رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]كعادتي حين تغمرني فرحة أو اشعر بانتشاء ما ، أتلكأ في استعجال لحظات الفرح تلك وكأنني أريد أن أتذوق طعمها كما أتذوق شهدا .. قطرة قطرة . شبح ابتسامة على شفتيها كان كفيلا بأن يشجعني على وضع حد لهذا الصمت الذي طال أكثر مما يجب .. لكني لم أنبس ببنت شفة ربما لأني لم أجد ما اقوله في حضرة البهاء الذي أصابني بحالة من الشلل العام .. فجاء صوتها الرخيم لينتشلني من حيرتي وارتباكي :
- هل ستظل هنا إلى ما لا نهاية ؟
هي دعوة صريحة لمرافقتها عبر هذه التلال الممتدة من وراء المنبع والتي تبدو متموجة في انحدارها نحو الوادي .
- طبعا لا .. لكني خلوت لنفسي كي استجمع أفكاري ..
- وهل هناك ما يسبب تشتتها ؟
لم أحر جوابا في البداية وظلت عيناي مشدودتين إلى شفتيها وكأنهما تعزفان لحنا ..
- الخلوة تساعدني على التركيز .. أريد أن أكتب شيئا .
- أعتذر إن قطعت عليك هذه الخلوة .
- بالعكس .. سعيد أنك هنا .. تعالي أريك شيئا .
أخذت بيدها كي أساعدها على تجاوز صخور المنبع الناتئة وسط المياه الصاخبة .. سرت في جسدي قشعريرة لا أدري إن أحست بها هي أيضا .. كنت أنظر إليها خلسة وفكري شارد .. هل كنت اقارنها بواحدة ممن عرفت من الغيد ؟ من تكون ؟ .. في صفاء عينيها وبشرتها القمحية وتلقائيتها كنت أرى حليمة .. لكن أين مني حليمة البدوية البسيطة بمنديلها المخطط بالأحمر والأبيض و"شاشيتها" التي تذكرني بأهالي المكسيك ؟ ..
أنا الآن برفقة أنثى جمعت بين البساطة والأناقة المفرطة .. في جمالها ما يوحي بعزة النفس الخالية من كل تكبر أو خيلاء .. لكن الصوت والبشرة و تلك النظرة البريئة ، كل ذلك كان يصرخ نيابة عنها "أنا حليمة .. "أنا حليمة"
أوغلنا في مسلك ضيق بين الأشجار ونبات الصبار وأشرت لها بألا تتكلم ثم أدنيتها من وكر يمام به فراخ خرجت للتو من بيضها . وعلى عريش بالقرب منهما كان زوجان من اليمام ينظران إلينا بفضول وتوجس .
التفت إليها لأجدها تنظر إلى العش شاردة الذهن .. ما الذي يجعلها سارحة هكذا ؟ أهي الأمومة التي تحركت في أعماقها دون وعي منها ؟ جذبتها برفق :
- تعالي .. لندع اليمام حتى لا ننغص عليها طمأنينتها .. اكتشفت منذ يومين الوكر قبل أن يفقس البيض وخفت عليها من الثعالب فصرت أقضي بعض الوقت بالقرب كي أمنعها من الاقتراب .. وها أنت ترين .. كللت جهودي بالنجاح ورأت الفراخ النور .
- ذكرتني بما كنا نفعله مع سرب الحمام في حظيرتنا ...
توقفت عن الحديث وكانها باحت بما لم تكن تريد قوله .. لكن الوقت كان قد فات .. تخضبت وجنتاها بلون فاق الشفق احمرارا . لكني لم أبد اي رد فعل لبوحها واستمررت في الصعود جاذبا إياها وهي مستسلمة حتى وصلنا صخرتي المتلهفة لحضوري دوما ..
- صخرتك هذه ولا شك ؟
- نعم يبدو أنك تعرفين اشيائي واحدا واحدا ..
وضحكت .. فابتسمت لتعاود الحمرة وجنتيها .
تحت أقدامنا بدت القرية وديعة كعادتها .. وعن يميننا كان زوج اليمام لا يزال في مكانه يحرس الفراخ ويلتفت بين الفينة والأخرى يمينا وشمالا ..
وفي لحظة تلاقى منقاراهما وكأن زوال الخطر الذي أحساه ونحن بالقرب منهما اشعل في نفسيهما رغبة العشق فصار رأساهما الصغيران يتمايلان دون أن ينفصل منقراهما ..
كان لمنظر الغروب وعشق اليمام والسكون الذي يعم الأرجاء أثر في مشاعري نحو من تجلس إلى جانبي .. استدرت نحوها لأجد حمرة وجنتيها صارت قانية .. هل كانت تشعر مثلي بهذا الإحساس الغريب وزوج اليمام يتبادل العشق في طمأنينة ؟
لا أدري كيف امتدت يدي تطوق كتفها وأنظر إليها محدقا فى عينيها النجلاوين .. شعرت بارتعاشها والشمس ترسل آخر أشعتها قبل ان تغوص هناك في أعلى الجبل الجاثم عن يميننا ..
الآن أرى حليمة ولا أحد سواها . انهالت علي الذكريات .. وتدافعت الصور تغزو مخيلتي مصحوبة بأصوات لا أميز فيها بين ثغاء وخوار وخرير مياه وعيطة البدويات وسط الحقول مترنمات بقصائد يبحن فيها بوجدهن ومكنونات قلوبهن البسيطة .. ثم هذه الرائحة المنبعثة من الفرن .. دخان وخبز ساخن .. ثم رائحة اللبن وروث البقر .. نعم أنت حليمة .. كل شيء كان يصرخ بداخلي .. وكل شيء يصيح في عينيها وشفتيها وكل جسدها .. أنا حليمة .
كانت عيناها تهمسان وشفتاها تناديان .. فكانت لحظة انسجام .. وكنا زوج يمام .. تلاقت شفاهنا فتمايلت من حولنا أشجار السنديان والعرعر وتعالت في الجو ما يشبه أنشودة عشق ترنمت بها كل الربى والتلال .. وترددت أصداءها عبر الوادي وبين الخوانق .. ليبدأ سمرنا مع بداية مساء جميل يمنينا برحلة حلم عند حلول الظلام وبداية ليل جديد .. [/align]
|