرافي على تلك الخارطة أن وجود غالبيتهم، أفراداً ودولاً، في قارتي آسيا وإفريقيا، أما في أوروبا وأمريكا وأستراليا، فينتشـرون على شكل أقليات غالباً، باستثناء أربع دول ضعيفة ومُهَيمَن عليها، اثنتان منها في أوروبا هما: (ألبانيا والبوسنة والهرسك)، واثنتان في أمريكا الجنوبية هما: (سورينام وغويانا).
ومما يُستنتَج أيضاً من قراءة الخارطة البشـرية للعالم الإسلامي، قديمِه وراهنِه، على السواء، أن العرب كانوا، وما يزالون، أبرز الأقوام التي تتألف منها البنية البشرية للمسلمين. وما ذلك لأنهم الأكثر عدداً أو الأقوى أو الأعلى تحضـراً، بل لأن الإسلام ظهر بينهم أولاً، ولأن نبيَّه (صلى الله عليه وسلم) منهم، وقرآنَه الكريم نزلَ بعربيتهم التي لا تجوز قراءتُه إلا بها، وكذلك أداءُ الصلاة والكثيرُ من شعائر الحج؛ ثم لأنهم كانوا حَمَلَةَ هذا الدين وناشريه الأوائل، سواء عبر الفتوحات الكبيرة التي انطلقوا بها خارج الجزيرة العربية، منذ عصـر الخلفاء الراشدين، أو عبر الحركية النشطة لعلمائهم ومفكريهم وأدبائهم، فضلاً عن الدور الفعال والهام الذي لعبه تجارهم القدامى الذين لم يكتفوا بنقل البضائع إلى البلدان التي وصلَتْهَا قوافلُهم، بل نقلوا مع البضائع أيضاً ما امتازت به معاملاتهم مع بعضهم ومع غيرهم، من صدق وأمانة واستقامة ورحمة وودّ وغير ذلك من الأخلاق الإسلامية الرفيعة التي جذبت إلى الإسلام من أبناء تلك البلدان، آنذاك، أعداداً تربو بكثير على أعداد مَن أسلموا جرَّاء الفتوحات أو بسببها.
على هذا، وبالفضل الذي أولاه الله للعرب وغيرهم من المسلمين الأوائل في نشـر الإسلام، صار المسلمون أمة عظيمة تدخل في بنيتها أعراقٌ وقوميات كثيرة تنتمي لمختلف قارات الأرض وبلدانها.
فبالإضافة إلى المسلمين العرب، مسلمون فُرسٌ وأكراد وأتراك وهنود وصينيون وبربر وبانتَوِيُّون وقوزاق وشـركس وأوزبك وأذريون وطاجيك وبنغال وأفغان وألبان وأثيوبيون وغير ذلك من أعراق وألوان وقوميات منتشرة في مختلف أنحاء الأرض..
ولأن الإسلام، في جوهره النقيَّ، دينٌ متسامح يُحظِّر على أتباعه إكراه أحد على اعتناقه، بل يفرض عليهم احترام عقائد الآخرين، تعايشَ المسلمون في بلدانهم، وهم غالبية، مع المسيحيين واليهود وغيرهم من أتباع الديانات والمعتقدات الأخرى، قديمها والحديث، وقلَّما شكَّلوا في أيٍّ عصـر أو أيِّ بلد، كتلة دينية واحدة متجانسة ذات نزعة عنصرية.
وبالإضافة إلى التعدُّد الديني الذي اتسمت به غالبية مجتمعات البلدان الإسلامية، يُلاحَظُ اتسامها بالتعدُّد المذهبي والطائفي أيضاً. كما يُلاحَظ أن هذا اللون من التعدُّد لم يقتصـر انتشاره على أوساط المسلمين وحدهم، بل نراه بادياً حتى بين المسيحيين واليهود الذين تشظّوا، كالمسلمين، إلى مذاهب وطوائف، لم تكن منسجمة دائماً ولا متآلفة دائماً، بل مختلفة متناحرة، في أحيان كثيرة.
وهذا كله يعني، في المحصلة، أن البنية المجتمعية، في غالبية البلدان الإسلامية، ذات مكوِّنات متنوِّعة عرقياً ولونياً وقومياً ومجتمعيّاً وثقافياً ولغوياً ودينياً ومذهبياً وطائفياً، هذا فضلاً عن التنوُّع الأيديولوجي الذي انتشـر في العصـر الحديث، جراء انتشار الفلسفات والأيديولوجيات والمذاهب الوضعية المعاصرة، في قطاعات واسعة، من مجتمعات البلدان الإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَنوُّعُ العالم الإسلامي... بين التشظي والتكامل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
أولاً، الصورة الافتراضية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منطقياً، كان حريّاً بهذا التنوُّع الغني الذي أضاءت المعطياتُ السابقة بعضَ أهم جوانبه، أن يُنتِجَ ـ لو أَحسنَ المسلمون استثماره ـ كلَّ ما هو ضروري من عوامل القوة والتَّوَحُّد والتقدُّم القادرة على أن تجعل منهم أمةً ليست أغنى من دول الاتحاد الأوروبي مجتمعةً، أو من الولايات المتحدة أو الصين أو اليابان فقط؛ ولا أكثر من أيِّها حضوراً وتقدماً وتأثيراً، في الحضارة المادية المعاصرة، علمياً وفكرياً وثقافياً وإعلامياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي سائر المجالات الأخرى فحسب؛ بل مُتَّحَداً أمميّاً أيضاً يكون، بالإضافة إلى كل ما سبق، بين أهم القوى العظمى في العالم، إن لم يكن أهمَها جميعاً، ويكون لرأي أهله ونفوذهم وقرارهم الوزن الأكبر في موازيين القوى العالمية الراهنة، وفي سائر المحافل الدولية على اختلافها، وفي مقدمتها الأمم المتحدة. ولعل ما يجعلُ مثلَ هذا الافتراض منطقياً، أن ما لدى المسلمين مجتمعين، أكثر مما لدى أيٍّ من دول العالم الأخرى واتحاداته.
فمن ناحية العدد، يُقاربُ عدد المسلمين اليوم، كما سبقت الإشارة، ربع مجموع سكان العالم؛ وبالإضافة إلى كثرتهم، تمتلك بلدانهم ثروات طبيعية هائلة، سال لها لعاب الاستعمار طمعاً، منذ قديم الأزمان، ومازال... وبلدانهم الغنية بثرواتها الطبيعية، غنيةٌ أيضاً بمساحتها الكبيرة التي تٌقدر بحوالى ربع اليابسة، وبموقعها الجغرافي الهام الذي يمنح معظمَها موقعاً استراتيجياً بالغ الحيوية والأهمية، خصوصاً على الصعيدين التجاري والعسكري.
واللافت أنه على الرغم من التنوع الثقافي بين بلدان العالم الإسلامي، لا تفصل بين شعوبها حدود ثقافية حادة، بفضل الإسلام الذي وفَّر لهذه الشعوب أرضية ثقافية/اجتماعية فيها الكثير ممَّا صار مُشتَرَكاً قادراً على توفير حدٍّ كبير من التقارب بين أبنائها، بفعل انتماء معظمهم إلى الإسلام، سواء التزموا بتعاليمه في سلوكهم أم لا.
بل حتى الحواجز اللغوية التي تُفرِّق بين الأمم الأخرى عادةً، سهَّل الإسلام تذليلَها، حين أوجب تلاوة القرآن الكريم بالعربية التي أُنزل بها، وليس بأيٍّ من اللغات التي يمكن ترجمته إليها، وكذلك تأدية الصلاة وبعضٍ من أهم شعائر الحج، مما دفع الكثير من المسلمين غير العرب إلى تعلُّم العربية. وبذلك وفَّر الإسلام لأمته أهم عامل توحيد على الإطلاق، وهو عامل اللغة.
وقبل كل ما سبق وبعده، بين أيدي المسلمين منهجٌ إلهي متكامل، محفوظٌ في نصِّ القرآن الكريم، والصحيح من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يوفِّر لهم حدّاً أدنى من المشترَك الاعتقادي، يعضده حدٌّ أدنى من المشترَك الاجتماعي الوثيق الصلة بتعاليم الإسلام، دخل مع الأيام في نسيج عاداتهم وتقاليدهم. وربما ليس مبالغة الزعم أن النجاح في تطبيق هذا المنهج، أكثر من مرة، يؤكد حقيقتين:
أولاهما، أن تطبيقَه مازال، وسيبقى، احتمالاً قائماً وقابلاً للتجسُّد واقعاً.
وثانيتهما، أن المنهج الإسلامي النقي من المذهبية والطائفية والبدع، أقصـر الطرق لبناء الإنسان الكامل، كما تؤكد تطبيقاته الناجحة، في كل المرات التي استطاع المسلمون تطبيقه فيها، وكما اعترف بذلك مباشرة حتى بعض الأعداء المعاصرين للإسلام(1).
ثانياً، الصورة الواقعية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنَّ أوَّل ما تَفْجَؤُنا به مقارنة الصورة الافتراضية لحال المسلمين بصورتهم الواقعية، ذلك التناقضُ الصارخ بين الحال الإيجابية المتصوَّرَة التي كان من المفترَض أن يكونوا عليها، لو أحسنوا استثمار التنوُّع الغني الذي حباهم اللهُ وبلدانَهم به، وبين ما يعانونه، في غالبية تلك البلدان، من حال متردِّية، في مختلف المجالات الحياتية، وعلى الصعد كافة...
فمقابل الصورة الافتراضية الإيجابية السابقة تُنبئنا القراءة الميدانية لحال المسلمين وبلدانهم، اليوم وعبر معظم تاريخهم الطويل، أنهم قلَّما حاولوا الاستفادة من تنوُّعِهم في إنتاج تكاملٍ مُفضٍ إلى وحدة قابلة للديمومة، تكون ديمومتها قادرة على حراسة استمرار العوامل الصانعة لقوتهم وتقدمهم وازدهارهم..
فباستثناء فترات قليلة وقصيرة، في تاريخهم، لم يُؤَدِّ استثمارهم السلبي لتنوُّعِهم إلى تقويض تجاربهم الوحدوية القليلة والقصيرة العمر فقط، ولا إلى الحيلولة دون تحوُّلهم إلى مُتَّحَدٍ متجانس فحسب، بل إلى زيادة تشظيهم أيضاً.. ذلك التشظي الذي تجسَّد، على أرض الواقع، صراعات بَيْنِيَّة كبيرة وصغيرة، أفقية وعمودية، تزخر كتب التاريخ الإسلامي بالحديث عنها وعن نتائجها الكارثية، في مختلف العصور التي تلت غروب شمس الخلافة الراشدة، وصولاً إلى عصـرنا الراهن الذي يعدُّ الأسوأَ فيما آلت إليه حال بلدانهم ومجتمعاتهم التي لكثرة تشظياتها الموروثة والحديثة صارت، كما سيُبيِّن استقراء صورتها الراهنة، في الفصول التي يؤلف مجموعها هذا الكتاب، أشبه بلوحة الموزاييك أو الفسيفساء ذات المكوِّنات المختلفة الألوان والأحجام والمقاييس، مع فارق واحد بين الصورتين يتمثَّل في افتقار مكوِّنات صورة العالم الإسـلامي المعاصر إلى الانسجـام الجميل والمريح الذي تتميَّز به وتزهو مكوناتُ أي لوحة موزاييك أو فسيفساء.
ويُبيِّن الاستقراء الموضوعي لتشظي المسلمين، منذ بداياته الأولى إلى اليوم، وجود عوامل كثيرة ساهمت، مجتمعةً، في صنعه وتغذيته وحراسة استمراره، وأهم هذه العوامل:
أولاً، ارتدادهم المبكر عن معيار التَّقَوى، للتفاضل فيما بينهم، إلى معيار التعصب القبلي الذي كانوا عليه في جاهليتهم الأولى.. وهنا، ينبغي التنبيه إلى أن الإشارة إلى هذا المعطى ليس وليد تعصب أعمى للإسلام، بل وليد كونه حقيقة يُقرُّها المنطق العقلي السليم والمحاكمة الموضوعية لحال المسلمين، في ظل التزامهم التقوى معياراً وحيداً للتفاضل بينهم، ثم لحالهم بعدما انحرفوا عن الالتزام به..
فمنطقياً، كان من المفترَض أن يُغني تنوُّعُ المسلمين بُناهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، لو ظلت التقوى معيارَ التفضيل والتفاضل الوحيد بينهم، بغضِّ النظر عن ألوانهم وجنسياتهم وقومياتهم وثقافاتهم، عملاً بقول الله لهم في قرآنه الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(2)، وبتوجيه نبيهم (صلى الله عليه وسلم) لهم في خطبة الوداع: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.....)(3).
لكنْ، لمَّا كان ما فعلوه، بعد ذلك، نقيضَ ما وصَّاهم به قرآنهم ونبيهم (صلى الله عليه وسلم)، كفَّ الانتماء إلى الإسلام عن العمل كبوتقة صَهْرٍ تذوب فيها مختلف الفوارق بين أتباعه، بهدفِ إنتاج مجتمع متجانس من مجموعهم، يتكاملون فيه ويتفاضلون وفق معيار التقوى وحده، كما كانت حالهم أثناء حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفي الشطر الأعظم من فترة خلفائه الراشدين التي انتهت قبل استكمال عملية صهر الفوارق، وتفاعلاتها، ووصولها إلى غاياتها.
ويرى البعض أن السبب الرئيس لتوقُّف عملية الصهر يكمن في انحياز الدولة الأموية، منذ بداية ظهورها، إلى العرب، مُعطِّلة بذلك استمرار التقوى معياراً وحيداً للتفاضل بين المسلمين، الأمر الذي دفع غير العرب من رعاياها إلى الارتداد سراً، في البداية، ثم علانية، إلى أصولهم، متعصبين لخصوصياتهم القومية والعرقية، كردِّ فعل على تمييز الأمويين للعرب على سائر المسلمين.
وقد كانت أولى الثمار المرة لذلك الارتداد إعادة بلورة الفوارق بين المسلمين بعدما كادت تُذيبها مساواة الإسلام، مما أفسح لهذه الفوارق المجالَ رحباً لاستعادة فاعليتها بالاتجاه السلبي، أي باتجاه تهيئة الأجواء الملائمة للتجزئة والتشظي.. ويُلاحظ المتتبع لسلبية فعل الفوارق في حياة المسلمين، على مرِّ عصورهم، أنها لم تختفِ أو تتوقف عن الفعل، منذ إيقاظها، بل كانت تضمحل ويضعف تأثيرها، فقط حين تكون السلطة المركزية للخلافة الإسلامية الحاكمة قوية ومهيمنة، كما يُلاحَظ في أوج قوة الأمويين والعباسيين والمماليك والعثمانيين.. لكن ما إن تضعف قبضة هذه السلطة، حتى تعود النعرات القومية والعرقية والثقافية لتذرَّ بقرنها بين المسلمين مهددة بتشتيت شملهم وإشعال الفتن بينهم.
وهكذا استحال تنوُّع المسلمين، عرقياً وقومياً ولونياً، إلى نقمة عليهم بدلاً من أن يكون نعمة تجعلهم أقوى أمم الأرض وأغناها وأعظمها، فيما لو تم استثمار ذلك التنوع إيجابياً، أي (استثمارَ تكامل) لا استثمارَ تنازع وفرقة.
وهنا، قد يكون من الضـروري إلقاء ضوء، ولو سريع، على ما يعنيه مصطلح (استثمار تكامل). فلأن دعوة الإسلام شمولية كما أكَّد الله (سبحانه وتعالى) في خطابه لرسوله (صلى الله عليه وسلم): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...}(4)؛ كان لابد أن تكون المساواة هي الناظم الأهم لعلاقات المسلمين مع بعضهم، وحرية الاعتقاد هي الناظم الهام الثاني لعلاقاتهم مع مَن يخالفونهم العقيدة مِن أبناء بلدانهم، بما تمتلكه هذه الحرية من قدرة على تَهْيِئَةِ المناخات التي تُمَكِّنُهم جميعاً من العيش المشترك مع بعضهم على اختلاف أعراقهم وقومياتهم من جهة، وعلى الرغم من اختلاف مُعْتَقَدِهم عن معتقدات بعض مواطنيهم من جهة أخرى. ولأن هذين الناظمين "المساواة وحرية الاعتقاد"، لا يمكن أن يكونا مثاليين في فعلهما، ما لم يكن الحافز إلى التزامهما، في السلوكين الفردي والجماعي، دينياً نابعاً من صلب العقيدة الإسلامية وثابتاً في جوهرها، وليس حافزاً دنيوياً، فقد جعلهما الإسلام ركنين من أهم أركان التقوى، وجعل التزام أتباعه بهما في سلوكهم، أفراداً ومجتمعات، من أهم المظاهر الدالة على تقواهم، وذلك حين حرَّم تفضيل مسلم على مسلم بأي معيار غير التقوى، وحرَّم احتقار المسلم لمعتقدات غير المسلمين، واضطهادهم على خلفية مخالفتهم لمُعتَقَدِه.
وباعتماد الإسلام معيار التقوى لضمان المساواة بين أتباعه، لم يكن بحاجة إلى إكراههم على نبذِ انتماءاتهم وثقافاتهم ولغاتهم الأصلية والتنكُّر لها، بل إلى تأكيد نبذِ ما كانوا يدينون به فقط، قبل إسلامهم، والكفِّ عن التعصب لما كانوا ينتمون إليه من قوميات وأعراق رأى فيها الإسلام، شأن كل دين أو مبدأ شمولي، عائقاً أمام اتساع انتشاره، وخطراً يُهدد بتفتيت البنية المجتمعية لأتباعه. وقد بدا موقف الإسلام واضحاً بهذا الخصوص، في تضادِّه مع العصبية لأي انتماء غير الانتماء للإسلام، أي في تضادِّه مع العصبية بكل أشكالها وألوانها وتجلياتها، قبلية كانت أم أسرية، عرقية أم قومية.... إلخ، وقد صاغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا التضادّ في حديثه الذي يحذر فيه المسلمين قائلاً: (مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُـرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)(5).
وعلى معيار التقوى نفسه، أسس الإسلام علاقة أتباعه بأتباع المعتقدات الأخرى، على أرضيةِ مثاليةٍ قوامها الحرص على حرية الاعتقاد، واحترام عقائد غير المسلمين وطقوسهم وعاداتهم، وعدم احتقارهم أو الحطِّ منهم ومن معتقدَاتهم، بأي أسلوب، سلوكي أو قولي، سواء كانوا مواطنين يشاركون المسلمين أوطانهم، أم كانوا من بلدان أخرى... وقد ترجم الإسلامُ منهجَ حرصه على حرية الاعتقاد وممارستها بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(6).
إذن، لم يُلغ الإسلامُ الفوارقَ بين أتباعه، بل حرَّم التعصب لها، ولم يُحرِّم تفاعلها مع بعضها لإنتاج كلٍّ إسلامي متكامل، فيه خصائص كل القوميات والأعراق والثقافات واللغات التي أسلم أفرادها كلهم أو بعضهم، بل حرَّم انسلاخ أي منها عن الكل الإسلامي المتَّحِد. كما لم يُلغِ الإسلام حرية الاعتقاد، ولم يَنْفِ إمكانية تعايش المسلمين مع أتباع العقائد الأخرى، في البلد الواحد، بل أتاح هذه الإمكانية مُرْفَقَةً بحضِّ أتباعه على احترام عقائد غيرهم وعدم إيذائهم..
وبهذه العلاقة الدينامية التي أنشأها بين أتباعه على تنوُّعهم، ثم بينهم وبين أبناء العقائد الأخرى، نجح الإسلام في إيجاد أجواء تكامل أتاحت إمكانيات التفاعل الإيجابي بين المكونات البشـرية المتنوعة الداخلة في تركيب بُناه المجتمعية....
صحيح أن هذا النجاح كان نسبياً، بعد عصـري النبوة والخلافة الراشدة، وصحيح أنه لم يتكرَّر كثيراً ولم يدُم لفترات طويلة، لكنه كان كافياً لإنتاج ما بات يُعرَف، حتى اليوم، بالثقافة الإسلامية والعلوم الإسلامية والحضارة الإسلامية والفنون الإسلامية... إلخ.. لقد كان هذا الإنتاج، وبحق، ثمرة الاستثمار الإيجابي للتنوُّع السكاني، في العالم الإسلامي، لا ثمرة الاستثمار السلبي لهذا التنوُّع. تلك الثمرة التي تَبَدَّت في شكل عالم متشظٍ إلى أجزاء لا هوية لها تقريباً، لأنها بعد أن انفصلت عن عالمها الأم راحت تتغير هويتها الثقافية والسياسية والاقتصادية وحتى الاعتقادية، حسب رغبة القوى المهيمنة عليها وإملاءاتها ومصالحها، كما يتضح جلياً اليوم، في غالبية دول العالم الإسلامي الراهن.
ولكل من يرفضون نظرية التكامل، ويصـرُّون على استحالة تعايش الخصوصيات القومية مع بعضها في بنية مجتمعية واحدة، عليهم الملاحظة أنه في إطار التكامل الإيجابي لمكونات أي بنية مجتمعية متنوعة، ينتفي التعارض والتصادم بين الخاص القومي أو العرقي وبين العام العقيدي أو الأيديولوجي أو الوطني، لأن البنية المجتمعية الناتجة عن الاستثمار الإيجابي للتنوُّع تكون بنيةً تعدُّدية تتداخل فيها القوميات والثقافات واللغات وتتجاور وتتفاعل، دون أن تفقدَ أيٌّ منها هويتها وسماتها الخاصة، ودون أن تطغى إحداها على الأخرى، فتهدد الإطار العام الجامع لها جميعاً بالتداعي. وهذا ما يعني تآلف الهويتين الخاصة والعامة، في البنية المجتمعية التعددية، وفق علاقة تشبه علاقة أعضاء الجسد ببعضها....
فصحيح أن لكل عضو خصوصيته المميزة، لكنه في النهاية لا يستطيع الانفصال بهذه الخصوصية عن انتمائه للجسد الذي هو جزء منه، لأنه إن انفصل اضمحل ومات؛ وكذلك الجسد لا يستطيع إلغاء خصوصية أي عضو فيه، وجعل جميع أعضائه ذات سمات موحَّدة وعمل واحد، لأن مثل هذا العمل يعني موت الجسد أيضاً.
ومن الأمثلة المعاصرة على هذا النمط التعددي المجتمعُ الأمريكي المعاصر الذي تتفاعل فيه وتتعايش قوميات وأعراق وثقافات شتى، ولاء غالبيتها للولايات المتحدة الأمريكية، وليس لقومياتها الأم ولا لأعراقها التي تحدَّرت منها.
وعلى نحو مقارب، نجح المسلمون، في فترات قليلة، بالعيش في إطار بنية مجتمعية تعددية يتكامل فيها الخاص مع العام، والجزء مع الكل. فالكلُّ مسلمون، وهذه هي الهوية العامة لهم جميعاً، لكن لكلِّ مجموعة منهم هويتها القومية الخاصة التي لا يتعارض استمرار الانتماء إليها، دون تعصب، مع الانتماء إلى الإسلام، ولا مع قبول المواطنة على قدم التساوي مع الآخرين، في إطار دولة كبرى مركزية، دستورها واحد مستمد من القرآن والسنة، ولها منهج تربوي واحد، ونظام حكم واحد، وجيش واحد، وتدافع عن قيم مشتركة وتسعى إلى أهداف مشتركة أيضاً، يساهم في تحقيقها الجميع، كلٌّ من موقعه.
لقد نجح المسلمون، في فترة النبوة والخلافة الراشدة، بتشكيل بنية مجتمعية كهذه، وكذلك في فترات قصيرة أخرى لاحقة.. وأخفقوا في بقية مراحل تاريخهم الطويل في الحفاظ على عدم اختلال التوازن بين مكونات بنيتهم المجتمعية.. إلى أن طغى الاختلال بين هذه المكونات، منذ نهاية الحكم العثماني، واستمر إلى اليوم، ليؤدي، في النهاية، لا إلى تقوُّض الخلافة الإسلامية وانفراط عقد سلطتها المركزية فحسب، بل ليُنَشِّط التشظي الذي أحال البنية الإسلامية الواحدة المتماسكة إلى دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة، لم يكن التدخل الخارجي وحده سبب ظهورها، بل أسباب أخرى كثيرة إلى جانبه، سنعرض لمعظمها في الفصول التالية من هذا الكتاب..
وهكذا، وجرَّاء استمرار أسباب تشظي المسلمين فاعلة إلى اليوم، استحال العالم الإسلامي الذي كان قوياً وموحداً، في فترات من تاريخه، كانت آخرها فترة الخلافة العثمانية، إلى دويلاتٍ قومية صغيرة قابلة لمزيد من التشظي إلى وحدات أصغر وأكثر ضعفاً. ولعل أوضح الأمثلة على هذا المرض الساري ما حلَّ بالعرب الذين، بعد انسلاخهم عن الانتماء إلى الإسلام، إثر انهيار الخلافة العثمانية، انقسموا إلى دويلات صغيرة متناحرة أطلقوا عليها اسم الأقطار، ثم انقسم بعض هذه الأقطار قسمين كما حدث في اليمن والسودان، وثمة دول أخرى مرشحة للتشظي كالصومال والعراق ولبنان. وهكذا انتقل العرب من القومية إلى القطرية، فالمناطقية الممهدة للعودة إلى القبلية وربما إلى الأسرية، وما يزال وباء التشظي فاعلاً مستمراً يهدد جميع بلدان العالم الإسلامي بمزيد من الانقسام والتجزئة والتشـرذم، حتى بات يشعر الناظر في الخارطة المعاصرة لتشظيات المسلمين القومية والقطرية والقبائلية وغيرها بالقنوط واليأس من احتمال أن يعود المسلمون أمة واحدة، ولو في إطار التمني الطوباوي..
ثانياً، عدم محاولة المسلمين مأسسة مبدأ الشورى وتطويره، كأسلوب لتداول السلطة بينهم، ولمراقبة الحاكم ومحاسبته، وما يتضمنه ذلك كله من توفير مناخات صحية، معافاة من العصبيات بشتى أشكالها، يمكن أن تزدهر فيها إمكانيات العيش المشترك القائم على أساس المساواة بين المسلمين على اختلاف أعراقهم وقومياتهم وثقافاتهم ولغاتهم وألوانهم، وعلى إطلاق حريتي الاعتقاد والتعبير اللتين تُوَفِّرُ ممارستهما حداً أدنى من التجانس والتآلف فيما بينهم..
وإلى حدٍّ كبير، يمكن القول إن من أهم ما حال دون مأسسة الشورى، ذلك الارتداد المبكر عن التقوى كمعيار للتفاضل بين المسلمين، إلى العصبيتين القبلية فالقومية، وما رافق إحياؤهما، منذ بداية العصـر الأموي، من تسلّط العصبية الحاكمة، سواء كانت عصبية قومية أو عرقية أو دينية أو مذهبية أو قبلية أو أسرية.. الخ، على سائر العصبيات الأخرى، واستئثارها بمراكز القوة والجاه والثراء؛ فكانت النتيجة ارتداد ممثلي العصبيات المحكومة، والمضطهَدَة غالباً، إلى تعصب كل منها ضد ممثلي العصبية المسيطرة من جهة، وتجاه سائر ممثلي العصبيات الأخرى من جهة ثانية، مما أدى إلى توهين احتمالات نجاح محاولات صهر المسلمين جميعاً وتجانسهم في بوتقة الإسلام، خصوصاً بعدما تراجعت رغبة كلِّ طرف منهم في فهم الآخر المختلِف عنه عرقياً أو قومياً، والمخالف له دينياً أو مذهبياً أو أيديولوجياً، واحترام اختياره العقيدي أو الفكري عموماً؛ الأمر الذي أفضـى، في المحصلة، إلى تشظِّي بنية المجتمعات الإسلامية وتحوُّل مُكَوِّناتها البشـرية إلى جماعات وطوائف ومذاهب وفئات متنابذة متصارعة فيما بينها، يضـرب بعضُها رقابَ بعض ومصالحه، مما أضعفها جميعاً أمام عدوها الخارجي المشترك. وهو ما سيتم تفصيل الحديث عنه لاحقاً، في سياق الفصل المخصص لبحث الحياة السياسية وانحرافاتها وتشوهاتها، في العالم الإسلامي، قديماً وحديثاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
ـــــــــــــ
1) أُثِر عن البروفيسور اليهودي (أوري روبين) الأستاذ في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة تل أبيب، أنه قال قبيل إنجاز ترجمته الحديثة للقرآن الكريم إلى العبرية: (أعتقد أنني توصلت إلى أن القرآن يريد أن يخلق على الأرض إنساناً كاملاً، ولن يتأتى هذا إلا بعد أن يُطبَّق ما جاء فيه، فهو يقدم للإنسان مفتاح الطريق نحو الكمال).
2) سورة الحجرات، الآية (13).
3) قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 6/449: أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/100) والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/88/1).
4) سورة سبأ، الآية (28).
5) كما ورد في صحيح مسلم، عن هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عن الْمُعْتَمِر عن أَبِيه عَنْ أَبِى مِجْلَزٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىِّ عن رَسُولُ اللَّهِ . وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1/720مشيراً إلى أن مسلم قد اخرجه في صحيحه (6/22) والنسائي (2/177) والطيالسي (ص:177 رقم 1259) من حديث جندب بن عبد الله البجلي . ثم أضاف أن له شاهداً من حديث أبي هريرة بلفظ : (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه). ثم قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2/715: (أخرجه مسلم (6/21) والنسائي (2/177) وأحمد (2/306 و 488) من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
6) سورة البقرة، الآية (256).
|