الموضوع: الجدران...
عرض مشاركة واحدة
قديم 16 / 11 / 2016, 37 : 12 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

الجدران...

[align=justify]القصة السابعة في مجموعتي (ميت في إجازة) الصادرة عن دار المسبار، في دمشق، 2004[/align]
[align=justify]جَمَعَ أشلاءَ انتصاره المغدور، وألقى بها في كيسٍ من غيظ، ألقاه على كتفه، واتخذ طريقه في التيه غَضَبَا...
الرصاص الحيُّ المتطاير في كلِّ الاتجاهات، وكذلك شظايا القذائف المختلفة الأنواع والأشكال... أشلاء الجثث المتناثرة في كلِّ مكان على أرض المعركة... الخوف الذي يُلبِّد السماء، ثم يَتَحَوَّل إلى هواء يدخل القلب بدلاً من الرئتين... صورٌ تتحرك في الذاكرة بسرعة مجنونة دون توقف...، تَتَحَوَّل إلى حِرَابٍ تخترق القلب بسَادِيَّة قذرة، إلى عويل مقطوع النَفَس يتغلغل في كلِّ ذرة من كيانه، ويُحيلها غيمةَ حزنٍ تقطرُ دماً.. كان على وشك إحراز النصر..، لكن..، ما كاد يرفع أُصْبُعَيه معلناً انتصاره، حتى أتاه الأمر:
- انْسَحِبْ!!
- أَنْسَحِب؟! وأتركُ للعدو فرصةَ النجاة، ثم العودة لقتالي من جديد؟! لماذا؟! وماذا يعني هذا الأمر؟!
- لا تُناقِش! نَفِّذْ الأوامرَ فقط...!
- حاضر...
قالها بغيظٍ لم يشعر بمثله من قبل، وانسحب... لكنْ إلى أين؟ إلى حيث لا يدري...
كان يجرجر خطواته ساخطاً حزيناً، وأصوات الانفجارات مازالت تتوالى.. صوتُها يأتيه من بعيد، من هناك، من حيث كان على وشك الانتصار..
ولأول مرةٍ أحسَّ شيئاً ما عنيفاً جداً يضربُ حَلْقَه، ثم ينتقل إلى عينيه... أَيُعْقَل أن أبكي، وأنا في هذه السن؟ وقبل أن يجدَ الجوابَ المناسب، انسكَبَ الدمع من عينيه وفوهة بندقيته معاً....
نفسُ التصرُّف... نفسُ اللعبة القذرة دائماً... في لحظة الانتصار، يأتي من يحرمك من الفرح به، ويُحيله إلى ما هو شرٌّ من الهزيمة، فلماذا؟
نفسُ الحيرة، وفقدان القدرة على الجواب.. أهي محاولةٌ لإدخالي في قمقم اليأس؟ ولكن لماذا؟ لا لا، لا يأس، فأنا لست مرتزقاً بل صاحب حقّ.
ونظرَ جهةَ أرض المعركة التي انسحب منها، تاركاً انتصاره يستحيلُ على أرضها هزيمة؛ وبلهجة الواثق المُصَمِّم، خاطبَ عدوَّه الذي سرق منه انتصاره، قائلاً:
- لا بأس، سيأتي يومٌ ونتقابل فيه من جديد.. فلا تفرح كثيراً.
وما كاد يستدير مُيَمِماً صَوْبَ بلدته التي راح يفكر كيف ستستقبله وهو عائد مُثقلاً بهزيمة فُرضت عليه، حتى حدثَ ما حدث...
للوهلة الأولى، لم يُصَدِّق عينيه.. ففركهما بشدة.. ثم قَرَصَ فخذه مراراً ليتأكد أنَّ ما يراه ليس كابوسَ يقظة، تَشَكَّلَ على خلفية حزنه؛ ولكن، "آه... ليس كابوساً كما يبدو، بل حقيقة...!" وما كاد يتَلَمَّسُ تلك الحقيقة بأصابع وعيه، حتى احتَلَّهُ ذهولٌ طاغٍ شَلَّ حركتَه وتفكيره، وأَحَالَهُ كتلةً من بلادة لزجة عاجزة عن فِعْلِ أيِّ شيء...
لقد بَدَأَتْ الأرضُ تَشَقَّقُ من حوله سراعاً، لتَنفَرِجَ شقوقُها عن جدران سميكة متلاحمة الأطراف على شكل مُربعٍ مُحكَم، راحت ترتفع حوله بسرعة مذهلة، مُحَاصِرَة إيَّاه بين أبعادها الضيقة المُحْكَمَة الإغلاق...
وما هي إلا ثوانٍ، حتى وجد نفسه داخل زنزانة من نوع غير مألوف... زنزانة ترتفع جدرانها حتى تُلامِس نهاياتُها أطرافَ السماء لتُحيلَها إلى سقفٍ من حجر صلد لا شمسَ تتألَّقُ في كبدها نهاراً، ولا قمرَ يبتسم فيها ليلاً... زنزانة لا أمل لمن يقع في مصيدتها بالنجاة أبداً... وبعصبيةِ من دخلَ مصيدةً على حين غِرَّة، صرخ من أعماق ذهوله:
- مستحيل.. مستحيل...
فتَبَدَّدَ الذهول، ولكن بعد فوات الأوان. حانت منه نظرةٌ إلى بندقيته.. صَوَّبَها نحو الجدران، سَدَّدَ.. أطلقَ رصاصَها على الجدران الملساء الصلدة، فانزلقت فوقها دون أن تُحدِث فيها أيَّ أَثَر.. لم ييأس، فَرَدَ حربةَ البندقية. وَجَّهَها إلى أحد الجدران، واندفع نحوها بقوة حانقة... تحطمت الحربة... "آآآآآه.".. تهاوى على الأرض متكوماً إلى جانب بندقيته التي تحطمت حَرْبَتُها، تاركاً ليأسٍ أسودَ لزجٍ نزَّ من كسور حطامهما معاً، أنْ يتسلَّلَ إلى قلبه الذي استحالَ صحارى من ملح مُرٍّ تَحْلُمُ بأشجارٍ احترقَت في لحظةِ عطائها...
صار الوقتُ سلحفاة، فدخل ملكوتَه، كائناً عصبياً يُجَرجِر خطواتٍ تَتَعَجَّلُ لحظةَ النهاية... في منتصف الطريق أدركَه الملل، ففكَّر أن يَخُطَّ على الجدران قصتَه مُتسلِّياً.. تناولَ حجراً ليحفر به فوقها، فلم تَسْتَجِبْ مَلاسَتُها الصلدة لحركة الحجر... فرماه، ثم رمى بعده رأس الحربة المكسورة، بعدما عجزَتْ هي أيضاً عن الاستحالة قلماً يكتب، فوق تلك الجدران الملساء الصلدة...
أسند ظهراً مُتعَباً إلى أحد تلك الجدران، واحتوى رأسه بين كفَّيه، مُقرِّراً أن يُمضي ما تَبَقَّى له من حياة في رحلة أحلام... وهناك، في القرية التي ترك فيها زوجته وأولاده وأهله، رآهم قَلَقاً ينتظرُ عودتَه... رَقَّ قلبُه لمرآهم، ثم دَمِعَت عيناه، وهو يَتصوَّر تَلَقِّيهم خبرَ موته مهزوماً... ولكن حين أبصرَ وجه ابنته الصغيرة يبتسم له مُرَحِّباً، انتفَضَ كَمَن أصابه تيارٌ كهربائي مفاجئ، وغادرَ عالمَ أحلامه، ليعود إلى واقعِه المحاصَر صارخاً بإصرار:
- لا... في حياتي كلِّها لم أعرف اليأس...
وشَعَّتْ عيناه بوميض أعاد إليهما الحياة.. ثم تناول رأسَ الحربة المكسورة، وراح يحفر تحت أحد الجدران بقوة وإصرار...
- لابدَّ أن أجدَ مخرجاً...
حَفَرَ وحَفَرَ حتى كَلَّتْ يداه، ولكن... "ما أبعدَ جذور هذه الجدران..! تُرى أيُّ لعنة أَنْبَتَتْها؟"....
أحسَّ بالإرهاق، فرمى رأسَ الحربة يائساً، مرة أخرى... ثم احتوى رأسَه بين كفيه ثانية، لا يدري ما يفعل.. ومَضَتْ عليه سحابةٌ من زمن مُرهِق، راحَ، وهو خلالها في شبه غيبوبة، يَعْلِكُ إحساساً مُرّاً بالإحباط... وحين مَرَّت تلك السحابة، رفعَ رأسه، وفتح عينيه ليرى إلى جديد مصيبته، وما كاد يفعل حتى جحظَت عيناه دهشةً وخوفاً، وانْشَقَّتْ حنجرته عن صيحةٍ هائلة، وهو يرى جدران زنزانته قد أخذَت تقترب من بعضها، رويداً رويداً، بحركة تُوحِي أنَّها تسعى إلى التلاصق الوشيك... وبحركةِ دفاعٍ عفوية عن النفس، أسندَ ظهره إلى إحداها ومَدَّ يديه إلى الجدار المُوَاجِه، وراح يَدفَعُ بكلِّ ما تَبَقَّى له من قوة محاولاً مَنْعَ اقتراب أحدهما من الآخر... لكنْ، لا فائدة...
الموتُ سَحْقاً.. هذه هي النهاية إذاً.. ولكنْ أيّ نهاية هذه، ومن الذي صَمَّمَها على هذا النحو المريع، ومن الذي يُنَفِّذُها؟! أَكُلُّ هذا لأنَّني كِدتُ أن أنتصرَ عليه؟ ألهذه الدرجة تحبونه؟ حتى مجرد الاقتراب من النصر عليه صار حراماً؟!
حسناً... ولكنْ ليكن بعلمكم جميعاً، لستُ أنا من يستسلم.. سأخرج من بين هذه الجدران اللعينة، وسترون.. أُقسمُ أنني سأخرج.. بل لابدَّ أن أخرج.. فأنا ابنُ المعجزة، وسأجد الطريقة، فلا تفرحوا كثيراً.. سأخرج حتى ولو سحقتموني بجدرانكم هذه، وسترون...
وفيما كان يصرخ بتلك الكلمات المُتَحَدِّيَة، تَصَلَّبَتْ نظراتُه وقَسَتْ، وهو يرُكِّزُها على الجدران العاتية التي كانت مستمرة في اقترابها من بعضها، لتسحقَه بينها.. ثم تابع وهو يتحدَّاها.. هيَّا اقتربي... اقتربي أكثر... هيَّا، فلم يَبْقَ بيني وبينك سوى خطوة أو خطوتين... اقتربي، لتختبري مدى قسوتي، ومدى قدرتي على الصمود.. لن تسحقيني بسهولة... ولن تقتليني خائفاً، فاقتربي... اقتربي أكثر..
وظلَّت الجدران تقتربُ بثبات نحو بعضها لتسحقه فيما بينها... وقبل تلامسها مع جسده، صحا عقلُه، وكانت بندقيته المكسورة، ما تزال في يده، فأسرع يرفعها بصعوبة مُمَرِّراً إياها عبر المسافة الضيقة المُتَبَقِّيَة بينه وبين الجدار المُوَاجِه له، مُوَجِّهاً فُوَّهَتَها إلى أعلى... وبسرعة خاطفة استحضرَ في ذاكرته كلَّ أمجادِه القديمة، وصورَ أطفاله وزوجته وأبويه وجميع من خرج يُدافع عنهم من أهل بلده، فانْتَصَبَتْ قامتُه كبرياءً، وافْتَرَّتْ شفتاه عن ابتسامة تَحَدٍ، وهو يرفعُ أُصبعَيّ يمناه لتَرْسِمَا شارةَ النصر، في نفس لحظةِ إطباقِ الجدران الآثمة عليه...
في صباح اليوم التالي، شاهدَ أهل المدينة الحزينة، وهم في طريقهم إلى أعمالهم، صورةً لشهيد جديد يرفعُ صاحبُها أُصبُعَيه مُعلناً انتصارَه.. ولم يكن في تلك الصورة الرائعة التي وجدوها مُلصَقَةً على كلِّ جدران مدينتهم، أيُّ جديد سوى أنَّها رُسِمَتْ بمواد تُشبِه اللحمَ الحيّ، وهو ما جعلهم يُدركون أنَّ صاحبَها قد انتصر...؛ فتركوا حزنَهم عليه صدى يتردَّدُ بين جدران المدينة، وغادروا بيوتَهم وشوارعَهم، ليَتَسَلَّلُوا في صورته التي غادرَها فوراً، مُمتلئاً بهم، عائداً إلى أرض المعركة من جديد... [/align]

دمشق في 1996/9/1

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس