قراءة 2، ((الأدب الإسرائيلي)) وتسويغ استمرارية الحرب ضد العرب..
[align=justify]نُشرَت هذه المادة بتاريخ 2014/5/21، في (نور الأدب)، مُنتدى (أوراق الباحث محمد توفيق الصواف).. وقد رأيت إعادة نشرها هنا، على الرغم من أنَّها أقربُ إلى الدراسة منها إلى القراءة، لأهمية مضمونها من جهة، ولأنَّني سأُقدِّم لاحقاً قراءات للنصوص الأدبية المذكورة في ثناياها من جهة ثانية..[/align]
[align=justify]من الملاحظ في أدب أي أمة، وجودُ مساحة معينة من الاهتمام بموضوعات الحرب وقضاياها، وحجم هذه المساحة يتصل اتصالاً وثيقاً بحجم التهديدات التي تعرَّضت لها في الماضي، أو التي يمكن أن تتعرَّض لها مستقبلاً، كما يتصل بحجم تطلعاتها إلى التحرر إن كانت مستعمَرة، أو إلى السيطرة على الغير إن كانت مستعمِرة أو تطمح لأن تصير كذلك؛ هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، بعضها اقتصادي وبعضها اجتماعي أو سياسي، تلعب كلها دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بالحرب وقضاياها أو التقليل من هذا الاهتمام في أدب هذه الأمة أو تلك.. لكن قلما نعثر على أدب أمة من الأمم، يُكَرِّس مؤلفوه جُلَّ جهدهم للحديث عن موضوع الحرب، بحيث تُصبح المحورَ الرئيس الذي تنبثق منه وتدور حوله كل المحاور الأخرى، في هذا الأدب، كما هو عليه الحال في الأدب الإسرائيلي.
فمن يتاح له الاطلاعُ على نصوص هذا الأدب، سيُلاحظ أن الحربَ ظلَّت محورَه الرئيسَ فعلاً، طيلة النصف الثاني من القرن الماضي وما تزال، أي منذ الإعلان عن قيام إسرائيل إلى الآن.. كما سيُلاحِظ أنَّ غالبيةَ المحاور الثانوية التي تدور حول هذا المحور، تنبثق من طروحات الأيديولوجية الصهيونية والأهداف العليا للسياسة الإسرائيلية وما يتصل بهما من مزاعم وذرائع مسوِّغة، من أبرزها:
تسويغ استمرارية الحرب، بذريعة أنها الخيار الوحيد المتاح لليهودي الموجود في اسرائيل، واعتبار السلام حلماً مستحيلاً وترفاً طوباوياً لا يحتمله وضع الصراع بينها وبين العرب؛ ومن ثَمَّ فإن الدعوة إلى استمرار تعبئة النفسية الإسرائيلية بالروح العدوانية الصادرة عن خلفية عنصرية موجهة ضد العرب، تغدو ضرورةً تحت ذريعة ما يُطلق عليه سياسيو إسرائيل وأدباؤها الحفاظ على الأمن وما يَتَطَلَّبه ذلك من ضرورة تكريس الجهود للدفاع عن النفس والمنجزات، الأمر الذي يقود، في المحصلة، إلى إمكانية اعتبار الأدب الإسرائيلي، في معظمه، أدباً مُجنَّداً لخدمة أهداف الأيديولوجية الصهيونية، والأهداف العليا للسياسة الإسرائيلية، ولاسيما التوسعية منها.
وبالطبع لم يكتسب الأدب الإسرائيلي هذه السمة المُمَيِّزة له من فراغ، بل كان اكتسابُه لها ثمرةَ تأثُّر الأديب الإسرائيلي، بقيم مجتمع يعيش حالة حرب مستمرة، صنعَها قادتُه من جهة، وبما يحدث في هذا المجتمع وله، جرَّاء استمرارية تلك الحال من جهة ثانية، كما كان ثمرة ارتهان ذلك الأديب لمعتقداته الأيـديـولـوجيـة، وسـعيه مـن منطـلق الرغبـة بالتزام تلك المعتقدات، في أدبـه، إلى تـوظيف قدراتـه الإبداعية والفنية في مجال ذلك الالتزام من جهة ثالثة.. وهذا ما يقودنا إليه الاستقراء الموضوعي لنتاجات معظم الأدباء الإسرائيليين، ولاسيما أدباء الجيلين الأول والثاني...
وسأحاول، في هذه العجالة، إلقاء حزمة ضوء على واحد من أبرز الموضوعات التي تدور حول محور الحرب في الأدب الإسرائيلي، وهو موضوع الدعوة إلى استمرارية الصراع ضد العرب، والذرائع التي اعتمدها بعضٌ من أشهر مُنتجِي هذا الأدب لتسويغ هذه الدعوة في أدبهم..
بدايةً، قد لا يكون من مبالغة القول: إن معظم أدباء الصهيونية وإسرائيل وَظَّفوا قدراتهم الإبداعية من أجل الترويج لهذه الدعوة وتسويغها.
فمثلاً، كَرَّس (ناتان ألترمان) الذي كان يُعدُّ شاعرَ القصيدة الغنائية الأول، في إسرائيل، عدداً كبيراً من قصائده لحثِّ الإسرائيليين على الحرب المستمرة ضد العرب، مُتَّكئاً على المزاعم التي استقاها من طروحات الأيديولوجية الصهيونية، وفي مقدمة هذه المزاعم: أن (العرب المتخلفين) كانوا وسيظلون أعداءً لليهود، ولكلِّ مظاهر الحضارة الغربية التي يزعم (ألترمان) أنهم جلبوها معهم إلى فلسطين، وأنَّ العربَ نتيجة عجزهم عن مجاراة اليهود في تَبَنِّي قيم هذه الحضارة الغربية وعن المساهمة في بنائها، حقدوا على اليهود وحسدوهم...
ثم، ومن منطلق الحقد والحسد فقط، ودون أي خلفيات وطنية أو قومية أو إنسانية، تحوَّل معظم العرب، كما يزعم الشاعر، إلى (قتلة ولصوص) طامعين بسرقة (المنجزات الحضارية) التي نجح اليهود في تحقيقها، أو إلى (مخربين) يسعون إلى تحطيم تلك المنجزات وتخريبها إن لم يتمكنوا من سرقتها.
ومن أبرز قصائده التي تبدو هذه المزاعم واضحة فيها، قصيدته (أَنْشِي هَعَلِيَّاه هَشْنِيَّاه = رجال الهجرة الثانية) التي كَرَّسَها للحديث عن طلائع المهاجرين اليهود إلى فلسطين وعَمَّا وصفه بمنجزاتهم التي زعم أنَّ العرب تحوَّلوا إلى (لصوص) يحاولون سرقتها، و(ومجرمين) يسعون لقتل من حققوها!!!! وعلى أرضية هذه المزاعم كلها، بنى دعوته للمهاجرين اليهود، ولكل الإسرائيليين من بعدهم، بأن يظلُّوا على أهبة الاستعداد للدفاع عن أنفسهم وعمَّا أسماه بمنجزاتهم، ضد العرب...
وبعد (ألترمان) سارت الشاعرة اليمينية العنصرية (نعمي شيمر) على خطاه، وعلى نحو أكثر تطرفاً في دعوتها لاستمرارية الحرب، ضد العرب، حاشدةً عدداً كبيراً من المزاعم والافتراءات التي استخدمتها كذرائع لتسويغ دعوتها العدوانية تلك، وهو ما نلاحظه بجلاء في عدد كبير من قصائدها، وخصوصاً المغناة منها، من مثل: (أَنَحْنُو شِنِينُو مِأُوتُو هَكْفَار = كلانا من ذات القرية)، و(عَلْ كِنَافِي هَكِّيسِف = على أجنحة الفضة)، و(مَحَار = غدا)، وغيرها...
وبالإضافة إلى (شيمر)، نجد الكثير من الشعراء الإسرائيليين الذين نهجوا نهجها ذاته في الدعوة إلى استمرارية الحرب، ضد العرب، من أمثال: (يعقوب أورلاند) و(آرييه دوفنشتاين) و(عمانوئيل لين) و(أبراهام لفينسون) و(أبراهام شالونسكي) و(حاييم حيفر) و(حاييم جوري) وآخرون..
وإذا انتقلنا من الشعر إلى النثر، نلاحظ بروز الدعوة إلى استمرارية الحرب ضد العرب، في عدد كبير من نتاجات الروائيين وكتاب القصة القصيرة الإسرائيليين، ومن أبرز هؤلاء: (شموئيل يوسف عجنون) و(نعمي فرنكل) و(يورام كانيوك) ) و(موشيه شامير) و(أهرون ميجد) و(سميلانسكي يزهار) و(حاييم هزاز) و(حانوخ بار ـ طوف) وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً، وبغضِّ النظر عمَّن يُوصَفُ من هؤلاء بالمعتدل.
ولعل من المهم الإشارة إلى أن الدعوة إلى استمرارية الحرب ضد العرب، لم تقتصر على النتاجات الأدبيـة لـهؤلاء بـل تَعَدَّتها إلى التـصريحات الـتي كان يُدلـي بهـا بعضهم، بين الحين والآخر للصحـف والمجلات، أو عبر اللقاءات الإذاعية التي كانت تُجريها معهم هذه المحطة الإسرائيلية أو تلك، في أوقات مختلفة، بالإضافة إلى المقالات القصيرة التي كانوا ينشرونها في الصحف.. فقد كان لكل هذه الألوان من التعبير التي مَلَأَ بها الأدباءُ الإسرائيليون هامشَ نتاجاتهم الأدبية، دورٌ مهم في تأسيس الأرضية العنصرية/العدوانية التي تظهر فاقعة في هذه النتاجات، ومساهمةٌ فعالة في عرقلة الوصول إلى أي صيفة من صيغ السلام.. وهذا بديهي، لأن الغالبية العظمى من الإسرائيليين الذين نشأوا على هذه الأرضية لم يعودوا قادرين على التعامل نفسياً وفكرياً مع احتمال التوصل إلى سلام حقيقي مع العرب، بعدما غُذُّوا، منذ نعومة أظفارهم، على وَهْمِ أن الحربَ قدرُ الإسرائيلي المحتوم، وأن السلام ما هو إلا مجرد حلم مستحيل على لائحة هذا القدر.
ومن النماذج المعبرة للغاية عن هذا النمط من ألوان التعبير التي مَلَأَتْ هامشَ النتاج الأدبي الإسرائيلي، والتي ساهمَتْ في تأسيس أرضية العداء ضد العرب، بالإضافة إلى النص الأدبي الصِّرْف، ما كتبه مثلاً، الأديب الإسرائيلي (حانوخ بارطوف)، في صحيفة معريف الصادرة بتاريخ 1969/5/9، قائلاً:
(حينما جاء إلى هنا أوائل الطليعيين ذوي الأفكار الراقية، وأقاموا المجتمع الكيبوتسي، اعتقدَ الجميع أنهم سينقلون بشرى المساواة الحقيقية إلى العالم بالبنطلونات الخاكي والقمصان الزرقاء.. ولكن ماذا حدث؟؟ لقد ذاعت شهرتنا في العالم على أنَّنا أحسن مظليين وأحسن طيارين، وليس لنا خيار في ذلك!!!)...
نعم، هذا نموذج في غاية الوضوح للدلالة على طريقة قَلْبِ الحقائق التي ينتهجها أدباء إسرائيل، في حديثهم عن الصراع مع العرب.. فهذه الأسطر على قلتها، تتضمن المقولة التي اعتمدتها الصهيونية لتسويغ احتلال فلسطين، والمبنية على الزعم بأن المهاجرين اليهود الأوائل جاؤوا إليها بوصفهم (رُسُلَ حضارة وتقدُّم)، فناصبَهم العربُ العداءَ، وأجبروهم على الحرب، فحوَّلوهم بذلك من (رسل حضارة ودعاة مساواة) إلى طيارين ومظليين يزرعون الموت والدمار في كل شبر من الأرض العربية، و(أن هؤلاء الطيارين والمظليين لم يكن لهم خيار في هذا التحوُّل)، لأنَّ العربَ، حسب الزعم الصهيوني/ الإسرائيلي، هم الذين فرضوه عليهم فرضاً... ومادام الأمر كذلك، ومادام العداء العربي مستمراً ضد إسرائيل، فليس لدى يهودها، كما يؤكد أدباؤها، أيّ خيار غير خيار الاستمرار في شَنِّ الحرب تلو الحرب ضد أولئك الأعداء..
إنها محاولة ذرائعية مصنوعة بإتقان وخبث لتسويغ استمرارية الحرب وإسباغ المشروعية على شَنِّها عن طريق إلقاء المسؤولية على المُعتَدَى عليه بدلاً من شجاعة الاعتراف بجُرم احتلال أرضه بالقوة، وقتله أو تشريده خارجها؛ وبدلاً من الشجاعة في تَحَمُّل مسؤولية هذه الممارسة العدوانية/الإرهابية.
وقد كان من البديهي أن يُساهمَ الإصرارُ على هذه المحاولة في خلق نزعة عدوانية شرسة في نفسيات يهود إسرائيل، ليس ضد الجندي العربي في ساحات الحروب فقط، بل حتى ضد العربي الأعزل في بيته أو بستانه أو معمله، والذي تعرَّض لسادية العداء الإسرائيلي العنصري وتطرفه الهمجي دون أيِّ رادع أو أيِّ إحساس بالذنب..
تُرى، أليس غريباً بعد هذا كله أن تجد، بين العرب، وفي العالم، من لايزال يتوهَّم بأن من الممكن صنع سلام مع إسرائيل التي رُبِّيَ أفرادها على الاعتقاد بأن الحربَ قدرُهم، وأن السلامَ مع العرب نوعٌ من الاحتمالات المستحيلة؟!...[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|