عرض مشاركة واحدة
قديم 02 / 09 / 2016, 03 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (2)

[align=justify]أُتابع في هذه الحلقة إلقاء حزمة ضوء على سمة فنية جديدة يَتَّسِمُ بها شعر السلطاني، كما تَهَيَّأ لي من خلال دراسته، وهذه السمة هي:

[align=justify]الصياغة المُحْكَمَة بنتُ (المدرسة التَّحْكِيكِيَّة)[/align]

في تصوري، ينتمي السلطاني إلى مدرسة فنية عريقة في الأدب العربي، ربَّما يجوز تسميتها بـ (المدرسة التَّحْكِيكِيَّة)، لاشتهار أصحابها بكثرة مراجعتهم لإبداعاتهم وإعادة النظر فيها وكثرة تغييرهم وتبديلهم في كلماتها ومواضع هذه الكلمات، وفي بناء جملها وتشكيل صورها، وما إلى ذلك من تعديلات أخرى كثيرة، قبل دفعها إلى المتلقِّي الذي يتوجَّهون إليه..
وبإطلالة سريعة على هذه المدرسة، يَتَبَيَّنُ أنَّ إمامَها ومؤسسَها الأول كان الشاعر الجاهلي المعروف (زهير بن أبي سلمى) الذي اشتُهرت قصائده باسم (الحَوْلِيَّات)، لأنَّه كان يشتغل على القصيدة الواحدة حَوْلاً كاملاً يُنقِّحُها، فيُعيد فيها ويُبدِئ مراجعاً ومُعَدِّلاً، قبل أن يَخرجَ على قومه ليُنشدها على مسامعهم.. ومن معاصريه، يمكن أن يُعدَّ (النابغة الذبياني) و(أمية بن أبي الصلت) من أبرز أعلام هذه المدرسة أيضاً، وكذلك (الخنساء) و(حسان بن ثابت) المخضرمان اللذان استمرا في العصر الإسلامي الأول الذي عَرفَ بدوره شعراء كباراً انتموا إلى هذه المدرسة نفسها، من أبرزهم ابن مؤسسها، وأقصد (كعب بن زهير) صاحب أول قصيدة سُمِّيَتْ بالبردة، وهي التي مدحَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أمَّا في العصر الأموي، فيُعدُّ (الفرزدق) إمام هذه المدرسة دون منازع، ولا أدلَّ على تَبَوُّئِهِ هذه المنزلة من وصفِ معاصريه لأسلوبه بقولهم: (كان الفرزدق يَنْحِتُ من صخر)؛ وبالانتقال إلى العصر العباسي، نلاحظُ أنَّ أولَ من انتمى إلى (المدرسة التحكيكية) الشاعر المخضرم (بشار بن برد)، تلاه في العصر العباسي الأول الشاعر الكبير (أبو تمام) الذي تبوَّأ وبحق، منزلة إمام هذه المدرسة، ثم حلَّ محله، في العصر العباسي الثاني، عملاقُ الشعر العربي (المتنبي)... وظلَّت هذه المدرسة حيَّة في نتاج شعراء العربية، حتى في العصور التي سمَّاها النقاد الغربيون ظلماً وافتراءً باسم (عصر الانحطاط) الذي يكفي لدحضِ افترائهم عليه أن نذكر من عمالقته، في هذه العجالة، (البوصيري) صاحب البردة المشهورة أيضاً؛ ثم استمرت هذه المدرسة نفسها حتى العصر الحديث، في نتاجات عدد من كبار شعرائه الذين يتقدَّمهم، دون منازع، الشاعر (أحمد شوقي) عملاق الشعر العربي الحديث وأميره، بالإضافة إلى آخرين ساروا على خطاه أو سبقوه، ولكن كانوا أقلَّ منه شهرة..

أعلم أنَّ إيرادَ العجالة السابقة، في هذا السياق، استطرادٌ قد يَعِيبُه البعضُ عليَّ منهجياً، وأنا لا أخالف هؤلاء الرأي، ولكن أقول مُسوِّغاً إيرادَه بأنه ضروري للحديث عن واحدة من أهم السمات الفنية لشعر السلطاني، وهي (الصياغة المُحْكَمَة) لعباراته وصوره التي يبني منها قصائده على اختلاف موضوعاتها..
وعلى افتراض صحة تَوْصِيفِي لصياغة السلطاني بالمُحْكَمَة، أكونُ قد خالفتُ تماماً وَصْفَه لأشعاره بقوله: (أشعاري وليدة لحظتها الإبداعية)، كما وردَ في رَدِّه يوم 26/8/2016 على تعليق الشاعر الصالح الجزائري على قصيدة (جُرح البدء) للسلطاني.. بل أرى أن هذه العبارة لا تنطبق على أيٍّ من أشعار السلطاني التي قرأتُها على الأقل، والتي أرى أنها تنتمي جميعاً إلى نهج (المدرسة التحكيكية)..؛ وهو انتماءٌ واضحٌ تُؤكِّده طبيعةُ صياغته لعباراته، وأساليبُ تشكيله لصوره الحسية منها والتجريدية/التخييلية على السواء، وكذلك البُنى التي يتخيلها لقصائده ولكيفية توزيع ما أبدعه من صور على أبياتها التي تعود طريقةُ توزيعه لتلك الأبيات نفسها، في كينونة القصيدة، لتشهدَ على طول أَنَاتِه في اختيار مواضِعِها، وعلى كثرة تغييره لتلك المواضع، قبل أن تستقرَ على النحو الذي يصل، في النهاية، إلى القارئ..
وعلى افتراض صحة تصوُّري السابق، أستطيع أن أزعمَ مطمئنّاً أن لا أَثَرَ للارتجال أو الاستسهال أو الكتابة عفو الخاطر، في أيِّ واحدةٍ من قصائد السلطاني التي قرأتُها على الأقل.. بل أَزِيد فأقول مُعَمِّماً: إنَّ كلَّ قصائده تلك منحوتةٌ نحتاً.. وهذه صفة لا أظنُّه ينفيها أو تُزعجُه، بل لعلي لا أُجانبُ الصواب لو ظننتُ أنَّه يُحَبِّذُها ويُحبُّها، ولولا أنَّه كذلك ما كان ليُغضِي، وهو البالغ الحساسية، عن إطلاق الشاعرَين (محمد الصالح الجزائري) و(حسن ابراهيم سمعون)، وربَّما غيرهما مِمَن لا أعرف، صفةَ (الشاعر النحات) عليه، فسكوتُه عن وصفهما له بهذه الصفة يعني رضاه بها..
وما دمنا بصدد الحديث عن فنِّ النحت في صياغة شعر السلطاني، فأعتقد أنَّ ممارسته لهذا الفن لم تقتصر على طريقته في صياغة عباراته وتشكيل صوره، بل تجاوزتهما لِتَطالَ حتى نمط بنائه لقصائده التفعيلية خاصةً.. إذ يتراءى لي أنَّه، في معظم هذه القصائد، يُحَدِّدُ مواضعَ سطورها بِدِقَّة، ثم يبدأُ بإيراد كلِّ سطر في الموضع الذي اختاره له تحديداً... وبعد أن تكتمل بُنْيَةُ القصيدة، يبتعدُ عنها قليلاً ليتأمَّلها المرة تلو الأخرى، دارساً انسجام كلِّ سطر مع سابقيه ولاحقيه، مُزيلاً أيّ خلل تَلْحَظُه عينُه وأُذنُه الخبيرتان الحساستان اللتان يسعى من خلالهما للوصول إلى توفير أقصى حدٍّ من التآلف الذي يَنشُدُه بين تموجات الصور التي أبدعَ رسمَها وألحان الموسيقى التي اختارَ تحميل تلك الصور على إيقاعاتها، بُغيةَ تحويل القصيدة، في النهاية، إلى منظومة تصويرية/موسيقية آسرة، لا تَعيبُها صلابة الإتقان حتى وإِن لم تَغِب عن بُنيَتِها النهائية صلابةُ الصور والألحان التي كثيراً ما ينجح السلطاني في إيهام قارئ قصائده بأنَّه يسمع في إيقاعاتها صوتَ نَقَرَات إزميله على حجارة كلماته وهياكل عباراته..
إذاً، هو النحتُ الهادئ الواعي لشكل القصيدة البدئي وصورها وظلال عباراتها وموسيقاها، ثم التحكيك المستمر الواعي أيضاً لما يتمُّ إنجازه من جزئيات جوانبها المختلفة، في كلِّ مرحلة، وما يلي الإنجاز الأوَّلي لكل جزئيَّة من صقل صبور دؤوب لا يتوقف إلا حين يصل الشاعرُ إلى الرضا عن عمله كفنان، مُؤثراً رضاه على رضا أيِّ مُتَلقٍّ سيقرأُ قصيدتَه بعده.. وهذا هو فعل الفنان الحقّ الذي يعتقد ألَّا ناقدَ لعمله أفضلَ منه هو نفسه، ولا ناقد أقسى عليه من نفسه..
لكنَّ المدهشَ فعلاً، بعد كلِّ هذا التحكيك، أن يجدَ القارئُ نفسَه أمام نصٍّ في غاية الجمال فنياً.. ومع أنَّه لا أثرَ في هذا النصِّ لما يمكن أن يُوصَفَ بعبارة (عفو الخاطر)، فإنَّ من المُدهشِ أيضاً أنَّه نصٌّ سهل التذوُّقِ، سريع التأثير في النفس والوجدان والمخيِّلَة، كما يُؤَكِّدُ المقطع الرائع التالي من قصيدة (مطر القلب) التي كتبها السلطاني عام 2013:

لِعَيْنَيْكِ سِحْرُ الْخُرَافَةِ مِلْءَ اخْضِرَارٍ
يُزَمْرِدُ ثَلْجَ الْوُعُودْ
جَرِيءٌ هُوَ الْهُدْبُ قِدِّيسَةَ الثَّلْجِ
شَقَّ ضُلُوعَ الْحُدُودْ
شُعَاعًا جَرِيئًا يُسَدِّدُ شُقْرَتَهُ صَوْبَ حُزْنٍ سَعِيدْ
لِعَيْنَيْكِ أُسْطُورَةُ التِّينِ مِلْءَ اشْتِيَاقِ الْجِرَارِ
الَّتِي طَفَحَتْ مُنْذُ حُبٍّ قَرِيبٍ بَعِيدْ
طَفِقْتُ إِلَى ثَلْجِ عَيْنَيْكِ أَسْتُرُ عُرْيَ كُؤُوسِ الْوَرِيدْ
إِلَى ثَلْجِ عَيْنَيْكِ أَدْلَقْتُ سِرَّ الْجِرَارْ
وَعُدْتُ إِلَى الشِّعْرِ قِدِّيسَتِي
بَعْدَ مُرِّ احْتضَارْ
كَسَرْتُ الْقُيُودْ

إنَّها صورٌ أكثر من رائعة، تلك التي ترسمها سطور هذه القصيدة.. صورٌ مصنوعةٌ بعناية فائقة، غنية بالدلالات الموحية المؤثِّرة التي تحمل القارئ على أجنحة الخيال إلى آماد بعيدة من التخييل والمتعة، وفسيحة جداً تكاد تبدو بلا حدود، وساحرة جداً لا تنتهي مفاجآتُها المذهلة.. صورٌ يَزيدُ في جماليتها وصولُها متموِّجةً على أجنحة موسيقى تعبث بخلجات القلب ورفرفات الوجدان قبل أن تبلغَ الأذنين..
لكم تمنيتُ أن أتوسع في إضاءة هذه الأبيات وبيان الطريقة المثلى لذَوقِها، في رأيي طبعاً، لكنَّ طبيعةَ هذه الدراسة وحجمَها لا يحتملان ما يمكن أن ينتجَ عن هذا البيان من إطالة..
يتبع
[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس