أدباءٌ ونقادٌ... ولكن...
[align=justify]كثيرون ممَّن يتوهَّمون أنفسهم أدباء أو نقاداً أو باحثين، لا صلة لهم بالأدب والنقد والبحث، بل هم، في الحقيقة، متطفلون على موائد هذه الساحات الإبداعية وغيرها.. لكنَّهم، وهو الأعجب، تراهم على الرغم من معرفتهم بحقيقة أنفسهم، يُصرُّون على احتلال مقاعد الصدارة، وعلى نيل الحظوة والتبجيل والاحترام والتقدير، في كلِّ موقع وميدان، بحجة أنَّهم من حَمَلَة الشهادات والألقاب الأكاديمية الرفيعة مثل دكتور أو أستاذ دكتور أو بروفيسور أو ما شابه من الألقاب التي لا يعرف أحدٌ كيف حصلوا عليها، كما لا يعرف أحدٌ إن كانوا هم من أسبغوها على أنفسهم أو أُسبِغَت عليهم لسبب ما.. وثمَّة آخرون يُصرُّون على احتلال موقع الصدارة لشهرتهم التي لا يعرف أحدٌ كيف وصلوا إليها، أو يعرف الجميع ذلك ولكنَّهم لا يجرؤون على القول، لأسباب غير خافية على أحد..
أقول هذا لأن أحداً يجب أن يقول الحقيقة مهما كانت نتائج قوله لها.. الحقيقة التي يتحاشاها كثيرون، لأسباب مختلفة أهمها الخوف والخجل.. الحقيقة التي تقول إن غالبية كتابات معظم المشاهير وأصحاب الألقاب هؤلاء الذين يُصنِّفون أنفسهم، أو يُصنِّفُهم مُتَمَلِّقُوهم ككُتَّاب ومبدعين ونقاد كبار، لا يمكن أن تُعَدَّ، بحال من الأحوال، أبحاثاً أو مواداً أدبية أو نقدية، فيما لو استخدمنا المقاييس التي تجعل من أي كتابة أدباً أو نقداً أو بحثاً، بل هي، وفي أحسن التقديرات، مجرد مواضيعَ إنشاء قد يجوز منحُها درجة (جيد) أو (جيد جداً)، فيما لو قُدمت لأستاذ يُدَرِّس الأدب العربي في مدرسة ثانوية..
وربما لهذا السبب، قبل غيره، صار معظم قراء العربية اليوم ينفرون مِمَّا يُنشَر تحت يافطة أدب، على اختلاف أنواعه وأشكاله، من نثر وشعر، ومما يُنشَر تحت يافطة نقد أو بحث، لأنَّهم يجدون في ما يُقَدَّمُّ لهم، على أنَّه أدب، نصوصاً خلواً من أيِّ مَعْلَمٍ يدلُّ على انتمائها إلى عالم الأدب؛ كما يجدون في ما يُسميه مؤلفوه نقداً مجرد مدائح غثة تفيض بالمداهنة وإسباغ صيغ المبالغة على كُتَّابِ نصوص لا تستأهل إضاعة الوقت في قراءتها؛ وأمَّا تلك الصفحات المطوَّلَة التي يُسميها أصحابها بحوثاً فلا تعدو كونها موضوعات إنشائية، لا جديد فيها، ولا رأيَ مستقلاً لصاحبها، بل مجرد معلومات مكرَّرة جَمَعَها ذلك المؤلف الذي أسبغَ على نفسه لقب باحث، من هنا وهناك، وظنَّ أنَّه بذكر المراجع التي استقاها منها قد صار موضوعياً، وصار باحثاً بحقّ..
ولكَ أن تقرأ، في أيِّ مجلة أو صحيفة أدبية عربية معاصرة، ورقية أو إلكترونية، ما نَشَرَتْه من موضوعات، لِتَجِدَ نماذجَ لا حصر لها، تنطبق عليها صفة موضوع الإنشاء المدرسي الهزيل لغةً ومضموناً ونتائج.
ولعلَّ الأسوأ بين أدعياء الأدب والنقد والبحث، صنفٌ يُصرُّ أصحابه على الادعاء بأنَّهم يفهمون في كلِّ الموضوعات، ويُتقنون الكتابة فيها كلها، أيْ في الأدب والنقد قديمهما والحديث، وفي السياسة وعلم الاجتماع والتاريخ، وفي الطبِّ والبيطرة والذرة والسحر والتنجيم والرياضة وغير ذلك من موضوعات، ليُؤكِّدوا لقرائهم المساكين أنَّهم كُتَّابٌ شموليون يستطيعون الكتابة في كلِّ ما يخطر على بال أولئك القراء ـ أعانهم الله ـ وكل ما لا يخطر على بالهم..
ومن أطرفِ تعليلات هؤلاء الكتَّاب الشموليين لكتابتهم في كلِّ الموضوعات، قولُ أحدهم لي، وقد اعترضتُ على كتابته التي لم تَستثنِ مجالاً معرفياً واحداً: يا صاحبي.. ليس الأمر معجزة، كما تظن، إذ يكفي أن أقرأ عن أيِّ موضوع بضعَ صفحات من هنا وأخرى من هناك، ثم أُضيف على ما قرأتُ من عندي، لأبدوَ مختصاً في الموضوع الذي أكتبُ فيه.. ولا أُخفيكَ سرّاً بأنني في معظم الموضوعات التي كتبتُها بَدوتُ مختصاً يبزُّ كلَّ المختصين الحقيقيين فيه!!
يومها ابتسمتُ، وقد تذكَّرتُ بعض كتاباته الصُّمَيدَعِيَّة التي ناقشتُها مع مختصين في موضوعاتها، فأجمعوا رأيهم على أنَّ علاقةَ معظم ما كتبه في تلك الموضوعات ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: (هذه الطينة ليست من هذه العجينة).
وبعد، فمع أنَّني، منذ فترة طويلة، اتخذتُ قراراً بألَّا أقرأ مثل هذه المواد، تضطرني رغبتي في المعرفة إلى التراجع عن قراري هذا، وقراءة ما يُنشر في هذه المجلة أو تلك الصحيفة أو ذلك الموقع الإلكتروني، من مواد يزعم مؤلفوها أنها تنتمي إلى عالم الأدب والنقد.. وغالباً ما أنتهي إلى نتيجة تُعَزِّزُ رأيي بأنَّ مثل هذه الكتابات هي السبب الأهم لعزوف معظم قراء العربية في عصرنا عن القراءة..
وختاماً، أودُّ أن أشيرَ إلى أنَّني لا أكتب هذا الكلام الذي سيصفه كثيرون بالجارح والحاقد، لأقولَ أنَّني أفضل من الذين ينشرون مثل تلك المواد، بل ربما كنتُ أسوأَهم وأقلَّهم جذباً للقارئ العربي، لكنَّني أكتبُه مُعترفاً بموضعي المتواضع في عالم الأدب والنقد من جهة، ونُصرةً للقارئ العربي العادي الذي تتجاذبه كتاباتُ غير المبدعين وتزيد من عزلته وألمه من جهة أخرى.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|