13 / 12 / 2016, 43 : 10 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
|
ذكرى المَوْلِدِ النبوي، كدعوةٍ مُتَجَدِّدَةٍ لصناعةِ الانسانِ المثالي..
[align=justify]ما أكثرَ الدلالات التي تشعُّ، كلَّ عام، من ذكرى المولد النبوي الشريف، رموزاً غنية بإيحاءاتها تُثير في نفس المسلم فيضاً من المشاعر الإنسانية الشفيفة الطيبة، وتأخذه إلى عوالم يمتزج الخيال فيها بالواقع، والماضي بالحاضر، والحب بالفكر، ورقَّة الخشوع بين يدي الله برِفْعَةِ العبودية له وحده، وخفقان القلب حبّاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بحرقة الشوق إلى لقائه، ولو في عالم التخييل..
لكن..، هل يكفي تَذَوُّق كلِّ تلك الدلالات والإحساس بكلِّ تلك المشاعر لإحياء ذكرى المولد النبوي في مُجرَّدِ أناشيدَ دينية وتهانٍ يتبادلها المسلمون وهم يمضغون قطع الحلوى؟
في تصوُّري، ثمة ما يبدو أهم من الأناشيد والتهاني للتعبير عن حبِّ المسلمين لنبيهم، صلى الله عليه وسلم، والتعبير عن الدلالات والمشاعر التي تُثيرها ذكرى مولده في نفوسهم وعقولهم كرمز إسلامي.. وما أقصده هنا يتمثَّلُ في ضرورة محاولتهم توظيفَ هذه الذكرى العظيمة كمناسَبَةٍ لتجديد العهد مع الله سبحانه، بالعودة إلى طريقه المستقيم الذي رسمَه لهم في قرآنه، ثم تجديد العهد مع رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، بالتزام سنته في معاملاتهم وسلوكهم الحياتي مع بعضهم ومع غيرهم من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى..
بتعبير آخر : ثمة ما يدفع إلى القول: إن على المسلمين ألَّا يكتفوا بالتعامل مع ذكرى المولد كمناسبة لإلقاء الخطب وسماع الأناشيد الدينية وتبادل التهاني والتمنيات الطيبة فحسب، بل عليهم أن يُحوِّلوها أيضاً إلى مناسبة سنوية مُتجَدِّدَة للنظر بموضوعية، في مدى اقتراب كلٍّ منهم أو ابتعاده عن شخصية الانسان المثالي التي قدَّم لنا نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، نموذجَه الواقعي الأول في شخصيته العظيمة، ثم قدَّم لنا البرهان العملي والواقعي على أنَّ بناء نماذج مقارِبة لشخصه الكريم، عليه الصلاة والسلام، أمرٌ ممكن وليس حلماً مستحيلاً ولا تصوراً طوباوياً كالذي تَوَهَّمه بعض الفلاسفة والأدباء في عصور قديمة، وحتى في عصرنا الراهن أيضاً.
فقد قدَّم لنا عليه السلام البرهان العملي، على إمكانية بناء الانسان المثالي، في الواقع وليس في الخيال، من خلال نجاحه الباهر في بناء شخصيات صحابته الكرام.. تلك الشخصيات التي أشرفَ هو نفسه على بنائها مُستلهماً هديَ القرآن الكريم ومُلتزماً بما جاء فيه، كي يؤكِّدَ لكلِّ الذين سيأتون بعده، أنَّ تجربتَه الفذة في بناء الانسان المثالي تجربةٌ ممكنة في كلِّ زمان ومكان، لأنَّ طريقة بنائها ومقومات هذا البناء وسماته المميزة والدقيقة موجودةٌ جميعُها، في النص القرآني الكريم وفي هدي السنة المطهرة.[/align]
مولدان لا مولدٌ واحد...
[align=justify]من هذه الزاوية الخاصة في النظر إلى ذكرى المولد النبوي الشريف، يمكن القول، وببساطة: إنَّ للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، مولدين لا مولداً واحداً.
الأول، هو مولده، كأيِّ إنسان من لحم ودم، يومَ وضعَتْه أمُّه آمنة بنت وهب؛ وهذا مولده كبشر عاديٍّ يشترك فيه، صلى الله عليه وسلم، مع كلِّ بني البشر الذين وُلدوا وعاشوا وماتوا، في كلِّ الأزمنة والأمكنة.
أمَّا مولده الثاني، وربَّما الأهم، فهو يوم نزول الوحي عليه، لأول مرة، في غار حراء، بعد مرور أربعين سنة تقريباً على مولده الأول.
لذا، وعلى افتراض صحة هذا الرأي، ينبغي أن يكون احتفالنا بمولد محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعظمَ من احتفالنا بمولد محمد بن عبد الله الإنسان؛ لأنَّ مولده كرسولٍ لله يعني مولدَ الأمة التي صارت تنسب إليه حتى اليوم، كما يعني مولد الرحمة السابغة على هذه الأمة والانسانية جمعاء، وكذلك مولد أول انسان مثالي، في تاريخ البشرية، على أرض الواقع وليس في فضاءات تَصَوُّرٍ جامح أو بين دفَّتَي رواية مُتَخَيَّلَة؛ الأمر الذي يطرح سؤالاً على جانب كبير من الأهمية وهو:
ماهي ملامح هذا الانسان المثالي الذي جَسَّدَه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شخصه الكريم أولاً، ثم وَفَّقَه الله إلى بناء نماذج مقارِبة له، إلى حد بعيد، في شخصيات صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين؟ [/align]
[align=justify]أهم ملامح الانسان المثالي كما أراده الله في كتابه، وكما تَجَسَّدَ في شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ثم في شخصيات صحابته عليهم السلام:[/align]
إنسان الحرية
[align=justify]وُلِدَ الرسول، صلى الله عليه وسلم، والبشرية ترزح تحت نير العبودية المُرهِقة بشتى أشكالها ونماذجها؛ عبودية الانسان لأخيه الانسان، وعبودية المادة، وعبودية الشهوات، وعبودية الاصنام، وعبودية الخوف من المخلوقين، وعبودية الخوف من المرض والموت والفقر والجوع والذل، وما شابه من ألوان العبودية الأخرى والكثيرة التي عرفتها البشرية قبل مولد الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وما يزال أكثرها سائداً حتى في عصرنا الحالي، مُضافاً إليها نماذج جديدة لم تكن معروفة من قبل، ولامجال لذكرها هنا.
لذا، كانت النعمة الكبرى التي أنعمَها الله على البشر جميعاً، تتمثَّل في تحريرهم من كلِّ ألوان العبودية التي كانت سائدةً، في عصر الرسول، عليه الصلاة والسلام، والعصور التي قبله، وما يُحتمَلُ أن يظهر من ألوانها في عصور قادمة.. وكانت الوسيلةُ إلى بلوغ هذا المستوى من الحرية الارتقاءُ بالإنسان إلى مستوى العبودية الخالصة لله وحده. فلا عبودية لغيره من مال أو جاه أو سلطان أو شهوة أو أنانية أو غير ذلك من آلهة عُبِدَت قديماً وما تزال تُعبَدُ إلى الآن.[/align]
إنسان العدل
[align=justify]متى تحرَّرَ الانسان من عبوديته لغير الله، استطاع أن يصيرَ عادلاً، وإذا صار عادلاً فلن يظلم نفسه أو غيره، لأنَّ مصدر عدله ليس الخوف من أحد المخلوقين بل الخوف من الله وحده فقط، امتثالاً لأمره الذي ورد في الحديث القدسي المعروف (يا عبادي إنِّي حَرَّمْتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا). وما دام هذا الانسان مُعتقِداً اعتقاداً جازماً بأنَّ الله يراه في سرِّه وجهره، وأنَّه سيحاسبه على كلِّ فعله، مهما دَقَّ وصَغُر، حتى لو كان مثقال ذرة، فلاشكَّ أنَّه سيستقيم على أمر خالقه العظيم، ولن يجرؤ على الظلم أبداً... [/align]
إنسان الصدق
[align=justify]الصدق من أهم سمات المسلم الحقّ... فالمسلم، حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يرتكب كلَّ الفواحش في لحظة ضعف، لكنه لا يمكن أن يكذب ابداً... وهذا بديهي، إذ كيف يجرؤ أن يكذب مادام يعتقد أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على سرِّه وجهره؟ وكيف يمكن أن يكون حراً وعادلاً إلا إذا كان صادقاً؟ لذا، فما أحوجَ البشرية، قديماً واليوم وإلى يوم القيامة، للصدق كي تخرج من حمأة التردِّي القيمي والأخلاقي الذي تُعانيه. [/align]
إنسان المحبة والرحمة
[align=justify]ومتى استطاع الانسان أن يتحرر من كلِّ ألوان العبودية لغير الله، واستطاع أن يكون عادلاً وصادقاً، صار من الممكن أن يكون مُحبّاً، ليس لنفسه فقط، بل لله الذي يعبده أولاً، ثم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنْ هداه إلى معرفة الله وإلى طريق الفوز بالجنة والنجاة من النار ثانياً، ثم لنفسه التي لا يريد لها الخير في الدنيا والآخرة.. ومَن أحبَّ الله ورسولَه فوق حُبِّه لنفسه، كيف لا يكون محبّاً لأخوته في الدين، بل للخلق جميعاً؟! ثم كيف يمكن لمن يكون محبّاً ألَّا يكون رحيماً، والرحمة وليدة الحبِّ وهويته وأبلغُ وسائل التعبير عنه؟[/align]
إنسان العلم
[align=justify]من الافتراءات الشائعة على الاسلام أنَّه سبب تخلُّفِ من يدينون به؛ لكنَّ الحقيقة التي لا مِرْيَةَ فيها، هي أنَّ الاسلامَ دينُ العلم والحضِّ على تحصيله، بكل أنواعه وألوانه وميادينه الدينية والدنيوية. ومن أراد التأكُّد من صحة هذه الحقيقة، فما عليه سوى العودة إلى آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم عليه السلام، في باب العلم والحضِّ عليه، ليجد أنَّه ما من دين ولا من مذهب وضعي أو فلسفي حَضَّ أتباعه على طلب العلم وشجعهم على بذلِ الغالي والرخيص لتحصيله، مثل الاسلام.
فالعلم في الاسلام عبادة، بل هو أرقى ألوان العبادة، بل إنَّ الخشية من الله التي هي مؤشر العبودية الخالصة له لا يمكن للمسلم أن يبلغَ درجتَها المُثلى إلا إذا كان عالماً، بدليل قوله تعالى (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
ومادام للعلم مثل هذه الوظيفة التعبُّديَّة، فقد كان بديهياً أن يرتقي، في سُلَّم الشريعة الإسلامية، إلى درجة الفريضة التي تجب تأديَتُها على جميع أتباعه، ذكوراً وإناثاً، دون استثناء. وهذه الفريضة ليست وَقْفاً على العلم الديني، بل تشمل تأديتُها طَلَبَ العلوم الدنيوية أيضاً على اختلافها وتنوُّعها؛ بل إنَّ طَلَبَ هذه العلوم لا يقف عند حدود اكتفاء المسلمين بالإلمام بها، وإنَّما تفرضُ عليهم التفوُّقَ بها كلها أيضاً. ولعل من المُدهش حقّاً، أن نرى الشريعة الإسلامية تَعُدُّ جميع المسلمين آثمين، إذا ظهر عند غيرهم علمٌ لا يُتْقنُه عالمٌ مسلمٌ... [/align]
خلاصة ونتيجة
[align=justify]لعلَّ زبدة القول في هذا المجال تتلخص بما يلي:
إنَّ المسلمَ يجب أن يكون إنساناً فذّاً، بكلِّ معنى الكلمة، على الصعيدين الديني والدنيوي في آن واحد معاً، ليغدو بذلك قدوة لغير المسلمين وداعية لهم إلى الدخول في دينه العظيم، لا بالخطب الرنانة واللَّفة والجلباب واللحية، بل بسلوكه المستقيم وعلمه وسُموِّ أخلاقه التي تتجلَّى في عظيم حبِّه للناس جميعاً أيّاً كان معتقدُهم، وفي عدله بينهم وصدقه معهم ورحمته لهم وترفعه عن الدنايا التي تُذلُّهم وغَيْرِيَّتِه وتفانيه في خدمتهم حتى وإن خالفوه الرأيَ والمعتقَد، وقبل كلِّ هذا وبعده، في كونه مثالاً واقعياً يُحتذى للإنسان الحرِّ العزيز النفس الذي يستمدُّ حريته وعزته من مصدر واحد فقط هو كمال عبوديته لله وحده، وعدم خضوعه لغيره أو خوفه من غيره..
نعم.. هكذا ينبغي أن يكون المسلم، وهكذا أراد الله له أن يكون، وهكذا عمِل رسول الله،، صلى الله عليه وسلم، طيلة حياته ليجعله في هذا المستوى الرفيع، كي يَصلُحَ أن يكون قدوةً لغيره من غير المسلمين وجاذباً لهم إلى اعتناق الإسلام..
بتعبير آخر: أراد اللهُ سبحانه ورسولُه، صلى الله عليه وسلم، أن يكون المسلمُ إنسانَ الأمل والتَّجَدُّدِ الدائم والحركة الايجابية، خصوصاً وأنَّه لا يأسَ ولا قنوطَ مع الايمان بالله، ولا خَوَرَ ولا خوفَ ولا اتضاعَ مع الثقة بوعد الله. ومتى استطاع المسلم أن يرتقي إلى هذا المستوى، غَدَا إنسانَ البشرية المُنقذَ لها من السقوط والتردِّي، في حمأة المادة والضياع الروحي.
وبما أنَّ الرسولَ الكريم، عليه الصلاة والسلام، كان النموذج للمسلم المثالي، فعلى المسلمين، في كلِّ العصور، أن يقتدوا به ويجهدوا للارتقاء إلى مستوى يُقارِبه، كما فعل صحابته الكرام، رضوان الله عليهم.
في ضوء كلِّ ما سبق، وانطلاقاً من الاعتقاد بصحته، فقد لا يكون من الخطأ القول:
على المسلمين، في ذكرى مولد رسولهم الكريم، صلى الله عليه وسلم، أن يستذكروا صفاته وأخلاقه وسلوكياته، ثم يُجدِّدوا عهدهم له بالتزام سنته وبَذْلِ الجهد للاقتداء به، عملاً لا قولاً، ليرتقوا إلى مَصَافِّ الانسان المثالي، كما فعل الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم؛ أولئك الذين استطاعوا، في فترة زمنية قياسية، أن يتحوَّلوا، بالتزامهم تعاليم الإسلام، من بدوٍ أُميِّين جفاةٍ قساةٍ مُتخلِّفين إلى مشاعلَ للنور والعلم وصُنَّاعٍ لحضارة لا مثيل لها، وإلى نماذجَ فذَّةٍ للحرية والجرأة والرحمة والحبِّ الانساني الصافي.
لذا، إذا استطاع مسلمو اليوم أن يتوصلوا إلى هذه النتيجة، عن طريق احتفالهم بذكرى مولد نبيهم، صلى الله عليه وسلم، كلَّ عام، فإنَّهم يكونون، وبحقّ، قد أحيوا هذه الذكرى العظيمة بما يرضي الله ورسوله عليه السلام، وبما يعود عليهم، كمسلمين أولاً، وعلى البشرية كلها أيضاً، بالخير العميم... [/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|