عرض مشاركة واحدة
قديم 28 / 08 / 2016, 55 : 08 PM   رقم المشاركة : [33]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

رد: دعوة إلى فنجان قهوة....

ثلاثة أيام مضت على ما نشرتُه، في هذه الصفحة، حاكِياً فيه ما جرى بيني وبين بهلول في تلك الليلة التي مزَّق في نهايتها نصَّ ما كتبتُه عنه لتعريف أعضاء الموقع به..
ثلاثة أيام بلياليها وهو ينتظر أن يصدر عن أحد أعضاء الموقع تعليقٌ على ما جرى بيننا تلك الليلة التي أبقاني ساهراً فيها حتى الفجر، عَلَّهُ يستشف من تعليق أحدهم ما يُنْبِئُه، ولو جزئياً، بنوعية ردِّ فعل بعضهم على تصرفه معي..
ومع أنني كنتُ منشغلاً جداً خلال تلك الأيام الثلاثة، لم أستطع أن أمنع نفسي عن مراقبته من طَرْفٍ خَفِيّ، وهو يُغالب رغبتَه في أن يطلب مني الدخول إلى الموقع ليرى إن كان أحدٌ قد كتبَ عنه شيئاً، فكنتُ أُشفِقُ عليه وأُقدِّرُ مغالبتَه لنفسه وكَبْتِه لفضولها كي لا يُعطِّلَني عن عملي..
وحين اشتدَّ عليه صمتي وحرصه على عدم إلهائي عن عملي، فكرَ أن يفعل شيئاً يهرب بفعله مما يعاني ومن انشغالي عنه.. ولذلك تقدَّم مني، في النهاية، وسألَني أن أعطيه قلمَ رصاصٍ وعدة أوراق بيضاء، لأنه يريد أن يكتب شيئاً، فأعطيتُه ما طلب، دون أن أسأله ماذا يريد أن يكتب.. ولم يكد يراني أنهمكُ في عملي من جديد، حتى أَعرْضَ عني واسترسل في تسويد الصفحات التي أخذها مني بما لم أعرف ولم أحاول أن أسأله لأعرف..
مع انتهاء اليوم الثالث لانتظاره ماكثاً في غرفة مكتبي، رجاني أن أمنحه بعض الوقت ليكلمني، فأجبتُه إلى طلبه بسرعة، لأنني كنتُ أنا أيضاً أُعاني من ضغط فضولي لمعرفة ردِّ فعله على ما جرى..
كان واضحَ العصبية، على نحو لم أرَه فيه قبلاً، ولا مرة، خلال فترة معرفتي الطويلة به.. فقبل أن ينطق بأيِّ كلمة، رأيتُه يفرك كفيه الكبيرتين ببعضهما على نحو بدا لي عنيفاً إلى حد ما، ثم باعد كفيه عن بعضهما، ورفع يمناهما إلى جبينه ليفرك بأصابعها الكبيرة صدغه ثم أنفه ثم ذقنه..، ثم تكلَّفَ رَسْمَ ابتسامة باهتة على شفتيه، ودون أن يَسْتَرِدَّها، بدأ حديثَه إليَّ بصوت واجف خافت، في البداية، ما لبث أن ارتفع تدريجياً:
- ليتكَ لم تُطلِع أعضاء الموقع على ما جرى بيننا تلك الليلة..
صمتَ هنيهة ثم تابع..، دون أن يُتيحَ لي قول أي كلمة:
- أظنُّ أنَّني أسأتُ لك ولنفسي في وقت واحد.. أكيد.. أكيد أنَّ أعضاء الموقع غضبوا من تصرفي معك... أكيد اعتبروا تصرفي معك غير جيد.. وأكيد أخذوا عني فكرة سيئة، بسبب هذا التصرف... صحيح أستاذ؟
لم أُجِب، لأنني لم أُرِد أن أُقاطع سيالة تفريغه للمكبوت من أحاسيسه وانفعالاته.. ولذلك تابع، وهو ما يزال يفرك جبينه بعصبية:
- أكيد قالوا لأنفسهم، إذا كان هذا الإنسان قد تَصَرَّفَ مع مَن يُناديه أستاذه هكذا، فكيف سيتصرف معنا ونحن لا نعرفه ولا يعرفنا؟
وهنا، أدركتُ أنَّ من الضروري أن أتدخلَ لأساعده على النطق بالقرار الذي اتخذه كردِّ فعل على ما بدا لي أنه أغضبه جداً، فسألتُه:
- وماذا استنتجتَ من صمتهم إذاً؟
حكَّ جبينه بشدة أكبر هذه المرة، حتى تهيَّأ لي أنه على وشك أن يسلخ جلده، ثم قال بنرفزة بادية:
- اسمح لي أن أختصر جوابي على سؤالك بكلمتين ونصّ، فأقول: عدم الجواب جواب..
تَكَلَّفتُ الابتسام وأنا أنهض مقترباً منه، وحين بلغتُه، وضعتُ كفي على كتفه محاولاً مواساته والتخفيف من انفعاله، ثم خاطبتُه قائلاً وأنا أُرَبِّتُ على كتفه:
- والله أنتَ حكيم يا رجل.. قال بهلول قال؟! استنتاجُك صحيح، لكن، مع ذلك أرى أن لا تُحمِّل الأمر أكثر مما يحتمل..!
- كيف يا معلم؟
تابعتُ، وبنفس الطريقة المُهدِّئة:
- للناس ظروفهم يا بهلول.. من يدري.. ربَّما حدث انشغالهم عنك بالمصادفة..
أبعد كفي عن كتفه، بحركة لطيفة، قبل أن يقف بطوله الفارع في مواجهتي.. وبعد أن زرع الغرفة بخطواته مرتين جيئة وذهاباً، وقف قبالتي، حاول أن يقول شيئاً، ثم تراجعَ، ثم رفع يده إلى رأسه من جديد، وراح يهرشه هذه المرة هرشاً عنيفاً، بعصبية بادية، ثم استجمع إرادته وأطلقَ لانفعاله العنان، فجاء كلامه أقرب إلى الصياح:
- صحيح أنني بهلول يا معلمي، لكن عندي كرامة..
قال ذلك، ثم صمتَ هنيهةً، سمعتُ صريف أسنانه خلالها، وفي نهايتها قال بصوتٍ حازم:
- لذلك سأغادر.. نعم سأغادر هذا الموقع.. لن أعمل في نور الأدب حتى لو رَجَوْتَني.. سأغادر إلى غير رجعة..
قال ذلك، ثم نظر إليَّ مستطلعاً أَثَرَ قراره في ردِّ فعلي، ولمَّا لم يجد ردَّ الفعل الذي تَمَنَّاه، تابع يقول، ولكن بعصبية أقل وأسى أكبر:
- صحيح أنني أحببتُ الكثير من أعضائه، من خلال ما قرأتُه من كتاباتهم، لكنَّ محبتي لهم لا تشفع لإهمالهم لي.. ولذلك سأغادر..
قال ذلك ثم اتجه إلى الطاولة التي كان يجلس إليها ويكتب في الأوراق التي أخذها مني، ثم راح، وهو يتجنَّب النظر إليّ، يجمع تلك الأوراق التي كتبَ عليها ما لا أعرف.. وتراءى لي أنه يُبطِئ في جمعها، وكأنَّه كان ينتظر أن أقول له شيئاً يثنيه عمّا هو بصدده، أو يجعله يتراجع عن قراره بالمغادرة.. ولمَّا لم يصدر عني ردُّ الفعل الذي كان يأملُه، ازدادت عصبيتُه وهو يُتابع جَمْعَ تلك الأوراق التي لَفَّها، في النهاية، على بعضها، بعنف، وقدَّمها إليَّ قائلاً بانفعال واضح:
- تفضَّل أستاذ خُذْ هذه الأوراق..
مددتُ يدي وتناولتُها من يده بصمت، فزاده صمتي انفعالاً، بذل جهداً كبيراً للسيطرة عليه، ليتمكَّن من أن يقول لي:
- ألن تسألني ماذا في هذه الأوراق؟
- بلى..
_ لقد مزَّقتُ الأوراق التي ظللتَ تكتبَها تلك الليلة وتعدِّل فيها حتى الفجر.. أتعرفُ لماذا؟ مزَّقتُها لأنني أردتُ أن أُقدِّم نفسي لأعضاء نور الأدب بنفسي وبأسلوبي، وقد فعلت الآن.. ستجد في هذه الأوراق الكثير عني، لقد تحدثتُ فيها عن طفولتي وشبابي وعملي قبل أن أَتَبَهْلَل، وعن حياتي بعد أن تَبَهْلَلْت.. كتبتُها رغم قراري بأن لا أبقى في نور الأدب، كتبتُها ليعرف أعضاؤه أنني لا أستأهلُ الإهمالَ الذي عاملوني به حتى وإن كنتُ بهلولاً..
قال ذلك، وهو يُغالب دمعة غَلَبَتْ إرادتَه في منعها من الخروج من عينه، فسارع يمسحُها بطرف كمه، خجلاً من أراها.. ثم تقدَّم مني مادّاً يده ليُصافحني، ثم مدَّ الأخرى ليُعانقني بكلتيهما مُودِّعاً.. وبينما سمحتُ له، بعد أن أعتقني من عناقه، بالاحتفاظ بكفي الصغيرة بين كفيه الكبيرتين، قال لي:
- اقرأ هذه الأوراق يا سيدي، وأرجو أن تُعجبَك.. وإن رأيتَ أن تنشرها في أي مكان فافعل، وإن شئتَ أن تتلفها فافعل، فأنا موافق سلفاً على أي قرار تتخذه.. والآن.. اسمح لي بالانصراف.. أستودعك الله، وأرجو أن ألقاك على خير دائماً..
قال ذلك، ثم ترك كفي تتحرَّر من بين كفيه، ثم استدار متجهاً إلى الباب بخطوات بطيئة تراءى لي من بطئها وكأنه كان يتمنى لو أدعوه إلى العدول عن قراره.. لكنني لم أفعل، على الرغم من رغبتي الشديدة بذلك وحزني الشديد لفراقه منكسراً هذه المرة، على نحوٍ لم أرَه عليه سابقاً أبداً..
وفي الواقع، لم يمنعني من محاولة إقناعه بالعدول عن قراره بالمغادرة، إلا تَوَهُّمي بأنَّ انصرافه سيكون خيراً له ولأعضاء الموقع الكرام، فقد يتمادى في توجيه ملاحظاته لهم، وفي طريقة حديثه معهم، إن اعتاد عليهم، وعند ذاك قد لا يحتملونه فيقع بينه وبينهم ما لا تُحمَدُ عقباه، وهو ما لا أريده أبداً، ولذلك آثرت المكابرة على نفسي والضغط على عواطفي، وتركتُه يمضي، وأنا لا أعلم حقيقةً، إن كنتُ سألتقيه ثانية، فيما تَبَقَّى لنا من عُمر أم لا..
ولا أُخفيكم أنني ازددتُ ندماً وأسفاً على فراقه، بعد أن قرأتُ ما كتبَه في الأوراق التي أعطانيها وهو يُودِّعُني.. لقد برَّ بوعده في تقديم صورة صادقة عن نفسه في تلك الأوراق، مبتدئاً برسم هذه الصورة من لحظة ولادته، حتى الأيام الأخيرة التي سبقَتْ لقاءَه الأخير بي..
ونزولاً عند رغبته، ووفاءً له، ولقناعتي فوق هذا وذاك، أنَّه بدا لي فيما كتبه عن نفسه شخصيةً جذَّابة، وفناناً صاحبَ أسلوب ممتع في الكتابة، استطاع أن يضحكني وهو يكتبُ مهموماً مفعماً بالأسى، رأيتُ نشر تلك الأوراق. لكن، ودفعاً للإملال، لن أنشرها دفعةً واحدة، كما كتبَها صاحبها، بل تباعاً على دفعات..
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس