عرض مشاركة واحدة
قديم 18 / 09 / 2016, 49 : 12 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)

[align=justify]أنهيت الحلقة الماضية من هذه الدراسة التي خصصتها لإلقاء حزمة ضوء على بعض شعر الشاعر عادل سلطاني، بالحديث عن جمالية الصورة الشعرية عنده على الرغم من إحكام نسجها وتشكيلها، سواء من ناحية اختيار الكلمات أو من ناحية تشكيل الصورة نفسها أو من ناحية الدلالات الموحية في التشكيل النهائي لكل صورة.. وسأتابع في هذه الحلقة الحديث عن الصورة في شعره من خلال مثال مختار من إحدى قصائده..
وقد قررتُ الاستمرار في هذه الدراسة، على الرغم من قلة الاهتمام بها، كما يبدو واضحاً من عدد قرائها وعدد المعلقين عليها بعد نشرها. وما قراري بمتابعتها وليد إعجابي بفنِّ مبدعِها فحسب، ولكن وليد رغبتي أيضاً في تجاوز أسلوب التعليق النمطي السكوني على ما يُنْشَرُ في الموقع من إبداعات، إلى محاولة الدخول في حوار نقدي مثمر، يتفاعل فيه المبدع مع المتلقي فيتطوَّران بنتيجته معاً.. وهذا النوع من التفاعل ليس مجهولاً في (نور الأدب)، بل كان موجوداً في زمن مضى وغاب..
أعتذر عن هذا الاستطراد، وأعود إلى الحديث عن الصور المُرَكَّبَة في شعر السلطاني..
إنَّ أيَّ دارس لهذا الشعر لابدَّ أن يُلاحِظ أنَّ صُورَهُ ليست من النوع البسيط السهل، بل هي مُركَّبة من عدة صور بسيطة ليست العلاقة بينها واقعية بالضرورة، أو معقولة دائماً، وهذا أحد أسرار جمالها من جهة، وأحد أهم أسباب اختلافها وتَميُّزها، في تشكيلاتها النهائية، عمَّا يُعرَف في البلاغة العربية بالتشبيه التمثيلي من جهة أخرى، وأحد أسباب اختلافها، من جهة ثالثة، عن نمطية الصورة الغامضة الشائعة في كثير من النصوص الشعرية الحديثة، أي عن تلك الصورة التي يصنعُ غموضَها الإلغازُ المُتَعمَّد من قِبَل الشاعر..
بتعبير آخر، أكاد أتصوَّرُ أن الصورة المركبة في شعر السلطاني تنتمي إلى نمطية إبداعية أخرى، تُقَرِّبُها كثيراً من بُنيَةِ الصورة السريالية أحياناً، وهي صورةٌ يُمكنُ تعريفُها بشكل تبسيطي جداً بالقول: إنها تَتَكَوَّنُ من أجزاء كلّها واقعية، أي موجودة على أرض الواقع فعلاً، لكن التشكيل النهائي الناجم عن جمع هذه الأجزاء مع بعضها هو غير الواقعي.. وبالطبع ليس بالضرورة أن يَتَعَمَّدَ الشاعر إنجازَ مثل هذا التشكيل واعياً، بل الأقرب إلى منطق الإبداع وآلياته أن يَتشكَّل هذا النمط من الصور في اللاوعي الإبداعي للشاعر، أو ما يُسمَّى حالة الإلهام.
ولكي أُوضح ما أعنيه بالتركيب السريالي للصورة الشعرية عند السلطاني، سأنتقل من التوصيف النظري إلى شيءٍ من النقد التطبيقي أمارسُه على نموذج مُنتَقَى من إحدى قصائده العمودية وهي قصيدة (رحيل) التي يقول في مطلعها:[/align]

دَعِيني أُفتِّشُ عنْ وَجهِ أُمي ــــــــــــــــــــــ أَنـا بَـرْبـرِيٌّ أَضعْـتُ الـدَّلِـيـلْ
وَرَقـمُ الْهُوِّيـةِ نَقــشٌ قـدِيـمٌ ــــــــــــــــــــــ عَلَى قِمةِ الشوْقِ لَا لنْ يزُولْ
[align=justify]في هذين البيتين، يرسمُ لنا الشاعر في الشطر الأول من أولاهما صورةَ رجل خرج يُفتِّشُ عن وجه أمه الذي أضاعه، والأم هنا، كما يَتَهَيَّأُ لي، رمزٌ لجماعة بشرية، بغضِّ النظر عن حجمها: "شعب، أمَّة، قبيلة، عشيرة، أسرة".. وعلى افتراض صحةِ هذا التفسير لرمز الأم، في هذا السياق، ربَّما يجوز القول إنَّ الشاعر غاضبٌ ممَّا يُمكن اعتباره ضياعَ هوية الجماعة التي ينتمي إليها، بين انتماءين أو أكثر.. ولكي لا يُبقي القارئَ جاهلاً عن أي جماعة يتحدث، يُعاجله في الشطر الثاني من البيت الأول نفسه بالقول: (أنا بربري).
إذاً نحن بصدد جماعة بشرية تُسمى "البربر"، هي التي ينتمي الشاعر إليها، ويحزنُه ضياعُ هويتها الأصلية بين انتماءات متعددة أراد أن يُحرِّرَها منها ويعيدَها إلى انتمائها الأصلي الوحيد، أي إلى البربر.. وفي رحلة بحثه عن أدلَةٍ تُوصِلُه إلى مبتغاه، يعثر على واحد من أهم هذه الأدلة على الإطلاق هو "رقم هوية أمه".. لكن هذا الرقم ليس اعتيادياً، لأنه ليس مكتوباً بأرقام كالتي يستخدمها الناس، بل هو نقشٌ قديم.. وقَصَدَ الشاعر بهذا التوصيف إخبار قارئه بعراقة المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، وبِتَمَيُّزِ الطريقة التي يُبَيِّنُ فيها أبناؤها انتماءهم إليها..
ثم يستمر السلطاني في تشكيل صورته المركبة، باثّاً الدهشة في كلِّ مفصَلٍ من مفاصلها، كما لابدَّ أن نشعر، حين يُخبرُنا مثلاً بأنَّ هذا الرقم/النقش ليس محفوراً على حجر أو خشب أو عَظْم أو أي شيء آخر مادي صلب، بل على "قمة الشوق"، أي على سطحٍ انفعالي لحالة عاطفية لا يمكن لمسُها بأيٍّ من الحواس الخمس، وإنما بالشعور والقدرة على التخيُّل فقط.. ولكن لماذا حفرَ السلطاني نقشَ هوية انتمائه على ذلك السطح غير المحسوس؟ أظنُّ ليخبرَنا باستحالة زواله، لأن أحداً لا يستطيع محوَ ما يكتبُه الإنسان على صفحة شوقه إلى صيرورةٍ مستقبلية يحلم بها لذاته الفردية ولجماعته التي ينتمي إليها، في نفس الوقت.. فما يُكتَب على نسيج النبضِ العاطفي للإنسان يمتلك قدرة الانتقال من جيل إلى جيل..
وهكذا، فمن صور صغيرة، لكل واحدة إشعاعها الرمزي الخاص، حين ننظر إليها منفردة، مضى السلطاني يُرَكِّب منها صورته النهائية التي يشعُّ تشكيلها اللاواقعي برمزية بالغة التأثير في النفس والوجدان..[/align]

يتبع...

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس