عرض مشاركة واحدة
قديم 12 / 09 / 2016, 57 : 12 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

معايدة تقطر وجعاً..

[align=justify]جلستُ لأكتب بطاقة معايدة لأحبَّتي..
لكنْ..
فجأةً، غادَرَتني الذكرياتُ عشيةَ العيد ومَضَتْ تَغُذُّ الخطوَ بعيداً عن حاضر مازال يقطر وجعاً ودماً..
سألتُها: إلى أين؟
لم تُجِب، ولم تلتفت حتى، بل لَوَّحَتْ لي بيدها وهي تسرع كأنها عاشقة على موعد تكره أن يُؤخِّرُها أيُّ شيء عنه..
وأمام ارتحالها السريع، لم أملك أنا الآخر سوى أن أطرح حاضري، بهمومه وآلامه، عن كتفيَّ، لأركضَ خفيفاً خلفها، قبل أن أفقدها برصاص قناص، أو بانفجار قنبلة..
حافيةً كانت تركض في أزقة الماضي وحاراته الضيقة، وحافياً كنتُ أتبعُها.. لم تنتبهْ إليّ لأنها كانت تَتَنَشَّقُ رائحة أحباب اشتاقت إليهم، وتَتَلَذَّذُ بأصواتهم التي لم تسمعها منذ زمن طويل..
وجوهٌ تتلوها وجوه.. وجوهٌ جميلة أليفة.. وجوهُ أحبابٍ وأصدقاء وأهلٍ مضوا ومَضَتْ معهم أفراحٌ وأحزانٌ عشناها معاً...
كانت الذكريات تمضي عابرة الدقائق والأيام والسنين دون أيِّ عائق.. كان الزمن يذوب أمام حرارة شوقها ولهفتها..
أصواتٌ راحت تنبعث من جنبات تلك الأيام وباحات تلك البيوت التي كانت، ذات يوم، تنبض حياة.. صوتُ مؤذنٍ من هنا يُذيب حنانه القلب.. ومن مقهى وسط إحدى الحارات، ارتفع صوت أم كلثوم يُعيد إلى الحياة مشاعر وأحاسيس رقيقة نَسِيَها القلبُ وسط لهاثِ الرعب وفواجع القهر.. ومن نافذة تطير ستارتها كاشفة عن وجهٍ عاشقٍ لفتاةٍ في مَيْعَةِ الصبا، انْبَعَثَ صوتُ فيروز الحالم يحمل على أجنحته النورانية نظرات الفتاة التائهة التي تنبض شوقاً إلى حبيب لا تجرؤ على البوح باسمه..
وجوهٌ كثيرة أخرى، كلما التقت الذكريات بأحدها عانَقَتْه وهي تُهنئه بالعيد قائلة: (كل عام وأنتم بخير).. وكل الذين التَقَتْهم ردُّوا على معايدتها بأحسن منها..
وحين انتهت الذكريات من رحلتها، ورأت كلَّ الذين اشتاقت لهم، استدارت عائدة إلى الحاضر.. لكنْ بخطوات بطيئة راحت تجرجرها على أرصفة الزمن بتكاسل وكآبة ونفور..
قُبيل وصولنا إلى كون الحاضر، التَفَتْ الذكريات إليَّ قائلةً: أنا لن أعود معك.. إذا شئت أن تبقى معي فَابْقَ، وإذا شئت أن تعود إلى الحاضر فَعُد..
رغبتُ كثيراً أن أبقى معها، ولكن لم أَشَأْ أنْ أتركَ الذين مازالوا ينتظرونني في محطة الحاضر قلقين على غيابي.. فعُدْت.. وما إن بلغت تخوم الحاضر حتى زَكَمَتْ أنفي روائح الحرائق، وصَدَمَتْ عينيَّ أنقاض البيوت والأبنية، وبقع الدم والأشلاء.. مشيت بينها أبكي تارة وأقهقه كالمجنون تارة أخرى، حين نهض الجميع لاستقبالي: الحرائق والدم والأشلاء وصراخ الثكالى والأيتام والجائعين.. ثم تقدموا نحوي قائلين: (كل عام وأنتم بخير).
أنْصَتُّ لأصواتهم فتهيَّأ لي أنها تخرج من وَجَعٍ يمتدُّ آهاً طويلة مغسولةً بأنهارٍ من دمع ودمّ، لتقول للعالم كله، دون استثناء، حتى للذين غدروا بهم: كل عام وأنتم بخير..
كذلك نَهَضَتْ ياسمينةٌ تقطر حزناً وشوقاً إلى أصحابها الذين تركوها وهاجروا إلى بلاد بعيدة، لتقول بصوتٍ واهن أمضَّه العطش إلى الماء والشوق إلى لقاء الأحباب والذكريات القديمة معهم، في أركان ذلك البيت المهجور: (كل عام وأنتم يا أحبابي الغائبين بخير)..
ومن مطبخِ بيت عربي قديم صار كومة أنقاض، خَرَجَتْ أدواتُ صُنْعِ الحلويات لتقول لأهل الشام عبارة (كل عام وأنتم بخير)، مغسولةً بذكريات أمهات كنَّ يقطرنَ حباً وقَضَيْنَ يقطرُنَ دماً.... ثم أعادت تلك الأدوات (كل عام وأنتم بخير) معجونةً بأصواتِ أطفال يضحكون أمام أمهم فرحاً بمقدم العيد، وينتظرون الحلويات التي تصنعها بفارغ الصبر.. ولمَّا لم تسمع الأدوات الملهوفة أيَّ ردٍّ على عبارتها، بكت، وبدموعها الغزيرة عَجَنَتْ أشواقَها وأحزانَها لتصنع منها حلوياتٍ مُرَّةً بطعم المأساة والدم والذكريات المؤلمة..
نعم.. لم تَفُتَّ المأساةُ في عضد شعبي، ولن تَفُتّ.. ولن تمنعَه من التفاؤل والضحك وصنع الابتسامة على وجوه الغير وشفاههم رغم المأساة التي يعيشها.. ولم تمنعه من أن يقول حتى للذين تآمروا عليه وغدروه (كل عام وأنتم بخير).. وليس هذا بعجيبٍ من شعب ينتمي الفينيق إليه والعنقاء..
[/align]
كل عام وأنتم بخير...

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس